رأي لجنة البندقية حول إصلاح القضاء الإداري: “اقتراح عدوان” ينافي معايير استقلالية القضاء والمحاكمة العادلة

،
2024-03-20    |   

رأي لجنة البندقية حول إصلاح القضاء الإداري: “اقتراح عدوان” ينافي معايير استقلالية القضاء والمحاكمة العادلة
رسم رائد شرف

أمس، نشرتْ لجنة البندقية رأيها الاستشاريّ بشأن اقتراح قانون تنظيم القضاء الإداري، وهو الاقتراح الذي قدّمه النائب جورج عدوان في تموز 2021 وأعدّه رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس. وقد جاء رأي اللجنة قاطعًا حين اعتبر أنّ أبرز أحكامه مخالفة للمعايير الدولية لاستقلالية القضاء والمحاكمة العادلة بما ينسجم تماما مع تقييم المفكرة القانونية وائتلاف استقلال القضاء له. ولم يقتصرْ رأيُ اللجنة على مضمون الاقتراح، بل وجّهت انتقادات على كيفية صياغته أيضا، موصيّة بوجوب تحسين بنيته وضمان اتّساقه. ولعلّ أهمّ وأخطر الانتقادات التي سجّلتْها اللجنة هي الانتقادات التي تناولتْ السّلطة المُضخّمة التي منحها الاقتراح الذي أعدّه رئيس مجلس شورى الدولة لنفسه، طالما أن من شأن هذه الملاحظة أن تطرح سؤالا جدّيا حول الغاية من هذا الاقتراح والمصالح التي يرمي إلى الحفاظ عليها، ولا سيما أن الرئيس الياس تفرّد في إعداده بمعزل عن سائر قضاة المجلس.

ومن الجدير ذكره أنّ ورشة إصلاح القضاء الإداري كانت بدأتْ بمبادرةٍ من “المفكّرة” في إطار مشروعها لإصلاح الهيئات القضائية، بحيث أعدّت اقتراح قانون استقلاليّة القضاء الإداري وشفافيّته بعدما حدّدت في عدد خاصّ الإشكاليات التي يعاني منها هذا القضاء. وإذ تمّ تقديم هذا الاقتراح في آذار 2021 من قبل النائب أسامة سعد بالتعاون مع ائتلاف استقلال القضاء، فإنّ النائب عدوان عمد بعد 4 أشهر إلى تقديم اقتراح ثانٍ في نفس الموضوع، أعدّه على عجل رئيس مجلس شورى الدولة. وبعد انتخابات 2022، انفتحتْ ورشة إصلاح هذا القضاء برلمانيا من خلال إنشاء لجنة فرعية برئاسة النائب جورج عقيص منبثقة عن لجنة الإدارة والعدل. ورغم إحالة كلا الاقتراحين (سعد وعدوان) إلى اللجنة، فإن عقيص دأب على تغليب اقتراح عدوان والتعامل معه على أنه الاقتراح الرسمي في موازاة حجب اقتراح سعد. وهذا ما عادتْ وزارة العدل وفعلتْه بعدما قدّمت إلى لجنة البندقية طلب مشورة بشأن اقتراح عدوان وحده، من دون حتى الإشارة إلى الاقتراح الثاني. وهذا ما عمدت لجنة البندقيّة إلى التذكير به في البند 21 من رأيها مشيرة إلى أخذها العلم بأن اللجنة الفرعية تدرس اقتراحا ثانيّا أعدّته المفكرة القانونية بالتزامن مع الاقتراح المعروض عليها.

وعليه، وتبعا لهذا الرأي وتحديدا الانتقادات القاسيّة والجوهرية التي وجّهتها لجنة البندقية إلى اقتراح عدوان، ستجد اللجنة الفرعيّة النيابية نفسها مُحرجةً في مواصلة تغليبه على الاقتراح الثاني، طالما أن من شأن ذلك أن يلقي ظلالا كثيفة حول الغاية المرجوة من التشريع وفيما إذا كان فعلا يهدف إلى إصلاح القضاء وضمان استقلاليته أم فقط إلى تعزيز الهيمنة على أداء القضاء تحت غطاء ضمان استقلاليّته ومن خلال إنتاج تشريعات لا تتجاوز كونها خدعا بصرية. 

وقبل المضي في توضيح أهمّ ما تضمنه هذا الرأي، تقتضي الإشارة إلى أن لجنة البندقية كانت أعطتْ رأيا استشاريا آخر في 20 حزيران 2022 بشأن استقلالية القضاء العدلي، وأن لجنة الإدارة والعدل ووزارة العدل كانتا أهملتَا تماما توصياتها آنذاك من دون أي مناقشة لها ومن دون أن يمنعهما ذلك من معاودة طلب رأيها في شأن القضاء الإداري.

لا استقلالية خارجية ولا استقلالية داخلية

لم تكتفِ لجنة البندقية في فحص مدى توافق الاقتراح مع مبادئ استقلالية القضاء إزاء الخارج (وتحديدا السلطة التنفيذية) بل شدّدت على ضرورة ضمان الاستقلاليّة الداخليّة أيضًا. وقد عبّرتْ عن هذا الحرص في مستهلّ رأيها حيث ذكّرت أن “القضاة يجب أن يكونوا مستقلين ومحايدين في اتّخاذ قراراتهم وقادرين على التصرف دون أية قيود أو تأثير غير لائق أو ضغط أو تهديد أو تدخل، مباشر أو غير مباشر، من أي سلطة، بما في ذلك “السلطات الداخلية” في القضاء” وأن من شأن منح صلاحيات خارقة لرئيس مجلس شورى الدولة أن يقوّض “الاستقلاليّة الداخلية للقضاء الإداري” وأن “يؤدي إلى إرساء نظام مغلق”. كما عادتْ اللجنة لتتناول الاستقلاليّة الداخليّة مرات عدّة في صلبِ رأيها وتوصيّاتها النهائيّة. وما دفع اللجنة إلى التّركيز على هذا الجانب من الاستقلاليّة هو أنّ الاقتراح عمد إلى تكريس هرمية غير مسبوقة داخل القضاء الإداري من خلال مضاعفة صلاحيات رئيس مجلس شورى الدولة التي هي أصلا مضخّمة في النصّ الحالي. فقد اعتبرتْ اللجنة صراحة في متن رأيها أن رئيس مجلس شورى الدولة يتمتع بصلاحيات/نفوذ واسعة النطاق (“Far reaching powers”)، إذ أنه “يتصرف وكأنه القاضي الأسمى” supreme judge في جميع المسائل الإدارية والمالية والتأديبية”. والواقع أن تعزيز هذه الهرمية يشكل ليس فقط مسّا بالاستقلالية الداخلية إنّما ايضا بالاستقلاليّة الخارجيّة، طالما أنّ تعيين رئيس المجلس يتمّ (كما ذكرت به لجنة البندقية في البند 40 من رأيها) من قبل السلطة التنفيذية من دون أن يكون للمجلس أيّ دور ولو استشاريّ في هذا الشأن. بمعنى أن أيّ تعزيز لسلطته الهرمية إنّما يعني من الناحية العملية تمكين السلطة التنفيذية (وما تمثله من قوى سياسية) من الهيمنة على القضاء الإداري من خلال شخصه، تماما كما هي تهيمن على النيابات العامة من خلال الصلاحيات الخارقة الممنوحة للنائب العام التمييزي أو سوبرمان العدلية وفق توصيف “المفكرة” له. وكانت المفكرة القانونية تناولت في مقال نشرته في 2020 تحت عنوان: “الهرميّة أو إمساك الحقوق من فوق”، خطورة الهرميّة وتجلياتها داخل شورى الدولة، معتبرة الحدّ منها أحد أهم الأسباب الموجبة لاقتراحها. وما يزيد من قابليّة اقتراح عدوان للانتقاد في هذا الخصوص هو أنّه تمّ إعداده من قبل رئيس مجلس شورى الدولة نفسه كما سبق بيانه، الأمر الذي يرشح عن تضارب مصالح ويستتبع أسئلة حول الموازنة المعتمدة في الاقتراح بين ما هو “مصلحة عامة” وما هو “مصلحة خاصة”. فكأنه يكرّس نفسه إمبراطورا على القضاء الإداري، باسم إصلاح القضاء.  

ومن أهمّ ما أشارت إليه لجنة البندقية في هذا الخصوص، الأمور الآتية:

أولا، إبداء قلقها إزاء كيفية تكوين المجلس الأعلى للقضاء الإداري من عشرة أعضاء، ثمانية منهم تعيّنهم السلطة التنفيذية، علما أن خمسة منهم يتم تعيينهم بناء على اقتراح رئيس المجلس نفسه، على نحو يضمن هيمنة هذا الأخير كما هيمنة السلطة التنفيذية على هذا المجلس ويحول دون وجود توازن صحيح داخله “خلافا للمعايير الأوروبيّة”. وقد أوصتْ اللجنة أن لا يقلّ عدد أعضاء المجلس المنتخبين من أقرانهم عن النصف، بهدف “حماية المجلس من تعديّات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضمان استقلاله”. وعليه، أسفت اللجنة لحصر القضاة المنتخبين بعضوين فضلا عن حصر تمثيل المحاكم الابتدائية بعضوين معينين فقط، على نحو يناقض مبادئ استقلالية القضاء ويحول دون تمثيل متوازن للقضاة،  

ثانيا، إبداء قلقها إزاء الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس مجلس شورى الدولة. “فهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء الإداري وهو يرأس مجلس القضايا والغرفة الإدارية والهيئة العامّة ومحكمة حلّ الخلافات. كما أنّه يؤثّر في إجراءات الانتخاب والتعيين في المجلس، “محتكراً” الحقّ باقتراح خمسة من أصل عشرة أعضاء لتعيينهم بالمجلس. وعلاوة على ذلك، يحقّ له إضافة ملاحظات مكتوبة على ملفّ أيّ قاضٍ إداريّ خارج أي إجراء تأديبي، وهو يتحكّم بالتعيينات في المحاكم الإدارية، ويتّخذ قرارات بتكليف القضاة في مهامّ في الإدارات العامة، وهو المخوّل الموافقة على توقيف قاضٍ لارتكابه جريمة أو جنحة غير ناشئة عن الوظيفة، ويجوز له البتّ في القضايا العاجلة في إجراءات موجزة، وله الحق في إحالة أيّ قضية من الغرف إلى مجلس القضايا الذي يرأسه. وهي كلها صلاحيات دفعتْ اللجنة إلى توصيفه ب “القاضي الأعلى” كما سبق بيانه.

وقد تُرجم تقييم اللجنة للاقتراح في توصياتها الختامية: فعدا عن أنها أشارتْ إلى ضرورة زيادة عدد أعضاء المنتخبين من قبل أقرانهم (على الأقل نصف أعضاء المجلس)، وضمان تمثيل أفضل للقضاة من الفئات الشابة/الدرجات المتدنيّة، وإضافة أعضاء من غير القضاة، والتجديد الجزئي لتكوين المجلس الأعلى للقضاء الإداري، فإنها أكّدت من جهة أخرى إلى ضرورة تقليص صلاحيات رئيس المجلس.   

لا ضمانات ذاتيّة للقضاة في مساراتهم المهنية

فضلا عما تقدّم، عمدتْ لجنة البندقية إلى تقييم مدى ضمان استقلاليّة القضاة في مساراتهم المهنية، بدءا من تعيين القضاة انتهاء بتأديبِهم. ومن أهمّ ما سجّلته في هذا الخصوص:

  • توجّسها من تضمين الاقتراح إمكانية تكليف القضاة في مهامّ استشاريّة في الإدارات العامّة. وقد رأتْ اللجنة أنّ الضوابط التي وضعها الاقتراح ليستْ كافية لتحصين القضاة ضدّ تحوّل هذا التكليف إلى أداةٍ لمعاقبة قضاة أو السيطرة عليهم. والأهمّ أنّ اللجنة اعتبرتْ عدم جواز قيام أي قاضٍ بمهامّ مماثلة بالتزامن مع مهام قضائية. وكانت المفكرة طالبتْ بإلغاء آلية التكليف بالنظر إلى مفاعيلها السلبية على القضاء الإداري معتبرةً أنّه يمسّ بمبدأيْ الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاة ويشكل حالة تضارب مصالح فاقعة وأنه يشرّع الإجراءات التمييزية بين القضاة خلافاً لمبدأ المساواة فيما بينهم ويعزز من السلطة الهرمية لرئيس المجلس الذي بإمكانه أن يكلّف من يشاء وأن يحجب التكليف عمّن يشاء وأنه يؤثر على الثقة العامة بمجلس شورى الدولة وعلى ضمانات المحاكمة العادلة وعلى فاعلية عمل المحاكم وبخاصة في ظل الشغور الحالي.
  • –          توجّسها من إمكانية إعلان عدم أهلية القضاة المتدرّجين من دون منحهم فرصة الطعن في قرارات عدم أهليتهم، وقد أوصت اللجنة هنا بتحديد المعايير الأساسية المتّبعة لتحديد هذه الأهليّة، كما بضمان إمكانية الطعن في قرارات المجلس الأعلى للقضاء الإداري في هذا المجال.
  • توجّسها من حرمان القضاة الإداريين من حقّ الطعن في القرارات المؤثرة في مساراتهم المهنية، ومنها قرارات التعيين والتقييم والنقل ورفض الترقية وإضافة تعليقات سلبية إلى الملفات والقرارات التأديبية موصية بتكريس حقهم بالطعن في هذه القرارات أمام مرجع قضائيّ محايد ومحدد مسبقا (permanent court of law). وقد توقّفت في هذا الصدد بشكل خاص أمام حصر المحاكمة التأديبية في مرجعيْها الابتدائي والاستئنافي في المجلس الأعلى للقضاء الإداري من دون أن يكون للقضاة إمكانية اللجوء إلى مرجع مستقلّ عنه.
  • توجّسها من ضبابية أسباب التأديب ومن وضع مروحة واسعة من العقوبات من دون أي ذكر لضرورة التناسب بين خطورة المخالفة والعقوبة التأديبية. وقد توقّفتْ لجنة البندقيّة بشكل خاصّ عند عدد من السلوكيات التي صنّفها الاقتراح ضمن المخالفات التأديبية، ومن أهمها “موجب التحفظ” و”الأعمال التي تمسّ الشرف أو الكرامة أو الأدب” معتبرة أن توصيف هذه السلوكيات “المخالفة” وردت بشكل مبهم وقابل للتأويل، لتنتهي إلى التوصية بضرورة تعريفها وضبطها.   
  • أخيرا، ذكّرت اللجنة بمبدأ عدم جواز نقل القضاة إلا برضاه (بند 62) الوارد ضمن المعايير الدولية، وهو المعيار الذي حاد عنه تماما اقتراح عدوان.  

ضمان طاقات قضائية كافية

فضلا عن ذلك، توقّفت لجنة البندقية عند نقص عدد القضاة (50 وفق ما جاء في رأيها من دون تحديد المصدر الذي استقتْ منه هذه المعلومة التي لا نستطيع الجزم بصحّتها)، متسائلة عن إمكانية إنشاء محاكم إدارية في المحافظات التسع في ظلّ هذا النقص وأيضا عن إمكانية معالجة هذا النقص خلال مدّة معقولة وتاليا عن إمكانية تنفيذ أحكام هذا الاقتراح خلال مدة ستة أشهر وفق ما جاء فيه، وبخاصة في ظلّ تداعيات الأزمة المالية. ويعكس توقّف اللجنة مطوّلا عند هذه المسألة حرصا منها على تجنّب تبنّي طموح تشريعي غير قابل للتنفيذ، وبخاصة أن إنشاء المحاكم الابتدائية المقرر قانونا في سنة 2000 بقي حبرا على ورق بفعل امتناع مكتب مجلس شورى الدولة ووزارة العدل عن تفعيله، بحجة نقص عدد القضاة. وهذه هي الحجّة التي كانت توقّفت عندها المفكرة القانونية مرارا موضحةً أنها حجة صنعتْها السلطات الرسمية لتبرير تقاعسها بفعل الامتناع عن إجراء مباريات طوال الفترة الممتدة من 2000-2010 أكثر مما هي حجة تبريرية لها. وعليه، أوردت المفكرة ضمن اقتراحها ضرورة إجراء مباريات دوريّة (سنويّة) إلى حين ملء الشغور. وهذا ما عادتْ اللجنة وشدّدت على أهميته، داعية السلطات إلى التفكير جدّيا بإمكانية إنشاء المحاكم الابتدائية في بيروت في المرحلة الأولى بانتظار توفر العدد الكافي من القضاة. ومع التسليم بأهمية اعتماد الواقعية في التشريع، يبقى أن من الممكن كمرحلة أولى إنشاء عدد محدود من الغرف في المحافظات، كأن يتم تكليف قضاة غرفة ابتدائية واحدة مهام فصل النزاعات في أكثر من محافظة، ولا بأس من أن يجلس قضاة هذه الغرف في بيروت بانتظار إيجاد أماكن عمل مناسبة لهم في المناطق. 

الإخلال بشروط المحاكمة العادلة

كما لفتت إليه المفكرة مرارا، يفترض إصلاح القضاء الإداري ليس فقط تعديل الأحكام الناظمة له ضمانا لاستقلاليّته إنما أيضا تعديل أصول المحاكمات أمامه، التزاما بشروط المحاكمة العادلة.

وفي هذا الإطار، شددت لجنة البندقية على ثلاثة شروط للمُحاكمة العادلة:

الأول، ضمان مبدأ القاضي الطبيعي. وهنا، توسّعت لجنة البندقية في توصيف الممارسة السائدة حاليا والتي يتفرّد بفعلها رؤساء الغرف في تعيين أعضاء الهيئة الحاكمة في القضايا المعروضة على غرفهم من ضمن مستشاري الغرف التي يرأسونها. وقد نقلت اللجنة ما كانت المفكرة القانونية وثّقته لجهة أن رؤساء الغرف يعمدون أحيانا إلى إجراء التعيينات قبل أيام من صدور القرارات النهائية فضلا عن أنهم يستنسبون تغييرهم خلال المحاكمة كلما وجدوا ذلك مناسبا من دون أي ضوابط أو أي حاجة للتعليل. هذا فضلا عن أن ممارسات كهذه إنما تجعل المتقاضين في أغلب الأحيان في حال جهالة لأعضاء الهيئات الحاكمة، وتاليا عاجزين عن طلب ردّهم في حال توفر أسباب ارتياب مشروع بشأن حياديّتهم.

وعليه، رحّبت اللجنة بتضمين الاقتراح مادةً تفرض على رؤساء الغرف تعيين أعضاء الهيئة الحاكمة خلال ثلاثة أيام من تسجيل المراجعة لدى قلم المجلس عملا بمبدأ القاضي الطبيعي، وهو أمر يتفق عليه اقتراحا عدوان وسعد، وإن أوصت أيضا بضرورة إدخال نظام توزيع أعمال وملفات مفصّل يتماشى مع المعايير الدولية. وفيما لم يشِر الرأي صراحة إلى وجوب تضمين الاقتراح بندا صريحا يمنع رؤساء الغرف من تغيير أعضاء الهيئات الحاكمة لمواجهة هذه الممارسة الموصوفة منها (وهو الأمر الذي نجده في اقتراح سعد)، يبقى أن مردّ ذلك هو افتراضها عدم جواز حصول ذلك عملا بمبدأ القاضي الطبيعي الذي عرّفته بوضوح في الهامش 69 من رأيها، والذي جاء فيه حرفيا أن هذا المبدأ يفترض عدم جواز تغيير أعضاء أيّ من الهيئات الحاكمة بصورة اعتباطية خلال مسار الدعوى المعروضة عليهم. وهذا الهامش إنما يشكّل إسهامًا هامًّا في تصويب عمل اللجنة الفرعية في لجنة الإدارة والعدل، التي انقسم أعضاؤها في هذا الشأن مؤخّرا بين مؤيّد لإمكانيّة التغيير (وهو الاتجاه الغالب فيها) ومعارض له.    

الثاني، علانية المحاكمة. وهنا شددت اللجنة على ضرورة إفساح المجال أمام إجراء محاكمات علنية، مع توضيح الحالات الاستثنائية التي يمكن فيها إجراء المحاكمة بصورة سرية. ويشكّل العمل بهذه التوصية تطورا هاما بالنسبة إلى المفكرة القانونية التي اعتبرته أحد أهم معايير إصلاح القضاء الإداري. ويلحظ أن المفكرة كانت نجحت مؤخرا في تصويب أداء اللجنة الفرعية التي عادتْ تبعا لاعتراضها عن استبعاد مبدأ العلانيّة.  

الثالث، قابلية القرارات الصادرة عن المجلس للتعليق والانتقاد من حيث المبدأ حتى قبل صدور قرار مبرم فيها. ومن هنا، توقفت اللجنة عند المادة 25 التي اعتبرت أن أيّ تعليق من هذا القبيل يعدّ بمثابة تدخل في القضاء يعاقب عليه حتى ثلاث سنوات حبس، داعيةً إلى توضيح هذا المفهوم ونطاق تطبيق المادة كونها تفتح بابا للتعسّف وتهدّد حريّة التعبير.

منهجية التشريع

أخيرا، يجدر التوقّف عند بعض الملاحظات التي نستشفّها من رأي اللجنة والمتصلة بمنهجية التشريع، وضمنا التقنية المستخدمة والآليات المعتمدة في مناقشة الاقتراحات والتوجّهات المطروحة. 

فعلى صعيد تقنية التشريع، انتقدت اللجنة في محلات عدة تضمين الاقتراح موادّ طويلة جدا مفعمة بتفاصيل غير ضرورية وموادّ مكرّرة فضلا عن انشطار بعض أحكامه على فصول عدّة بدل لملمتها في موادّ محددة. وتبعا لذلك، ذهبتْ اللجنة إلى حدّ تذكير رئيس مجلس شورى الدولة ومعه النائب عدوان واللجنة الفرعية تفصيليّا بالقواعد الذهبية في بناء اقتراحات القوانين وصياغتها ومن أهمها “عدم جواز تضمين المادة الواحدة أكثر من ثلاث فقرات” و”عدم جواز تضمين الفقرة أكثر من ثلاث جمل” و”عدم تضمين الجملة أكثر من فكرة واحدة”. وبالنتيجة، دعتْ لجنة البندقيّة ضمن توصيّاتها الختاميّة السلطات العامة إلى تحسين بنية الاقتراح وضمان اتّساقه. 

أما على صعيد إجراءات التشريع، فقد شدّدت اللجنة على ضرورة التوسّع في إشراك المجتمع المدني والخبراء والأكاديميا في الجهد التشريعي، سواء داخل اللجنة الفرعية أو خارج البرلمان، على نحو يجعل إصلاحا مماثلا بمثابة إنجاز اجتماعي ويسهم في تعزيز الثقة العامة في القضاء الإداري. وفيما ما زالت اللجنة الفرعية تمتنع عن رفع السرية عن أعمالها، فإنه يؤمل أن يشكل منتدى العدالة إطارا مناسبا لنقاشات واسعة كهذه. 

لقراءة المقال باللغة الانكليزية

نشر هذا المقال في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لتحميل العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، محاكم إدارية ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني