ملاحظات حول رأي لجنة البندقية: كيف تسهم قوانين استقلالية القضاء في تحقيق الهدف الدستوري؟


2022-07-11    |   

ملاحظات حول رأي لجنة البندقية: كيف تسهم قوانين استقلالية القضاء في تحقيق الهدف الدستوري؟

أصدرت اللجنة الأوروبية للديمقراطية عن طريق القانون المعروفة ب “لجنة البندقية” بتاريخ 20/6/2022 رأيها بشأن اقتراح قانون استقلال القضاء العدلي كما أنجزتْه لجنة الإدارة والعدل بتاريخ 14/12/2021. هي المرّة الأولى التي تصدر فيها لجنة البندقية (وهي جهاز استشاري تابع لمجلس أوروبا) رأيا بخصوص تشريع لبنانيّ، وقد حصل ذلك بناء على طلب قدّمته وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم، تلبيةً لطلب من “ائتلاف استقلال القضاء” (وهو ائتلاف يتكوّن من 66 هيئة مدنية وسنشير إليه أدناه بالائتلاف)، وهو طلب عاد زير العدل الحاليّ هنري خوري وأكّد عليه. وقد هدف الائتلاف من انتهاج هذه الطريق إلى تعزيز التفكير الحقوقي بشأن هذا الاقتراح والتأكيد على ضرورة تضمينه ضمانات كافية لاستقلال القضاء وشفافيّته. فاستقلال القضاء الذي يتكنّى به القانون يصبح مجرّد شعار مثاليّ فارغ من مضمونه إذا لم يتضمّن ضماناتٍ كافية لتحقيقه. وقد قدّم الائتلاف طلبه المذكور بعدما أعلن رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان اقتراح قانون استقلالية القضاء كما عدّلته اللجنة الفرعية المنبثقة عنها (أيار 2021)، وأكّد عليه بعدما وضعت لجنة الإدارة والعدل اقتراحها النهائي في كانون الأول 2021. وفي نيسان 2022، زار وفد من لجنة البندقيّة لبنان والتقى بممثلين عن مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل ولجنة الإدارة والعدل وائتلاف استقلال القضاء ونادي قضاة لبنان والمجلس الدستوريّ؛ وانتهى إلى وضع رأيه بعد محاثات وتبادل مذكرات مع وزارة العدل. فماذا تضمّن هذا الرأي الاستشاريّ؟ وما هي الدّروس التي يمكن أن نستمدّها منه؟ هذا ما سأحاول مناقشته على طول هذا المقال.

وقبل المضيّ في ذلك، تقتضي الإشارة إلى أن لجنة البندقيّة صرّحت في مستهلّ رأيها أنها ستحصره في مواضيع معينة وبخاصة الهيئات القضائية وصلاحياتها، موضحة أنّ عدم إبداء ملاحظات بشأن مسائل أخرى لا يعني بالضرورة أنها توافق على ملاءمتها لمعايير استقلال القضاء أو لا ترى إشكالا فيها endorse. كما يُلحظ أنّ اللجنة لفتتْ في رأيها إلى وجود اقتراح قانون ثانٍ هو اقتراح قانون استقلال القضاء الإداري قيد الدرس في مجلس النواب. وإذ رأت ضرورة في درس الاقتراحيْن بالتوازي، اعتبرت أن العديد من الاعتبارات والمعايير التي شملها رأيها موضوع هذا التعليق قد تفيد في مناقشة اقتراح القضاء الإداري أيضا.   

الخصوصية اللبنانية: النظام الطائفي … والمحاصصة

السّؤال الأوّل الذي طرحتْه لجنة البندقيّة اتّصل بمقتضيات النظام الطائفي المُعتمد دستوريا تمهيدا لتقييم الاقتراح على ضوئها. ولهذه الغاية، توقّفت اللجنة عند أحكام المادة 95 من الدستور، لتستخرج منها توجّهين أساسيّيْن: الأول، الهدف الاستراتيجيّ الذي كرّسته هذه المادة وهو وجوب تجاوز الطائفية السياسية والإدارية، والثاني،  وجوب تطبيق مبدأ المناصفة خلال الفترة الانتقالية أي ريثما يتحقق هذا الهدف. وإذ تثبّتت اللجنة من أن قاعدة التوزيع الطائفي أو ما أسمتْه the confessional principle تتغلغل في مجمل الهيئات القضائية وأنّ العديد من المراكز القضائية تمّ تطييفها وتاليا وصمها بلون طائفي في الممارسة (confessional label)، اختارتْ فيما عدا ذلك تلخيص بعض ما سمعته في لقاءاتها في لبنان من آراء في هذا الشأن، مصنّفة إيّاها بشكل لا يخلو من الاختزال، ضمن فئتيْن:

  • فئة نقديّة للنظام السّائد significant criticism وبخاصّة لجهة كيفية استغلال قاعدة التوزيع الطائفي  وانعكاساته على القضاء، ومنها تحوّلها إلى أداة تخوّل زعماء الطوائف تعيين القضاة الموالين لهم أو المقرّبين منهم في المراكز الهامة المحفوظة للطائفة التي يتزعمونها. لا بل أنّ لجنة البندقية نقلتْ انتقاداتٍ مفادها أنّ قاعدة التوزيع الطائفي في المراكز القضائية الهامّة تُستخدم كمُعطى في مساومات سياسية أوسع قد تشمل السياسات الضريبية والموازنة العامة وأمورا أخرى لا تتصل البتّة بالقضاء. وتعكس هذه الانتقادات ما يعرف لبنانيا بمنطق السّلة أي وضع أشياء مختلفة في سلة المساومات السياسية تمهيدا لاتخاذ قرارات تشملها كلّها.
  • فئة ثانية وهي الفئة المؤيدة لاستمرارية النظام السائد (proponents of the status quo)، والتي ركّزت على العكس من ذلك على فوائد النظام الطائفي والدور الهامّ الذي لعبه في ضمان استمرار الدولة اللبنانية رغم كل من تعرّضت له من حروب طائفية واغتيالات سياسية وأزمات اقتصادية متكررة واحتلال خارجيّ. وقد نقلتْ لجنة البندقية في هذا المضمار ما صرّح به وزير العدل لجهة أنّ القضاء قبل الحرب “الأهليّة” كان يعمل بصورة جيّدة رغم انطباق القاعدة الطائفيّة آنذاك. وقد لخّصت اللجنة مواقف هذه الفئة (نفهم من ضمنها وزير العدل) بأنّهم يتمسّكون بالنظام الطائفي ويعتبرونه جزءًا لا يتجزأ من الهوية الدستورية وأنه لا يمكن التخلي عنه بسهولة من دون تعديلات عميقة في الثقافة السياسية والاجتماعية والدينية، بحيث يكون أي تعديل جذري على هذا النظام محفوفًا بالمخاطر (risky). وقد تأكّد ما نقلته لجنة البندقية بتصريحات وزير العدل هنري خوري الذي كشف في حديثه لصحيفة “نداء الوطن” بتاريخ 25 حزيران 2022 أنه ناقش اللجنة في معظم الملاحظات التي أبدتْها على اقتراح القانون مدّعيا أنه أقنعها “بالخصوصية اللبنانية وبالنظام القضائي الفريد من نوعه المرتكز على التوزيع الطائفي والذي يصعب تجاوزه في الوقت الراهن”.

هذه هي المواقف المتناقضة تماما التي نقلتْها لجنة البندقية، من دون أن يتسنّى لها بفعل حدود اختصاصها أو أيضًا قصر الوقت الذي يتعيّن عليها إبداء رأيها خلاله، التدقيق في مدى صحّتها وملاءمتها أو التعمّق أكثر في تشعّبات النظام الطائفي وتعقيداته وتطوّره التاريخيّ. وفي السّياق نفسه، لا نجد في رأي اللّجنة أيّ مسعى لفهم النّظام اللبنانيّ أو تصنيفه على ضوء فلسفة الأنظمة التوافقيّة أو أشكالها المختلفة. فهل هو نظام يقوم على مقاربة ديناميّة في اتجاه تطوير الحياة المدنية المُشتركة، بما يسمح للمجتمع بتجاوز انقساماته وهي المقاربة المعروفة ب centripetal approach (وهذه هي حالة النظام كما وصفه الدستور)؟ أم هو نظام يقوم على العكس من ذلك تماما على تقاسم السّلطة بين الجماعات المختلفة التي تتعايش في ظلّه (الطوائف) من دون أيّ مسعى لتجاوز الانقسام الاجتماعي بل يأتي ربّما مثقلا بسياسات تؤدّي إلى تعميق هذا الانقسام وتأبيده؟ وهذه هي حالة النظام اللبناني في واقعه في زمن ما بعد حرب 1975-1990 حيث يسود نظام زعامات، يعمد كلّ منها إلى وضع اليد على المراكز القضائية والإدارية التابعة لطائفته بما يُلغي حيادية الدولة ويحوّل الشأن العامّ إلى ما يشبه الإقطاعات. ومؤدّى ذلك هو تعميق الانقسام والاستقطاب في موازاة تضييق المساحات المشتركة وتاليّا الابتعاد أكثر فأكثر عن تحقيق الهدف الاستراتيجي للدستور في تجاوز الطائفية وعمليا انتهاك الدستور في نصّه وروحه. إلا أنه ورغم اكتفاء اللجنة بقراءة تقنية للمادة 95 من الدستور، فإن رأيها جاء مفيدا من زاويتين إثنتين:

  • أنّها ذكّرت بأنّ الدستور اللبناني حدّد هدفا استراتيجيا قوامه تجاوز الطائفية السياسية. وإذ توقّفت اللجنة عند خلو المادة 95 من أيّ جدول زمنيّ لتحقيق ذلك، فإنها أكّدت أن غياب هذا الجدول لا يقلّل أبدا من دستورية هذا الهدف الذي يبقى قائمًا، بمعنى أنه يجدر وضع تشريعات تنسجم معه وتسهم في تحقيقه. وبذلك، أعلنتْ اللجنة اختلافها مع من أسمتْهم الداعين للمحافظة على status quo، معتبرة أنّ أيّ إصلاح تشريعي لتنظيم القضاء يجب أن يهدف إلى إدخال آليات من شأنها “حرف التوجه العامّ من التطبيق المنتظم والناشط للقاعدة الطائفية في الممارسة، في اتّجاه إرساء نظام تعيينات يقوم أساسًا على كفاءة القضاة من دون الإخلال بالوفاق الوطنيّ والسّلم الأهليّ”. كما اعتبرَتْ أنّ تعديل قوانين تنظيم القضاء من دون المسّ بالنظام السائد سيشكّل فرصة ضائعة في الاستجابة للهدف الدستوري، وإن عادت اللجنة لتسلّم أن إلغاء القاعدة الطائفية بصورة كاملة يبقى أمرًا صعبا على المدى المنظور طالما أنّه يتطلّب توافقًا اجتماعيًا أوسع وأكثر عمقًا.
  • أن اللجنة ذكّرت بثلاثة ضوابط وردتْ في المادة 95 على قاعدة التوزيع الطائفي، وهي ضوابط غالبًا ما يحجبها غشاء الممارسات والمساومات الطائفيّة. وهذه الضوابط هي الآتيّة: (1) إنّه لا يجوز تخصيص مركز محدّد لأيّ طائفة (والتذكير بهذا الأمر بالغ الأهميّة وبخاصّة في ظلّ تطييف مجمل المناصب القضائيّة الهامّة بما يحوّلها إلى مراكز نفوذ لزعامة الطائفة المعنيّة)، و(2) أنه يجدر في كل الحالات أن يؤخذ بعين الاعتبار “To be taken into consideration” الاختصاص والفعالية عند تطبيق القاعدة الطائفية. وهنا يجدر التنبيه إلى أن اللجنة استندتْ إلى ترجمة خاطئة لعبارتيْن وردتا في هذه المادة، على نحو أدّى إلى تحوير معناها بدرجة محسوسة. فقد تمّ استخدام ترجمة عبارة  “To be taken into consideration” أي ما معناه “مع الأخذ بعين الاعتبار” كترجمة لكلمة “التقيّد ب (الكفاءة والاختصاص) على نحو يحوّل معياريْ الكفاءة والاختصاص عند إجراء التعيينات من معياريْن ملزميْن إلى مجرّد معياريْن يجدر أخذهما بعين الاعتبار. هذا فضلا عن أن عبارة “الاختصاص” ترجمت بدورها بصورة خاطئة بعبارة:  “jurisdiction”، حيث أن الاختصاص يشير هنا إلى مجال الخبرة والمعرفة وليس إلى الاختصاص الوظيفي، وأن عبارة “الكفاءة” ترجمت أيضا بصورة خاطئة بعبارة “efficiency” حيث أن الكفاءة تشير هنا إلى النشاط والقدرة والمهارة والإنجازات المحققة  وليس فقط إلى الفعالية. و(3) أما الضابط الثالث الذي ذكّرتْ به اللجنة فمفاده أنّ القاعدة الطائفية تنطبق فقط على مسؤولي الفئة الأولى أو ما يعادلها، ولا ينطبق بالمقابل على سائر الفئات الأخرى، علما أن القضاة لا يعتبرون من الفئة الأولى وأنّنا لا نجد أي تعريف رسمي ل “ما يعادل الفئة الأولى” التي يفترض أن تقتصر على المراكز الساميّة في القضاء دون سواها. ومع التأكيد على أهمية التذكير بهذه الضوابط، يبقى من اللافت أن اللجنة لم توضّح دائما ارتباطها الوثيق بالهدف الاستراتيجي للدستور في تجاوز الطائفية ودورها المحوريّ في تحقيقه. فإذ شدّدت على أهمية إعلاء شأن معيار الكفاءة في التعيينات لتحقيق هذا الهدف، فإنها بالمقابل أوردتْ قاعدة عدم تخصيص مراكز لطوائف معيّنة عرضًا من دون ربط الالتزام بها بتحقيق هذا الهدف أو ربط عدم الالتزام بها بالابتعاد عنه وربما التمرّد عليه. وهذا ما سنعود إليه أدناه.   

وعليه، وإذ أعادت اللجنة إلى الواجهة مضمون المادة 95، اكتفتْ بالمقابل برسم التوجّه العامّ الذي يجدر بالعمل التشريعي أن يعتمدَه (الإسهام في تحقيق الهدف الدستوري أي تجاوز القاعدة الطائفية) من دون إبداء توصيّات تفصيليّة في هذا الشأن، بل من دون أن تقيّم دائما مدى انسجام الأحكام الواردة في الاقتراح موضوع رأيها مع هذا التوجّه العامّ. كما أنّ اللجنة أشارتْ إلى أهمية إسْهام التشريعات في تحقيق هذا الهدف من دون أن تبرز الأهمية المحوريّة للتشريعات الهادفة إلى ضمان استقلالية القضاء في هذا الشأن وتحديدا في إحداث التغيير الثقافي والاجتماعي الذي يمهّد له. ففي المجتمعات المُنقسمة أو المُتعدّدة، أن يُعطى القاضي ضمانات كافية تمكّنه من حماية الحقوق والحريّات إنّما يشكّل عاملًا محوريًّا في ترسيخ الدور الحمائيّ والدامج للدّولة والمواطنة وفي تحرير المواطن من تبعيّته (التي قد تكون اضطراريّة) للطوائف أو بكلمة أخرى لجماعات ما قبل الدّولة. من هنا، يكتسي ضمان استقلالية القضاء أهمية مضاعفة في هذه المجتمعات، فهو لا يهدف فقط إلى ضمان فصل السلطات ومعها شرعية الدولة ولكن أيضا إلى تمكين المجتمع من تجاوز انقساماته المحفوفة بالمخاطر الجاثمة والانتقال تاليا من حالة “الوفاق الوطني” إلى حالة “الوحدة الوطنية”. وعلى ضوء أهمية الدور المنتظر من القضاء، سنحاول هنا تعميق ما خلصتْ إليه اللجنة في اتجاه استشراف ما يترتّب على رأيها من نتائج تفصيلية على أحكام الاقتراح. وما يؤكّد أهمية التفصيل في هذا الخصوص من دون الاكتفاء بالعموميات هو منع أيّ تحوير في تأويل لرأي اللجنة، وهو تحوير نستشّفه إلى حدّ ما في تصريح وزير العدل هنري خوري الذي أعلن أنه في صدد الإعداد لاقتراح قانون جديد يكون فيه عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى معيّنين (نفهم من السلطة التنفيذية) تبعا لما اعتبره نجاحًا في إقناع لجنة البندقية بالخصوصية اللبنانية المتمثلة بالطائفية.

ومن أهمّ هذه النّتائج التفصيليّة الآتيّة:  

أولًا، التأكيد على أهمية تضمين القانون موادّ تؤدّي إلى تقويض الممارسة المخالفة صراحة لنصّ المادة 95 من الدستور والمتمثّلة في تطييف المراكز القضائيّة الهامّة. فمن شأن الالتزام بقاعدة عدم تخصيص أيّ مركز لأيّ طائفة أن يُجرّد زعماء الطوائف من إمكانية تقاسم هذه المركز وادّعاء أحقيّة كل منهم في تسمية قضاة في المراكز العائدة لطائفته، وأن يخفّف بصورة جدية من احتمال تحوّل هذه المراكز إلى مراكز نفوذ لهؤلاء. إذ ذاك، تكتسي إلزامية نقل القضاة من مراكزهم بعد فترة معينة أو ما يسمّى مبدأ المداورة (والتي أكدت اللجنة أهميته من حيث المبدأ) أبعادها المرجوة، بحيث تمنع ليس فقط تحوّل المركز القضائي إلى إمارة لقاضٍ ما إنما أيضا تحوّله إلى إقطاع يحكمه زعيم طائفة بواسطة قضاة تتغيّر وجوههم في حين تبقى مرجعيّتهم هي نفسها. ويجدر هنا دعمًا لهذا التوجّه التذكير بكتاب وزيرة العدل ماري كلود نجم بتاريخ 11 آذار 2020 تعليقا على التشكيلات القضائية التي اقترحها مجلس القضاء الأعلى آنذاك، طالبة منه مراجعة التشكيلات القضائية بما يجعلها متفقة مع المادة 95 من الدستور، وهو الأمر الذي عاد وأكّد عليه كتاب صادر عن رئاسة الجمهورية اللبنانية بتاريخ 9 حزيران 2020 في معرض ردّه غير القانوني لمشروع التشكيلات القضائية. لا بل أن مجلس القضاء الأعلى ذكر صراحة في الأسباب الموجبة لهذا المشروع عزمه على تجاوز الاعتبار الطائفي في التشكيلات اللاحقة.  ولا يكفي هنا ضمانا لعدم تجاوز هذه القاعدة، التأكيد على عدم التمييز بين القضاة على أساس أيّ من الاعتبارات الملازمة لأشخاصهم، ولكن قبل كل شيء ضمان حقّ الترشح للمراكز الهامة (وهي المراكز التي تمّ تطييفها عمليّا) أمام جميع القضاة بمعزل عن انتمائهم الطائفيّ والأهمّ وضع آليّات تضمن الاختيار بينهم وفق معايير شفافّة. وهذا ما سنعود إليه أدناه في القسم الثاني حيث نتناول القيود التي وضعها الاقتراح على حقّ القضاة بالترشّح لهذه المراكز. وقبل الانتقال إلى النظر في النتائج الأخرى التي يجدر ترتيبها على رأي اللجنة، نلحظ أنّ الاقتراح تضمّن كمّا كبيرا من الشروط التي يجدر بمشروع التشكيلات الالتزام بها، من دون أي إشارة إلى القاعدة الدستورية الأهم وهو ووجوب عدم تخصيص أي مركز قضائي لأي طائفة. 

ثانيا، تغليب معيار الكفاءة في التعيينات. وفي حين أشارتْ اللّجنة بوضوح إلى هذا التوجّه وبشكل خاصّ في معرض تفسيرِها لمضمون المادّة 95 وأبعادها، نحاول هنا أن نذهب أبعد من ذلك في استشراف ما يفرضُه هذا التوجّه من نتائج على ضوء ما تضمّنه رأي اللجنة في محلّات متفرّقة منه. ومن أهمّها، الآتيّة:

  • إنّ تحصين معيار الكفاءة يفترض حكمًا الحدّ من صلاحية السّلطة السياسيّة في التحكّم في إجراء التعيينات القضائية مباشرة أو غير مباشرة أو على الأقلّ ضبطها ومنع تفرّدها بها. فبقدر ما تزيد صلاحيّة السّلطة السياسيّة أو استنسابيتها في مجال التعيينات القضائيّة، بقدر ما تزيد احتمالات تحويل قاعدة التوزيع الطائفي إلى أداة جديدة لاقتسام السلطة مع ما يستتبع ذلك لجهة تغليب معايير الزبونية والولاء السياسي وتسييس القضاء. وهذا الأمر يفترض ليس فقط تمكين مجلس القضاء الأعلى من إنجاز التعيينات، ولكن في الآن نفسه ضمان استقلالية أعضاء هذا المجلس عن السلطة التنفيذية، ليكون درعًا للقضاء في مواجهة هذه السلطة وليس ذراعا لها داخل القضاء كما هو الوضع الآن. وعليه، يصبح تمكين السلطة التنفيذية من إضافة أسماء إلى قوائم القضاة المُقترحين لتولّي المناصب العليا في المجلس أو التحكّم بمشاريع التشكيلات القضائية من خلال فرض صدورها بمراسيم أمورًا تتنافى ليس فقط مع مبدأ استقلالية القضاء ولكن أيضا مع واجب التقيّد بمبدأيْ الكفاءة والاختصاص ومع الهدف الاستراتيجي للدستور. وفي السياق نفسه، يصبح تمكين السلطة السياسية (سواء كانت السلطة التنفيذية أو البرلمان) في تعيين شخصيات من غير القضاة داخل مجلس القضاء الأعلى (وهو اقتراح ورد عرضا في رأي اللجنة في سياق تأكيدها على أهمية تعيين غير قضاة في مجلس القضاء الأعلى) أمرًا قابلًا للانتقاد ومحفوفًا بالمخاطر للأسباب نفسها.
  • إنّ إعلاء شأن معيار الكفاءة في التعيينات لا يتحقق بمجرد الإعلان عن ذلك، بل يفترض وضع آليات تسمح بقياس الكفاءة وفق شروط موضوعية وبمنأى هنا أيضا عن تأثيرات السلطة السياسية. ومن هنا، تكتسي الصلاحيّة الممنوحة للسّلطة التنفيذيّة في تعيين كامل أعضاء هيئتيْ التقييم والتفتيش القضائيين عاملا بالغ الخطورة، من شأنه أن يؤدّي عمليًا إلى تسييس معيار الكفاءة من خلال التحكّم بالأجهزة المختصة في قياسها، وعمليا إلى الالتفاف حوله. فحتى إذا ذهب الاقتراح إلى الحدّ من قدرة السّلطة السّياسيّة في التحكّم في تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو في إصدار التّشكيلات القضائيّة أو عدم إصدارها، فإنه يعود ليعوّض عنها من خلال تعزيز قدرتها في تقييم كفاءة القضاة وبخاصة بعدما جعل العديد من نتائج هذا التقييم ملزمة لسلطة التعيين الجديدة (مجلس القضاء الأعلى) عند إجراء التشكيلات القضائية وفق ما تثبتت لجنة البندقية منه. وبفعل ذلك، يصبح للسلطة السياسية التي دأبتْ سابقًا على تعيين الموالين لها بفعل تحكّمها بآليات التعيين، أن تستمرّ في تعيين هؤلاء رغم فقدانها هذه الصلاحيّة أو تقليصها من خلال منحهم دون سواهم أو على الأقلّ أكثر من سواهم وسام الكفاءة. وعليه، وباستعارة صورة شعبية، يكون الاقتراح أخرج السلطة السياسية من الباب ليفسح لها إمكانية العودة من الشّباك. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو اعتماد معايير مُبهمة ومطّاطة للتقييم وأيضًا لتحديد الخطأ التأديبيّ الذي يجري التّحقيق مع القضاة ومحاسبتهم على أساسه وفق ما أسهبتْ في تبيانه لجنة البندقية في متن رأيها.
  • أخيرًا، هنا أيضا يتطلب الأخذ بمعيار الكفاءة الإفساح أمام عدد هامّ من القضاة من الترشّح لتولّي منصب معين تمهيدا لإثبات أنهم الأكفأ. وهو أمر ينقضه الاقتراح تماما من خلال وضع شروط تعجيزية أمام الترشح وفق ما بيّناه أعلاه ونعود إليه تفصيليا أدناه.    

وإلى جانب النتيجتيْن المذكورتيْن أعلاه لتفسير المادة 95، يبقى من المهمّ الإضاءة على نتيجة ثالثة قوامها ضرورة التوفيق بين معايير استقلاليّة القضاء وبخاصة لجهة وجوب انتخاب القضاة غالبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى وقاعدة التوزيع الطائفي. فرغم أهميّة التّوفيق بين هاتين القاعدتيْن، تفادتْ لجنة البندقيّة المغامرة في إعطاء إضاءات أو مقترحات بشأنه، ليس فقط في معرض تقييم النظام المُعتمد في الاقتراح لانتخاب 7 من أعضاء المجلس ولكن أيضا في سياق البحث عن كيفيّة معالجة أيّ خلل قد تسفر عنه نتائج هذا الانتخاب. جلّ ما ورد في رأيها في هذا الشأن هو جملة وردتْ عرضا في رأي لجنة البندقية مفادها أن اللجنة تتفهم أن من شأن تعزيز شروط تمثيل الفئات الشابة أن يقلّل من حظوظ التوازن على صعيد التمثيل الطائفي, نفهم من هذه الجملة أنها أتتْ ردّا على بعض الذين التقتهم اللجنة وبرروا تهميش الفئات الشابة بضرورة احترام القاعدة الطائفية. وعدا عن أن هذا الأمر غير صحيح طالما أن الطوائف ممثلة بدرجة متقاربة في الفئات المختلفة الشابة وغير الشابة، يبقى أن ثمة طرقا كثيرة تضمن احترام هذه القاعدة من دون أن يصار إلى تهميش هذه الفئات، ومنها بعض الخيارات التي أوردتها المفكرة القانونية ضمن الاقتراح الأساسي المقدم للمجلس النيابي وفق ما نذكره أدناه. لا بل أن تهميش الفئات الشابة إنما يشكل على العكس من ذلك تماما عاملا في تكريس الهرمية القضائية الأكثر قربا من القوى السياسية وتاليا في تأبيد الواقع السائد status quo وإضعاف الاستقلالية وبالنتيجة الحؤول دون تطوير النظام القضائي في اتجاه تحقيق الهدف الدستوري المشار إليه أعلاه.

ومن هنا ثمّة ضرورة في طرح تساؤليْن إثنيْن: (1) ما مدى انسجام نظام الترشيحات والانتخابات المعتمد في الاقتراح مع ضرورة تمثيل جميع الفئات وفق معادلة المادة 95 وفي الآن نفسه مع الهدف الاستراتيجي في تجاوز هذه المعادلة؟ وبكلمة أخرى، هل يسهم هذا النظام في إرساء ممارسات انتخابية من شأنها ضمان تمثيل متوازن بمعزل عن أي كوتا طائفية سواء على صعيد الترشيح أو الانتخاب؟ و(2) ما هي الضوابط المعتمدة لمعالجة الخلل في حال حصوله مع تجنّب الرجوع إلى السلطة التنفيذية قدر الممكن، مخافة عودة التعيينات السياسية في مجلس القضاء الأعلى؟ بقي هذان التساؤلان بالغا الأهمية غائبيْن في رأي لجنة البندقية رغم ما للإجابات عليهما من أهميّة في تقييم اقتراح لجنة الإدارة والعدل في خصوص انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى. وكانت المفكرة القانونية سعتْ إلى طرحهما والردّ عليهما في معرض اقتراحها المذكور أعلاه، وذلك من خلال اقتراح النظام النسبي على لوائح أملا ببناء ثقافة تعدديّة داخل القضاء، وأيضا من خلال تمكين القضاة المنتخبين والحكميين من تعيين 3 أعضاء في المجلس لمعالجة أيّ اختلال في نتائج الانتخابات, سنكتفي بهذا القدر وإن كان الموضوع يحتمل الكثير من التوسّع، لننتقل إلى التوصيات التفصيلية للجنة البندقية والتي تلاقتْ في العديد منها مع ملاحظات ائتلاف استقلال القضاء.

الضمانات المفقودة أو المنقوصة

في بيانه الصادر في تاريخ 18/1/2022، أوضح ائتلاف استقلال القضاء أن لجنة الإدارة والعدل أغفلتْ عند وضع النسخة الأخيرة لاقتراح القانون كما عدلته، كمًّا من المعايير الهامّة لضمان استقلال القضاء فأتى اقتراحها الجديد منقوصاً وقاصراً عن تحقيقه. وفي هذا الإطار، أثنتْ لجنة البندقية على العديد من هذه الملاحظات، وأبرزها الآتية:

  • هل تحرر مجلس القضاء الأعلى من قبضة الحسابات السياسية؟

تناولتْ اللجنة مطوّلا مسألة تكوين مجلس القضاء الأعلى على اعتبار أنه الجهاز الذي يتولى دورا اساسيا في تنظيم شؤون القضاة. وإذ سجّلت تقدّما هامّا لجهة انتخاب القضاة سبعة من أعضائه، فإنّها توقفتْ عند تحفّظين أبداهما ائتلاف استقلال القضاء.  

الأول، التفاوت الكبير بين تمثيل القضاة من الدرجات العليا والقضاة من الدرجات الأدنى (الفئات الشبابية). وكان الائتلاف بيّن أنه بنتيجة تقسيم القضاة إلى سبع فئات كلا منها تتمثّل بقاضٍ واحد، برز تفاوت كبير في تمثيل هذه الفئات. فقد ضمّت بعض فئات القضاة ذات الدرجة المرتفعة 10 قضاة فقط كما هي فئة رؤساء غرف محكمة التمييز، في حين ضمّت فئة القضاة ذات الدرجات المتدنيّة قرابة 140 قاضيا (وهي الفئة المكوّنة من القضاة المنفردين وقضاة المهمة الذين يمثلون نسبة 5%). يُضاف إليهم أعضاء المحاكم الابتدائية (وهم القضاة الأحدث عهدا والأدنى درجة) الذين لا يتمثّلون إطلاقا. وفي حين ذكّرت اللجنة أنّها دعتْ في عدد من آرائها السابقة إلى ضرورة تمثيل عادل للفئات المختلفة من القضاة (ومنهم القضاة من الفئات الشابّة والنساء والمناطق) في المجالس القضائيّة، أشارتْ إلى أنّ التمثيل العادل لا يعني بالضرورة منح الفئات كلها نفس نسبة التمثيل في هذه المجالس لكن يعني ضمان حق الفئات الشابة في أن تتمثل فيها، بما يعزز شعور الانتماء والثقة داخل القضاء. وعليه، خلصتْ إلى أهمية منح القضاة من الفئات الشابة تمثيلا أكبر في مجلس القضاء الأعلى. وما يزيد من أهمية هذه التوصية أنّ أربعًا من هذه الفئات (من أصل 7) التي نصّ عليها الاقتراح تضمّ في غالبها القضاة المحظيين من القوى السياسية وفق مرسوم التشكيلات القضائية الأخير (2017)، وهي فئات رؤساء غرف التمييز والاستئناف والدرجة الأولى فضلا عن قضاة التحقيق، وهو أمر يمهّد لإعطاء هامش واسع لهذه القوى بالتحكّم بنتائج انتخابات المجلس.

الثاني، التحفّظ لجهة كيفية تعيين الأعضاء الثلاثة الحكميين. وكان الاقتراح ضيّق من سلطة الحكومة في تعيين القضاة الحكميين من خلال فرض تعيينهم من ضمن قوائم من 3 أسماء يضعها مجلس القضاء الأعلى، إلا أنه سرعان ما عاد ليفتح لوزير العدل إمكانية إضافة أسماء أخرى إلى هذه القوائم، بما ينسف هذه الضمانة، وإن اشترط موافقة مجلس القضاء الأعلى على الأسماء المضافة. وهنا أثنتْ اللجنة على وجوب تجريد وزير العدل من إمكانية إضافة أسماء جديدة، كما أعادت التأكيد على ضرورة أن يتم اختيار الأسماء المقترحة على أساس ترشيحات يتمّ حسمها وفق إجراءات شفافة (وهذا ما كان الائتلاف اقترحه في صيغة اقتراحه الأساسي) مشيرة إلى أهمية تخفيض الدرجة المطلوبة لإشغال هذه المناصب تمهيدا لتوسيع دائرة الترشّح لها. وقد أضافتْ اللجنة إلى هذه الاعتبارات ضرورة أن يحدّد الاقتراح نتائج رفض مجلس الوزراء تعيين أيٍّ من القضاة المرشحين على هذه القوائم، بما يجرّد السلطة التنفيذية من إمكانية استخدام سلاح الفيتو لتعطيل المرفق القضائي وتاليا من ممارسة ضغط على مجلس القضاء الأعلى لاقتراح أشخاص يعلم أنها يحظون برضاها.   

بالإضافة إلى ما تقدّم، أوصتْ لجنة البندقيّة بأن يضمّ مجلس القضاء الأعلى أشخاصًا من غير القضاة، مشيرةً إلى تجارب مقارنة عدّة في هذا المضمار، منها تعيين شخصيات من قبل السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية. وفي حين كانت “المفكرة القانونية” قد تبنّتْ هذه الفكرة في اقتراحها الأساسي، فإنها آثرت أن يتمّ ذلك من خلال انتخاب محامييْن من نقابتيْ المحامين وأستاذين جامعييْن أحدهما من أساتذة الجامعة الوطنية والآخر من أساتذة الجامعات الخاصة تيمنا بالتجربة الديمقراطية التونسية (ما قبل التعديل الحاصل في 2022)، من باب الحدّ من تأثيرات السلطات السياسية في تكوين هذا المجلس وفق ما سبق بيانه. كما كانت المفكرة القانونية اقترحتْ أن تنحصر مشاركة القضاة في القرارات التي لا تتصل بالمسارات المهنية للقضاة، على أمل تطوير التجربة لاحقا، على ضوء الحساسية المفرطة في الجسم القضائي حيال تعيين غير القضاة في مجلس القضاء الأعلى.

  • التفتيش والتقييم سيوفٌ بيد السلطة التنفيذية

هنا اعتبر الائتلاف أن لجنة الإدارة والعدل فشلتْ تماما في إنجاز استقلالية هيئة التفتيش القضائي (وهو الجهاز الذي يتولّى التحقيق مع القضاة في المخالفات التأديبيّة المنسوبة إليهم) وهيئة التفييم القضائي (وهو الجهاز المُقترح إنشاؤه والذي يفترض أن يتولّى تقييم القضاة). وقد أسند الائتلاف موقفه على معطيّات عدّة أبرزها أن أعضاء هاتيْن الهيئتيْن يعيّنون من قبل السلطة التنفيذية مع الاكتفاء باستطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى بخصوص أعضاء الهيئة الثانية من دون أن يكون لهذا الرأي أيّ مفعول ملزم. كما سجّل الائتلاف تحفّظه لجهة اختيار رئيسيْ هاتيْن الهيئتيْن وفق الآلية الموضوعة لتعيين مجمل أعضاء مجلس القضاء الحكميين وتحفظًا آخر لجهة أن هيئة التفتيش القضائي تبقى تحت إشراف وزارة العدل وفق الاقتراح.  

وقد أثنتْ لجنة البندقية على هذه التحفظات لتوصي في نهاية رأيها بضرورة أن يكون لمجلس القضاء الأعلى المكوّن بطريقة تضمن استقلالية أعضائه دور وازن في تعيين أعضاء هاتين الهيئتين، وأن يتم تجريد وزير العدل من إمكانية إضافة أسماء إلى قوائم الأسماء المقترحة لتولي رئاسة هاتين الهيئتين.

ومن شأن هذه المعطيات أن تثير مخاوف جدّية من أن تعود السلطة التنفيذية لتسيطر على القضاء من خلال تحكّمها بجهازيْ المحاسبة والتقييم، بعدما تخلّت عن بعض نفوذها في تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى كما سبق بيانُه. وما يزيد من هذه المخاوف هو ما لفتَتْ إليه لجنة البندقيّة لجهة أنّ الاقتراح ألزم مجلس القضاء الأعلى عند وضع مشروع التشكيلات القضائية بنتائج التقييم الصادرة عن هيئة التقييم وأن معايير التقييم تسمح بهامش واسع من الذاتيّة واللا موضوعية. وقد عبّرت إذ ذاك اللجنة عن مخاوفها من أن يتمّ إخضاع مجلس القضاء الأعلى لهيئة التقييم (غير المستقلة بحكم تعيين كلّ أعضائها من السلطة التنفيذية) في هذا المضمار. وهذا ما يجيز لنا الانتقال إلى مناقشة آلية وضع التشكيلات القضائية.  

  • التشكيلات القضائية لا تحتاج إلى مرسوم ولكن…

تعدّ التشكيلات القضائيّة إحدى أهمّ المناسبات للتدخّل في القضاء وبناء الولاءات السياسيّة. وعليه، أعلنتْ لجنة الإدارة والعدل في الأسباب الموجبة للاقتراح الذي عدّلته، سعيها للحدّ من هذا التدخّل من خلال وضع معايير موضوعية لإجرائها ومن خلال تمكين مجلس القضاء الأعلى من حسم الخلاف الحاصل حولها مع وزير العدل بأكثرية سبعة أعضاء واعتبار التشكيلات نافذة من دون حاجة لصدور مرسوم في حال تأخر صدوره (انقضاء شهر من ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل).

وقد بدا بيّنا في رأي لجنة البندقية أن أوّل ما توقّفت أمامه تمثّل في إمكانيّة إصدار التشكيلات القضائية من دون مرسوم، وذلك تبعا لاعتراضاتٍ عدّة وردتْ من وزير العدل. ويجدر هنا التذكير بأهمية تحرير التشكيلات القضائية من ضرورة صدورها بمرسوم وبخاصة في ظل الممارسات السائدة والتي أدّت إلى إجهاض متكرّر لمشاريع التشكيلات القضائية بفعل امتناع أحد المسؤولين الذين يُفترض توقيعهم على المرسوم عن القيام بذلك، وهم تباعا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير العدل ووزير الدفاع، فضلا عن وزير المالية الذي تبقى صلاحيته في التوقيع موضع جدل لانتفاء أي تبعات مالية له. وقد كشفت لجنة البندقيّة أنّ وزير العدل اعتبر أنّ ما يمنع صدور التشكيلات من دون مرسوم ليس المادة 65 من الدستور التي تتناول تعيين الموظفين من مجلس الوزراء (وهي المادة التي كانت استندتْ إليها نقابة المحامين في بيروت لرفض إصدار التشكيلات القضائية من دون مرسوم)، بل إلى المادة 56 منه وهي المادة التي تتّصل بكيفيّة إصدار المراسيم من قبل رئيس الجمهورية. وإذ استبعدتْ اللجنة بدورها المادة 65 من دون مناقشتها على اعتبار أن المناقلات القضائية ليست تعيينا للموظفين وأنها لا تتخذ أصلا في مجلس الوزراء، فإنها رأتْ أنها لا ترى أيّ تعارض بين إلغاء إلزامية المرسوم والمادة 56 وإن عادتْ لتعبّر بشيء من الدبلوماسية عن خشيتها من احتمال إثارة هذه المادة (في سياق الطعن في دستورية القانون). ويشكّل رأي لجنة البندقية في هذا المضمار معطًى هامًا لدحض العديد من الآراء المحافظة والتي شكّلت غالبا حائلا دون تحرير مشاريع التشكيلات القضائية من إلزامية صدور مرسوم. واللافت أن وزير العدل لم يجد حرجا في الإصرار على هذا الموقف رغم أنه شاهد على تعطيل مشروع تشكيل رئاسات غرف محكمة التمييز بفعل امتناع وزير المالية عن توقيعه، وهو الأمر الذي يزيد من اختناق هذه المحكمة ويعطّل عمل هيئتها العامة ومعها إمكانية سير التحقيق في إحدى أكبر الجرائم وهي جريمة المرفأ. وهنا تجدر الإشارة إلى أن اقتراح الائتلاف الأساسي كان نصّ على نفاذ التشكيلات فور إقرارها من مجلس القضاء الأعلى من دون حاجة أصلا إلى مرسوم. والفائدة من ذلك هو تجنّب انتظار شهر من تسجيلها في ديوان وزارة العدل حتى اعتبارها نافذة والأهم تجنّب الممارسات التعسفية التي قد تتمثّل في عدم تسجيلها أصلا في الديوان تعسفا منعا لسريان المهلة.     

فضلا عن ذلك، سجّل الائتلاف عددا من التحفظات بهذا الشأن، أبرزها ما يتصل بالغالبية المطلوبة لحسم التشكيلات (7 من 10). وقد علّل الائتلاف موقفه أنّه بالنظر إلى أنّ السلطة التنفيذيّة صاحبة القرار بتعيين القضاة الحكميين، فإنّه يكفي أن يشغر أحد مراكز المجلس أو أن ينحاز أحد الأعضاء المنتخبين للأعضاء حكميّين ليصبح تحقيق غالبية حسم غير ممكن. وفي حين خلص الائتلاف إلى أنّ “أي تعديل جدّي هنا يوجِب تخفيض غالبية الحسم إلى غالبيّة نسبية لأعضاء المجلس، أثنتْ لجنة البندقية على هذا التحفظ لتوصي بالنتيجة بالاكتفاء بغالبية مطلقة من أعضاء المجلس الفعليين، وذلك من باب تعزيز الاستقلالية وتخفيف احتمالات تعطيل مشاريع التشكيلات القضائية.

كما أبدى الائتلاف تحفّظات أخرى كثيرة أهمّها عدم احترام مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه أو تضييق مجال الترشيح، إلا أن لجنة البندقية أغفلتْ مناقشة هذه التحفظات ولم تحسمْها لا سلبا ولا إيجابا، لتبقى علامات الاستفهام بشأنها قائمة. وهذا ما سنعالجه في الفقرة الثالثة من هذا المقال ضمن أبرز المسائل التي لم تتطرق لها لجنة البندقية.

  • الانتقاص من حقوق وحريات القضاة

لا يكفي ضمان استقلالية الهيئات القضائية، إنما يفترض علاوة على ذلك منح القضاة ضمانات تخوّلهم التمتع بالاستقلالية الخارجية إزاء السلطات السياسية والاستقلالية الداخلية إزاء هذه الهيئات بالذات. وفي هذا الإطار، سجّل الائتلاف تحفّظات عدّة على اقتراح لجنة الإدارة والعدل أثنتْ عليها لجنة البندقية، أبرزها الآتية:

  • إنّ الاقتراح يضيّق حريّة القضاة في إنشاء جمعيات والذي يشكّل ضمانة لاستقلاليّتهم، حين اشترط ألّا يشمل موضوع الجمعية أيّا من صلاحيات مجلس القضاء الأعلى. وما يزيد من خطورة تضييق هذه الحريّة أنّ الاقتراح وسّع صلاحيات المجلس لتشمل السّهر على “الحقوق المعنوية والمادية للقضاة” و”كل ما يتصل باستقلال القضاة”. وعليه، يؤدّي الاقتراح في حال إقراره إلى حصر حرية تأسيس جمعيات للقضاة بحريّة إنشاء نوادٍ ترفيهيّة أو ثقافيّة من دون أيّ مضمون حقوقيّ. وما يزيد من خطورة الاقتراح هو أنّ مجلس القضاء الأعلى كان أثار في 2018 تضمين أهداف نادي قضاة لبنان أمورًا تدخل ضمن صلاحياته منها الدفاع عن استقلال القضاء لاعتبار تأسيسه مخالفا للنظام العام. وقد أثنَتْ لجنة البندقيّة على هذا التحفّظ. وإذ أكّدت على أنّه من الطبيعي أن لا تمارس جمعيات القضاة صلاحيات مجلس القضاء الأعلى الممنوحة له قانونا، فإن قيام الجمعية بأعمال ضمن المجالات التي يعمل عليها هذا المجلس هو أمر لا يفترض أن يكون مخالفا للقانون.   
  • إنّ الاقتراح يستعيد ما ينصّ عليه القانون الحالي لجهة تمكين مجلس القضاء الأعلى من عزل قاضٍ من دون محاكمة تبعًا لإعلان عدم أهليّته. وقد تحفّظ الائتلاف حيال هذا الأمر على خلفيّة أنّه “لم يتمّ تعريف عدم الأهلية”، منعا لاستخدام صلاحية إعلان عدم الأهلية كإجراء تأديبي موازٍ، مشيرًا إلى أنه كان يجب حصر هذا الإعلان بتوفّر حالات العجز الصحيّ أو النفسيّ دون سواه. وإذ أثنتْ لجنة البندقية على ضرورة تعريف “عدم الأهليّة” والمعايير التي تُقاس على أساسها، شدّدت على أن حالة عدم الأهليّة يجب أن تنحصر في الحالات التي يظهر فيها القاضي نقصا فادحا في المهنيّة من دون أن يرشح عنها أيّ سبب للمؤاخذة التأديبيّة. كما شدّدت على عدم جواز استخدام هذه الآلية في حالات الخطأ غير المقصود أو الأخطاء العرضيّة الحاصلة في تفسير القانون أو الوقائع، مؤكّدة ضرورة أن يتمتّع القاضي بهامش معيّن في تفسير القانون والوقائع. في النهاية، أوصتْ اللجنة باعتماد مبدأ التّناسب بين النقص في الأهليّة المعزوة للقاضي والتدبير المتّخذ بحقّه، بحيث لا يكون العزل مُناسبا كلما كان بالإمكان إيجاد حلول مناسبة للنقص في الأهلية، كأن يخضع القاضي مثلا لتدريب معين.
  • إن الاقتراح يترك القاضي عرضة لملاحقة تأديبية على أساس نصوص مطّاطة خلافا لمبدأيْ شرعية العقوبة ومدى تناسب العقوبة مع خطورتها. وإذ تحفّظ الائتلاف في هذا الشأن، أثنتْ لجنة البندقية ضمن توصياتها على ذلك داعيةً إلى تعريف الخطأ التأديبي بشكل أكثر دقّة وتكريس مبدأ التناسب بين خطورة الخطأ التأديبي والعقوبة التأديبية. وقد توقّفت اللجنة عند بعض المفاهيم التي ذُكرت في الاقتراح كأمثلة عن المخالفات التأديبية ومنها “العمل الذي يمسّ بالشرف أو الكرامة أو الأدب” وأيضا “أيّ عمل يوحي أو يشير لعدم استقلال القاضي أو مجانبة النزاهة” أو “الابتعاد عن الإنجاز السريع بمهنية وكفاءة”، معتبرة أنها عبارات مطاطة وغير واضحة. كما توقّفت بشكل خاصّ عند عبارة “الأدب” (وقد وردت في الترجمة الإنكليزية تحت تسمية morality) محذّرة من خطورة الإحالة إليها. وكانت عبرت من قبل عن ضرورة حذف الإشارة إلى هذا المفهوم في معرض بحثها في معايير تقييم القضاة وتشكيلهم، خشية من أن تشكّل بابًا لتدخّل غير مبرّر في خصوصية هؤلاء. وعليه، أوردتْ اللجنة في توصياتها الختامية ضرورة مراجعة لائحة المخالفات التأديبية المذكورة في الاقتراح أيضا (كما دعتْ إلى مراجعة معايير التقييم والتشكيلات القضائية).
  • إن الاقتراح أبقى لوزير العدل صلاحية إيقاف القاضي عن العمل بناءً لاقتراح مجلس هيئة التفتيش القضائي في سياق ملاحقة تأديبية. وإذ تحفّظ الائتلاف حيال هذا الأمر لتعارضه مع مبدأ الفصل بين السلطات، أثنَتْ لجنة البندقيّة عليه، وبخاصّة في ظل تبعية هيئة التفتيش للسلطة التنفيذية كما سبق بيانه. وقد سجلت اللجنة أن من شأن هذه الصلاحية أن تؤدّي إلى تدابير تعسفيّة بهدف منع قاضٍ معين عن النظر في نزاع معين.      
  • إن الاقتراح أبقى التمييز والمحاباة قائميْن في تعيين القضاة للعمل في لجانٍ لقاء بدل وإن وضع بعض الضوابط في هذا المجال، منها أن لا يعيّن القاضي في أكثر من لجنتيْن. وإذ انتقد الائتلاف هذا الأمر على خلفية أنّ التعيين في اللجان يتمّ من دون أي ضوابط ولا يخضع لأيّ تقييم سابق ولا يشترط موافقة مجلس القضاء الأعلى وأنه يفتح تاليا الباب أمام المحاباة والتمييز بين القضاة، أثنتْ لجنة البندقية على هذا التحفّظ على خلفيّة أن من شأن هذه التعيينات في لجان تتبع للسلطة التنفيذية أن تؤثّر سلبا على الاستقلالية الظاهرية لهؤلاء. وعليه، أوصتْ اللجنة بضرورة وضع ضوابط لهذه التعيينات، ومنها تحديد مدّتها ووتيرتها والشروط الواجب توفرها لدى القاضي المعنيّ فضلا عن المنافع المتّصلة بها.   

المجالات التي لم يشملْها الرأي

كما أوضحنا أعلاه، نبّهت اللجنة في مستهلّ رأيها أنّه لا يشمل مختلف جوانب القانون، وأنّ إغفال أيّ منها لا يعني بالضرورة أنها تعدّها مناسبة تماما أو أنّها لا تطرح أيّ إشكالية. وانطلاقا من ذلك، يجدر هنا للإحاطة بمختلف جوانب الاقتراح وثغراته، أن نُعيد التذكير بأبرز هذه الأحكام والتشديد على وجوب تصويبها، وبالأخصّ خمسة منها:   

الأول يتّصل بعدم احترام مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه وهو إحدى أهم ضمانات استقلالية القضاء. ففي حين أنّ الاقتراح كرّس هذا المبدأ، عاد وخوّل المجلس الأعلى للقضاء نسفه وتاليا نقل القاضي إلى مركز قضائي معيّن خلافا لإرادته بمجرد أن يثبت عدم توفّر عدد كافٍ من القضاة الذين يستوفون شروط التعيين في هذا المركز. وما يزيد من خطورة هذا الاستثناء على المبدأ هو أنه يحتمل أن يصبح القاعدة العامّة بالنسبة إلى جميع المراكز الهامّة على ضوء الشروط التعجيزية التي وضعها الاقتراح للتعيين في هذه المراكز، كما نبحث في النقطة اللاحقة.

الأمر الثاني، يتصل بنسف مبدأ الترشح للمراكز الشاغرة من خلال وضع شروط تعجيزيّة لارتقاء مركز معين أو تؤدّي عمليا إلى عدم وجود أشخاص مؤهلين للترشّح لأكثر المراكز القضائية الهامة. ومن هذه الشروط أن يكون القاضي قد تولّى لسنوات عدّة مراكز معينة في 4 محافظات أخرى ومنع غالبية القضاة من الترشح لمراكز جديدة خلال مدّة تصل إلى 5 سنوات بعد تعيينهم في مركز معين وأيضا منع أيّ من القضاة أن يتولى أي مركز آخر في النيابة العامة لمدة ثانية فضلا عن ضرورة اعتماد تدرج إلزامي في المراكز القضائية. وإذا قرأنا هذه المعطيات على ضوء الصلاحيات المعطاة لمجلس القضاء الأعلى في تجاوز مجمل هذه المعايير بمجرد أن يثبت عدم توفّر عدد كافٍ من القضاة الذين يستوفون شروط التعيين في مركز شاغر، أمكن القول أن الاقتراح انتهى عمليا في أغلب الحالات  إلى منح مجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح من يريد لأيّ مركز، مستبدلا بذلك حق الترشح للقضاة بحق الترشيح لهذا المجلس. وما يزيد من خطورة هذا المنزلق هو أنّ توسيع باب الترشّح للمراكز القضائية الهامة شرط أساسيّ لضمان تطبيق قاعدة الكفاءة وفق ما ورد أصلا في رأي لجنة البندقية نفسها في معرض تعليقها على تعيين القضاة الحكميين في مجلس القضاء الأعلى وللحؤول دون تخصيص مقاعد معيّنة لطوائف بعينها، وكلاهما أساسيّ لتطبيق المادة 95 من الدستور مع الإسهام في تحقيق الهدف الاستراتيجي في تجاوز الطائفية السياسية كما أسهبنا في تبيانه أعلاه.   

الأمر الثالث، يتصل بإنشاء فئة قضاة المهمة. فبالعودة إلى الاقتراح، يتبيّن أنه أوجد وظيفة قضائية هجينة هي وظيفة قاضي المهمة وهو قاضٍ لا يُعيّن في مركز محدّد بل يكون من الممكن انتدابه لأيّ وظيفة عند الحاجة. ويشير الاقتراح إلى إمكانية أن يبلغ عدد قضاة المهمة 5% من القضاة. ومن شأن كل ذلك أن يجعل استقلالية القضاء في هذه المراكز بالغة الهشاشة، كل ذلك في ظلّ إطار مؤسساتي لم يثبت فعاليته واستقلاليته بعد. وأكثر ما يخشى هنا هو استخدام قضاة هذه الفئة لخدمة مصالح القوى النافذة في القضايا التي تهمّها، وذلك من خلال تنصيبهم في هيئات تعاني من شواغر وهيئات يتنحى أو يُنحَّى أعضاء منها.

الأمر الرابع، يتّصل بطرق الدخول إلى معهد الدروس القضائية أو القضاء. فقد استعاد اقتراح لجنة الإدارة والعدل مجلس القضاء الأعلى الممارسة الإقصائية المعتمدة حاليا والتي تقوم على استبعاد مرشّحين لدخول معهد الدروس القضائية بقرارات غير مبنية على أيّة معايير موضوعية ومن دون أن يكون لهؤلاء أيّ حقّ بالطعن فيها. وقد تمّ ذلك من خلال وضع شرط إضافيّ للترشّح للدّخول إلى معهد الدروس القضائية، وهو أن يكون المرشّح قد نجح في سنة تحضيرية، علما أن قبول الطلبات للاشتراك في السنة التحضيرية هو أيضا يخضع لقرار استنسابي تتخذه اللجنة الفاحصة المعيّنة من مجلس إدارة معهد الدروس القضائية بعد إجراء مقابلة شفهية معهم. كما يكون لمجلس القضاء الأعلى قرار استبعاد أيّ مرشح لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية بناء على مقابلة شفهية أخرى. ومن شأن هذه الآليات أن تؤدي عمليا إلى التمييز ضدّ مرشّحين خلافا للمادتين 7 و12 من الدستور اللتين تضمنان مساواة المواطنين في تولي الوظائف العامة على أساس الكفاءة. وأخطر مما تقدّم، وبمقابل تمديد مهلة دخول القضاء من خلال المعهد إلى ما يقارب 4 سنوات (بعد إضافة السنة التمهيدية)، عاد الاقتراح ليفتح طريقا سريعا أمام تعيين قضاة أصيلين من بين محامين ومساعدين قضائيين وذلك بموجب مباراة، ومن دون وضع ضوابط لانتقائهم (ولا حتى المقابلة الشفهية) سوى تمتّعهم بأقدميّة 10 سنوات. وما يزيد من خطورة الأمر هو عدم وضع حدّ أقصى لعدد القضاة الذين جاز توظيفهم بهذه الطريقة. ويُخشى أن يُؤدي هذا الأمر إلى إدخال عشرات القضاة الجدد من المحسوبين على الفئات السياسية بما يعوّض عن الاستقالات الحاصلة داخل القضاء حاليا.  

الأمر الخامس، أن معهد الدّروس القضائية يبقى إحدى وحدات وزارة العدل، من دون أن يتمتّع بأي شخصية معنوية. ويسمي كل مدرائه، بما فيهم مدير التعليم المستمر، وأعضاء مجلس إدارته وزير العدل بعد موافقة الهيئة القضائية المختصّة. ويخضع تعيين رئيسه للآلية نفسها المعتمدة بخصوص تعيين رئيسي هيئتي التفتيش والتقييم القضائيتين، وهي آلية تعيين أكدت لجنة البندقية أنها لا تراعي استقلالية القضاء. ولكن رغم ذلك، لم يتضمّن رأي لجنة البندقيّة أي إشارة إلى المعهد.

خلاصة

مما تقدم، يتبين أن هذا الرأي شكّل مادة غنية يؤمل منها رفع مستوى النقاش بشأن معايير استقلالية القضاء ومدى انسجامها مع النظام اللبناني في مختلف أبعاده، وهي مادة يؤمل أن تشكل سندًا إضافيًا للقوى الهادفة لتحقيق استقلالية القضاء. فلنتابع…

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، البرلمان ، قرارات قضائية ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني