“عائدة” لكارول منصور: عايدة تعلن هويّتها مرة أخيرة من على أرض فلسطين


2024-04-25    |   

“عائدة” لكارول منصور: عايدة تعلن هويّتها مرة أخيرة من على أرض فلسطين

حزن، قهر، فرح، نكبة، انتصار، تعاطف، سخرية، ولا دراما مقصودة أو مصطنعة، وإن كان شبحها لا يغادر صالة المسرح – السينما في الفيلم الوثائقيّ “عائدة – Aida Returns” للمخرجة كارول منصور، إنتاج منى خالدي. لكن المُشاهد هنا، ولدى انطفاء الشاشة وإضاءة الأنوار، لن يقف عن كرسيّه ويمشي، يحتاج بعض الوقت يلملم فيه شتات روح أخذها الفيلم مع عايدة عبود والدة كارول إلى فلسطين لعلّها ترتاح. إلى يافا حيث عادت عايدة عبر رحلة طويلة، وبعد 70 عامًا على تهجيرها من فلسطين، إلى كعب الشجرة المعمّرة في منزلها المحتل، إلى ثرى مقبرة العائلة وإلى بحر يافا وهوائها. 

كان فيلم “عائدة” الذي بدأ بتحقيق وصّية بطلته، ثم استكمال حلمها، يبلسم جراحًا غائرة، في أرواحنا جميعًا، طوال رحلة تبدأ من حيث بدأ توثيق ذكريات عايدة وتصل معها، أو تعود معها إلى يافا. يحضر التصفيق والاحتفال في حضرة الموت والفقد، ويحضر الأسلوب الساخر في التمرّد على المأساة، ومعهما الدموع، بوصفها ردّ فعل ظاهر، يفرّغ من خلاله المشاهد الغضب المعتمر في داخله، لعلّه يحظى ببعض من الراحة الأبديّة التي أمّنتها المخرجة كارول منصور لوالدتها بطلة الفيلم. 

والتأثر هنا عفويّ بعفوية الفيلم نفسه الذي صُوّر معظمه بكاميرا هاتف نقّال، وجاء قرار إنتاجه في منتصف الرحلة، وتحديدًا بعد أن دخل رماد عايدة فلسطين. والهاتف عينه ينقل المشاهد عبر هذه الحياة التي توثق حياة عايدة ونكبتها، وعودتها، على لسان عايدة التسعينيّة المصابة بالألزهايمر في مونتريال وعايدة التي تقترب من الثمانين من عمرها في بيروت. 

وفي الفيلم تحكي عايدة التي تهجّرت وعائلتها من يافا وكانت في العشرين من عمرها، رحلة خروجها من فلسطين، وتحيك ابنتها كارول منصور، مخرجة الفيلم، خاتمة الرواية لتحقق مع صديقاتها تانيا حبجوقة، وأنجيليك عبود ورائدة طه، حلم عايدة بالعودة إلى يافا. ومساهمة كارول التي ورثت تهجير النكبة لعائلتها، تبقى بعيدة عبر الهاتف، تدخل من خلال كاميرته إلى يافا وبيت أمها وجدّيها وبعده إلى بحر المدينة، فيما يسمح وضع صديقاتها تنفيذ المهمة على الأرض.  

يبدأ خطّ السرد الأوّل بعايدة عبود، وتتكشف الرواية من خلال مقابلات سُجلت عام 2007، تلتقط ذكريات عايدة في فلسطين قبل النكبة: قصص نابضة بالحياة من أيام المدرسة، وطلاقة بثلاث لغات، دروس رقص، وعمل دؤوب. ومع ذلك، فإنّ ظلال المأساة تلوح في الأفق عندما تروي عايدة لحظات وصول العصابات الصهيونية، وكيف رمتها النكبة في المنفى في العشرين من عمرها. 

تحكي عايدة، وتحيك ابنتها قصّة الفيلم الوثائقي مع مرور الوقت، حيث تتدفق مقابلات حميمة بسلاسة وعفويّة، وُثِقت في السنوات الأخيرة من عمرها، من منفاها الأخير في مونتريال الكنديّة. وسط هدوء منزلها هناك ومن على سرير مرضها، تكافح عايدة تآكل ذكرياتها بلا هوادة، في معركة مؤثرة ضد مرض الألزهايمر الذي نال من أحداث وحتى أشخاص أحيانًا، بما فيهم وجه كارول، ولكنه عجز أمام يافا. بقيت يافا منارة ثابتة واحدة – يافا، مدينتها الأم، وقائمة وسط تنافر الذكريات المجزأة.

تتذكر كارول منصور في حديث مع “المفكرة القانونية”، شوق عايدة المستمر للعودة إلى موطنها في يافا: “خدوني على البيت، البيت في يافا” وهي رغبة محفورة في نسيج هوية الأم اللاجئة. حينما تموت عايدة، لا يكون موتها نهاية للقصة، بل بداية جديدة لقصة عودتها، عودة لا تكون إلّا بعودة الرماد بعد إحراق جثمانها. تقرر كارول أن تقود مهمّة تحقّيق حلم أمّها، وتبدأ عودة عايدة ليكون اسم الفيلم “عائدة” إلى يافا.

في المحور الثالث أي العودة الذي يحوز على نصف مدّة الفيلم، يكتسب السرد طبقات من التعقيد حيث تقوم كارول بتوجيه القصة من بعيد، معتمدة على صديقاتها في تهريب الرماد، ثم بحثهنّ عن بيت عايدة بين حارات يافا، معتمدات على وصف عايدة، خلال حياتها، وخريطة عفوية خطها والد صديقة أخرى قُبيل وفاته، لتكون بوصلتهنّ التي تشير دائمًا إلى بيت في يافا قربه محل سمانة كبير وكنيسة، وهو غير بعيد عن البحر. مع احتلال يافا ومصادرتها من قبل الصهاينة اعتمدت الصديقات على ذاكرة من بقي من فلسطينيي المدينة. من شارع إلى آخر، ومن عابر طريق إلى صاحب دكان صغيرة، يعبر رماد عايدة ومعها تعقيدات الشوق والمنفى والسعي الدؤوب للعودة إلى الوطن في مواجهة الاحتلال وحواجزه في مهمة سرية وشبه “أمنيّة” كون منزل عايدة محتلًا صادره صهاينة. 

رماد عايدة في طريقه إلى يافا

انتصار الأقوى

أحداث رحلة العودة، تترافق مع لقطات من ذكريات عايدة وحياتها، ليتكشّف الفيلم الوثائقي لكارول منصور عن شهادة حيّة على روح الفلسطيني التي تقاوم قيود الزمان والمكان، وحتى الجسد، في إصرارها على العودة إلى الأرض الأمّ، فلسطين. 

في السياق الحاضر الذي خرج فيه الفيلم التسجيلي من 72 دقيقة إلى النور، تتصاعد حملات التطهير العرقيّ في الضفة الغربية المحتلة، والإبادة الجماعيّة في غزة، وحتّى آخر الخيام في رفح، وسط جهد هائل يبدو بديهيا في الفيلم لتكريس السردية الفلسطينية، سردية أهل الأرض المطرودين منها، والعائدين يومًا ما إليها. تعلن عايدة عبود، وابنتها، وفيلمهما، مجدّدًا، الموقف النضالي الفلسطينيّ المضاد الذي يتمسّك بإعلان انتمائه إلى كلّ حبّة تراب في فلسطين من نهرها إلى بحرها. وتجسّد رحلة عايدة التي تمتد لعقود وتطول مسافة قارات، النضال الجماعي للفلسطينيين الذين يواجهون شبح المحو والنفي من أرض أجدادهم، لكنهم لا يعدمون حيلة للتشبّث بها والذوبان في ترابها وبحرها، وحتى التطاير بين ذرّات هوائها.

فمن خلال عدسة كارول منصور، نشهد عودة عايدة العازمة إلى جذورها، من كندا إلى فلسطين، وفي نهاية المطاف إلى حبيبتها يافا. صحيح أنّ عودتها الجسدية محصورة بالرماد، لكن بعدها الروحي يتردّد صداه بقوّة، والأهم وقعه.

لا يسرد الفيلم الوثائقي حياة عايدة ورحلة عودتها فحسب، بل يتعمّق أيضًا في التفاعل المعقّد بين الذاكرة والهوية. وبينما يهدّد مرض الألزهايمر تآكل ذكرياتها، تحمل كارول بإخلاص وإصرار وصية والدتها، لتعلن عايدة هويتها الفلسطينية مرة أخيرة من على أرض فلسطين. ويوثق الفيلم بقوّة حميمية علاقة الابنة مع الأم، لكن كارول تنجح في الحفاظ على رواية تتجاوز الأبعاد الشخصية إلى البعد الإنساني والفلسطيني الوطني الجامع العام، ليكتمل المشهد الإنسانيّ البديهي للانتماء إلى أرض فلسطين رغمًا عن الاحتلال وعن 75 عامًا على النكبة.

وبهذا، فإنّ “عائدة” ليس مجرد وثائقيّ، بل شهادة صمود، ومقاومة، وانتماء وحتى انتصار، وهو انتصار الأقوى، ليس بالبطش والإجرام، بل هو انتصار الأقوى بالإرادة والإصرار. من خلال الحكايات المتشابكة لعايدة مع اللجوء والحنين والمشاعر الغامرة للمخرجة نفسها، نحن مدعوون للتأمل في التوق الإنساني العميق لترسيخ الانتماء وقوّة الذاكرة الدائمة في تحدّي النسيان، والأهم قوّة الحق.

رماد عايدة

الرمزية في سردٍ حقيقي جدًا

الرمزية ليست مجرّد عنصر زخرفي في “عائدة”؛ بل هي أداة سردية عميقة تلخّص التحوّل والثبات والروابط الدائمة بالوطن. ويحمل قرار عايدة حرق جثمانها، ثم إعادتها إلى يافا رمادًا، أهمية تتجاوز الفعل المادي نفسه. ويرمز حرق الجسد إلى الابتعاد عن العالم المادي، والتخلّي عن الشكليات لاحتضان حالة الخلود والارتباط الأبدي بفلسطين. إنّ عبارة عايدة “لا أريد أن أموت” التي تتكرّر في الفيلم تترجم شوقها إلى ما يتجاوز الموت نفسه، لتعكس التوق الجمعي الفلسطيني إلى الديمومة والاعتراف.

وفي جوهرها، فإنّ رمزية حرق جسد عايدة ونثر رمادها يجسّدان الحقيقة العميقة المتمثلة في أنّ الجسد البشري جزء لا يتجزّأ من الهوية. تعتبر القوّة التحويلية لعنصر النار أمرًا أساسيًا في رحلة عايدة، التي مرّت في معموديّة النار لتحقّق لنفسها الخلاص من اللجوء الذي أراده المحتلّ أبديًّا. وهو تحوّل عميق، حيث يمرّ شكلها الجسدي بمرحلة انتقالية تتماشى مع عودتها الروحية والعاطفية إلى فلسطين ويافا. ومن خلال اختيار حرق الجثمان ورفض الدفن في أرض أجنبية، تؤكد عايدة هويتها وانتمائها لترتاح في أرض أجدادها.

وتمتدّ الرمزية إلى تهريب رمادها في عملية سرّية محفوفة بالمخاطر، متحدّية الحواجز التي يفرضها الاحتلال. تعود في موكب جنائزي مجازي يجتاز العقبات، ويخترق جدران الفصل العنصري ويتجاوزها، من دون أن يُسقط توثيقها، ربما ليعلن نصره عليها. يصبح حزام الأمان الذي يزنّر الرماد كأنّها عايدة شخصيًا، وحديث صديقات كارول معها (مع عايدة) خلال الطريق إلى يافا، حتميًا في استكمال تحقيق العودة فعليًا، في إصرار واضح على أنسنة الفعل وعلى حضور عايدة الطاغي، وعلى الاتصال الحميم طوال الرحلة.

وكان دفن رماد عايدة تحت ظلال شجرة معمّرة، ربما تسلّقتها صغيرة، في دارها المحتل محفوفًا بمخاطر عودة محتليه في أيّ لحظة، لكنه لم يمنع الصديقات من الاعتناء الشديد في اختيار المكان وفي شتل الزهور في قلب التراب والبحص المنهال فوق الرماد. وإمعانًا في رمزية العودة، تترك الصديقات جزءًا من رماد عايدة لمواراتها في مقبرة العائلة في يافا، المكان الطبيعيّ لجسدها قرب رفات أجدادها، لولا أنّ عقود الاحتلال جعلتها تشتاق لكلّ يافا، ولا تكتفي بقطعة أرض منها. 

بعد المقبرة، يستكمل تشييع الجثمان رحلته إلى بحر يافا وقد لوّنه غروب الشمس، وعلى وقع صيحات تردّدها رائدة طه: “هذا البحر لي، وهذا الهواء الرطب لي”، في استعادة لـ”جدارية” الشاعر محمود درويش. نُثر باقي الرماد بصمت، في الهواء، وعلى صفحات الماء، اكتملت الدائرة، واتّحدت عايدة مع يافا، وظلّت حكاياها، وحميميّتها في توثيق ابنتها كارول، شهادة على إنسانيّتها، التي هي الركن الأساسيّ في كلّ الرواية.

في عودتها إلى يافا، حضر التراب والماء والهواء بعد النار، وحضرت العناصر الأربعة التي يتركّب منها هذا العالم وكلّ ما يُرى فيه ويُحسّ به. عاد رمادها في تراب يافا وبحرها وهوائها، في دمج شعري لجوهرها مع العناصر الطبيعية للمكان الذي تنتمي إليه، ممّا يضمن أن تبقى ذكراها جزءًا لا يتجزّأ من كلّ يافا. 

وفي كلّ هذا، حضر التهكّم إلى جانب الرمزيّة. نضحك من خفّة ظلّ الصديقات في مخاطبتهنّ لرماد عايدة، فيما تقفز كارول بين مشاعرها كابنة، ومهمّتها كمخرجة. سنضحك مع ضحكاتهنّ التي تفلتر هذه الجنازة العظيمة، فتبعد عنها الكآبة، وتوظّف المأساة لخدمة هدف نضاليّ. نصفّق مع تصفيقهنّ لحظة الدفن، فيما يفلت من كارول شلّال دموع لطيف يليق باللحظة. والتهكّم كما الرمزيّة، والحرفيّة، أدوات تستخدم جميعها من أجل التمرّد على المأساة. 

رائدة طه على مدخل منزل عايدة المصادر

المقاومة بالحيلة

تشكّل عودة عايدة عملًا من أعمال المقاومة والتحدّي ضدّ المحو والتهجير. وهو تحدٍّ مباشر بوجه “إسرائيل”، الاحتلال المستمرّ الذي يحرم الفلسطينيين من حقهم في العودة واستعادة أرضهم وتراثهم. وفي هذا السياق، يصبح رمادها رمزًا قويًا للهوية الفلسطينية، يقهر الحدود والحواجز ومعهما الاحتلال نفسه ومصادرة الأرض. 

يسلّط مفهوم “الإنفرابوليتكس” (Infrapolitics)، الضوء على الاستراتيجيات التي تستخدمها المجتمعات المهمّشة لمقاومة هياكل السلطة المهيمنة، حيث تحضر المقاومة بالحيلة، ومن خلال خطاب ساخر وضمني ومخبأ أو معلن. رحلة عودة عايدة التي تم تنظيمها من خلال وسائل سرّية وإيماءات رمزية، تجسد روح المقاومة هذه. ومن خلال تهريب رمادها إلى يافا، وتجاوز نقاط التفتيش والحواجز، تمارس عايدة شكلًا من أشكال المقاومة الشعرية والاستراتيجية في الوقت نفسه. 

تصبح هذه الرحلة بمثابة انتفاضة استعادت من خلالها عايدة القدرة وأكّدت على العلاقة التي لا تُمحى بين جسدها وهويتها ووطنها. ويعطّل هذا العمل لعايدة وابنتها وصديقاتها رواية السلب والنفي الإسرائيليّة، ويقدم رواية فلسطينيّة مضادة، نشهد انتصارها أمام أعيننا. وعودة عايدة إلى فلسطين تخرّب على المحتل احتلاله، وعودتها إلى منزلها الذي يسكنه صهاينة اليوم، من خلال عملية تسلل خطرة، يخرّب عليهم سرقتهم المنزل قبل عقود سبعة، ويؤكد انتماءه إليها. 

وكارول منصور، المخرجة والابنة، لم ترث التاريخ والهوية فقط، بل ورثت الحلم والإرادة، فمارست المقاومة إلى أبعد حدود ممكنة لها، وانتصرت بأن حققت عودة أمها، ثم وثقت هذه الرحلة من خلال صناعة فيلم وثائقي – مستعينة بمهنتها التي تتقنها – لتضع رحلة أمّها في سياقها العام والكبير، سياق نضال كل الفلسطينيين من أجل العودة. 

يمكّننا سياق الفيلم من استيعاب أهمية هذه المقاومة الخفية و”المحتالة” ببديهية الحق وغير المنظمة، ومن استكشاف حدودها وإلى أين يمكن أن تصل. ما يوفر إطارًا لفهم موضوعات الفيلم ورسائله بما يسلّط الضوء على أهمية الاعتراف بهذه الأشكال من المقاومة وتقييمها، والتي تثبت قدرتها على أن تكون مؤثرة وذات مغزى مثل سائر أشكال المقاومة العلنيّة.

كارول من بيروت وصديقتاها في يافا

سينما فلسطين يصنعها مخرجون من جيل المنفى

يعكس استكشاف الفيلم الوثائقي لحياة عايدة ورحلة عودتها تجربة صانعي الأفلام الفلسطينيين في المنفى. يضيف دور كارول منصور كمخرجة وابنة، لمسة من الحميمية الشخصية إلى السرد، ما يطمس الخطوط الفاصلة بين التاريخ الخاص والخطاب العام.

وإن كانت فلسطين تمثل لجيل النكبة البيت والحارة والوطن الماديّ الذي عاشوا فيه واقتُلعوا منه، فإنها ستمثل لجيل ما بعد النكبة الوطن بمفهومه الشامل والمجرّد. وبين عايدة وكارول، نلاحظ هذا التحوّل الذي تفرضه عقود من اللجوء والنفي بسبب استمرار الاحتلال. حينما نسأل في حديثنا مع كارول منصور عمّا يمكن أن تكون رغبتها حال موتها، تقول إنّها تريد أن يُحرَق جثمانها، لأنّها كأمها، لا أرض لها خارج فلسطين، ولا مقبرة لعائلتها خارجها. لكن كارول تريد أن يُنّثَر قليل من رمادها في أماكن محددة من بيروت وجبل لبنان ومصر، وهي أماكن عاشت فيها. أما رمادها الذي تحلم بأن يعود إلى فلسطين، فإنها تختار له “بحر فلسطين”، من دون تخصيص بين يافا، قرية أمها، أو حيفا، مدينة أبيها “لأنّ لا مكان خاص لي أختاره من فلسطين، بل انتمائي هو لكلّ فلسطين، وشعوري واحد تجاهها كلّها، وهو شعور حب، وحنين، وغضب، وقهر، وحزن مؤثر عميق جدًا جدًا جدًا”.

في فيلم “عائدة”، ومن خلال السرد السينمائي، تواجه منصور تعقيدات علاقتها مع وطن لم تختبره بشكل مباشر من قبل. يصبح الفيلم الوثائقي وسيلة للحفاظ على الذاكرة، وسد الفجوة بين الأجيال.

من هنا، تكتسب السينما الفلسطينية مكانتها كشاهد على الصمود والإبداع والسعي الدائم من أجل الهوية والوطن لدى جيل غالبًا ما كان مشرّدًا ومنقطعًا عن فلسطين، بفعل الاحتلال المستمر. ويساهم صانعو الأفلام الوثائقية مثل كارول منصور في هذا النسيج الغني من رواية القصص التي تصوّر التجربة الفلسطينية بعمقها الحقيقي. وعلى الرغم من أنّهم لم يروا فلسطين أو يعيشوا فيها أبدًا، إلّا أنّ قصصهم السينمائية أصبحت وسيلة قويّة لاستكشاف موضوعات العودة والحفاظ على التراث والشوق إلى الوطن: فلسطين.

هذا المنظور الفريد ينتج سينما متجذّرة بقوّة في الخيال والذاكرة. وهو يتعمّق في الوعي الجمعي للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، ويقدّم لمحات عن الماضي والحاضر والمستقبل الذي شكّله التهجير والاقتلاع من الأرض، والاستمرار بالمقاومة والصمود. لا تمثل فلسطين، في هذه السينما، مكانًا ماديًا فحسب، بل تمثل رمزًا للاستمرارية الثقافية ولسردية الحق والذاكرة التاريخية والروح الدائمة لشعب فلسطين ووجوده.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، فلسطين ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني