“منتدى العدالة” على أنقاض الدولة


2024-03-10    |   

“منتدى العدالة” على أنقاض الدولة

تمّ الإعلان في تاريخ 29 شباط 2024 عن إطلاق “منتدى العدالة” في قاعة محكمة التمييز في بيروت. وقد شارك في هذا الإعلان كلا من رئيسي مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود ومجلس شورى الدولة فادي الياس ووزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري فضلا عن رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان، بحضور ممثلين عن الاتحاد الأوروبي ووكالة التنمية في الأمم المتّحدة. وقد ترافق الإعلان مع نشر وثيقةٍ مقتضبة جاء فيها أن الهدف من المنتدى هو إنشاء “إطار جامع” يتيح ل “أصحاب المصلحة” (كما تسمّيهم المذكّرة في ترجمة حرفية لعبارة stakeholders) الوطنيين إجراء تقييمٍ شامل للتحدّيات “غير المسبوقة” التي “تواجه المؤسّسات القضائية وتقديم الخدمات المتّصلة بالعدالة وتحديد سبل المضيّ قدمًا في التصدّي لهذه التحديات وفي نهاية المطاف وضع خارطة طريق شاملة (تشمل أولويات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل) لإصلاح وتطوير مرفق العدالة”. 

وقد تمّ التأكيد في صلب الوثيقة المقتضبة على أمرين أساسيّين: الأول، اعتماد التشاركية (الإطار الجامع) في تقييم التحديات ووضع خارطة الطريق. وهذا ما برز أيضا في تأكيد المذكرة على إشراك الجامعات ومنظمات المجتمع المدنيّ ونقابتيْ المحامين في مجموعات العمل التي انقسمتْ إلى خمس تتناول تباعا مسائل استقلالية الهيئات القضائية وفعالية المرفق القضائي والقضاء الإداري وقضاء الأحداث وحماية الأطفال وأخيرا النظام الجزائي. أما الأمر الثاني والذي تمّ التأكيد عليه والذي لا يقلّ أهميّة عن الأول، فقد تمثل في التزام المذكّرة بأن يتمّ تحديد أولويات خارطة الطريق على نحو يتماشى مع “المعايير الدولية” ومع أفضل الممارسات وصولًا إلى تعزيز “استقلالية المؤسسات القضائية وفعاليّتها، إضافة إلى تفعيل مبدأ المساءلة وتسهيل حقّ التقاضي أمام الكافّة”. ومؤدّى ذلك هو التأكيد على التزام المنتدى بمعايير (معايير الاستقلالية) أمكَن الاحتكام إليها عند حصول اختلاف بين المشاركين فيه، بمنأى عن لغة المساومات التي ما زالت تهيمن على أيّ نقاش عامّ. كما يُفهم من تحديد الأهداف على هذا الوجه التأكيد على أولوية استقلالية القضاء وتفعيل مبدأ المساءلة على أيّ إصلاح آخر، وذلك درءا لأيّ توجّه في حصر عمله في مسائل تقنية ولوجستية بهدف الحصول على هبات مالية، في موازاة تجنّب المسائل السياسية الحساسة مثل استقلال القضاء.    

ومن دون التقليل من أهميّة هذه المبادرة، إلا أنّه يبقى من المؤسف أنّها ما كانت لتحصل تحت العناوين المذكورة في ظلّ العلاقات المتشنّجة بين مختلف السلطات العامة المشاركة فيها وميلها إلى إقصاء الأصوات النقديّة لها، لولا وعود من جهاتٍ مانحة وتحديدا الاتحاد الأوروبي بدعمها وتمويل تنفيذ الخطة التي قد تنشأ عنها. ويؤشّر هذا العامل مرّة أخرى إلى ضعف الإرادة السياسية لدى السلطات الوطنية في تعزيز استقلالية القضاء والأهم ضآلة القدرات والموارد على تنفيذ أيّ خطة قد تضعها في ظلّ الانهيار المالي والاقتصادي وغياب أيّ خطط جدّية لوقف هذا الانهيار.   

مؤشّر سلبيّ آخر ترافق مع إطلاق المنتدى، تمثّل في مقاطعة نقابتيْ المحامين في بيروت وطرابلس حفل إطلاق المنتدى (من دون أن يعني ذلك بالضرورة مقاطعة أعماله)، ليس لأسباب مبدئية، بل لأسباب بروتوكوليّة، قوامها أنّهما دعيَتا إلى المؤتمر بمعيّة الجامعات ومنظمات المجتمع المدني، من دون منحهما شرفيّة الجلوس على منصّة “السلطات العامة”، الأمر الذي يشكّل من منظورِهما إهانة وإقصاء لجسم المحاماة الذي اصطلحا على تسميّته أحد جناحيْ العدالة.  

بالمقابل، اختار نادي قضاة لبنان كما ائتلاف استقلال القضاء (ومن ضمنه المفكرة القانونية) والجامعة الوطنية والعديد من الجامعات الخاصة المشاركة في أعمال المنتدى بالنظر إلى وضع المرفق العام للعدالة ودقّة الأوضاع السياسية الراهنة، وإن ذهب بعض هؤلاء في هذا الاتجاه بكثير من الحذر إزاء مدى التزام السلطات العامة بأهداف المنتدى وآليات عمله وأيضا إزاء خطر تحوّله إلى مجرّد آلة تجميل لعمل السلطات العامّة أو إنتاج مزيد من الأوهام والآمال الكاذبة. فبإمكان أيّ مُتابع جدّي أن يدرك أنّ إطلاق المنتدى يتمّ في بيئة سياسيّة تكاد تكون معادية تماما لأهدافه، بيئة نجحتْ في تعميم حالة الإفلات من العقاب في دولة بات أغلب مواطنيها ضحايا لجرائم ذات طابع جماعيّ. وهذا ما يستدعي عددا من الملاحظات التي يجدر وضعها قبيْل انطلاق أعمال المنتدى، وذلك تحسّبا للخلط بين الأمنيات والواقع والأهم استِدراكا لما قد يستجدّ من إشكالات متوقّعة.  

المُنتدى “الجامع”؟ 

لا تتوسّع السلطات الرسميّة في توضيح الأسباب التي حدتْها إلى إنشاء المنتدى ودعوة الأطراف إليه. جلّ ما نقرأه في المذكّرة المقتضبة أن المبادرة نشأتْ تبعا ل “التحدّيات غير المسبوقة” التي يواجهها لبنان شعبا ومؤسسات قضائية من دون مزيدٍ من الشرح. ويُلحظ أن المذكّرة استخدمتْ عبارة الجمع من دون أن تحدّد المقصود منها، ربّما درءًا لأيّ خلاف في المقاربات والأولويات قد يهدّد قيام المنتدى. والواقع أنّ التحدّيات التي فرضتْ إنشاءه لا تتوقّف عند الأزمة الماليّة والاقتصاديّة وتداعياتها على المرفق القضائيّ والعاملين فيه وما تبقّى من حقّ التقاضي أمام مرجع محايد ومبدأ فصل السلطات، إنّما تنسحب أيضا على التحدّيات المتمثلة في تفتيت الدولة إلى ما يشبه إقطاعات يصعب التعاون ما بينها أو تحقيق أي إنجاز سواء على الصعيد التشريعيّ أو الإداريّ في ظلّ أطر العمل الاعتياديّة. كما تتمثل هذه التحديات في ممارسات الإقصاء والتي بلغت مستويات أصبح من المعسّر بفعلها تكوين أي رؤى إصلاحية مشتركة.  

وقد تجلّت مظاهر الخلل الأول أي التفتيت الحاصل على صعيد أجهزة الدولة وضعف التعاون فيما بينها حتى في الرسائل المبطّنة التي وجّهها المتحدثون خلال حفل إطلاق المنتدى بعضهم إلى بعض، علمًا أنّ أغلبهم ذهبوا إلى تنزيه النفس وتقريص الآخرين من دون أيّ مراجعة ذاتيّة أو حتى موضوعيّة لحقيقة الواقع. كما برزتْ مظاهر هذا الخلل في محطّات عدّة من الورش التشريعيّة لإصلاح القضاء، وبخاصّة في المسار الذي أخذه اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي، والذي ما فتئ يراوح مكانه منذ 2021. وليس أدلّ على ذلك من أن وزارة العدل بشخص هنري خوري اعتبرتْ في مستهل 2022 أنّها غير معنية بالآراء المفصّلة على الاقتراح والتي كانت أدلتْ بها نفس الوزارة بشخص الوزيرة السابقة ماري كلود نجم، فعادتْ لتطلب من الهيئة العامة للبرلمان مهلة إضافية لوضع ملاحظاتها على الاقتراح وكأنها لم تفعل ذلك من قبل. وعدا عن أن ذلك كبّدنا انتظار أشهرٍ طويلة لإنهاء الوزارة وضع ما ارتأته من مُلاحظات، فإنه تعيّن علينا انتظار أشهر أخرى كي تصل هذه الملاحظات إلى مجلس النواب (من خلال أمانة سرّ مجلس الوزراء) وأشهر إضافية لانتهاء لجنة الإدارة والعدل من درسها. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ، بحيث عادت الهيئة العامة لمجلس النواب لتنحّي اقتراح القانون عن جدول أعمالها خلال الجلسة التشريعية المنعقدة في كانون الأول 2023 بحجّة تغيّب وزير العدل عن الجلسة. وقد عبّر عن ذلك رئيس اللجنة النائب عدوان في كلمته الافتتاحية في المنتدى بقوله أن أحدا لم يعد يعرف أين هو الاقتراح الآن. 

واللافت أكثر فأكثر أن السلطات العامة كافة أهملتْ تماما في معرض إبداء ملاحظاتها على اقتراح استقلالية القضاء العدلي التوصيّات الهامّة التي كان وضعها عليه خبراء لجنة البندقية (وهي هيئة استشارية أوروبية طلبت وزارة العدل رسميا رأيها بشأن هذا الاقتراح) بهدف مواءمتِه مع المعايير الدولية. واللافت أنّه رغم تجاهل رأي لجنة البندقية على الاقتراح الأول على هذا الوجه، فإنّ الدولة اللبنانية عادتْ وطلبت منها استشارة جديدة بشأن اقتراح قانون القضاء الإداري، وهو رأي ينتظر صدوره خلال هذا الشهر ويؤمل أن يشكل إنشاء المنتدى “الجامع” فرصة تحول دون هدر توصياته كما حصل بالنسبة إلى رأي اللجنة السابق.

أما الخلل الثاني والذي حاولت المذكرة المنشئة للمنتدى معالجته من خلال اعتماد التشاركية، فهو يتمثّل في الممارسات الإقصائية والتي ما برح نادي قضاة لبنان (وهي الجمعية القضائية الوحيدة المنشأة في لبنان) وسائر منظّمات المجتمع المدنيّ وبخاصة المنظمات التي تعتمد خطابا نقديا تعاني منها. فعدا عن أنّ تأسيس نادي قضاة لبنان في 2018 أتى ليتوّج نضالات قضاة عدّة استمرت قرابة 12 سنة، فإن بعض السّلطات ما تزال تشكّك في حريّة القضاة في تأسيس جمعية مهنية والأهم في أحقية أيّ جمعية يؤسّسونها في الدفاع عن استقلاليّة القضاء ومصالحه المعنوية والمادية. وليس أدلّ على ذلك من الشكوى التي قدّمها وزير العدل إلى هيئة التفتيش القضائي ضدّ أعضاء الهيئة الإدارية للنادي كافة في أيلول 2023 بعدما أرفق بها مجمل البيانات الصادرة عنه منذ تولّيه الوزارة، معتبرا إياها خروجا عن موجب التحفظ. من جانبه، اتخذ رئيس مجلس شورى الدولة قرارا بمنع القضاة الإداريين (من أعضاء نادي القضاة) من المشاركة في أعمال اللجنة الفرعية لدراسة اقتراح قانون استقلالية القضاء الإداريّ، بحجّة أنّ مكتب المجلس (المعيّن بكامل أعضائه من السلطة التنفيذية) هو الممثّل الأوحد للقضاء الإداريّ.  

وبالطبع، لا تتوقّف محاولات الإقصاء عند نادي القضاة، بل هي تشمل منظمات المجتمع المدني وفي مقدّمتها المفكرة القانونية التي خصّصت منذ تأسيسها في 2009 الجزء الأكبر من جهودها لخرق التعتيم على القضاء من خلال فرض التعامل معه على أنه شأن عام وتاليا انتزاع أحقيتها كما كل مواطن في الاطلاع على المعلومات المتصلة به والمشاركة في ورش إصلاحِه. وقد ذهبتْ المفكرة في هذا الإطار إلى درجة المبادرة بالتعاون مع عدد من النواب إلى وضع اقتراحي قانون لضمان استقلالية القضاء العدلي (2018) والقضاء الإداري (2021)، وذلك وسط امتعاض لم تجد العديد من السلطات العامة حرجا في التعبير عنه ولو بأشكال مختلفة. وبمعزل عن مآل هذين الاقتراحيْن، فإنّه من البيّن أن المفكرة قد نجحت بفعل جهودها الذاتيّة وأيضا من خلال ائتلاف استقلال القضاء (التي هي عضو فيه) في فرضهما ومعهما ضرورة الإصلاح القضائي على الأجندة التشريعية. 

وعليه، يأتي التزام السلطات العامة بأن يكون المنتدى “إطارا جامعا” بمثابة قطع مع ممارسات مزمنة من الإقصاء وتسليم بدور نادي القضاة كما سائر منظمات المجتمع المدني في الاشتراك الفعلي في ورش إصلاح القضاء. هذا فضلا عن أنه يؤمل أن يؤدّي اعتماد التشاركية كأسلوب عمل في المنتدى ليس فقط إلى تثبيت أدوار هؤلاء في الإصلاح القضائي، بل أيضا إلى توسيع دائرة الاهتمام لتشمل هيئات ما تزال حتّى اليوم مشاركتها في ورش إصلاح القضاء محدودة، رغم القدرات الهائلة التي بإمكانها استنهاضها لهذه الغاية. ومن أهم هذه الهيئات الجامعات الوطنية والخاصة والتي باستثناء بعض عمداء كلياتها (وأبرزهم وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم) والأساتذة (بعضهم اشترك مع المفكرة القانونية في وضع اقتراحي القانون المذكورين أعلاه) قلّما توظف طاقات فكرية في هذه الورشة. وعليه، يؤمل أن يؤدّي إشراكها في المنتدى إلى توليد دينامية ليس فقط في داخله إنّما أيضا في داخلها على نحو يعزز التخصّص والاهتمام بالقضاء ويحقّق تحوّلا بنيويا في هذا المجال. الأمر نفسه ينطبق على نقابتيْ المحامين.  

من هذه الزوايا، بدتْ المذكّرة المقتضبة لإنشاء المنتدى بمثابة إقرارٍ بأشكال الخلل المختلفة المُشار إليها أعلاه ومسعى للقطع معها. فهل تنجح حقا في وضع حدّ لاتجاهات التفتيت والإقصاء وصولا إلى تكوين رؤى إصلاحيّة مشتركة أو حتى متقاربة في المسائل الأكثر خطورة كما هي مسائل ضمان استقلالية القضاء، الأمر الذي يجعل المنتدى بمثابة واحة ضمن صحراء قاحلة؟ هذا ما يقودنا إلى النظر في أهم العوائق أو التحدّيات التي قد تحول دون ذلك.    

المنتدى الواحة؟  

رغم أهميّة الهدف والمبررات الداعية لنشوء المنتدى، يبقى أنّ ثمّة أمورا عدّة تكبح الإسراف في التفاؤل بشأن فرص نجاحه. 

أول هذه التحدّيات وأخطرها أنّه يبدو في مقاربته كما في أهدافه في تعارضٍ تامّ مع البيئة المحيطة به. فكأنه يتّجه يمنةً فيما نظام الحكم ومعه القوى السياسية الوازنة بأكملها تتّجه يسرة، أو كأنه بعبارة أخرى واحة في صحراء قاحلة. فلئن يقوم مبدأ المنتدى على احتمال حصول تواصل بنّاء بين من يفترض أن يشكّلوا نواة المنتدى، فإن البيئة المحيطة تقوم بالمقابل (وهذا ما تؤكّده الأمثلة القليلة المشار إليها أعلاه) على نقيض ذلك، أي على مزيد من التفتيت والشرذمة في العمل العامّ. وبالواقع، تقوم هذه البيئة المحيطة ليس فقط على أحزاب تتطاحن من أجل فرض مصالحها بمنأى عن أي معياريّة أو مبدئيّة، بل أيضا على أحزاب تتطاحن من دون أن يُبدي أيٌّ منها أيّ استعداد للانخراط في ديناميّة إيجابيّة تسفر عن إنتاج عمل مشترك، أو حتى في تغليب المبادئ على لغة المساومات والمصالح. وليس أدلّ على ذلك من ارتضاء القوى السياسية عموما استمرار تعطيل القضاء ونسْف مبدأ فصل السلطات تبعا لتعطيل التعيينات القضائية لدى محكمة التمييز. وهو تعطيل أدّى عمليا إلى تعطيل التحقيقات في قضية المرفأ كما إلى تعطيل التحقيقات في قضايا الفساد والمصارف سندا للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة. وقد شوهد الفرقاء كافّة (ومنهم أعضاء أساسيون من نواة المنتدى) يُفاخرون بالاستناد إلى هذه المادّة لتبرير وقف التحقيقات فيها في هذه القضية أو تلك وفق مصالحهم. فهل ينجح المنتدى كتجربةٍ ريادية في إطلاق ديناميّة تنتهي إلى التأثير في هذه البيئة ونقضها أم أنّ البيئة المحيطة ستنتهي إلى خنق هذه المحاولة وهي في مهدها، أو على الأقلّ إلى حرف مسارها أو تضييق إطار عمله؟ وأكثر ما نخشاه هنا، هو أن يجد القيمون على المنتدى، عند الاصطدام بعقبات سياسية، مصلحةً في حصر عمله في القضايا التقنية أو اللوجستية التي يعاني منها المرفق القضائي للاستفادة من منح الدول المانحة (دول الاتّحاد الأوروبي) في موازاة تقليص الاهتمام والتوقّعات بالنسبة إلى المسائل الأكثر تعقيدا مثل استقلالية القضاء. وهذا الأمر المحتمل حصوله إنما يفرض على الأطراف الأكثر تمسّكا بورشة استقلالية القضاء أن يُسرعوا وتيرة العمل وأن يُضاعفوا الجهود والمبادرات في هذا الخصوص للاستفادة من واحة المنتدى لإنضاج التصورات والرؤى في شأنه قبل زوالها. 

التحدّي الثاني وهو الذي لا يقلّ خطورة وهو يتمثّل في الأزمة الماليّة وتداعياتها، سواء على الموارد المخصّصة للعمل القضائيّ أو رواتب القضاة والمساعدين القضائيّين وإرادتهم في ملازمة وظائفهم أو حتى إمكانيّة استقطاب عناصر جيدة لدخول معهد الدروس القضائية. ففيما يُحتمل أن تُسهم المساعدات الدولية في تطوير بعض جوانب العمل القضائي، فإنه سيكون من الصعب جدّا كبح النّزيف الحاصل في صفوف القضاة أو استقطاب قضاة جدد لملء الشواغر في ملاك القضاء وإعادة حسن سير العمل في المرفق القضائي، بمعزل عن أيّ إصلاح ماليّ يُعيد إنعاش الاقتصاد ومعه مالية الدولة ومواردها. فما هي قوة الضمانات القانونية لاستقلالية القضاة في حال عجزت الدولة عن توفير الموارد الكافية لاستدعاء ذوي الكفاءات إلى القضاء أو توفير رواتب تضمن لهم الطمأنينة؟ ومن المهمّ بمكان التذكير هنا بأنّ خطر الاستقالات استهدف ويستهدف القضاة الأكثر كفاءة ونزاهة، وأنه حتى لو تمّ وقف نزيف الاستقالات والاستيداعات والإجازات الطويلة غير المدفوعة، فإنّ عدد القضاة يبقى في انحدارٍ مستمرّ بفعل بلوغ العديد منهم التقاعد من دون أن تلوح في الأفق أيّة نيّة في إجراء مباراة للدّخول إلى معهد الدّروس القضائيّة بفعل الأزمة المالية وتداعياتها. ويُرجّح تاليا أن تقرب بعد سنوات نسبة الشغور في ملاك القضاء العدلي أو الإداري من 50%، الأمر الذي قد يستدعي دعوات لتعيين قضاة جدد من بين محامين أو مساعدين قضائيين ذوي انتماءات سياسية واضحة كما حصل في بداية التسعينات. وهذا التحدّي يجب أن لا ينسينا محدوديّة أيّ إصلاح قضائي في حال حصوله في ظلّ دولة تفشل في ضمان مقوّمات وجودها واستدامة مرافقها وخدماتها، وهو أمر يحتّم على مجمل المشاركين في المنتدى أن يبقوا نصب أعينهم هذه المسلّمة والتي لا بدّ أن تنبني الرؤى والأهداف وخطط العمل المشتركة على أساسها.  

ختاما، ومن دون التقليل من خطورة هذه التحدّيات، يبقى أنّ الهدف المرجو من هذه التجربة مهمّ جدا لدرجة تستحق المحاولة وإن بحذر شديد.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني