ورشة “استقلالية القضاء الإداري” تنفتح تشريعيا (1): اقتراح عدوان مقابل اقتراح سعد (ائتلاف استقلال القضاء)

ورشة “استقلالية القضاء الإداري” تنفتح تشريعيا (1): اقتراح عدوان مقابل اقتراح سعد (ائتلاف استقلال القضاء)

تنظيم القضاء الإداري، أي استقلالية؟

وجّه رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان دعوة إلى أعضائها لمناقشة اقتراحيْ قانون حول القضاء الإداري يوم الثلاثاء الواقع في 5 تموز القادم. وإذ يُنتظر أن تأذن هذه الجلسة ببدء هذه الورشة برلمانيّا، يلحظ أن جدول أعمالها يشمل مناقشة اقتراحين قدما في ظل الولاية السابقة للمجلس النيابي: (1) اقتراح قانون استقلالية القضاء الإداري وشفافيته وأصول المحاكمات الإدارية الذي قدمه النائب أسامة سعد في آذار 2021 بالتعاون مع ائتلاف استقلال القضاء وقد أعدّتْه “المفكرة القانونية”، و(2) اقتراح القضاء الإداري الذي قدّمه عدوان في تموز 2021 أي بعد أربعة أشهر من تقديم الاقتراح الأول، وقد أعدّه رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس. وفي حين خصّصت المفكّرة عددها الصادر في نيسان 2020 تحت عنوان: “القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟” لشرح الأسباب الموجبة التي يقوم عليها اقتراح سعد وتوجهاته، فإنها تدوّن في هذا المقال ملاحظاتها الأساسيّة على اقتراح قانون عدوان، ساعية إلى إبراز أوجه الاختلاف بينه وبين اقتراح سعد. وسننشر هذا المقال في جزءين: الأول نخصصه لتنظيم القضاء الإداري، والثاني لشروط المحاكمة العادلة.   

وقبل المضي في ذلك، يقتضي التذكير بأربعة أمور:

1- إن القضاء الإداري هو القضاء الذي يتولى النظر عموما في النزاعات المتصلة بأعمال السلطات العامة ومسؤولياتها، وذلك عملا بالثنائية القضائية الثنائية المعتمدة في لبنان منذ 1954 تيمنا بالنظام القضائي الفرنسي والتي تفصل بين القضاء الإداري والقضاء العدلي الذي يتولى النظر في النزاعات الجزائية والمدنية. هذا مع العلم أنه حتى اللحظة يختزل مجلس شورى الدولة القضاء الإداري، رغم أن نظامه كما عدل في 2000 نصّ على إنشاء محاكم إدارية في المحافظات (لم تنشأ حتى الآن).  

2- إنّ هذه الورشة تشكّل إلى جانب ورشة “استقلالية القضاء العدلي” رافدًا هامًّا على طريق بناء مؤسسات قضائيّة مستقلّة وأكثر قدرة على ضمان حقّ التقاضي ونفاذ القانون. ففي حين أنّ استقلالية القضاء العدلي تعزّز حقوق المتقاضين فيما يتّصل بنزاعاتهم المدنية والجزائية، فإن استقلاليّة القضاء الإداري تعزّز حقوق المتقاضين في مداعاة السلطات العامّة وإبطال قراراتها عند تجاوز حدّ السلطة وتاليا إخضاع هذه السلطات للشرعية. ولا يختلف إثنان على أهميّة استقلالية القضاء الإداري في أي جهد لمكافحة الفساد الإداري وضمان شرعية الدولة. ويذكّر هنا إلى أن لجنة الإدارة والعدل كانت أنهتْ العمل على اقتراح استقلال القضاء العدلي في 14/12/2021 وأبدت لجنة البندقية رأيها بشأنه في 15/6/2022 محددة عددا من المعايير الواجب مراعاتها في هذا الخصوص، وهي معايير تنطبق في غالبها على اقتراح استقلالية القضاء الإداري. 

3- إن هذه الورشة لا تتصل فقط باستقلالية القضاء الإداري، إنما أيضا بأصول المحاكمات أمام هذا القضاء بما يضمن احترام مبادئ المحاكمة العادلة، ومن أبرزها ضمان حقوق المتقاضين بالولوج إلى العدالة ومبادئ القاضي الطبيعي والعلانية والمقاضاة على درجتين. ويضاف إلى ذلك إشكاليات تنفيذ القرارات القضائية من قبل الإدارات العامة، وكلها إشكاليات فصّلتها المفكرة القانونيّة في عددها الخاصّ المذكور أعلاه.

4- إن هذه الورشة تبقى قاصرة في ظل سرية المداولات في لجنة الإدارة والعدل، بما يمنع الرأي العام من التفاعل مع آراء النواب، إيجابًا أو سلبًا، بما يتصل بقانون بهذه الأهمية، علما أنه يبقى للجنة حق جعل المداولات علنية سندا للنظام الداخلي. ويخشى أن تؤدي هذه السرية إلى تأخير مناقشة هذا القانون وإغراقه في مسائل فرعية بعيدا عن أي تفكّر.

القسم الأول: تنظيم القضاء الإداري: ماذا عن الاستقلالية؟

أولى الملاحظات هنا أن اقتراح عدوان أبدى اهتماما أقلّ بإشكاليّات استقلالية القضاة، مقارنة باقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء). أول المؤشّرات إلى ذلك نجده في اختيار عنوان محايد نسبيا وهو قانون القضاء الإداري بخلاف العنوان المعتمد في الاقتراح السابق له وهو “استقلالية القضاء الإداري وشفافيته”.

مؤشر آخر هو فحوى القسم الوارد في اقتراح عدوان وقد جاء فيه أن القاضي يقسم أن “يقوم بعمله بإخلاص وأمانة وتجرّد”، من دون الإشارة إلى ضرورة القيام بعمله باستقلاليّة. وهذا ما يختلف أيضا عمّا جاء في اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) حيث يقسم القاضي أن يقوم بوظيفته “القضائيّة باستقلال وتجرّد وصونا لحقوق المواطنين وحريّاتهم”.  

وحتى في البنود التي سعتْ إلى تعزيز الاستقلالية، يلحظ أنها تنحصر بالاستقلاليّة الخارجية أي إزاء السلطات من خارج القضاء وتحديدا وزارة العدل من دون أن تتناول الاستقلالية الداخلية أي استقلالية القاضي إزاء الهيئات القضائية. وهذا ما نستشفّه بشكل واضح من المادة الأولى المتعلّقة بالاستقلاليّة والضمانات القضائيّة، التي تشير إلى استقلاليّة القضاء الإداري عن السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، بالإضافة إلى اعتبار القضاء الإداري “جزءا من السلطة القضائيّة” (م. 1) وليس “جزءًا من تنظيمات وزارة العدل القضائيّة” كما جاء في المادة 2 من نظام مجلس شورى الدولة الحالي، المشار إليه فيما بعد ب”النظام الحالي”. بالمقابل، يخلو الاقتراح من أيّ تكريس صريح أو ضمانة للاستقلاليّة الداخلية، وتحديدًا استقلالية القضاة الإداريين إزاء المجلس الأعلى للقضاء الإداري.  

1- من يدير شؤون القضاء الإداري؟

تكوين المجلس الأعلى للقضاء الإداري

يرمي الاقتراح إلى إعادة هيكلة “مكتب المجلس” الذي يتولّى إدارة بعض شؤون المجلس بهدف تعزيز مكانته وصلاحياته، تبعا للانتقادات الموجّهة إلى تركيبته الحالية والتي وثقتها المفكرة القانونية في عددها الخاص حول القضاء الإداري.

وقد تمثّل أول التّغييرات في هذا الصدد في اقتراح تعديل تسميته  لتصبح “المجلس الأعلى للقضاء الإداري” (م. 4) في استعادة للتسمية المعتمدة في اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء). وقد هدف هذا التعديل إلى تظهير نية بإعلاء شأنه وتعزيز صلاحياته والأهم تصويره بمثابة ندّ للمجلس الأعلى للقضاء العدلي.

في الاتجاه نفسه، عمل الاقتراح على إعادة تكوين المجلس الأعلى (م. 5). وفي حين أبقى على ثلاثة من الأعضاء الحاليين وهم رئيس مجلس شورى الدولة ومفوض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة ورئيس هيئة التفتيش القضائيّة (وهم الأعضاء الحكميين أي الأعضاء بفعل مناصبهم)، أضاف إليهم  5 أعضاء يعينون بمرسوم بناء على إنهاء رئيس المجلس (بالنسبة إلى الثلاث قضاة المعينين من بين رؤساء الغرف لدى مجلس شورى الدولة) أو اقتراحه (بالنسبة إلى القاضيين المعينين من بين رؤساء المحاكم الإداريّة) وعضوين منتخبين فقط. ويلحظ أن الأعضاء الخمسة المعينين هم كلهم رؤساء (3 رؤساء غرف لدى مجلس شورى الدولة و2 رئيسيْ محاكم إدارية). أما بخصوص العضويْن المنتخبيْن، فإنّ حقّ الترشّح ينحصر بالمستشارين لدى مجلس شورى الدولة في حين ينحصر حقّ الانتخاب في رؤساء الغرف والمستشارين لدى هذا المجلس.

وعليه، تتعارض إعادة تكوين الهيئة التنظيميّة للقضاء الإداري على هذا الوجه مع معايير استقلالية القضاء من زوايا عدّة:

  • باستثناء عضويْن من 10، يُعيّن جميع أعضاء المجلس من السلطة التنفيذيّة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد بدا الاقتراح من هذه الزاوية وكأنه يدعو لتكوين المجلس الجديد على غرار مجلس القضاء العدلي الحالي، والمكوّن هو الآخر من 8 معينين و2 منتخبيْن، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الانتقادات الموجهة للتعيينات في هذا المجلس، والتي أصبحتْ تتمّ وفق الكوتا الطائفية بل السياسية مع إعطاء كل زعيم طائفة إمكانية ملء المقاعد المخصصة لطائفته. ومن شأن ذلك أن يجعل المجلس تماما كما هو مجلس القضاء العدلي حاليا بمثابة ذراع للقوى السياسية داخل القضاء أكثر مما هو درع للقضاة في مواجهة هذه القوى (م. 5). وفي حين يعكس حصر عدد المنتخبين ب 2 فقط تفسيرا ملتبسا لوثيقة الوفاق الوطني التي نصت على ضرورة انتخاب عدد من أعضاء المجلس الأعلى للقضاة من القضاة، فإنه يتعارض بشكل تامّ مع الشرعة الأوروبية حول نظام القضاة (فقرتها 1.3)، والإعلان الصادر في 23 أيار/مايو 2008 عن الشبكة الأوروبية لمجالس القضاء، والتي تدعو لأن يكون نصف أعضاء المجلس على الأقل من القضاة المنتخبين من أعيانهم. وهذا ما كرسته لجنة البندقية في رأيها حول قانون استقلالية القضاء العدلي (لبنان) والصادر في 15 حزيران 2022.
  • إن حقّ الترشح لعضويّة المجلس تمّ حصره بمستشاري مجلس شورى الدولة، بما يحرم رؤساء الغرف في هذا المجلس والمستشارين المعاونين لديه فضلا عن كل القضاة العاملين في المحاكم الابتدائية من هذا الحقّ. وعليه، وبالعودة إلى ملاك المجلس الحالي (بغياب ملاك مرفق بالاقتراح)، يظهر أن حقّ الترشح محصور ب 35% من مجمل القضاة الإداريين (على فرض ملء الملاك) بما يخلّ بمبدأ المساواة بين القضاة. كما تمّ حصر حقّ الانتخاب برؤساء الغرف والمستشارين في مجلس شورى الدولة، بما يحرم سائر القضاة منه.
  • إن تركيبة المجلس تؤدي إلى تهميش القضاة الشباب تماما، طالما أنه يستبعد القضاة العاملين في المحاكم الابتدائية أو للمستشارين المعاونين في مجلس شورى الدولة ليس فقط عن عضوية المجلس ولكن أيضا عن انتخاب ممثلين فيه. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أنه ليس للقاضي الإداري أن يرتقي إلى رتبة مستشار لدى مجلس شورى الدولة (وهي الرتبة التي توليه حق الترشح) إلا بعد حيازته للدرجة السابعة بأقل تقدير مع اشتراط أن يكون قد أمضى 12 عاما على الأقل في القضاء الإداري، ، وأن هذه الفئة المهمشة من القضاة تمثل 58% من مجمل القضاة الإداريين (على فرض ملء الملاك) بما يخلّ بمبدأ المساواة بين القضاة. ومقابل تهميش هذه الفئة، يلحظ أن المجلس يتكوّن في غالبيته الكبرى (8 من 10) من الرؤساء الذين يتربعون على أعلى الهرم (الحكميين، و3 رؤساء غرف في مجلس شورى الدولة ورئيسيْ محاكم ابتدائية)، بما يبرز الطابع الهرمي للمجلس. وهذا الأمر يتعارض أيضا مع توصيات لجنة البندقية المذكورة أعلاه حيث شددت على أهمية تمثيل المحاكم الابتدائية.  
  • أخيرا، تجدر الإشارة إلى خلو المجلس المقترح من أي عضو غير قاضٍ، بما يُخالف هنا أيضا المعايير الدولية والتي تتمثل في إرساء مجالس ذات تكوين مختلط طالما أن المجلس ليس قطاعيا إنما هيئة عامة تضمن حسن سير المرفق القضائي. وهذا ما ذهب إليه المقرَّر الخاصّ للأمم المتحدة عن استقلالية القضاة والمحامين[1] ب”تشكيلة متعددة تعدداً حقيقياً لهذه الهيئة، بحيـث يُمثّـل فيهـا المشرِّعون والمحامون والأكاديميون وغيرهم من الأطراف المعنية بطريقة متوازنة”، على الرغم من اعتباره أنه “من الأفضل في أغلب الأحيان أن يشكّل القضاة غالبية الهيئة لتفادي أيّ تدخلات سياسية أو خارجية”. كما وتعتمد أغلب الدساتير الأوروبية الحديثة تركيبة مختلطة للمجلس تضمّ شخصيات من غير القضاة من ذوي الاختصاص، ضمن مجلس القضاء الأعلى. وهذا أيضا ما أوصت به لجنة البندقية.

وعليه، يسجل اقتراح عدوان تراجعا كبيرا بالنسبة إلى اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) الذي نص على تركيبة مختلفة تماما بحيث يتكون من 4 حكميين (يضيف رئيس معهد الدروس القضائية إلى الحكميين وفق مقترح عدوان) و4 منتخبين (على أساس 2 من قضاة مجلس شورى الدولة و2 من قضاة المحاكم الابتدائية) و4 منتخبين من أقرانهم في المهن القانونية (على أساس 2 من بين المحامين و2 من الأساتذة الجامعيين). والأهم أنه يشكل تراجعا كبيرا بالنسبة إلى اقتراح استقلال القضاء العدلي كما أقرّته لجنة الإدارة والعدل في منتصف كانون الأول 2021 والذي نصّ على انتخاب 7 من أعضاء مجلس القضاء الأعلى يمثلون غالبية فئات القضاة ولو بدرجات متفاوتة من أصل 10. 

كيف تتوزع الصلاحيات في إدارة  شؤون القضاء الإداري؟

ينيط الاقتراح بالمجلس الأعلى مهمّة السهر على حسن سير القضاء الإداري وعلى هيبته واستقلاله (م. 8). كما يشير الاقتراح على أن المجلس الأعلى يمارس في كلّ ما لا يتعارض مع هذا القانون الصلاحيّات ذاتها التي يمارسها مجلس القضاء الأعلى (العدلي) تجاه القضاة العدليين (م. 10).

ويسجل هنا إيجابا أن الاقتراح نقل إلى المجلس كهيئة جماعية صلاحيات هامة تتصل بإدارة المجلس أو المسارات المهنيّة للقضاة بعدما كانت هذه الصلاحيات مناطة بالرئيس وحده أو مشروطة بموافقة السلطة التنفيذية.

ومن أهم هذه الصلاحيّات التي تمّ نقلها إلى المجلس:

  • وضع مشروع المناقلات والإلحاقات والانتدابات القضائيّة الفردية والجماعيّة للقضاة الإداريين واعتبارها نافذة بموجب قرار صادر عنه من دون الحاجة لأي قرار من وزير العدل أو السلطة التنفيذية (م. 12- أ).
  • توزيع الأعمال بين غرف المجلس،  
  • تقييم أداء القضاة،
  • درس ملفات الإحالة إلى هيئة التأديب.

كما تمّ منح المجلس صلاحية إبداء الرأي في مشاريع القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء الإداري وتنظيم العدالة وإدارة القضاء الإداري، وإبداء الرأي بشأن مشروع الموازنة المخصصة للقضاء الإداري المشار إليها من وزارة المالية.

إلا أنّنا نلاحظ أنّ الاقتراح حفظ رغم ذلك، وبخلاف اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء) لرئيس المجلس صلاحيات مضخمة بما يبقي مخاطر الهرمية والشخصنة في إدارة المسارات المهنية للقضاة الإداريين قائمة. ومن أبرز هذه الصلاحيات:

  • ترؤس لجنة التقييم المحدثة،
  • توقيف القاضي المحال على المجلس التأديبي بناء على اقتراح من هيئة التفتيش القضائي (م. 53)،
  • تعيين أعضاء أمانة سر المجلس الأعلى من بين القضاة الإداريين من الدرجة الثالثة وما فوق (م.15)،
  • اقتراح أسماء رؤساء غرف مجلس شورى الدولة أو المحاكم الابتدائية تمهيدا لتعيينهم أعضاء في مجلس القضاء الأعلى الإداري،
  • تعيين رؤساء المحاكم الإدارية واللأعضاء (م. 71)،
  • وضع التقرير السنوي، الذي يتم مناقشته من قبل رؤساء غرف مجلس شورى الدولة ورؤساء المحاكم الإداريّة وثلاثة مستشارين يتم تكليفهم من قبله لهذه الغاية (م. 12 فقرة ح)،
  • إعداد مشروع الموازنة المخصّصة للقضاء الإداري في الموازنة العامة للدولة (م. 4).

هذا فضلا عن أنّ اقتراح عدوان عاد وخوّل رئيس المجلس تكليف قضاة إداريين القيام بأعمال لدى إدارات عامة (م. 46)، مع ما يستتبع ذلك من تأثير للرئيس على نشاطات القضاة ومداخيلهم. وهو أمر حظره اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء) تماما بفعل تضارب المصالح. وهذا ما سنعود إليه لاحقا. 

بالإضافة إلى ذلك، نلحظ أن اقتراح عدوان لحظ صراحة إمكانيّة الطعن بقرارات المجلس الأعلى أمام مجلس القضايا (م. 87)، فيما لا يلحظ صراحة إمكانيّة الطعن ضدّ القرارات الصادرة عن رئيس المجلس. وهنا أيضا، بدا اقتراح عدوان منقوصا بالنسبة إلى اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء)  الذي مكّن القاضي الإداري من الطعن على جميع القرارات المتعلّقة بوضعيته الفردية أمام الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة.

تعزيز موارد المجلس

يرمي الاقتراح إلى تعزيز الموارد البشريّة للمجلس عبر إنشاء أمانة سرّ يعيّن أعضاؤها (لا يتعدى عددهم 3)  من قبل رئيس المجلس ويعملون تحت رقابته. تولى أمانة السرّ مهامّ على أصعدة عديدة، لا سيّما في مجال الإدارة القضائية (تحضير اجتماعات المجلس الأعلى وجدول أعمال جلساته وإبلاغها من الأعضاء وتنظيم المحاضر وتلقّي المراسلات)، في مجال العلاقات العامّة والدوليّة، في مجال الأرشفة والدراسات، في مجال المراجعات والشكاوى المتعلّقة بسير المرفق العام القضاء الإداري واستقلاليته، بالإضافة إلى المهام التي يجري تكليفهم بها من قبل المجلس الأعلى أو تلك العائدة لطبيعة عملها (م. 15).

إلا أنه بخلاف اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء)، لا ينصّ اقتراح عدوان على تفرّغ أمين السر المعين تماما للعمل فيها.

الهيئة العامة

لا يلحظ الاقتراح أي مجال لتشارك القضاة الإداريين في التباحث بشأن وضع القضاء الإداري أو وضعية القضاة، إذ أنّة لا يلحظ تنظيم هيئة عامة سنوية أو حتى استثنائيّة للقضاة الإداريين.

في المقابل، تضمّن اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء) إنشاء هيئة عامة سنوية يشترك فيها جميع القضاة الإداريين. وقد وضع النص ضمانات لتفعيل المشاركة فيها ومنها إلزام المجلس الأعلى بإبلاغ جدول أعمال الهيئة العامة السنوية، وإمكانية اقتراح بنود عليه من قبل القضاة، وإبلاغ التقرير السنوي الذي سيتم مناقشته فيها مسبقاً إلى جميع القضاة لكي يتسنى لهم الاطلاع على مضمونه والتمعن به ومناقشته والمداولة به بتاريخ اجتماع الهيئة العامة. كما تم اقتراح انشاء جمعية عمومية على صعيد المحاكم الإدارية مجتمعة نظرا  لقلّة عديدها وأخرى على صعيد مجلس شورى الدولة. ومن شأن إقرار هذا الاقتراح أن يؤدي إلى تشريك القضاة في تنظيم المحاكم التي يعملون ضمنها وفي انشاء روابط تضامن وتفاعل بين القضاة.

ماذا عن الشفافية الداخلية والخارجية للمجلس؟

يرمي الاقتراح إلى إدخال شيء من الشفافيّة في عمل المجلس الأعلى للقضاء الإداري. ولعلّ أهمّ ما نصّ عليه الاقتراح في هذا المجال، أنه أناط بأمانة سرّ أنشأها “نشر قرارات المجلس الأعلى وتقاريره والأحكام القضائيّة والآراء الاستشاريّة الصادرة عن القضاء الإداري على الموقع الإلكتروني الخاص بالمجلس” (م. 18- ثالثا) وأيضا القيام بدور مكتب الإعلام بهدف “ضمان الشفافيّة والموضوعيّة في العمل القضائي” (م. 18- ثانيا). إلا أنه بخلاف اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء)، لم يلحظ وجوب وضع نظام داخلي بما يضعف الشفافية الداخلية؛ كما أنّه لا يوجب نشر جدول أعمال المجلس أو حتى قراراته ولا يضع آلية لتنظيم حقّ الوصول إلى المعلومات. كما يتميّز اقتراح سعد بتفويض المجلس بوضع وثيقة المبادئ العامة الناظمة لتواصل الهيئات القضائية مع الإعلام.

إلا أن أخطر ما تضمنه اقتراح عدوان في هذا الخصوص، هو تجريم ما أمكن اعتباره مجرد تعليق نقدي على أعمال القضاء الإداري، بعدما توسّع الاقتراح في تعريف التدخّل في عمل القضاء. وهذا ما نستشفّه من مادته 25 التي فرضتْ عقوبة حبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة تتراوح بين عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور ومئة ضعفه (العقوبة المنصوص عليها في المادة 419 من قانون العقوبات التي تجرّم التدخل في عمل القضاء) على كلّ شخص يقدم على التدخّل بأيّة وسيلة نشر في عمل القضاء الإداري من خلال محاولة التأثير على القضاة أو تناول الملفّات التي لا تزال قيد الدرس وقبل إصدار الحكم فيها. وعليه، في حال إقرار هذا المقترح، يصبح معرضا للملاحقة كل من يثير قضية اجتماعية عالقة أمام مجلس شورى الدولة ولا تزال قيد الدرس أو أيضا كل من “يتناول” قرارا إعداديا للمجلس (أو قرارا بوقف أو عدم وقف التنفيذ) أو يتناول تقرير مستشار مقرّر.

وفي حين يقدّم هذا الاقتراح كوسيلة لحماية القضاء الإداري ضدّ التأثيرات الخارجيّة عبر ربطه بالمادة 419 من قانون العقوبات، إلا أنّه يؤدي عمليا إلى تقييد غير مبرّر لحريّة تعبير المواطنين بهدف تحصين القضاء الإداري حيال أيّ نقد أو مناقشة عامة حول القضايا المطروحة أمامه، بما يتعارض مع المادة 13 من الدستور والمواثيق الدوليّة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية) والتي باتت ذات قوة دستورية. وما يزيد من قابلية هذه المادة للانتقاد هو غياب أي إجراءات أو مرافعات شفهية أمام القضاء الإداري خلافا لمبدأ أساسي في المحاكمة العادلة هو مبدأ علانية المحاكمات.   

  • المسار المهني للقضاة

في سياق تعداد المبادئ العامة لتنظيم القضاء الإداري، يضع الاقتراح أنّ القضاة الإداريين “مستقلون في إجراء مهامهم القضائيّة ولا يجوز نقلهم أو فصلهم أو اتّخاذ تدابير من شأنها المساس بأوضاعهم المسلكيّة إلّا ضمن حدود هذا القانون” (م. 2). وعليه، يبدو سقف ضمانة الاستقلالية ما قد يفرضه القانون. وهذا ما سنناقشه أدناه.

كيف تصبح قاضيا إداريا؟

لا يلحظ الاقتراح سوى طريقتيْن للدخول إلى القضاء الإداري: إمّا عبر مباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية (وهي الطريقة العادية)، وإما عبر تعيين قضاة أصيلين من بين القضاة العدليين أو قضاة ديوان المحاسبة. ويكون بإمكان السلطة التنفيذيّة إذا أرادتْ أن تعيّن قاضيا من هاتيْن الفئتيْن حائزا على درجة معينة في المراكز العليا داخل المجلس وتحديدا في رئاسة المجلس أو مفوضية الحكومة أو رئاسة الغرف. ومن شأن هذا الأمر أن يولّد مشاعر سلبية لدى قضاة المجلس الذين قد يشهدون في أي لحظة حلول قاضٍ من خارج ملاكهم على قمة هرمهم وبالباراشوت. وغالبا ما يتمّ إدخال هؤلاء القضاة بإرادة سياسية مع ما يستتبع ذلك من تأثيرات. بالمقابل، يستبعد الاقتراح تماما تعيين أشخاص ذوي خبرات من بين المحامين وأساتذة الجامعة والموظفين العامين قضاة أصيلين في المجلس.

وبالعودة إلى الطريقة العادية لتعيين القضاة الإداريين، تسجل الملاحظات الآتية: 

  • بشأن المباراة للدخول إلى معهد الدروس القضائية (القسم الإداري)، يسجّل للاقتراح أنه يحرر الدعوة إلى إجرائها من هيمنة وزارة العدل. فخلافا لما ينص عليه النظام الحالي (م. 9) الذي يترك لوزير العدل تحديد عدد القضاة المتدرجين المنوي تعيينهم بعد استطلاع رأي مكتب مجلس شورى الدولة، يتمّ إجراء مباراة بناء على دعوة من المجلس القضاء (مادة 29 من الاقتراح). بالمقابل، لا يفرض الاقتراح إجراء مباريات دورية أقله إلى حين ملء الشغور، وهو شرط أساسي لتأمين الموارد البشرية اللازمة لتمكين المجلس من أداء الوظائف المناطة به.
  • نصّ الاقتراح على امتحان شفهي يسبق الامتحان الخطّي (م. 31)، الأمر الذي يعطي اللجنة الفاحصة إمكانيّة تأثير كبير على النتائج، علما أنّه لا يحدّد نسبة علامة الاختبار الشفهي من مجموع العلامة، أو معايير المؤهلات التي سيتمّ اختبارها من خلال هذا النهج من الاختبار. والأخطر من ذلك أنه بعد إجراء الامتحانات الخطية، يخضع الناجحون لامتحان شفهي ثانٍ أمام اللجنة الفاحصة، يتم تحديد مواده من قبل المجلس الأعلى. ولا يشير الاقتراح إلى إمكانية الطعن أو المراجعة بنتائج المباراة. وما يزيد المخاوف في هذا الخصوص هو استعادة الممارسات الحالية، لجهة إمكانية حرمان مرشّحين من خوض المباراة بناء على مقابلة شفهية أو معايير غير موضوعية أو غير مبررة، بما يمس بمبدأ المساواة أمام تولي الوظيفة العامة. ومن هذه المعايير، وجوب إتقان إحدى اللغتين (الفرنسيّة والإنكليزيّة) بالإضافة إلى اللغة العربيّة، علما أن نظام مجلس شورى الدولة كان خلا سابقا من هذا الشرط. ومن نتائج هذا الشرط، استبعاد قسم كبير من طالبي الترشيح لأسباب تتصل بضعف معرفتهم للغات أجنبية، علما أنه من المرجّح أن ينطبق هذا الأمر بشكل خاص على طلاب الجامعة اللبنانية (باستثناء الفرع الفرنسي) حيث يدرس القانون باللغة العربية حصرا وأن يولد تاليا تمييزا طبقيّا بين هؤلاء وطلاب الجامعات الخاصة المتحدّرين من عائلات ذات قدرات ماليّة أكبر.
  • إعلان الأهلية: عند نهاية مدة التدرّج، يضع مجلس إدارة المعهد لائحة التخرّج ويرفعها إلى المجلس الأعلى للقضاء الإداري الذي يُعلن أهلية المتدرّج ليصبح قاضيا أصيلا من عدمها. إنّ قرار عدم الأهلية يجب أن يكون معلّلا، ولكن لا يستوجب القيام بأيّ عمل إداريّ آخر. ويتميّز قانون سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء)  بأنه يزيد على احتماليْ إعلان الأهلية أو عدمها إمكانية تمديد مهلة التدرج لسنة واحدة، وأنه ينص صراحة على إمكانية الطعن في قرارات عدم الأهلية.

استقلالية شكلية في التعيينات القضائيّة

من أوّل وأهم إيجابيات الاقتراح أنّه يهدف إلى حصر التعيينات والمناقلات القضائية بمجلس القضاء المزمع إنشاؤه أو برئيسه بما يجرّد وزير العدل، وبصورة أعم السلطة التنيفيذية من أيّ دور في هذا الخصوص. وهذا ما نستشفّه من الفقرة أ من المادة 12 من الاقتراح التي تنصّ أنّ المجلس يتولّى “وضع مشروع الناقلات والإلحاقات والانتدابات القضائية الفرديّة أو الجماعيّة للقضاة الإداريين وتعتبر نافذة بموجب قرار صادر عنه”. ويعود الاقتراح ليولي رئيس المجلس وحده صلاحية تعيين رؤساء المحاكم الإدارية والمستشارين فيها بقرار منه.

واللافت أنه رغم هذا التوجّه، فإنّ الاقتراح عاد ليحصر تعيين رئيس مجلس الشورى (صاحب الصلاحيات الخارقة في إدارة شؤون المجلس كما سبق بيانه) ومفوض الحكومة بالسلطة التنفيذية، وذلك بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو إمكانية تعيينهما من القضاة العدليين، بما يزيد من هامش خيار السلطة السياسية وتاليا من قدرتها على السيطرة على المجلس من خلال ضمان ولاء شاغلي هذيْن المركزيْن وبخاصة مركز الرئاسة. ويشكّل هذا التوجّه دليلا بليغا على توجّه واضعي الاقتراح، والذي يتمثّل في ضمان استقلالية شكليّة للقضاة الإداريين، من خلال توسيع صلاحيات المجلس ورئيسه بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، إنما بعد التحكّم في تعيين هذا الأخير، فضلا عن الغالبية الكبرى من أعضاء هذا المجلس.

 ويتأكّد ذلك في تجاهل الاقتراح لأحد أهم معايير استقلال القضاء في هذا الخصوص، وهو مبدأ عدم نقل القاضي من دون رضاه. وعليه، يبقي الاقتراح القضاة تحت رحمة قرارات النقل التي قد يراها المجلس أو رئيسه مناسبة وإن نظم آلية تتيح للقضاة الترشح للمراكز الشاغرة الهامة فضلا عن إعلام أمانة سر المجلس لائحة المراكز الثلاثة التي يرغب بالانتقال إليها.   

وإذ يتعارض اقتراح عدوان هنا أيضا مع اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء)، فإنه يناقض أيضا اقتراح استقلال القضاء العدلي كما أقرته لجنة الإدارة والعدل في كانون الأول 2021 برئاسة عدوان، حيث تمّ إعلان مبدأ عدم نقل القضاة إلا برضاهم، ولو بصورة غير مرضية.  

الترقيات والمراتب

لا يعالج الاقتراح مسألة التراتبيّة بين القضاة الإدارييين. فلا يزال يفرّق بين رؤساء الغرف والمستشارين والمستشارين المعاونين، إذ يلحظ أن تتكوّن المحاكم الإداريّة من رئيس وعضوين، يعيّن رئيس المحكمة من بين المستشارين الذين هم من الدرجة السابعة وما فوق، والعضوين من بين المستشارين المعاونين (م. 2 وم. 71). كما يلحظ أن يتكوّن مجلس شورى الدولة من رئيس ومفوّض حكومة ورؤساء غرف ومستشارين ومستشارين معاونين (م. 2 وم. 83).

ويُشار هنا إلى أن الاقتراح لزم الصمت بشأن كيفية الارتقاء من رتبة مستشار معاون إلى رتبة مستشار. ولا نجد أي معلومة في هذا الشأن سوى التشديد على أن يكون المستشار من الدرجة السابعة وما فوق، أي أن يكون له أقدمية 12 سنة على الأقل. إنما يبقى الغموض سائدًا حول ما إذا كان الارتقاء يتمّ بصورة آلية أم يحتاج إلى قرار من المجلس مع ما قد يستتبع ذلك من أساليب تمييزية بين القضاة الإداريين.

وهنا أيضا يتميز اقتراح سعد (المفكرة/ اثتئلاف استقلال القضاء) لجهة إلغاء المراتب كافة. 

فتح باب تكليف قضاة مجلس شورى الدولة

في سياق نقدها لتنظيم القضاء الإداريّ الحالي، توقّفت “المفكرة القانونية” بشكل خاصّ عند مسألة تكليف القضاة الإداريّين القيام بأعمال استشاريّة لدى الوزارات والإدارات والمؤسسات العامّة والحاصل لقاء بدل تحدده وتسدده الجهة المستفيدة وذلك تحت عنوان: “التكليف المدفوع باب لنزع الفواصل بين السلطات: التنافس بين القضاة الإداريين لكسب رضا الإدارة ورئيس المجلس”. وبعدما شرحت “المفكرة” كيفية إجراء هذه التكاليف، انتقلت إلى تعداد المخاطر الناجمة عنها، ومن أبرزها أنه “يمسّ بمبدأيْ الفصل بين السلطات، واستقلالية القضاة ويشكل حالة تضارب مصالح فاقعة” وأنه “يشرّع الإجراءات التمييزية بين القضاة خلافاً لمبدأ المساواة فيما بينهم” و”يعزز من السلطة الهرمية لرئيس المجلس الذي بإمكانه أن يكلّف من يشاء وأن يحجب التكليف عمّن يشاء”، و”أنه يؤثر على الثقة العامة بمجلس شورى الدولة” و”على ضمانات المحاكمة العادلة” و”على فاعلية عمل المحاكم وبخاصة في ظل الشغور الحالي”. وبفعل هذه الانتقادات، اتّخذ مجلس شورى الدولة قرارا أوليا بتجميد التكليفات وهو الأمر الذي وصفته “المفكرة” بالخطوة الإيجابية قبلما يتراجع عن هذه الخطوة في موقف وصفتْه “المفكرة” بأنه يعيد مأسسة تضارب المصالح مجددا.

وقد جاء اقتراح القانون في هذا الخصوص مخيّبا جدا، بحيث بدل أن يحظر آلية التكليف تماما كما فعل اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء)، فإنه على العكس من ذلك كرّسها وإن حصر تطبيقها على قضاة مجلس شورى الدولة الذين مضى ستّ سنوات على تعيينهم قضاة أصيلين مع استثناء مجمل القضاة العاملين في المحاكم الابتدائية. وإذ تضمّن الاقتراح بعض الضوابط للحد من مخاطر التكليف كأن يشترط أن يزاول القاضي المكلف مهمته في مقرّ مجلس شورى الدولة وأن يمتنع عن النظر في القضايا المطروحة في معرض دعوى قضائيّة متعلّقة بالإدارة المكلّف لديها أو أن لا يحصل التكليف في أكثر من وزارة أو إدارة عامة أو مؤسسة عامة واحدة، فإنّ هذه الضوابط تقدّم معالجات محدودة مجتزأة كالحفاظ على الظاهر من خلال تجنّب انتقال القاضي إلى مكاتب الإدارة، مقابل تجاهل القسم الأكبر من المخاطر الناجمة عنها ومنها الحؤول دون إغراء القضاة بتقاضي بدلات إضافية أو تضارب المصالح.  

تقييم القضاة

يلحظ اقتراح عدوان إنشاء ملفات للقضاة الإداريين وتقييمهم على غرار اقتراح سعد (المفكّرة/ ائتلاف استقلال القضاء). إلا أنّه بخلاف الاقتراح الأخير، خلا اقتراح عدوان من أيّ ضوابط للحؤول دون التعسّف بحق القضاة موضوع التقييم. ففيما اكتفى بتحديد الجهة التي تقوم بالتقييم (لجنة تقييم مكوّنة من ثلاثة قضاة من بين أعضاء المجلس يترأسها رئيس المجلس) والهدف منه وطابعه الدوري، ليترك من ثم للسلطة التنفيذية تحديد دقائق تطبيق هذه المادة بمرسوم تحدّد فيه معايير ومؤشرات الآداء وسلوك القاضي وطرق الاعتراض على هذا التقييم. ومن هذه الزاوية، تبدو هذه المادة في تعارض مع المادة 20 من الدستور التي تنصّ على أنّ “شروط الضمانة القضائيّة وحدودها يعيّنها القانون”.  

وما يزيد من قابلية الاقتراح للانتقاد، الأمور الآتية:

  • إنه نصّ على إجراء التقييم بشكل سنوي (وذلك بخلاف اقتراح سعد الذي نص على إجرائه كل أربع سنوات)، مما قد يتحول إلى أداة ضغط مرهقة على القضاة.
  • إن الاقتراح لا يفرض على اللجنة الاستماع إلى القاضي وتمكينه من الاطّلاع على كامل المعلومات المودعة في ملفّه وإبداء ملاحظاته بشأنها، بل يعتبرها مجرّد إمكانيّة متاحة للجنة. وهذا التنظيم قد يعرض القاضي لمزيد من التعسف.
  • نلحظ أخيرا تشديد الاقتراح على معيار إنتاجيّة، وهو المعيار الوحيد المذكور في الاقتراح. ويُخشى أن يدفع التّركيز على الإنتاجيّة إلى تغليب المعيار الكمّي على المعيار النوعيّ مما قد يؤدّي إلى تراجع في نوعية القرارات القضائية. ومن المهمّ هنا التذكير باحتجاجات القضاة الفرنسيين ضد التركيز على معيار الإنتاجية الكمية في الفترة الأخيرة[2].

الملاحقات التأديبية

في هذا المجال، وثّقت المفكرة القانونية إشكاليات الملاحقة التّأديبية للقضاة الإداريين والتي تمثلت أساسا في تمكين رئيس مجلس شورى الدولة من جمع سلطات الملاحقة والتحقيق والحكم بما يتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة. كما أشارتْ إلى خلو نظام مجلس شورى الدولة من أية أحكام لضمان تناسب العقوبة مع خطورة المخالفة التي أحال إليها القانون بموجب تعريف واسع بما يتعارض مع مبدأ شرعية العقوبات.

وفي حين عمد اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) إلى معالجة هذه الإشكاليات، نلحظ بالمقابل تجاهل العديد منها في اقتراح عدوان وبخاصة بشأن تعريف المخالفة أو العقوبة المطبقة عليها. وعليه، لا تعدو المادة 49 منه كونها استعادة للمادة 22 من النظام الحالي ومفادها أنّ “كل إخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف والكرامة أو الأدب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبيا”. وعليه، فإن التعديل الوحيد على هذه المادة يتصل بذكر مخالفات معينة كأمثلة على المخالفات ومنها “استخدام الصفة القضائيّة من أجل تحقيق مصالح شخصيّة، قبول الرشوة، استغلال النفوذ” أو “تأخير البتّ بالدعاوى وعدم التقيّد بالمهلة المحدّدة في هذا القانون لإصدار الأحكام” و”التمييز بين المتقاضين وإفشاء سرّ المذاكرة” و”الإخلال بموجب التحفظ”.

بالمقابل، فإنّ الاقتراح أدخل أحكاما لمعالجة الإشكاليات الأخرى وأهمها:

  • إنّه حصر صلاحية الإحالة إلى المجلس التأديبي بهيئة التفتيش القضائي، وذلك على غرار ما يحصل في القضاء العدلي. ويشكل هذا المقترح تطورا بالنسبة إلى القانون الحالي، حيث أنيطت هذه الصلاحية بوزير العدل. إنما بالمقابل، حفظ الاقتراح بصورة مستغربة لرئيس المجلس إمكانية التحقيق تمهيدا لاتخاذ القرار الذي قد يراه مناسبا بإحالة القاضي المذكور إلى هيئة التفتيش القضائي أو عدم إحالته، 
  • إنّه منح رئيس المجلس إمكانية وقف القاضي المُحال إلى المجلس التأديبي عن العمل. وإذ يشكّل هذا المقترح تطورا إيجابيا طالما أن القانون الحالي ينيط هذه الصلاحية بوزير العدل، فإنه يقبل النقد طالما أن هذا القرار لا تتخذه الهيئة التأديبية إنما مرجع له إمكانية بدء الملاحقة ويرأس الهيئة العليا للنظر في الطعون على القرارات التأديبية. ومن شأن هذا الأمر أن يزيد من مخاطر التعسف من خلال جمع سلطة الملاحقة مع سلطة الحكم في يد شخص واحد،
  • إنّه سعى إلى ضمان حقّ الطعن في القرارات التأديبيّة. إلا أن التدقيق في النصّ يظهر أن هذا الحقّ شكلي محض، طالما أن المجلس التأديبي الابتدائي (وهو يتكوّن من رئيس غرفة لدى مجلس شورى الدولة ومستشارين من الدرجة العاشرة وما فوق) كما الهيئة القضائية الناظرة في استئناف قراراته (المؤلفة من رئيس المجلس الأعلى للقضاء الإداري أو نائبه ومن أربعة أعضاء من الدرجة الثانية عشرة وما فوق يعينون من المجلس الأعلى في بداية كلّ سنة قضائيّة) ينبثقان عن مجلس القضاء الأعلى الإداريّ. ومن البيّن أنّ الاقتراح اعتمد في هذا الخصوص النظام المعمول به حاليا في تنظيم القضاء العدلي، وهو نظام أقرّ المجلس الدستوري صراحة في قراره 5/2000 الصادر بتاريخ 27/06/2000 أنه ينافي مبدأي استقلال القضاء والمحاكمة العادلة، وتاليا بحكم غير الدستوري. 

إمكانية القيام بأعمال أخرى

في هذا المجال، يستعيد الاقتراح مجموعة من الأعمال التي يحظر على القاضي الإداري القيام بها. وعمليا، يكون العمل المأجور الوحيد المسموح به هو التدريس في الجامعات ومعاهد التعليم العالي ضمن عدد ساعات يحدّدها المجلس الأعلى (م. 24). واللافت أن الاقتراح لا يشترط موجب طلب إذن قبل المباشرة بأعمال التدريس أو غيرها من الأعمال المسموحة، أو حتى إشتراط إمكانيّة التدريس بمراجعة تقييم أداء القاضي، كل ذلك في تراجع واضح عما نص عليه اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء).

  • حقوق وحريات مضمونة للقضاة

ولكن ماذا بشأن الحقوق والحريات المضمونة للقضاة وبخاصة الحقوق والحريات التي تسمح لهم بممارسة عملهم بطمأنينة أو الدفاع عن استقلاليتهم؟

ضمانة حريّة التعبير وحريّة التجمّع

من حيث المبدأ، يتمتَع القاضي كأي مواطن آخر بالحقوق والحريات الأساسية المكرَسة في المواثيق الدولية، خصوصاً حرّيتي التعبير والتجمّع. وهذا ما يؤكَده المبدأ 4.6 من شرعة بنغالور للأخلاقيات القضائية. كما تنصّ المادة 8 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة[3] أنه “وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحقَ لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتَع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمَع. ومع ذلك يُشترط أن يسلك القضاة دائماً، لدى ممارسة حقوقهم، مسلكاً يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء”. وهذا ما شدّد عليه اقتراح سعد (المفكرة، ائتلاف استقلال القضاء) مكرّسا حريتيْ التعبير والتجمع وتأسيس جمعيات مهنية والالتحاق بها والانتساب إلى جمعيات أخرى مؤسسة بصفة قانونية، أسوة بالقضاة العدليين.

لكن على نقيض ذلك، تجاهل الاقتراح تماما هاتيْن الحريتيْن، بل أنه ذهب على غرار قانون تنظيم القضاء العدلي الحالي إلى حظر أي مطلب جماعي وظيفي لا يمّر عبر المجلس الأعلى للقضاء الإداري (م. 22). وما يزيد من قابلية هذا الأمر للنقد هو أن الاقتراح استتبع هذا الحظر بمادة أخرى مفادها أن قضاة مجلس شورى الدولة والمحاكم الإدارية يخضعون لأنظمة الموظفين “في كل ما لا يتعارض وأحكام هذا القانون”، علما أن نظام الموظفين العامين يقيد في المادة 15 منه حرية التعبير ويوجب على الموظف الراغب بالإدلاء بأي تصريح، الحصول على إذن مسبق من رئيسه التسلسلي. كما أن القانون يمنع إنشاء أي نقابات أو منظمات مهنية. وغالبا ما استخدمت هذه المادة لتوسيع إطار موجب التحفظ والقيود المفروضة على القضاة، من دون أي اعتبار لاستقلاليتهم وما تفرضه من ضمانات.

وما يزيد من خطورة هذا الأمر هو أن الاقتراح اعتبر صراحة إخلالا بواجبات الوظيفة “الإخلال بموجب التحفظ المفروض على القاضي لجهة الامتناع عن الظهور في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي دون إذن مسبق أو لجهة قيامه بتصريحات إعلاميّة مباشرة أو بواسطة أشخاص آخرين من شأنها أن تمسّ بسمعة القضاء وكرامته واستقلاليّته” (م. 49).

التعويض عن الأضرار الحاصلة بفعل الوظيفة

منح اقتراح عدوان ضمانة للقضاة الإداريين بتعويضهم عن كلّ ضرر يلحق بهم أو بأحد أفراد عائلته أو بأموالهم بسب الوظيفة أو أثناءها أو بمناسبتها. وتشكّل هذه الضمانة المستجدّة ضمانة إضافيّة لاستقلاليّة القضاة، توازي الضمانة الوظيفيّة التي يتمتع بها الموظفون العموميون في فرنسا[4]. تهدف هذه الحماية إلى تخفيف الأعباء التي تقع على القضاة جرّاء إتمام وظيفته لتمكينهم من العمل باستقلاليّة دون الخوف من تعرضهم أو تعرّض عائلاتهم للخطر. ومع التسليم بأهمية هذه الضمانة التي يخلو منها اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء)، إلا أنّه يُخشى التعسّف في استخدامها في حالات تعرُّض قرارات القضاة للانتقاد ولا سيما بعدما ذهب الاقتراح إلى اعتبارها جرم تدخل في القضاء كما سبق بيانه. 

إجراءات خاصّة لنزاعات القضاة

حاليا، تخضع إجراءات ملاحقة القضاة الإداريين لنظام خاص مفاده عدم ملاحقة أعضاء مجلس شورى الدولة بالجنايات والجنح المنبعثة عن الوظيفة إلا بعد استشارة مكتب المجلس وبناء على طلب وزير العدل (مادتين 29 و30 من نظام مجلس شورى الدولة). وقد استعاد الاقتراح هذه الأحكام بالنسبة إلى الجنايات والجنح المنبعثة عن الوظيفة بحيث لا تجوز هذه الملاحقة إلّا بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء الإداري وبناء على طلب من وزير العدل. أمّا بالنسبة إلى الجنايات والجنح غير المنبعثة عن الوظيفة، فلا يجوز في هذه الحالة توقيف القاضي إلّا بطلب من وزير العدل بعد موافقة مجلس شورى الدولة. والفائدة من هذه الأحكام هو أنها تضع حدا للجدل الحاصل بشأن نظام ملاحقة القضاة الإداريين على ضوء التضارب بين مواد نظام المجلس الحالي ومواد قانون أصول المحاكمات الجزائية (مواد 345 وتوابعها).

وإن قد تشكّل هذه القاعدة ضمانة للقضاة ضدّ الملاحقات الجزائية التعسفيّة، تقدّم التجربة الحديثة فيما خصّ الضمانات الإجرائية، لا سيّما تلك المتعلّقة بضمانات الموظّفين التي تستوحي منها ضمانة القضاة، أمثلة عديدة عن مساوئ هذه القاعدة، لا سيّما بالنسبة إلى الملاحقة الجزائيّة المتعلّقة بالفساد التي قد تفسّر من قبل المحاكم كجنحة منبعثة عن الوظيفة.

لقراءة القسم الثاني من المقال

للاطلاع على اقتراح النائب جورج عدوان

للاطلاع على اقتراح النائب أسامة سعد


[1] Report of the Special Rapporteur on the independence of judges and lawyers, UN Doc. A/HRC/11/41 (2009), para. 28 and Report of the Special Rapporteur on the Independence of Judges and Lawyers, UN Doc A/HRC/26/32 (2014), para. 126.

[2] https://www.lemonde.fr/idees/article/2021/11/23/l-appel-de-3-000-magistrats-et-d-une-centaine-de-greffiers-nous-ne-voulons-plus-d-une-justice-qui-n-ecoute-pas-et-qui-chronometre-tout_6103309_3232.html

[3]  أنظر أيضاً المبدأ رقم 8 من إعلان Singhvi.

[4] المادة 11 من القانون 83-634 تاريخ 13/07/1983 المتعلّقة بحقوق وواجبات الموظفون العمومييون

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، محاكم إدارية ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني