يجلس بكل ثقة في حصنه من دون أن يقيم أي وزن للقانون، والمرفأ منسيّ كرحيل، كشمس على وشك الغروب. (رسم: علي نجدي)
وثّقت “المفكرة القانونية” الأساليب المستخدمة من قبل القوى السياسية الحاكمة خلال العام 2021 لعرقلة التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت وتكريس نظام الإفلات من العقاب. في هذه المقالة، نحلّل المعارك الثلاث التي رشحتْ عنها هذه القضيّة، وهي تباعاً المعركة حول الحصانات (القسم الأوّل) ومعركة فبركة الارتياب بالمحقّق العدلي طارق بيطار (القسم الثاني)، انتهاءً بمعركة إزاحة هذا الأخير بطريقة أو بأخرى (القسم الثالث).
بخلاف استدعاءات المحقّق العدلي السابق فادي صوّان التي لقيَت هجوماً قاسياً منذ لحظة الإعلان عنها، بدتْ قرارات القاضي بيطار بمثابة صدمة للقوى السياسية المعنية التي احتاجت وقتاً ليس بقصير لتحديد مواقفها منها والأهم طُرق الرد عليها. وليس أكثر دلالة على ذلك انكفاء العديد من المراجع التي تميّزت بمواقفها الصاخبة والصارمة ردّاً على استدعاءات صوّان في كانون الأوّل 2020، أقلّه في الأسابيع التي أعقبت الإعلان عن مقرّرات بيطار في تموز 2021. ومن هذه المراجع مَن لزم صمتاً مطبقاً، كما هي حال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب ونادي رؤساء الوزراء السابقين والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى للطائفة السنّية. ومنها من تريّث في إبداء وجهة نظره مكتفياً بالتلميح باحتمال وجود استهداف سياسي، كما هي حال أمين عام حزب الله حسن نصرالله (خطاب 5/7/2021) أو الهيئة المشتركة لمجلس النوّاب (في 9/7/2021). وقد بدا، تالياً، أنّ هذه الهيئات والقوى رأت من مصلحتها التعامل مع طلبات بيطار بطريقة مختلفة أقلّه من حيث الشكل عن الطريقة التي تعاملتْ بها مع طلبات صوّان.
وقد يجد ذلك تفسيره في مجموعة من العوامل. منها توسيع بيطار مروحة الادّعاء لتشمل وزراء وشخصيات مقرّبة من مراجع سياسية عدّة، ما يجعل اتّهامه باتّباع أجندات سياسية أكثر صعوبة. ومنها أيضاً التزامه باحترام الإجراءات المتّصلة بملاحقة النّواب والمحامين، في ما بدا بمثابة تأكيد منه أنّه يلتزم بالقانون الذي هو اللغة المشتركة للقضاة والمحامين ودعوة (محرجة) للمدّعى عليهم والقوى التي تساندهم إلى ممارسة حقّ الدفاع ضمن أصول القانون والاحترام من دون الحاجة إلى الأسالِيب الخطابية الأخرى التي سبق استخدامها في الهجوم ضدّ سلفه. وقد بَدا هذا العامل ماثلاً بوضوح في تصريح الرئيس برّي غداة القرارات بأنّ الجواب عليها سيكون قانونياً مائة في المائة وفق ما سبق بيانه. فضلاً عن هذيْن العامليْن اللذيْن يشرحان حرج القوى السياسية وتردّدها في الردّ على بيطار، لا يُستهان بعامل آخر هو توجُّسها من الظهور في مظهر المُشكّك المُعادي للقضاء برمّته أو أقلّه للتحقيق في قضية تفجير المرفأ وليس المشكك في قاضٍ بعينه، طالما أنّها كانت طالبتْ ونجحتْ من قبل في كفّ يد سلفِه.
إلّا أنّه سرعان ما تبيّن أنّ الإحراج الذي فرضتْه هذه العوامل استمرّ لفترة وجيزة، هي الفترة التي بدتْ ضروريّة لتهيئة الرأي العام للتشكيك في أداء بيطار ولاحقاً في نزاهته وارتباطاته وصولاً إلى التشكيك في القضاء برمّته. وقد حصلت تهيئة الرأي العام لاتهام بيطار بالتسييس من خلال مواقف إعلاميين (كموقع “أساس ميديا” المقرّب من نهاد المشنوق)[1] وسياسيين وفي مقدّمتهم نائب رئيس مجلس النوّاب السابق إيلي الفرزلي الذي قال في 13/7/2021 “ما عندو شي يقدّمو، هو لا يريد التعاون معنا، وهو حرّ… نحن من سيظهر الحقيقة ومش ناطرين ابن البيطار”[2]، وقبل أن يتبنّاها زعماء من قبيل سليمان فرنجية (في تصريح بعد زيارته للبطريرك بشارة بطرس الراعي في 21/7/2021) وسعد الحريري (في مؤتمره الصحافي في 27/7/2021) ويرميها أخيراً نصرالله وكأنّها مسألة محسومة غير قابلة لأيّ جدل (كلمته في 7/9/2021).
وفي حين أنّ اتهام بيطار لم ينحصر في جانب أوحد إنّما ذهب في اتجاهات عدّة لا تخلو من التناقض، فكأنّما المطلوب هو تشويه صورته وإظهار عدم أهليّته للقيام بهذا التحقيق بمعزل عمّا فعله أو لم يفعله. إلّا أنّه يُلحظ أنّ الاتهامات الغالبة ضدّه اقترنتْ بتصويره على أنّه جزء من مشروع سياسي معيّن وصولاً إلى اعتباره جزءاً من المحور الأميركي أو الإيحاء أنّه يتلقّى أوامره من قائد الجيش جوزيف عون أو السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيّا. وقد استخدمتْ القوى السياسية المناوئة للمحقّق العدلي أيّ موقف غربي مؤيّد للتحقيق (وهو غالباً ما يكون موقفاً روتينياً من قبل الدول المموّلة للبنان كدعم نزاهة الانتخابات) حجّة لتدعيم اتّهامها المذكور ضدّه. وعليه، تمّ تظهير بيان صادر عن نائبين أميركيين على أنّه موقف رسميّ للكونغرس الأميركي. وقد عبّر بشكل واضح عن هذا التقييم وزير الثقافة في حكومة نجيب ميقاتي محمد مرتضى الذي وصف بيطار في سياق مداولات مجلس الوزراء بـ “العميل” حسبما عرفت “المفكرة” من مصادر موثوقة ليطلب من الحكومة اتّخاذ الإجراءات لكفّ يده عن التحقيق. هذا من دون الحديث عن المواد المنشورة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي ذهبت في الاتجاه نفسه.
وقد بدا تصنيف بيطار في هذه الخانة شرطاً أساسياً لمضاعفة حدّة الهجوم ضدّه بما يبرّر استعداء نصرالله له في أكثر من خطاب واستنفار البيئة المؤيّدة للمقاومة أو المحور الإيراني ضدّه، وذلك في استعادة لخطاب التصدّي للمحكمة الخاصّة بلبنان لمحاكمة قتلة رفيق الحريري. فلا يظهر الهجوم ضدّ القاضي الذي بلغ مستويات غير مسبوقة على أنّه هجوم لقوى سياسية فائضة القوّة ضد قاضٍ فرد بما يتعارض مع الحدّ الأدنى من الشهامة بل على أنّه هجوم من محور ضدّ محور بما يعكسه من بطولات إضافية. والأهم، وبفعل هذه السردية أي سردية تسييس القاضي، تختفي إشكاليات استقلال القضاء أو الإفلات من العقاب أو إسقاط الحصانات أو أيّ معطى حقوقي آخر لتطغى عليها إشكالية واحدة قوامها “انزلاقات” بيطار، وبشكل خاصّ انخراطه المفترض في محور سياسيّ إقليميّ. وعليه، يصبح السؤال المحدِّد لموقف أي متابع: في أيّ محور أنت؟ بما يضمن شمولية السيّاسة بمعزل عن أيّ اعتبار آخر.
ويُلحظ أنّ نسبَ غايات سياسية للقاضي بيطار تراوحتْ عموماً بين أمريْن: الاتّهامات الموجّهة إليه أولاً بالاستهداف السياسي واتّصلت بتساؤلات بعض القوى السياسية حول أسباب ملاحقة هذا أو ذاك من الأشخاص المقرّبين إليها، والاتهامات الموجّهة إلى بيطار ثانياً بالاستنسابيّة واتّصلت عموماً على العكس من ذلك بأسباب عدم ملاحقة الخصوم السياسيّين. وبنتيجة توفّر أدلّة خطيّة على غالبية المدّعى عليهم للاشتباه باشتراكهم في جريمة تفجير المرفأ، بدا اتّهامه بالكيدية ضعيفاً، الأمر الذي فرض على هؤلاء أو القوى المؤيّدة لهم التركيز على تجاوز القاضي الإجراءات القانونية المتّصلة بملاحقتهم (مثل الحصانات). في المقابل، فإنّ الفضاء بدا أكثر انفتاحاً بالنسبة للقوى المناوئة للتّحقيق بما يتّصل بوجوب ملاحقة الخصوم حيثُ أمكنها التسويق لطرُوحاتها على أساس استنتاجات وقرائن من دون الحاجة إلى أيّ أدلّة حاسمة. وعليه، سريعاً ما غلبتْ مؤاخذة القاضي على ما لم يفعله على مؤاخذته على ما فعله. ولم تتوقّف القوى المناوئة للتحقيق عند هذا الحدّ، إنّما عمدتْ إلى استخدام العديد من الأساليب الأكثر رواجاً للتشكيك في مشروعية القضاء، بدءاً باتّهام مسار التحقيق بالشعبوية أو التطييف أو السذاجة وصولاً إلى التشكيك في القضاء برمّته.
هذا ما سنحاول تفصيله في هذا القسم.
تهمة الاستهداف السياسي أو “لماذا تلاحق حلفاءنا؟”
كما سبق بيانه، وفي حين سارع عدد من القوى السياسية إلى إثارة الاستهداف السياسي في وجه صوّان فور صدور قراراته، فإنّ الأمور حصلتْ بشكل أكثر تدرّجاً بالنسبة إلى بيطار حيث اقتصرت الاتّهامات ضدّه في الفترة الأولى التي أعقبتْ قراراته بعدد محدود من المواقف والتّلميحات قبلما يصبح بمثابة لازمة في الخطاب المعادي له. وحتى المراجع القليلة التي تحدّثت عن استهداف سياسيّ، لم تتمكّن من ذلك إلا بعد حملات واسعة اتّصلت بمواصفات الأشخاص المدّعى عليهم أكثر مما اتّصلت بالأدلّة المساقة ضدّهم.
1. التمجيد بأشخاص مُشتبه بهم أو تنزيههم
الدليل الأوّل على هذا التوجّه هو الاستعراض الاستثنائي الذي تمّ ردّاً على طلب الإذن بملاحقة اللواء عبّاس إبراهيم الذي تمثّل في تعليق مئات (وربّما آلاف) الصور واللافتات المؤيّدة له في مناطق عدّة، بخاصّة في الضاحية الجنوبية والجنوب، والتي رفعته إلى مصاف المقامات والرموز العليا التي يشكّل أيّ استهداف لها استهدافاً للوطن برمّته. وقد ذهب البيان الذي أصدرَتْه الخليّة القانونية المنشأة للدفاع عن إبراهيم في الاتجاه نفسه، أي في اتجاه الإطناب في مديحه. فهو “صاحب المسيرة المشرّفة الواضحة، الذي نذر نفسه رسول خلاص وسلام ومحبّة، من أعزاز إلى راهبات دير معلولا وصولاً إلى كلّ قضيّة إنسانية من شأنها أن تزيل ظلماً أو تبعد فتنة، وقبلهم الكثير من السعي الصامت كصدقة السرّ وعددهم الكثير الذي ربّما يُكشف مع الأيّام وربّما لا يُكشف” وأنّه “رجل دولة ومؤسّسات خرج من زواريب الطوائف والمذاهب والمحسوبيّات، عابراً بمؤسّسة الأمن العامّ ولبنان من الوطن إلى كلّ العالم، مستحقّاً بجدارة توصيف “رجل الأمن الإنساني”. وقد بلغ التمجيد أوجه من خلال تصوير اللواء على أنّه الأمل شبه الأوحد لنهوض الوطن من رماده أو الخروج من القعر الذي يتخبّط فيه. فعدا عن أنّه أحد رجال المؤسّسات الذين “وحدهم القادرون على القيام بالدولة من الرماد”، فإنّه “بقعة ضوء وإرادة صادقة” لاستنقاذ لبنان من “قعر لا يشبهه ولا يليق به”.
والملفت أنّ الخليّة اكتفتْ في ردّها على الاتّهامات ضدّ اللواء بتمجيده على هذا الوجه، فكأنّها توحي أنّ مجرّد الاشتباه به يهدّد فُرص الوطن بالقيامة. وهذا ما بدا واضحاً في أحد مقاطع البيان الذي تضمّن حرفيّاً أنّ “أكبر جريمة بحقّ الشهداء وعوائلهم هي رمي الاتّهامات جزافاً، تنفيذاً لمآرب سياسية وإقصاءً لرجال مؤسّسات، (…) ونحن بصدد تشكيل خليّة قانونية لمراقبة التحقيقات حرصاً على حقوق أهالي الشهداء ومنعاً لجعل ملفّ التحقيق شمّاعة سياسية تُستعمل للنيل من رجل دولة ومؤسّسات”. فما يُفهم من هذه الجملة هو أنّ مجرّد الاشتباه باللواء (وهو حكماً اشتباه كيدي للنيل منه وفق ما قرّرته خليّة كبار المحامين) هو جريمة أكبر من مجزرة المرفأ التي سفكت دماء آلاف الأشخاص ودمّرت أجزاء واسعة من العاصمة طالما أنّها تمنع قيام الدولة من الرماد، وهي جريمة خطيرة لدرجة تستدعي مأسسة عمل مشترك بين أعضاء الخليّة لمراقبة تحقيقات المرفأ منعاً للنيل من “رجل دولة ومؤسّسات”. ولم تغفلْ الخليّة عن ربط هذا الاشتباه بمؤامرة أكبر تستهدف اللواء إبراهيم وتهدف من خلال بثّ شائعات عنه إلى “توتير الجوّ الجنوبي ربطاً بالاستحقاق النيابي” تحضيراً “لسيناريوات خطيرة منبعها أحقاد شخصية وأحلام من سراب”.
وقد تعزّز ذلك فيما بعد بشكل خاصّ من خلال إبراز دور إبراهيم في التوقيع على عقد استيراد الفيول من العراق في 24/7/2021 بعد أقلّ من ثلاثة أسابيع من الاشتباه به، بما يظهّر للبنانيين الرابط بين رفض الاشتباه به ومكافحة العتمة. وما يزيد من وضوح استخدام هذا التفاوض كوسيلة لبناء خطاب نقدي للاشتباه به هو أنّ إبرام عقود مماثلة لا يتّصل بحال من الأحوال بالمهام المُناطة بمديرية الأمن العام. وفي السياق نفسه، أثار الصحافي سالم زهران المقرّب من إبراهيم دور الأخير في التفاوض بشأن الحدود البحريّة، بعدما توحّدت كلمة القوى السياسية اللبنانية في شخصه (برنامج “نهاركم سعيد” في 18/6/2022). في الاتجاه نفسه، ذهب طلب الرد المقدّم من خليل وزعيتر إلى محكمة التمييز في تاريخ 11/10/2021 حيث لم يجد الرجلان حرجاً في تمجيد ذاتهما في سياق سعيهما لإثبات عداوة بيطار لكلّ صاحب مكانة أو حصانة. فجاء حرفياً في الطلب الذي تقدّما به أنّ “المحقق العدلي، وللأسف، يعتبر نفسه فوق كلّ المواقع والمقامات”، كما أوردا أنّ للقاضي رأي مسبق في التدابير التي سينتهي إليها لمن هم “من أصحاب المكانات، وأهل المروءة الوطنية”. ولم يكتفِ الثنائي بذلك بل قارنا بين ما أسموه “أناساً عاديين” والذين تجوز ملاحقتهم و”أصحاب حصانات، ومكانات بموجب صفاتهم…”.
فضلاً عن ذلك، رُصد عدد من المواقف السياسية الأخرى التي عمدتْ إلى تنزيه بعض المشتبه فيهم معتبرة أنّ توقيفهم أو الادّعاء عليهم يشكّل مظلمة. ولعلّ أبرز المواقف في هذا الخصوص، الدفاع المنتظم لرئيس التيار الوطني الحرّ والنائب جبران باسيل عن مدير عامّ الجمارك بدري ضاهر، والتي غالباً ما ترافقت مع حملات إعلامية أو على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بالإفراج عنه. ومن الشواهد المعبّرة عن ذلك ما صرّح به باسيل في 4/3/2022 خلال الجمعية العمومية لقطاع الشباب في التيار حين قال “حاوَلوا أن يجعلونا نخاف من الدفاع عن الأبرياء وصار الآدمي الذي قام بعمله مثل بدري ضاهر في السجن والأوادم الذين يتحدّون القضاء طليقين”. ومنها أيضاً مقابلة لباسيل في 14/4/2022 مع SBI، اعتبر فيها أنّ “الناس المحسوبين علينا، فاتوا ع الحبس ظلم.. ظلم.. ظلم. بدري ضاهر عم يدفع ثمن الحقيقة”. وتناغم موقف رئيس الجمهورية ميشال عون في 30/4/2022 مع موقف باسيل معتبراً أنّ “الظلم قاسٍ وغير مقبول شرعاً عندما تكون العدالة منكفئة أو مقيّدة أو مجتزأة أو انتقائية”.
وهذا أيضاً ما ذهب إليه موقف النائب بلال عبدالله في دفاعه عن أحد الموقوفين من منطقته في تاريخ 3/4/2022 إذ تحدّث عن الـ “تّمادي في ظلم الأبرياء وإبقائهم في السّجن لاعتبارات غير مقنعة، وفي مقدّمتهم عضو المجلس الأعلى هاني الحاج شحادة، المشهود له بنظافة الكفّ والنّزاهة والعصاميّة”.
2. واجب إبعاد الشبهات عن المقاومة منعاً لاستهدافها
برز هذا المطلب في المداخلات العديدة لأمين عام حزب الله حسن نصرالله التي تناول فيها المحقّق العدلي. وقد عبّر منذ 5/72021 عن خشيته من وجود احتمال استهداف سياسي، علماً أنّ حزب الله كان أصدر في تاريخ 3/8/2021، بياناً أشار فيه إلى وجود استهداف سياسي في الادّعاء ضدّ الوزراء المدّعى عليهم. وإذ تطرّق في تلك المداخلات للحملات مدفوعة الثّمن التي تطال حزب الله وتصرّ على توريطه في قضية المرفأ، عاد ليُطالب بيطار، على غرار ما فعله سابقاً في اتجاه صوّان، بنشر التحقيق الفني (الذي نظّمته القوى الأمنيّة والعسكريّة) وذلك إثباتاً لانتفاء أي علاقة لسلاح حزب الله أو للحزب بالتفجير.
وقد عاد نصرالله في خطابه الأكثر حدّةً في تاريخ 7/8/2021 ليتساءل عن سبب عدم كشف القاضي عن نتيجة التحقيق، مُعتبراً أنّ عدم الكشف عنه يشكّل إخفاءً للحقيقة، حيث قال حرفياً إنّ الحقيقة معروفة لكنّها مخفيّة. وقد استنتج قائلاً إنّه “يوجد تواطؤ سابق ولاحق”. واعتبر نصرالله من باب تدعيم وجهة نظره أنّه إذا ما صدر تقرير الآن بهذا الشأن “ستدفع شركات التأمين مليار و200 مليون وقيل مليار و600 مليون دولار للأشخاص الذين دفعوا تأميناً على أرواحهم وأملاكهم”. ثم خاطب بيطار مباشرةً “لماذا التأخير؟ لماذا؟ ماذا تنتظر؟” ويشار إلى أنّ التقرير الفني المذكور هو تقرير صدر عن أجهزة أمنية (المباحث العلمية في قوى الأمن الداخلي) قبل أن يضع بيطار يده على القضية وتمّ تسريبه في عددٍ من وسائل الإعلام بما يرجّح حصول التفجير بنتيجة تطاير شرارات بفعل تلحيم فجوة في حائط العنبر 12. وعليه، مؤدَّى التقرير هو إبعاد فرضية التفجير عمداً وضمناً إبعاد فرضية تداول بها الإعلام وقوامها حصول اعتداء إسرائيلي على خلفية عملية عقابية لحزب الله.
ومن خلال هذا المطلب، بدَا أنّ نصرالله يعتبر أنّ من واجب المُحقّق العدليّ أن يُسارع إلى إبْعاد أيّ شبهة قد تثار بحقّ المقاومة نظراً لأهميّة الذّود عن كرامتها ورفعتها وإبقائها بمنأى عن أيّ شبهات، حتى ولو تمّ ذلك بمخالفة صريحة لعددٍ من المبادئ والأصول القانونية.
فمجرّد مطالبة القاضي بإعلان تقرير فنيّ تحت طائلة اعتباره متواطئاً مع شركات التأمين أو ضدّ المقاومة، إنّما يشكّل ضغطاً عليه للتسليم بفحواه وتالياً بالفرضيّات التي توصّلت إليها الأجهزة الأمنية من دون إعطائِه أيّ مجال للتّدقيق في مدى صوابيّتها ومقارنتها بأدلّة أخرى وبخاصّة المحاكاة التي أجريت لعملية التلحيم في آب 2021. فكأنّما يراد إخضاع القاضي للحقيقة الأمنية وعملياً للأجهزة الأمنية في حين أنّ المبدأ هو العكس تماماً وهو أنّ الأجهزة الأمنية تخضع للقاضي الذي له وحده أن ينتهي إلى تكريس الحقيقة القضائية[3]. ومن هذه الزاوية، تظهر المطالبات الحثيثة بمثابة مسّ فاضح باستقلال القضاء. ويتأكّد هذا الأمر من كون تسريب التقرير قد حصل سابقاً (وعادت قناة “الميادين” لتفصّله في إطار تحقيقها تحت عنوان: رواية الحقيقة) بحيث يظهر جليّاً أنّ مطالبة القاضي بنشره إنّما ترمي ليس إلى توفير المعلومة بل إلى انتزاع التزام منه بها. ويلحظ أنّ “الميادين” استشهدت أيضا بتقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي وتقرير فرنسي أيضاً.
فضلاً عن ذلك، تؤدّي هذه المطالبة إلى المسّ بمبدأ سريّة التحقيقات خلال فترة التحقيق التي يكرّسها قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة 53 التي تفرض عقوبات على من يُفشي هذه السرّية تصل إلى الحبس لسنَة كاملة إضافةً إلى غرامات. وإذا صحّ أنّ بإمكان قاضي التحقيق أن يوازن بين السرّية وحقّ الرأي العامّ في المعرفة في قضايا الشأن العام، فليس له أن يفعل ذلك في حال ساوره أي شكّ بشأن الفرضية المطروحة. فهذا التوازن إنّما يهدف إلى تنوير الرأي العام وليس تضليله أو على الأقلّ إغراقه في فرضيات لم يتمّ التثبّت منها بعد.
بهذا المعنى، تشكّل مطالبة القاضي بالإفصاح عن التقرير الفنّي تدخّلاً غير مشروع في عمله بهدف إلزامه بمخالفة القانون. وعليه، فإنّ الريبة بالمحقق العدلي تتأتّى في حال إذعانه لهذا المطلب وليس العكس.
ختاماً، يجدر التنبيه إلى أنّ حجّة نصرالله المتّصلة بشركات التأمين هي الأخرى لا يؤخذ بها بحيث استقرّ الفقه والاجتهاد على أنّ الحادث الذي يخرج عن نطاق التغطية، هو ذلك الذي كان سببه العمل الحربي بصورة مباشرة وحصرية. وفي حالة تفجير مرفأ بيروت، يشكّل تخزين النيترات والإهمال في معالجة عملية تخزين هذه المادة كما وحجم الكمية المتواجدة سبباً رئيسياً ومباشراً في حصول التفجير وذلك بغضّ النظر عن السبب أي الفعل المحدّد الذي أدّى إلى انفجار هذه المادة، سواء أكان فعلاً حربياً أو عدائياً أو مجرّد حريق ناجم عن التلحيم أو أي سبب آخر. وهذا يعني، وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ ثمة عملاً أو فعلاً حربياً أدى إلى التفجير، فإنّ نتائجه وامتداد الدمار الناجم عنه إلى أحياء واسعة في بيروت لم يكن بسبب هكذا فعل بل بسبب أفعال أخرى ساهمت بشكل مباشر وحتمي في حصول الضرر. ونعني بذلك الإهمال وقلّة الاحتراز ومخالفة القانون في تخزين النيترات في مرفأ بيروت، وهي مخاطر غير مستثناة من موجب الشركات المؤمّنة. وعليه، فإنّ الأسباب المتعدّدة لحصول الحادث تجعل من العمل الحربيّ سبباً غير مباشر وغير حصريّ لحصوله. وهذا يؤدّي إلى تعليق تطبيق الاستثناء المرتبط بالعمل الحربي ويوجب على شركات التأمين تغطية الحادث.[4]
وفي حين شكّل تشكيك نصرالله في القاضي بيطار وصولاً إلى اتهامه بالتسييس مدعاة لاستنفار مناصريه، فاجأ نصرالله الجميع في تاريخ 18/10/2021 بأنّه لا يوجد في التحقيق أيّ شيء ضدّ حزب الله وأنّ اعتراضه على قرارات بيطار إنّما مبنيّ على سعيه إلى الحقيقة من دون أيّ اعتبار خاصّ للحزب. وبذلك بدا نصرالله كأنّه يدحض بنفسه نظرية التسييس التي عمل من قبل على إبرازها وتأكيدها. وفي حين أنّ هذا الكلام يعني عملياً فقدان أي حجّة باستهداف المقاومة، بقي عموم مناصري المقاومة على عدائهم للقاضي بيطار التزاماً منهم بالاتهامات المتكرّرة الصادرة ضدّه من السيّد نصرالله.
3. التمجيد بسموّ المقام
في موازاة التمجيد بإبراهيم وتغليب اعتبار إبقاء المقاومة بمنأى عن أية شبهة، برز ردّاً على الادعاء على رئيس الحكومة السابق حسان دياب خطابٌ يُعلي من شأن هذا المقام الذي هو رئاسة الوزراء وما يمثله من حقوق للطائفة السنيّة. أوّل المبادرين إلى هذا الخطاب هو دياب نفسه الذي علّق على الادّعاء ضدّه (من قبل المحقق العدلي السابق فادي صوّان) بأنّه يتجاوز شخصه ليطال موقعه، وأنّه لن يسمح باستهداف موقع رئاسة الحكومة من أي جهة كانت. وتأكّد ذلك من خلال المواقف التي سارع رؤساء الحكومات السابقون إلى اتخاذها تضامناً مع دياب، متجاوزين بذلك قطيعتهم السابقة له منذ تولّيه هذا الموقع. وأهمّ هذه المواقف صدر عن رئيس الحكومة المكلّف حينها سعد الحريري الذي انتقل إلى السرايا في زيارته الأولى لدياب تضامناً معه. الموقف نفسه عبّر عنه الرئيسان السابقان فؤاد السنيورة وتمّام سلام اللذان رفضا تباعاً التطاول على هذا الموقع أو السماح لأيّ كان بالتعامل معه كمكسر عصا. أما نجيب ميقاتي (وهو أوّل رئيس حكومة رُفعت ضدّه دعوى جزائية على خلفية الإثراء غير المشروع في قضية القروض الإسكانية وقد تمّ إبطالها[5] مؤخراً على أساس مرور الزمن) فقد اعترض على ملاحقة رئاسة الوزراء من دون ملاحقة رئاسة الجمهورية ممّا يشكل كيلاً بمكياليْن، متناسياً الفارق الشاسع بين المواد الدستورية المتّصلة بمسؤولية هذيْن المرجعيْن. وقد أتى تصريح مفتي الطائفة السنيّة في لبنان عبد اللطيف دريان في تحصين مقام رئاسة الوزراء كخطّ أحمر، ليضفي غطاء دينياً واضحاً على هذا الخطاب[6].
وقد عاد الخطاب نفسه إلى الظهور بعد تولّي بيطار مهام المحقق العدلي. لكن يُلحظ هنا تأخّر ردود الأفعال، حيث لم يبرز هذا الخطاب إلّا بعد إصدار مذكّرة إحضار بحق دياب في تاريخ 26/8/2021 أي بعد 55 يوماً من إعادة استدعائه من قبل بيطار. والملفت أنّ الخطاب أتى آنذاك من قبل نادي رؤساء الحكومات السابقين في اليوم نفسه لصدور مذكرة الإحضار، حيث اعتبر هؤلاء أنّه لم يسبق أن سُجِّل في تاريخ لبنان ورقة إحضار بحقّ رئيس حكومة، مشدّدين على الخطورة الوطنية والدستورية لهذه السابقة. ولإضفاء طابع طائفي على المذكّرة، كرّر البيان في أكثر من مرّة استهجانه لعدم قيام بيطار بالاستماع إلى رئيس الجمهورية أو أخذ إجراءات بحقّه. وفي اليوم التالي، تلقّى دياب جرعة دعم إضافية من مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان الذي ألقى خطبة دافع فيها عن “موقع رئاسة الحكومة”، معبّراً عن “استهجانه” لما سمّاه “التصويب على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، وهو أمر غريب عن أصول التعامل والتخاطب مع رئاسة الحكومة”.
ومؤدّى ذلك هو تحويل مسؤولية شخصية (مسؤولية دياب) يجدر التحقيق فيها، إلى مسؤولية طائفية يشكّل أيّ تحقيق فيها استهدافاً لطائفة برمّتها، مع ما قد يستتبع ذلك من عوائق قد يصعب تجاوزها، فضلاً عن تمكين أحد المشتبه بهم بأداء دور الضحية تمهيداً لإفلاته من أي مساءلة.
ويلحظ أنّ الدفاع عن دياب عند استدعائه للمرة الأولى كما عند استدعائه للمرة الثانية على خلفية حرمة مقام رئاسة الحكومة والذي صدر بشكل خاص عن المراجع السياسية السنيّة، اقترن بالدفاع عنه من قبل الجهات الأخرى المناوئة للتحقيق على خلفية “استضْغافه”، وهو دفاع يستند بدوره على المواصفات الشخصية للمشتبه به وليس على ما فعله أو لم يفعله. وقد أُثيرتْ هذه التهمة بدايةً ضدّ القاضي صوان، على خلفية أنّ دياب لا يرتبط عضوياً بقوّة سياسية وازنة ولا يحظى حتى بتأييد القوى الوازنة داخل طائفته، فضلاً عن عدم بروز اسمه ضمن فضائح فساد. وقد انطلق خطاب الاستضعاف هذا من خلال الإشارة إلى أنّ صوّان ادّعى ضدّه فيما لم يجرؤ في المقابل على الادّعاء ضدّ الحريري أو سلام أو ميقاتي (رغم أنّ أسماءهم كانت وردت في قائمة المشتبه بهم المرسلة إلى المجلس النيابي في 24/11/2020). وقد تصدّر هذا المفهوم عدداً من عناوين الصحف (مثلاً: الأخبار في 11 كانون الأوّل 2020: “صوّان يستضعف دياب ويُعقّد مفاوضات التأليف: الحكومة لن تُبصر النور قريباً”). ولعلّ أخطر ما في هذا المفهوم أنّه يستثير مشاعر الشفقة والتعاطف مع دياب. فيكفّ الموضوع عن كونه موضوع حصانة أو مسألة تقنية حول حدود الحصانة أو حتى استهدافاً سياسياً، ليصبح مظلمة ومسألة تتعارض مع الحد الأدنى من العدالة وتستدعي الشفقة وليس الإدانة. وقد توّج مشهد المظلمة هذه بـ تغريدة ملفتة صدرت عن الوزير السابق وئام وهاب هدفت للإشادة بزيارة سعد الحريري لدياب وتضامنه معه، معتبراً إيّاها تعبيراً عن ترفّع وشهامة وتجاوزاً من قبل الحريري للأحقاد والخلافات في مواجهة الاستضعاف. وهي تغريدة أعيد نشرها بشكل واسع في وسائل إعلام عدّة بالنظر لاحتوائها على إطراء نادر قلّما يحصل بين خصوم سياسيين في لبنان. وبالطبع، لا تعدو هذه التغريدة كونها تحويراً لواقع الزيارة والغاية منها. فرغم كارثية الوضع الاقتصادي وكارثية الوضع تبعاً لمجزرة بيروت، لم يرَ الحريري حاجة لتجاوز أيّ من الخلافات السياسية مع دياب، كأنّ هذه الكوارث لا تشكّل استحقاقات هامّة تستدعي العمل المشترك. جاءت زيارته فقط على خلفية استشعاره خطراً في المسّ بحصانة رؤساء الحكومات ممّا قد ينسحب عليه ومعهم جميع الوزراء فتدخّل لدرء هذا الخطر وتالياً لإبقاء الحصانة قائمة وبكلمة لتثبيت استقواء المسؤولين على المجتمع من دون أي محاسبة. وبدتْ من هذه الزاوية بمثابة استقواء فئويّ أكثر ممّا هي شهامة وتضامن مع المستضعفين. وعلى المقلب الآخر، اعتبر أمين عام حزب الله في اليوم التالي لإصدار مذكّرة الإحضار بحق دياب في تاريخ 26/8/2021 أنّ ما قام به المحقق العدلي هو “استضعاف واستهانة برئيس الحكومة حسّان دياب، وأنّه استهداف للموقع وهذا مرفوض ومدان”. وأعلن “باسم حزب الله رفض موقف المحقق العدلي تجاه الرئيس حسان دياب”.
خطاب استنسابية بيطار: أو “لماذا لا تدّعي على خصومنا؟”
كما سبق بيانُه، أثارتْ القوى السياسية في مواجهة قرارات الادّعاء على الوزراء الصّادرة عن صوّان وبيطار تهمة الاستنسابيّة وازدواجيّة المعايير. ومن أوّل المواقف الاعتراضيّة في هذا الصّدد، البيان الصّادر عن حزب الله في تاريخ 11/12/2020 الذي أدان إجراءات صوّان التي غابتْ عنها وفقَه المعايير الموحّدة وشكلت “استهدافاً سياسيا طال أشخاصاً وتجاهل آخرين دون ميزان حق وحمّل شبهة الجريمة لأناس واستبعد آخرين دون مقياس عدل”. بعد ذلك، باتتْ الاستنسابيّة الاتهام الأكثر رواجاً في الخطاب العام بحق بيطار، رغم أنّ استخدامها قضائياً بقي محدوداً وبخاصة في الاستدعاءات المقدمة من الوزراء المدّعى عليهم إلى المراجع القضائية لكفّ يد بيطار.
وقبل المضيّ في تفصيل الخطاب المستخدم بحق بيطار، تجدر الإشارة إلى أنّ تهمة الاستنسابية أخذت أشكالاً ثلاثة: الاستنساب في ملاحقة الأشخاص والاستنساب في ملاحقة الأفعال انتهاء بالاستنساب في تفسير القواعد القانونية المتشابهة.
1. الاستنسابيّة في اتّهام الأشخاص
أعاب أطرافٌ عدّة على القاضي بيطار الاستنساب في الادّعاء على أشخاص دون آخرين تحوم حولهم حسب هؤلاء شبهاتٌ لا تقلّ قوّة. وفي حين ثارتْ هذه المسألة في مواجهة ادّعاءات صوّان، فإنّ الفرزلي كان أول المتحدّثين عن استنسابية بيطار وبخاصّة في الفترة التي كان يقود فيها الجهود لإجهاض طلبات رفع الحصانة عن النّواب الثلاثة. فبعدما ذكّر في أعقاب جلسة الهيئة المشتركة لإبداء الرأي في هذه الطلبات (9/7/2021) أن لائحة الاتهامات التي أرسلها المحقّق العدلي الأول صوان أولا إلى المجلس النيابي شملت كل وزراء العدل والمالية وكل القيادات التي وجد بين يديهم التقرير الذي أعلمهم بوجود مادة الأمونيوم، تساءل: “لماذا هذه المرّة تمّ انتقاء أربعة دون آخرين وتمّ حذف أسماء معينة ولم يذهبوا صعوداً؟” وقد أخذ خطاب استنسابية بيطار سريعاً منحىً ذا أهداف سياسية، وفق ما نستشفّه من اختلاف الحجج المستخدمة والقوائم المنظمة للأشخاص المدعى عليهم بما ينسجم مع هذا الأهداف. وعليه، لا نبالغ إذا قلنا أن خطاب استنسابية بيطار تحوّل إلى أداة ناجعة للعديد من الشخصيات والقوى السياسية ليس فقط للطعن بالقاضي أو الدفاع عمن هم مقرّبون منهم بل أيضا لزجّ أسماء خصومها في عداد المسؤولين عن التفجير. كما استُخدم هذا الخطاب أحياناً لتخويف الجهات الداعمة لبيطار أو على الأقل لتوجيه رسائل إليها من خلال الإيحاء أن الاتهام قد يطالها هي الأخرى. وفي حين أنّه من غير الممكن الإحاطة بكل ما قيل في هذا المجال بالنظر إلى تحوّله إلى الموضوع الأكثر رواجاً، سنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة على هذه التوجهات بالدرجة التي تفيد موضوع بحثنا حول آليات إجهاض محاولة المحاسبة في النظام اللبناني.
ومن أكثر المواقف المعبرة في هذا الخصوص موقف النائب جبران باسيل الذي ركّز على مسؤولية قائد الجيش جوزف عون (الخصم وبخاصة منذ انتفاضة 17 تشرين) في سياق الدفاع عن المدير العام لأمن الدولة أنطوان صليبا والمدير العام للجمارك بدري ضاهر المقرّبين منه ولو على سبيل التلميح. وهذا ما نستشفه من مؤتمره الصحافي المؤرخ في 2/8/2021: “هناك موظفون غير مسؤولين عن الموضوع بشكل مباشر قاموا بواجباتهم، كتبوا، نبّهوا، حذّروا، وهم مسجونون منذ عام. ويوجد موظفون آخرون مسؤولون عن الموضوع، لم يقوموا بواجباتهم وحتى اليوم لم تجر مساءلتهم. أكثر من ذلك… يوجد مسؤولية على موظفين وعلى غير موظفين، هذا ليس بسرّ… وهؤلاء الأشخاص حتى اليوم لم يُسألوا، ولم يؤت بهم إلى التحقيق ولم تجر ملاحقة جدية لهم. لذا فإنّ موضوع المرفأ هو موضوع أمني بامتياز لا مجرّد موضوع إهمال وظيفي”. سليمان فرنجية نفسه ربط في مؤتمره الصحافي في 21/7/2021 اتهامه بيطار بالاستنسابيّة باستدعاء قائد الجيش السابق وليس الحالي، في حين أن “النيترات بقيت في الميناء لمدة عامين في عهد (قهوجي) في حين بقيت ثلاث سنوات في عهد (جوزف عون)، فلماذا يستدعى قهوجي ولا يستدعى عون؟”.
بالمقابل، فإن الجهات التي ركزت في خطابها على معاداة العهد صوّبت بشكل خاص على رئيس الجمهورية. فقد تساءل مثلاً أحمد الحريري على قناة “الجديد” في 22/7/2021 عن عدم ملاحقة هذا الأخير رغم اعترافه بعظمة لسانه أنّه كان على علم بتخزين المواد في المرفأ. وقد اشترك في هذا الخطاب أشخاصٌ يؤيّدون بشكلٍ عامّ بيطار، مثل سامي الجميل، حيث بدا أنّ إغراء ربط أسماء الخصوم السياسيين بتفجير المرفأ أمر يصعب مقاومته. وهذا ما نستشفّه من مقابلته على “إل بي سي” في 8/8/2021 حيث صرح أنّ “ما ينطبق على رئيس الحكومة ينطبق على رئيس الجمهورية في موضوع انفجار المرفأ ولا يجب أن يكون هناك أحد مستثنى”.
وإذ بدا حزب الله الأكثر حرصاً على تنظيم لائحة طويلة من الأشخاص الذين كان يجدر الادعاء أو على الأقلّ الاستماع إليهم بهدف تضخيم لائحة الاتهام ضد بيطار، فإن خطابه شهد تبايناً حسب الفترة والمناسبة. وعليه، ذهب نصرالله في خطابه في 11 تشرين الأول إلى حدّ سؤال بيطار عن سبب عدم استماعه إلى الرئيس الحالي ميشال عون أو الرئيس السابق ميشال سليمان (وهو بالمناسبة كان غادر منصبه قبل إفراغ السفينة)، بما أشّر إلى تبرّم حزب الله من اشتراك كتلة لبنان القوي في تعطيل إنشاء لجنة برلمانية للتحقيق مع الوزراء في قضية التفجير. في الإطار نفسِه، تناولتْ مُداخلاتٌ كثيرة من نواب حزب الله ووسائله الإعلامية مسألة الاشتباه ببيع كمية من النيترات الأمونيوم من أشخاص مقربين من القوات اللبنانية للتدليل على تورط هذه الأخيرة في ملف التفجير. مثال على ذلك بيان النائب حسن فضل الله في 26/9/2021 والذي تساءل فيه عن علاقة تلك النيترات (المضبوطة في البقاع) بنيترات المرفأ.
انطلاقاً من ذلك، وبمعزل عن صحة هذه الاتهامات (وهو أمر ليس من المفيد الولوج فيه قبل إنهاء القاضي تحقيقاته وتبيان أسباب ادّعائه)، يعكس هذا الخطاب الكثير عن كيفية مقاربة القوى السياسية الحاكمة للقضاء ودوره ولفكرة المحاسبة بشكل عام. ومن أهم الخلاصات التي أمكن استخراجها هنا، الآتية:
– بدا الانضمام إلى جوقة الطعن في “استنسابية بيطار” أمراً في منتهى السهولة واليسر، بالنظر إلى قبول هذا الخطاب في المحيط الواسع الذي يدور في مدار ثنائي حزب الله وأمل. فقد بات من الممكن إلقاء هذه التهمة عند استبعاد أيّ شخص تولّى مسؤولية معينة في هذه الحقبة، من دون أي حاجة للرجوع إلى الوثائق والإثباتات أو إلى الصلاحيات المنوطة بهذا الشخص، وكلها أمور حاسمة في قرار الادعاء أو عدم الادعاء. ولعلّ أكبر دليل على ضعف الاتهام بالاستنسابية هو أن موقّعي طلب الاتهام أنفسهم (وهم عموما نواب في كتل أمل وحزب الله والمستقبل) قد عادوا ليحصروا طلبهم بالوزراء أنفسهم المدعى عليهم من قبل بيطار من دون أي زيادة. كما أن أيّاً من النوّاب لم يتقدّم بطلب اتهام لرئيس الجمهورية رغم رواج الخطاب حول ضرورة ملاحقته، وهو أمر ليس بإمكان أحد أن يفعله إلّا النواب أنفسهم سنداً للمادة 60 من الدستور.
– عكس هذا الخطاب مرة أخرى فوقية القوى السياسية ومقاربتها لمبدأ المساواة أمام القانون. فالاستنسابية التي عمدت إلى إبرازها تتمثل في عدم اعتماد معايير موحدة في الادّعاء على الرؤساء والوزراء والنواب وقيادات الأجهزة الأمنية وكبار الموظفين. بالمقابل، فإنها أظهرت لامبالاة فاقعة بشأن سائر المدعى عليهم (وهم بالعشرات) وكأنهم غير معنيين بهذه المعايير. وبفعل هذا المنطق، أمكن هذه القوى المزاوجة بين التنديد بالكيل بمكيالين على خلفية التمييز بين الوزراء، والتمسك بالحصانة التي هي تمييز متمادٍ وكيل بمكيالين ضد سائر المواطنين.
– بدا هذا الخطاب بمثابة محاولة لتكبير الحجر ليطال أوسع شريحة من القوى السياسية، بهدف إحراج القوى غير المناوئة لبيطار أو زيادة القوى المناوئة له. فكأنما يطلب من بيطار أن يدّعي على كل الرؤساء والوزراء وقيادات الأجهزة الأمنية الذين تعاقبوا على المسؤولية أيا تكن الأدلة المتوفّرة بحقهم، وفوراً من دون السماح له بأيّ تدرج في الملاحقة، تحت طائلة اعتباره استنسابيّأ (وربما مسيّسا ومتورّطا في أجندات داخلية وخارجية). وقد لقي هذا الخطاب تعبيرا بليغا في شعار “العدالة كاملة أو لا عدالة”[7]، وهو شعار ينتهي عموماً بترجيح كفة اللاعدالة، في ظل عدم توفّر ضمانات قضائية كافية ولا إرادة سياسية غالبة للمحاسبة، بما يشكل استهدافاً للضحايا والمواطنين كافة. ومن هذه الناحية، برز هذا الخطاب بمثابة تكرار مبتذل لما يحصل كلما نشأت إرادة بالمحاسبة حتى ولو كانت ما تزال جنينية. من الأمثلة المعبرة عن ذلك هي الضوضاء التي شاركت فيها قيادة المجلس النيابي (وبخاصة بري والفرزلي) على خلفية وجوب اشتمال التدقيق الجنائي[8] ليس فقط حسابات مصرف لبنان بل كل القطاع العام من دون استثناء. لماذا؟ بالدرجة الأولى لكي لا يظهر التدقيق الجنائي على أنه أداة لأيّ استهداف سياسي لرياض سلامة. وبالنتيجة، تمّ إضعاف التدقيق الجنائي على مصرف لبنان وإفراغه من مضمونه من دون أن تضرب ضربة واحدة ولو خطابياً في مسار التدقيق الجنائي على الإدارات أو المؤسسات الأخرى. الخطاب نفسه برز حول ضبط الإنفاق[9] الحاصل خلال حكومة فؤاد السنيورة في فترة 2006-2010 (ملف الـ 11 مليار).
تكرّس هذا النهج الخطابي أيضاً خلال مؤتمر صحافي للنائب جورج عقيص في 26/8/2021 الذي قدم مرافعة[10] عن إبراهيم صقر المدعى عليه في احتكار المحروقات، تساءل فيها “هل تمّ توقيف أشخاص عندهم نفس الوضعيات مثل إبراهيم الصقر في سائر المناطق اللبنانية من محروقات وأدوية وغيرها”. وعاد وأعرب في مؤتمر آخر عن أن العدالة إذا ما كانت “انتقائية أو استنسابية” فهذا يكون “استهدافا سياسيا”. ومثله فعل أيضاً رئيس حزب القوات سمير جعجع في 19/3/2022 حين أصدر بياناً وصف الملاحقة القضائيّة لعدد من المصارف بـ “المهزلة”، وقال “ما يحدث الآن في ما يتعلق بموضوع المصارف يتطلب مقاربة شاملة وموضوعية وغير استنسابية لمحاسبة جميع المسؤولين الفعليين والحقيقيين كل بحسب مسؤوليته ودوره”.
وبالنتيجة، بدَتْ الغاية من هذا الخطاب في غالب الأحيان نزع المشروعية عن أعمال المحقق العدلي وتحديداً طلبات رفع الحصانة عن الأشخاص الذين ادّعى عليهم والتحريض ضده أكثر مما هي العمل على تصويب أدائه من خلال الضغط عليه لتوسيع دائرة اتهامه.
2. الاستنسابيّة في ملاحقة الأفعال
الشكل الآخر من اتهام بيطار بالاستنسابية اتصل بتركيز التحقيق والادعاء على فعل الإهمال بالأولوية على سائر الجرائم التي تشملها قضية تفجير المرفأ، وذلك بهدف الادّعاء على وزراء وقيادات أمنية وكبار الموظفين. وقد أخذ هذا الاتهام شكل خطاب حول المنهجية التي كان يقتضي أن يتبعها بيطار والأمور التي عليه التدقيق بها، كما اقترن في غالب الأحيان مع استصغار شأن الإهمال وتسفيهه. وقد عبّر عن ذلك بشكل خاصّ نصر الله في خطابه في 11 تشرين الأول 2021 حيث خاطب بيطار بقوله: “أنت تُكبّر ملف الإهمال الوظيفي رغم أنّي مع المحاسبة فيه، هناك كارثة كبيرة سيذهب إليها البلد إن أكمل القاضي بهذه الطريقة”.
وعدا عن صعوبة التحقق من سدادة هذه التهمة في ظلّ سريّة التحقيقات قبل إنهاء بيطار تحقيقاته، يبقى أن هذه الاتّهامات تعكس نظرة دونيّة للمسؤولية العامة والمصلحة العامة ككلّ. فبمعزل عن هوية صاحب حمولة النيترات أو وجهة استعمالها أو احتمال افتعال التفجير، ما كان لهذا التفجير أن يحصل لولا المحاصصة في الإدارة والقضاء وتحوّلها إلى إقطاعات وعملياً لولا تردّي الخدمة العامة وتحوّل فهم الوظيفة العامة من خدمة المصلحة العامة إلى خدمة المصالح الفئوية لهذا الفريق أو ذاك. فلو كان ثمّة أمر يمسّ بمصلحة أيّ من القوى السياسية في المرفأ لتعطل المرفأ برمته. أما أن تكون أحياء العاصمة وناسها تحت خطر التفجير، فهو أمر لم يستولد أي رغبة بالتحرّك. وهذا ما أسميناه تسفيه المخاطر العامة ومعها المصالح العامة. ومن هذا المنطلق، جازتْ مقارنة أسباب تفجير أحياء واسعة من العاصمة وناسها بأسباب الانهيار المالي والاقتصادي، والذي حصل بمرأى ومعرفة من الجميع من دون أن يقوم أيّ كان بأيّ مبادرة لمنع حصوله أو الحدّ من آثاره السلبية. وعليه، يظهر فعل الإهمال الذي جرى الاستخفاف فيه الفعل الأكثر خطورة في الظرف اللبناني والفعل الذي يستوجب عقاباً رادعاً، يكون بمثابة انعطافة باتت أكثر ضرورية من حكم المصالح الفئوية إلى حكم المصلحة العامة.
3. الاستنسابية في تفسير القواعد القانونية المشابهة
هذا الوجه من الاستنسابية اتّصل بشكل خاصّ بتسليم بيطار بأنّ ثمة مسارا خاصا للادّعاء على القضاة وهو المسار الذي نظمه قانون أصول المحاكمات الجزائية (المواد 344 الى 354) في موازاة رفضه الاعتراف بالإجراءات الخاصة بمحاكمة الرؤساء والوزراء المنصوص عليها في الدستور. فكأنه يستنسب في ذلك التستّر على القضاة مقابل التشهير بالوزراء. وهذا مثلا ما عبر عنه بلهجة لا تخلو من الغضب علي حسن خليل، يوم 12/8/2021 تبعاً لسقوط نصاب جلسة النظر في طلب الاتهام، حيث تساءل: “كيف اعتمد القاضي البيطار مساراً خاصاً للقضاة ضمنه القانون ولا يسمح بتخصيص مسار ضمنه الدستور في ما يتعلق بمحاكمة الرؤساء والوزراء، كيف يشمل الاتّهام بقضية انفجار المرفأ وزراء معينين ولا يتهم غيرهم؟” كما اعتبر الأمين العام لحزب الله أنّ قضاة الأمور المستعجلة يتحمّلون المسؤولية الكبيرة، إنما لا يتمّ التشهير بهم. وقد ذهب إلى حدّ الاعتراض على أن أسماءهم ما تزال غير معروفة. وقد جاء حرفيا في خطابه في 11 تشرين الأول: “مسؤولية القضاة أكبر من الرؤساء ومسؤولية القضاة أكبر من مسؤولية الوزراء ومسؤولية القضاة أكبر من مسؤولية النواب لأنهم هم من أعطوا الموافقات”، وأضاف “القضاء يريد أن يحمي حاله لكن رئيس وزراء محترم مثل الأستاذ حسان دياب تريد أن تجلبه إلى الحبس هل هذه دولة قانون؟ هل هذه دولة قضاء؟”
فضلاً عن كل ما ذكرناه في القسم الأول في هذا الخصوص وبيّنا فيه عيوب هذا الخطاب، نسجل ثلاث ملاحظات إضافية:
أولاً، إن القوى المناوئة للتحقيق عمدتْ إلى الاستنْساب في معرض اتهام بيطار بالاستنْساب. فهي من جهة حمّلته مسؤوليّته عدم الادّعاء على القضاة في حين أنه فعل ما عليه أن يفعل من خلال إحالة ثلاثة قضاة إلى النيابة العامة التمييزية لإجراء التحقيقات معهم، بخلاف النيابة العامة التمييزية التي لم تتخذ قرارها بالادّعاء أو عدم الادّعاء بحقّ إثنين من القضاة. كما أنّ استنسابية الخطاب تظهر في المبالغة في مسؤولية القضاء المستعجل إلى درجة تحميله المسؤولية الكبرى عن قبول طلب وزارة الأشغال العامة التي يغفل هذا الخطاب مسؤوليتها بالكامل، فضلاً عن أنه يغفل تماما مسؤولية النائب العام التمييزي بعدما أعرضت الحكومة (ومنها وزراء حزب الله) عن أيّ مبادرة لتعيين بديل عنه في هذه القضية إيذاناً ببدء ملاحقته.
ثانياً، إن التذرّع بالاستنسابيّة إنما هدف هنا أيضا إلى إفلات الوزراء المدّعى عليهم من قبضة المحقّق العدلي من خلال التأكيد على صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وليس الضغط على هذا الأخير لوضع يده على التحقيق مع القضاة. ولو كان الأمر خلاف ذلك، لأمكن خليل أو أيّاً من زملائه النواب التقدم باقتراح قانون معجّل مكرّر لتعديل المواد الخاصة بمحاكمة القضاة. إلا أن أيا منهم لم يفعل ذلك.
ثالثاً، إن بيطار عمد إلى احترام مجمل الإجراءات الخاصة سواء اتّصلت بالمحامين أو النواب (ومنهم خليل) أو القضاة. وإذ أمكنه تجاوز إجراءات الادّعاء على الوزراء المنصوص عليها في المادة 70 من الدستور، فذلك لكون هذه المادة تحدّد أفعال الوزراء التي تخضع لها تاركة الأفعال الأخرى ضمن صلاحية القضاء العادي من دون أي إجراءات خاصة. وتاليا، ادّعى بيطار على هؤلاء من دون استئذان أحد بعدما قرر بما له من أمرة على ملفه القضائي أن الأفعال المنسوبة لهؤلاء الوزراء لا تدخل ضمن ما حددته المادة المذكورة.
أما الأصول الخاصة لمحاكمة القضاة، فهي ملزمة مهما كانت الجرائم المرتكبة من قبلهم، حتى في الجرائم الخارجة عن الوظيفة.
الشعبوية: هذا التعاطف المكروه مع قضايا الناس
تهمة ثالثة تردّدت وتتردّد بشكل واسع للطعن في القرارات التي اتّخذها بيطار كما سلفُه: الشعبوية. وهذه التهمة تحمل في الواقع معانٍ عدّة: فالقصد الأكثر رواجاً منها هو الادّعاء بأنّ القاضي يتّخذ قراراته إرضاء لمطالب الرأي العام التي غالبا ما تكون مطالب الضحايا في الجرائم الكبرى. وهو يكون مستعدّا من أجل ذلك لتفسير القوانين على النحو الذي يجعلها الأكثر انسجاماً مع هذه المطالب، حتى ولو كان هذا التّفسير واهيا بل ربّما للقفز فوقها في حال كانت عصيّة على التفسير على هذا النحو. ومن هذا المُنطلق، يعكُس اتِّهام قاضٍ بالشعبويّة تشكيكاً بحياديته ورصانته وفي أحيان كثيرة اتهاما له باسترضاء الناس ورشوتهم توخّياً لمناصب سياسيّة.
وفي حين أنّ الشعبويّة ليستْ طبعاً من المواصفات الحميدة للقضاة، إلا أنّه من المهمّ وضع الاتّهام بها ضمن سياقِه القضائي الاجتماعيّ والسياسيّ بهدف تفكيك مضامينه وكنه معانيه المحتملة. ففي حين كان الاتجاه الغالب للقضاة ممارسة نوع من الضبط الذاتي SELF RESTRAINT لتفادي لأيّ اصطدام مع ما تعدّه القوى السياسية خطوطاً حمراء، فإنّ عدداً متزايداً منهم عمدوا خلال العقدين الأخيرين إلى الانعتاق عن هذا الضبط الذاتي في اتجاه التفاعل بصورة إيجابية مع المطالب والاحتجاجات الاجتماعية. وقد برز ذلك في عدد من القضايا ذات الحساسية الاجتماعية أو السياسية مثل قضايا حق النساء بنقل الجنسية[11] وحق اللجوء[12] وحق المعرفة لذوي المفقودين[13] والمثليين[14] وحريات التعبير[15] والتظاهر[16] والتنظيم النقابي[17] ليتوسّع من ثم ليشمل قضايا الفساد[18] والمصارف إلخ. ولم يقتصرْ هذا التحرّر أو الانعتاق الذاتيّ على الأحكام، ولكن امتدّ ليشمل مداخلات القضاة في الخطاب العامّ وبخاصة بعد إنشاء نادي قضاة لبنان[19] الذي اعتمَد خطاباً استقلالياً واجتماعياً بامتياز. وقد سُجّل ابتداء من 2019 بشكل متزايد كلمة “شعب” ليس فقط كمصدر للسلطات بدليل أن الأحكام كلها تصدر باسمه، ولكن أيضاً كملجأ يحتكم[20] إليه القضاة لمؤازرتهم في معركتيْ استقلالية القضاء ومكافحة الفساد، بعدما خرج العديد منهم عن صمتهم وعزلتهم. وقد تكلل هذا التوجه في بيان النادي في 19 تشرين الأول 2019 (أي في غضون أقل من 48 ساعة من بدء انتفاضة 17 تشرين) حيث جاء حرفياً أنّ قضاة النادي سيكونون دائماً مع الشعب مصدر السلطات في مواقفه وتطلعاته وآماله. الاتجاه نفسه نستشفه في الحكم[21] الصادر عن القاضية المنفردة الجزائية ناديا جدايل في 30 تشرين الثاني 2020 في قضية ناشطي حراك 2015. وقد ورد حرفياً في حكمها العبارة الآتية: “أن القاضي يصدر أحكامه ‘باسم الشعب اللبناني’، فالقاضي ليس ملكاً متربعاً على عرشه، بعيداً عن رعيته، يقطن برجاً مشيّداً، إنما هو الناطق بلسان كل فرد من المجتمع (يعيش الألم نفسه، يتنشّق رائحة النفايات نفسها، يتحمّل الأعباء والأزمات الاقتصادية نفسها) ليصدر قرارات مستمدة من سيادة الشعب، كي يكون الشعب حكماً، هذا الشعب الذي يعيش أزمات.. حرمت المواطنين من أدنى مقوّمات الحياة وبخاصة في مجالَيْ الصّحة والبيئة”. وبذلك، بدتْ الإحالة إلى الشعب ومصالح الشعب ومرجعيته عنواناً لتحرّر القضاة من التبعية السياسية والتي غالباً ما تصوّر القضاء كذراع للنظام السياسي. ولم ينسَ عدد كبير من القضاة عن التعبير في ترويسة أحكامهم عن فهمهم الجديد للوظيفة القضائية والذي يقوم أولاً على حماية الحقوق والحريات وهو الفهم الذي يقطع مع الفهم الكلاسيكي الذي يصوّر القاضي على أنه فم القانون والذي عليه أن يطبّقه. وفق هذا الفهم الجديد للوظيفة القضائية، يكون القاضي مدعوا لتفسير القوانين ليس بالضرورة وفق نوايا السلطة السياسية بل قبل كل شيء على النحو الذي يجعلها الأكثر انسجاماً مع منظومة الحقوق والحريّات والتي أصبح لها قوّة دستوريّة بحكم مقدّمة الدستور، بما يجعلها عملياً أكثر توافقاً مع الصالح العام.
وفي كل هذه المناسبات، باتت “الشعبوية” إلى جانب خرق موجب التحفّظ تهمة شبه جاهزة لثنيِ القضاة عن المضيّ في هذا المسار وعملياً عن الانعتاق من التبعية أو عن الضبط الذاتي أو التعبير عن الاستقلالية. وغالباً ما توجّهتْ القوى المتضررة من هذا الفهم الجديد للوظيفة القضائية إلى الهرمية القضائية (مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي) للتدخل بطريقة أو بأخرى لضبط هؤلاء القضاة الذين يشذّون عن النّمط السائد بهدف إرغامِهم على العودة إلى بيت الطاعة تحت طائلة إقصائهم عن وظائفهم. وقد زاد هذا التوجّه بعد الانهيار مع تزايد النقمة الشعبية حيال السلطة السياسية والمحفّزات لدى القضاة للقطع معها. وبشكل خاصّ، استخدِمتْ هذه التهمة لتجريد القرارات القضائية الخارقة للنمط من مشروعيتها بما يسهّل كبح حماسة القضاة في التعاطف مع مصالح المجتمع الحيوية ويحول دون انقلاب تصوّر الوظيفة القضائية من تصوّر محافظ منسجم مع النّظام السائد إلى تصوّر حامٍ لحقوق المواطنين وحريّاتهم. وهي تهمة غالبا ما تهدف إلى وضع خطوط حمراء أمام القاضي قبلما يتسنّى له تغيير قواعد اللعبة المتفق عليها سياسياً من خلال فرض محاسبة المسؤولين العامّين وتالياً إخضاعِهم لخطوط حمراء. ولا نبالغ إذا قُلنا أنّ المقاربة الحقوقيّة تقبل من هذه الزاوية في العديد من جوانبها تُهمة الشعبويّة، حيث أنّ منتهى هذه المقاربة هو تكريس المساواة في الحقوق والواجبات وبخاصة أمام القضاء ضماناً للإنصاف والعدالة وتالياً تغيير قواعد اللعبة التي يقوم عليها النظام السياسيّ، وقوامها التوافقيّة (التراضي) والمحاصصة والفيتوات المتبادلة… ومؤدّاها الإفلات التامّ من العقاب.
وللدلالة على ذلك، من المهم التذكير في هذا الإطار أنّ تهمة الشعبوية لم تُستخدم فقط ضدّ القضاة إنما أيضا ضدّ الوزراء والنواب الذين قد تجذبهم شعارات ثورة تشرين ومطالبها. وهذا ما نستشفه من مناقشات المجلس النيابي والتي وثّقها المرصد البرلماني للمفكرة القانونية. فتحت عنوان: “جلسة تشريعية لاستعادة هيبة المجلس في مواجهة الثورة“[22]، نسب المرصد إلى النائب الفرزلي قوله: إنّ “القوانين المستمدّة من خطاب الشعب هي “استرضاء على حساب كرامة المجلس”، وذلك تعليقا على اقتراح قانون بمنع تعليق صور السياسيين في الفضاء العام. وقد اندفع الفرزلي يعد ذلك إلى انتقاد صمت النواب حيال هذا النوع من الاقتراحات “المستمدة من خطاب الشعب” (نفهم الشعبوية)، مناشدا زملاءه وفق المفكرة بنبرة حادّة: “اصرخوا ودافعوا عن وجهة نظركم”، قبلما يذكرهم أنّه “يؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الثور الأسود” وكأنه بذلك يعتبر أن من شأن أيّ تساهل حيال هذا النوع من الاقتراحات أن يهدم الهيكل السياسي برمته. والأهم أن الفرزلي توجه حسب المرصد في اليوم نفسه إلى الحكومة والوزراء الذين يكتبون في تغريداتهم أنّهم “هنا” بسبب الثورة أو الشعب، مؤكّداً أنّ ثقتهم ليس من الثورة، إنّما من النوّاب. وهدّدهم في حال تكرار هذا الأمر: “والله، لأطرح الثقة بكم”. وبنتيجة هذه المداخلة، عاد النواب وصوتوا مجددا وفق المرصد بردّ اقتراح القانون بعدما كانوا صوتوا من قبل لصالحه.
وقد تبدّى استخدام هذه التهمة بوضوح كلّي وفق ما تقدّم ضمن المساعي الهادفة إلى كفّ يد القاضي فادي صوّان عن تحقيقات المرفأ. فبعدما أوضح الوزيران خليل وزعيتر أنّ القاضي انقلب على نفسه “بين ليلة وضحاها … من قاضٍ يعتذر منّا عند استقباله لنا في مكتبه لخمس دقائق كشهود مدلياً حينها أمامنا بالفم الملآن إنت ما خصّك ما عندك علم … إلى سبْع (أي أسد) يدّعي علينا ضارباً بالقواعد الدستورية الواجبة المراعاة عرض الحائط” (العبارات بين مزدوجيْن وردت حرفياً في نصّ الدعوى). وكان من الملفت أنّ دعوى الارتياب عزت أسباب هذا الانقلاب إلى توخّي صوان “استجداء الإطراء من حالة شعبوية ضغطت عليه مؤخراً وتظاهرت مراراً تحت منزله استنكاراً لبطء إجراءاته ومطالبة بتوقيف رؤوس كبيرة ما كان له أكبر الأثر في نفسه”.
وهذا ما عبّرت عنه المفكرة القانونية بوضوح كلّي في سياق انتقادها للقرار الصادر عن محكمة التمييز بكفّ يده، وهو الانتقاد[23] الذي ورد تحت عنوان: ” لهذا أبعدتْ محكمة التمييز القاضي الذي تعاطف فتجرّأ”. وقد جاء حرفيا في التعليق: “بعد زهاء شهرين من بدء المواجهة، أصدرتْ محكمة التمييز في 18 شباط 2021 قراراً برفع يد صوّان عن القضية. وقد استندتْ للوصول إلى هذه النتيجة إلى حجّتين: الأولى أنّ صوّان تعمّد تجاوز حصانتيْ زعيتر وخليل النيابية والمهنية تحت تأثير هول الكارثة وما أثارته لديه من اعتبارات إنسانية؛ والثانية، أنّ من شأن تضرّر منزل صوّان بفعل التفجير أن يؤثّر حكماً على نفسيّته بالنظر إلى “الطبيعة الإنسانية” وضمناً على قدرته في إجراء التحقيقات بصورة موضوعية. وبخلاف الظاهر، تبدو هاتان الحجّتان مترابطتين، حيث أنّ كلاهما تستندان إلى مدى تأثّر صوّان من الناحية الإنسانية بالكارثة التي أعقبت التفجير ولم توفّر بيته وهو تأثُّر ولّد لدى المحكمة “شكوكاً مشروعة” بشأن مدى تجرّده في هذه القضية. فما يُفهم من القرار هو أنّ القاضي ما كان لينقلب على سيرته المتحفّظة ويدّعي على أصحاب الحصانات لولا خروجه عن تجرّده بفعل تعاطفه مع معاناة مجتمعه والناس بنتيجة التفجير، وهو تعاطف ما كان ربما ليحصل لولا تضرّره شخصياً هو الآخر فيه. وعليه، بدتْ المحكمة وكأنها استجابت لمطالب الوزيرين والخطاب السياسي المرافق لها، ليس فقط من خلال تكريس “الحصانات” كخطّ أحمر يرسم الحدود بين القاضي والسياسي وصولاً إلى رفع يد الأول عن الثاني، إنّما أيضاً من خلال تكريس خطّ أحمر ثانٍ لا يقلّ أهمية، وهو الخطّ الذي يرسم الحدود بين القاضي والمجتمع أو الناس”.
وإذ تنبّه بيطار إلى ذلك تجنُّباً لمصير سلفه من خلال احترام الإجراءات الشكلية لملاحقة النواب والمحامين، فإن التّهم التي وجّهت إليه بشكل تصاعدي بالشعبويّة حملتْ معانٍ إضافية أكثر خطورة، بحيث وجّهت إليه أكثر مما وجّهت إلى قراراته، ووصلت إلى حدّ اتهامه بالديماغوجيا والسّعي لتلميع صورته وصولا إلى اكتساب مكانة سياسية. فكأنه يهدف من خلال عمله ليس إلى تحقيق الحقيقة والعدالة بل إلى اكتساب حيثية سياسية قد يستثمرها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. وقد سجّلت أول الاتهامات له ولو من باب التّلميح بالشعبوية في أعقاب التنديد الواسع للائحة اتهام النواب والتي وصفت بلائحة العار. فتبعاً لهذا السخط الشعبي حيال هذه اللائحة، استشعرت العديد من القوى السياسية في إطار الدفاع عن نفسها حاجة لتظهير العريضة وكأنها المدخل الصحيح للمحاسبة والحقيقة في حين أن قرارات بيطار لا تعدو كونها شعبوية أو “هوبرة” (وردت في تصريحات العديد من النواب كمرادف للشعبوية). أول المواقف في هذا الخصوص صدر عن مديرية الإعلام في مجلس النواب[24] في 22/7/2021 والتي اعتبرتْ في بيانها أنّ مهمة المجلس النيابي الأولى هي السير بالتحقيق من البداية الى النهاية “بعيداً عن أي إستثمار سياسي أو شعبوي يطيح بالنتيجة التي تؤدي الى العدالة”. وقد أعقبها مواقف نواب عدة، نذكر منها تصريح النائب علي بزي[25] في 31/7/2021 والذي اعتبر “أن الفرق واضح بين الهوبرة والقانون، بين تجّار الدم وأولياء الدمّ، بين من يريد الحقيقة والعدالة ومن يريد تضييع دماء الشهداء والاستثمار على معاناة أهلهم”. ومنهم أيضاً تصريح محمد الحجار[26] لـ”الجديد”: “توجد مادة دستورية واضحة تقول أن الوزراء ورئيس الوزراء تجري محاكمتهم أمام المجلس الأعلى… هذا للأسف ما لا يريد البعض أن يراه لأسباب سياسية ولأسباب شعبوية ولأهداف “هوبرة” بأن “خلينا يا عمي نرفع الحصانات”.
لاحقاً، وتبعا لتصفيق عشرات الآلاف لبيطار في مسيرة 4 آب 2021، تزايدت المداخلات التي عمدتْ إلى وصم بيطار بـ “قائد الثورة” وهو وصم غالبا ما استخدم ضد بعض المشاركين في الثورة من باب الاستهزاء بهم وبخاصة اتهامهم بالسعي إلى أهداف تتجاوز قدراتهم والأهمّ من دون أن يكون لهم أي مشروعية. وهذا ما صرّح به علي حسن خليل صراحة في 12 تشرين الأول على قناة الميادين[27]. فبعدما ذكّر بالتصريح المنسوب إلى بيطار بشأن ضرورة حصول التغيير، رأى أنه “أصبح جزءاً من حركة احتجاج سياسي على الطبقة السياسية” وأنه “تأثّر بالشعبويّة والرأي العام”. وهذا أيضاً ما استعاده وئام وهاب في هجومه المتأخر على بيطار بعباراته الخاصة على قناة الجديد يوم الجمعة في 17 كانون الأول حيث رأى أنه بات يعدّ نفسه قائد الثورة وأنه سيكون له مكانة كبيرة في المجتمع. وقد انتهى في اتهامه في تغريدة له في اليوم نفسه “بالتشبيح في تطبيق القانون من خلال منح نفسه صلاحية محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب على هواه، وهو تشبيح كان ليدخله السجن في بلد طبيعي”.
ولعلّ الاتهام الأكثر تعبيرا جاء في دعوى الرد التي قدمها خليل وزعيتر إلى جانب محكمة التمييز بتاريخ 11/10/2021 وأحيلت إلى الغرفة الأولى برئاسة ناجي عيد. فقد اعتبر النائبان في هذا الطلب أنّ بيطار “كثير التأثر بالرأي العام وبتحرّكات أهالي الضحايا والمتضررين والانصياع لهم” وقد أضافا حرفياً التالي: “كان على المحقق العدلي أن يُقيم عازلاً سميكاً بينه وبين الرأي العام الهائج، وهو على حقّ في هياجه، كيْ لا يسمع صراخه وأنينه ويتأثر به على حساب الحقيقة والقانون والعدالة”.
ختاماً، يجدر التّذكير أيضا بأن القوى المناوئة للتحقيق لم تنسَ في معرض اتّهاماتها هذه مطالبة الهرمية القضائية وبشكل خاصّ رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود بالتدخل لوضع حدّ لبيطار، وعمليا لإعادته إلى بيت الطاعة. وهذا ما سنعود إليه تفصيليا في القسم الأخير من هذا المقال.
العصبية والتطْييف الشاملة
فضلا عن ذلك، اتّجهت القوى المناوئة للتحقيق في اتجاه تظهير الطائفية في أداء بيطار. وقد هدفتْ فبركة التّطييف إلى توسيع دائرة استعداء بيطار لتشمل ليس فقط المناصرين سياسيا إنما العصبيات الطائفية، وهي تؤدي في حال نجاحها إلى تحقيق انقسام طائفي عمودي، بما يحول القضية إلى قضية طائفية ويجردها من أبعادها الحقوقية بشكل تامّ. وتزيد أهمية الاتهام بالطائفية عموماً بقدر ما تضعف ملكة الإقناع السياسي. حتى إذا تم ذلك، أصبح الاستمرار في هذه القضية بمثابة فتنة طائفية دائمة تبلغ مخاطرها أضعاف المنافع المتوخّاة منها. وقد بلغ هذا المسعى أوجّه مع أحداث الطيونة في 14 تشرين الأوّل 2021 حيث تحوّل الانقسام الحادّ حول تحقيق المرفأ إلى ساحة اقتتال تم تظهيره على أنه طائفي. وهنا أيضا حصلت هذه الاتهامات بشكل شبه ممنهج وشامل. فإلى جانب تطييف المدعى عليهم من خلال النظر إلى طائفتهم أكثر من النظر إلى أفعالهم، انصرف جهد كبير في اتجاه تطييف الضحايا وتظهير الانقسام الطائفي في القضاء. وما عزّز من التطييف هو انخراط الهيئات الدينية على اختلافها في هذا الخطاب بما يعكس تحوّل الاعتراض على أداء بيطار من اعتراض سياسي إلى اعتراض ديني (طائفي). ويشكّل التّطييف هو الآخر استعادة لمُمارسات غالباً ما انتهجتها القوى السياسية المُهمينة في اتجاه منع المساءلة. ومن أبرز الأمثلة عليها، ردود الأفعال للقوى المؤيدة لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري والتي ذهبت إلى حدّ الحديث عن الإحباط السني رداً على ملاحقة بعض الوزراء والموظفين التابعين لهذا الفريق ومنهم فؤاد السنيورة في سنتيْ 1999 و2000.
1. تطْييف المدّعى عليهم
تمّت المساعي إلى تطْييف المدعى عليهم إما بمبادرة منهم أو بمبادرة من القوى الرافضة لمساءلتِهم، وقد اتصلت اتصالا وثيقا بأسس النظام الطائفي وبخاصة بالهواجس المتمثّلة في غلبة طائفة على أخرى بما يهدد النّظام التوافقي أو فقدان إحداها أيّا من ميزاتها في النظام الطائفي. كما تميّزت بحضور لافت للهيئات الدينية وتصريحات منتظمة منهم بما لا يترك مجالا للشك حول إرادة تطييف ملاحقة المدعى عليهم.
الحالة الأمثل لهذا التطْييف تمثّلت في رئيس الحكومة السابق دياب ونتجت عن تعاضد الهيئات الممثلة للطائفة السنية (نادي رؤساء الحكومات السابقين وهيئة العلماء المسلمين ودار الإفتاء) في تحويل الادّعاء عليه إلى ادّعاء على أحد أبرز مقامات الطائفة كما سبق بيانه. وقد بدا التّطييف هنا فاقعاً طالما أن هذه الهيئات وبخاصة نادي رؤساء الحكومات كانت نبذتْ في السابق التعامل مع دياب في إيحاء منها أنه لا يمثل الطائفة أو عصبها. وقد جهد المشنوق للاستفادة من هذه الأجواء من خلال ربط شخصه بدار الإفتاء كلما أخذ بيطار إجراء بحقه. وعند تعليقه على قرار بيطار بإبلاغ دياب لصقا على آخر عنوان معروف له، صرح المشنوق في 22/9/2021 من داخل دار الإفتاء أن “عنوان دياب هو دار الإفتاء بيروت، خلّيهم يجوا يشوفوا إذا فيهم يلزقوا لصقا على الباب تبليغ حدن أو إحضار حدن”.
أما المساعي لتطييف الادّعاء على الوزيرين خليل وزعيتر (وربما عبّاس ابراهيم) فقد تمثّلت في تظهيره على أنه يهدف إلى قلب الموازين الداخلية (وتاليا الطائفية) ضد ثنائي أمل وحزب الله. وقد برزتْ لاحقا عبارة “الفتنة” وهو التعبير الأكثر دلالة على الانقسام وربما الاقتتال الطائفي في معرض التحشيد الواسع لتظاهرة 14 تشرين الأول مع التركيز على أن بيطار هو المدخل للفتنة[28]، كما غداة حصولها حيث تمّ تحميله مسؤولية الدمّ[29]. هذا ما نقرأه بشكل خاص في تصريح خليل في 12 تشرين الأول على قناة الميادين: “هناك مشروع فتنة كبير يمثله أداء هذا القاضي، ونحن نريد تجنيب البلد الوصول إلى هذا المأزق… ولا يمكن استبعاد أن ما يحصل هو جزء من ماكينة عمل إقليمية وداخلية تتصل بتغيير الوقائع السياسية والتوازنات داخل البلد”. وقد التقى هذا التصريح مع عدد من التصريحات الصادرة في اليوم نفسه عن مجموعة من الشخصيات والهيئات التي تدور في الفلك السياسي نفسه. ومنها بيان[30] المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان[31] (والذي لمع نجمه بفعل تصريحاته حول هذه القضية) الذي اعتبر أن المحقق العدلي “يكاد يحول الحكومة إلى متاريس ويدفع بالبلد والشارع نحو كارثة” محذراً من اللعب بالنار. أما غداة الحادثة، عاد المفتي قبلان[32] ليحمّل في خطبة الجمعة في 15 تشرين الأوّل القاضي طارق بيطار المسؤولية “عن مذبحة كمين الطيونة، وعن كل فلتان أمني وخراب يصيب هذا البلد” بعدما كان اعتبر[33] في يوم الحادثة أنّ “كل دم وفتنة وتهديد للسلم الأهلي وفلتان أمني وقع اليوم على المحتجّين العزّل أو سيقع هو بعنق السفارة الأمريكية والقاضي طارق البيطار الذي يجب عزله وتوقيفه ومساءلته بشدة”. وقد أصدر كل من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وتجمّع علماء جبل عامل[34] وتجمّع العلماء المسلمين[35] بيانات أجمعوا فيها كلاً من جهته على أن بيطار جزءٌ من الفتنة.
وقد لخص وئام وهاب بطريقته الخاصة هذه المساعي في حديثه يوم 17 كانون الأول على قناة الجديد وذلك حين اعتبر أن الادعاءات تطال الطائفتين السنية والشيعية، متسائلاً عما يبقى من العيش المشترك في حال استمرار ذلك. ثم قال، “لا يمكن لقاضٍ مع احترامي لطولو وعرضو عامل حالو قائد ثورة أن يعتدي على صلاحيات مجلس النواب”. وقد انتهى وهاب إلى القول إنّ هذا الاعتداء يرشح عن اعتداء على الطائفة الشيعية و”هاي اللعبة ممكن تنقلب على كل الطوائف”.
بالمقابل، فإنّ حاجات التّطْييف فرضت على هذه القوى تهميش الادعاءات الأخرى الحاصلة ضد فنيانوس أو صليبا أو غيرهم من كبار الموظفين مثل بدري ضاهر وسواه.
2. تطْييف الضحايا
في موازاة المساعي لتطْييف المدّعى عليهم، بذلتْ القوى المناوئة للتحقيق جهدا واضحا في اتجاه تطْييف الضحايا الذين نجحوا حتى بداية تشرين الأول في تظهير موقف موحّد في دعم بيطار. وقد هدف هذا الجهد ليس فقط إلى إضفاء مصداقية على سردية واتهامات التطْييف، بل الأهم إلى تجريد بيطار من ثقة مجموع ذوي الضحايا (أولياء الدم) به ودعمهم له، وهي ثقة تحرج كلّ من كان يحتاج إلى إقناع الرأي العام بارتيابِه المشروع ببيطار. أول بوادر التبرّم من وحدة الضحايا حول بيطار تمثلت في ادّعاء كبار المدّعى عليهم أو القوى الداعمة لهم وحدة الحال مع هؤلاء والنطق بأسمائهم والأهمّ أنهم أكثر حرصا على العدالة والحقيقة في قضية المرفأ من أولِوياء الدمّ المغرر بهم ويجدر حمايتهم من أنفسهم. وهذا ما نستشفّه من التسمية التي أطلقتها بداية خلية المحامين المنشأة للدفاع عن عباس إبراهيم على نفسها وهي: “خلية متابعة ملف أهالي شهداء المرفأ” وسط اعتراض ذوي الضحايا في بيان صدر عنهم في تاريخ 11/7/2021. وكانت هذه الخلية بررت تسميتها بأن “أكبر جريمة بحق الشهداء وعوائلهم هي رمي الاتهامات جزافا.. ونحن بصدد تشكيل خلية قانونية لمراقبة التحقيقات حرصاً على حقوق أهالي الشهداء ومنعاً لجعل ملف التحقيق”. وفي الاتجاه نفسه ذهب تصريح علي حسن خليل[36]، في 12/8/2021، بعد سقوط نصاب الجلسة، حيث صرح بنبرة لا تخلو من الغضب: “نحن أولياء دم في هذا الملف”.
وقد بلغت هذه المساعي أقصاها في خطابات أمين عام حزب الله حيث توجّه في خطابات عدة إلى عوائل الشهداء منبّهاً “إذا كنتم متوقعين أن تصلوا مع هذا القاضي إلى الحقيقة فلن تصلوا إلى العدالة. هذا القاضي عم يشتغل سياسة وعم يوظف دماء الشهداء والجرحى في خدمة أهداف سياسية”. وقد هدفت هذه الخطابات بشكل خاص إلى زعزعة ثقة كل من يناصره أو يصدقه (ومنهم الضحايا) ببيطار وإلى دفع هؤلاء إلى الانشقاق عن وحدة صف الضحايا (مثال: خطاب 11 تشرين الأول). وإذ وضع هذا الأمر العديد من عائلات الضحايا أمام ضغوط اجتماعية واسعة للتراجع عن دعمهم لبيطار بعدما أصبح هذا الدّعم تحديا مباشرا لنصرالله، فقد ظهرت تجلّياته في إعلان إنشاء تجمّع جديد لذوي الضحايا بدا سريعا أنه أخذ لوناً شيعياً وذلك مباشرة بعد مقتلة الطيونة (فيديو نشره إبراهيم حطيط الناطق السابق باسم جمعية ذوي الضحايا في تاريخ 16/10/2021).
وقد تجلّى هذا الانقسام في تحوّل الوقفة الشهرية للضحايا وذويهم في الرابع من كلّ شهر إلى وقفتين[37]: وقفة أمام تمثال المغترب وهي وقفة تطالب برفع العوائق أمام التحقيق تمكيناً للمحقق العدلي من إكمال مهمّته وتالياً بمحاسبة النواب والوزراء المعنيّين والموظفين العامّين ومحاكمتهم، ووقفة ثانية عند البوابة رقم (3) للمرفأ يشارك فيها الضحايا وذووهم المشككون في أداء المحقق العدلي والمطالبون بتنحيته. وقد حملت المجموعة الأخيرة اسم “اللجنة التأسيسية لعوائل تفجير مرفأ بيروت وتجمّع أهالي شهداء وجرحى ومتضرّري انفجار مرفأ بيروت”. وبذلك، بعدما كان هؤلاء يتباهون[38] بكونهم مجموعة عابرة للطوائف لا حدود لها إلا حدود الوطن، إذ بهذا التجمّع الجديد يعيد رسم الانقسامات انسجاماً مع خطاب نصرالله، حتى أنّ أحدهم (يوسف المولي وهو والد إحدى الضحايا) ذهب إلى حذو حذو الوزراء المدعى عليهم حين قدّم إلى محكمة التمييز دعوى نقل بيطار على خلفية الارتياب المشروع به وذلك في 10/12/2021.
3. تطْييف القضاء
وفي موازاة مساعي تطْييف المدّعى عليهم وذوي الضحايا، بدأت المساعي لتطْييف شخص بيطار بل القضاء برمّته، وصولا إلى تطْييف شامل مما يمهّد لتسييس شامل أو ما نودّ تسميته “الشمولية السياسية”، بمنأى عن أي اعتبار حقوقي. فبيطار يفعل ما يفعله والمحاكم تنتصر له ومجلس القضاء الأعلى لا يتحرك لعزله، ليس لأنه قاض مستقلّ، وليس لأن ثمة صحوة قضائية وتضامن قضائي لحماية التحقيق ولكن أوّلا لأنّهم كلّهم مسيحيّون يتضامنون بعضهم مع بعض بهذه الصّفة ومن هذا المنطلق.
فبصورة مفاجئة تماماً، بدأ التّداول بالهوية المسيحية للقاضي بيطار. لا بل إن إحدى الصّحف ذهبتْ إلى حدّ القول عرضا بأن لغته لا تخلو من “المسيحانية” أو بأنه أعرض عن الزواج من امرأة لأنها مسلمة أو أيضاً أنه يعتز بمسيحيّته (الأخبار، 13 كانون الأول 2021). وبصورة موازية، انتشرت بشكل واسع معلومات عن هوية رؤساء غرف محكمتيْ الاستئناف والتمييز والتي ردّت طلبات الردّ والنقل وكلّهم مسيحيون. وفي حين أن اختصاص الغرفة 12 لمحكمة الاستئناف (برئاسة القاضي نسيب إيليا) والغرفة الخامسة لمحكمة التمييز (برئاسة القاضية جانيت حنا) انعقد بموجب قرار توزيع أعمال سابق لهذه الطلبات، تمّ تسليط الأضواء بشكل خاص إلى غرفتيْ التمييز الأولى والخامسة واللتين يرأسُهما تباعاً القاضيان ناجي عيد وجانيت حنا وهما غرفتيْن تولّتا النظر في هذه الطلبات بموجب إحالة خاصّة من الرئيس الأول لمحكمة التمييز سهيل عبّود. وقد تعزّزت هذه السردية بهذا الحدّ من التطْييف بل تذهب أبعد من ذلك في اتجاه الإيحاء بحصول انقسام عمودي بين القضاة على أساس طائفي مع تحميل بيطار هنا أيضا المسؤولية عن تقسيم القضاء.
ونجد هذه السرديّة واضحة في مقالات نشرتها صحيفة “الأخبار” وتحدثت عن انقسام طائفي داخل القضاء. ومن أهم هذه المقالات مقال أول نشر يوم تظاهرة الطيونة في تاريخ 14 تشرين الأول تحت عنوان: “سهيل عبود وطارق البيطار يشعلان الشارع وسط غليان طائفي: انفجار يهدّد الحكومة وخراب يهدد البلاد” للصحافي إبراهيم الأمين والثاني في 18 تشرين الثاني، تحت عنوان “مطالب بتنحية سهيل عبود: تسبّب بانقسام طائفي في العدلية“[39]. وقد ورد حرفيّا في المقال الثاني أنه تبعا لهذا الملف “برزت … انقسامات بين القضاة أخذت أبعاداً تتجاوز الخلاف على التفسيرات القانونية والاجتهادات، لتلامس حدّ الانقسام الطائفي. ويشهد الجسم القضائي فوضى عارمة فتحَتْ باباً لوضع الملف القضائي كلّه على الطاولة بعد ممارسات ترتقي إلى مستوى الفضيحة. وبسبب هذه الممارسات، كانت العدليّة شبه معطّلة في الأسبوعين الماضيين إثر رزمة الدعاوى التي تبادلها طرفا الصراع وانتهتْ إلى سلسلة مربوطة ببعضها البعض، ما جعل أيدي الجميع مكبّلة تبحث عن إطار قانوني جديد في المعركة التي تحوّلت إلى تصفية حسابات سياسية”. وفي اليوم نفسه، تكررت السردية وفق ما نسبتْه[40] الجمهورية لمصادر “الثنائي الشيعي” في 18 تشرين الثاني 2021 والتي تأسّفت “لانشطار القضاء بين قضاة مسلمين وقضاة مسيحيين في أسوأ انشطار عامودي تسببت به ممارساته (أي رئيس مجلس القضاء الأعلى)”. وقد أردفت الصحيفة نقلا عن المصدر نفسه أنه “في أحلك أيام الحرب بقي القضاء موحّداً ولم ينقسم، وفي زمن عبّود انقسم”. وقد أكّد الرئيس نبيه بري[41] في 15 كانون الأول هذه السرديّة محملا مجلس القضاء الأعلى مسؤولية ما وصلنا إليه اليوم من تطْييف وتمذهُب في القضاء.
وتعليقاً على هذه السردية، يجدر إبداء ملاحظات عدة:
أولاً، أنه بخلاف ما يُساق لجهة أن التضامن مع بيطار أخذ منحى طائفيا، يقتضي التنبيه بأن نادي قضاة لبنان المتنوّع طائفيا والذي يمثل التيار الاستقلالي داخل القضاء كان واضحا وصريحا في دعم بيطار في عدد من بياناته (يراجع بيانه[42] في 15 تشرين الأول بشكل خاصّ). كما يقتضي التذكير بأنّ الغرفة 12 لمحكمة الاستئناف التي أنْهتْ أطول تعليق للتحقيق في 2021 (وهو التعليق الذي تسبب به القاضي حبيب مزهر في مخالفة صارخة للقانون حسبما نسهب في تبيانه في القسم الثالث من هذا المقال) قد رأستها بالانتداب قاضية غير مسيحية (رنده حروق) وتكونت غالبيتها من أعضاء غير مسيحيين (ميريم شمس الدين بالإضافة إلى حروق). وكذلك الأمر بخصوص الهيئة العامة لمحكمة التمييز والتي ردّت دعاوى مخاصمة القضاة على خلفية أعمال المحقق العدلي وفق ما نبينه في القسم الثالث من هذا المقال، فقد تكونت هي الأخرى من غالبية غير مسيحية (3 من أصل 5).
ثانياً، أن خطورة هذه السردية لا تقتصر على تحميل بيطار مسؤولية تقسيم القضاء بما يعزز الضغوط عليه، بل هي تتمثل في الآن نفسه في حجْب كلّ الممارسات التي انتهجها نظام الحكم منذ عقود بهدف تقسيم المراكز القضائية الهامّة إلى مقاطعات وشبكات مصالح. وهي سرديّة يُكذّبها التدقيق في مختلف جوانب التنظيم القضائي وهو الأمر الذي خاضتْه المفكرة القانونية تفصيلياً في سياق الإعداد لمشروع قانون استقلالية القضاء لتبيّن حجم المحاصصة السياسية (الطائفية) في التشكيلات القضائية وبخاصة في تشكيل المراكز الهامة والحساسة كما في تعيينات الهيئات القضائية وفي مقدّمتها مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي[43]. وليس أدلّ على ذلك من تعيين القاضي حبيب مزهر عضواً في مجلس القضاء الأعلى (وهو العضو الشيعي) بعد موافقة برّي على اسمه. وقد بيّنت المفكّرة القانونيّة تفصيليّاً كيف تؤدّي هذه المحاصصة في الهيئات القضائية إلى تحويلها إلى هيئات ممثّلة للقوى السياسية المهيمنة وفق المعادلة الطائفية والمذهبية المعمول بها وتاليا إلى ذراع للسياسيّ والمصالح التي يمثلها داخل القضاء أكثر مما هي درع لضمان استقلال القضاء في مواجهة السياسي. وهي ذراع غالبا ما تؤدّي إلى تقسيم المراكز القضائية الهامة بالتوافق على القضاة التابعين أو المقربين من هذه القوى السياسية مقابل تهميش سائر القضاة الذين ما زالوا يحفظون مسافة من هذه القوى. وعليه، فإنّ وحدة القضاء التي تحدّث عنها نصرالله وسواه تستمدّ وجودها ليس من داخل القضاء إنّما من خارجه وتحديداً من القوى التي تسيطر عليه، بمعنى أنها تتوحّد بتوافق هؤلاء على اقتسام المراكز والمصالح في القضاء وتتخلخل بسقوط هذا التوافق كما حصل في الفترة الممتدة من 2005 حتى 2008 وهذا ما ربما يحصل حاضراً. وأهمّ من ذلك، فإن هذه الوحدة هي مجرّد خدعة بصرية تقتصر في أحسن الأحوال على قمّة الهرم القضائي والقضاة الذين يحتلون المراكز الهامة ويستفيدون من مزاياها لتخفي خلفها انقسامات أكثر عمقاً بين هؤلاء ومجمل القضاة الذين تبقيهم المحاصصة الطائفية عرضة للغُبْن والتهميش. وبكلمة أخرى، هذه الوحدة هي مجرّد مرادف لقدرة القوى السياسيّة على اقتسام القضاء وفرض مصالحها عليه من دون أي مقاومة، في حين أن الانقسام الذي يقلق القوى المناوئة للتحقيق ما كان ليحصل من دون اختلال هذا التوافق والذي بفعله تمكّنت هيئات قضائية (ومن بينها بيطار والمحاكم التي تضامنت حوله أو حموا التحقيق) من مواجهة الإملاءات من دون توفر توافق كافٍ لكبْحها.
وتأكيداً على ذلك، يكفي التذكير بالمناسبات التي تمّ فيها اتهام قضاة بالتسبب بانقسام القضاء وهي بشكل عامّ المناسبات التي برزت فيها إرادة تغييريّة أو استقلالية داخل القضاء أو أيضاً مسعى قضائي لخرق نظام الإفلات من العقاب. ومن أهمّ هذه المناسبات، تأسيس نادي القضاة والذي اعتبره مجلس القضاء الأعلى مشروعا من شأنه تقسيم القضاء وإضعافه أو حتى إصرار القاضية عون[44] على مواجهة القرار بكفّ يدها عن التحقيق في قضية مكتّف الصحناوي سلامة.
لاحقاً، بلغ تطييف القضاء مستوى جديداً تبعاً لبروز مسألة الهوية الطائفية لأعضاء الهيئة العامة لمحكمة التمييز وتالياً الغالبية داخلها. هذا ما نستشفّه من المبرّرات التي أثارها وزير الماليّة يوسف خليل في 16/4/2022 لرفض التوقيع على مرسوم تعيين رؤساء غرف محكمة التمييز[45]، ومفادها تجنّب تكريس سابقة البلد في غنى عنها من دون أن يبيّن ماهيتها. وقد فُهم آنذاك أنّ هذه السّابقة تتّصل بما اعتبرهُ إخلالاً بالمناصفة الطائفيّة في توزيع رئاسات غرف التمييز، بحيث انتهى المرسوم إلى تطبيق المناصفة في ملء هذه المراكز (5 رؤساء مسيحيين و5 رؤساء مسلمين) من دون احتساب الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز (وهو حالياً القاضي سهيل عبود). ومن شأن هذا الأمر أن يُؤثّر على تكوين الهيئة العامّة لمحكمة التمييز التي تصبح مكوّنة من 6 مسيحيين و5 مسلمين[46]. وقد أكّد على ذلك في 19 نيسان 2022 النائب المدعى عليه علي حسن خليل على موقف حين اعتبر[47] أنه لا يمكن توقيع مرسوم مخالف للتوازنات الطائفية بعدما أضيفتْ غرفة إلى غرف محكمة التمييز. وإذ نقلت بعض وسائل الإعلام (الجديد) في 24 أيار حصول تغييرات هامة في المشروع الجديد، اتّضح أنّ التغيير الحاصل طال فقط اسم قاضية تقاعدت خلال الفترة الفاصلة بين المشروعيْن، من دون أن يعالج من قريب أو بعيد الإشكالية الطائفية التي أثارها ضمناً وزير المالية.
وفي حين تؤكد مراسيم تشكيلات سابقة (2009-2010 و2017) أنّ التعيينات تمّت وفق الأسس التي يرفضها اليوم وزير المالية في سياق اعتبارها “سابقة”، فإنه من البيّن أنّ الدافع الحقيقيّ لهذا الأخير تمثّل في ْإبقاء التحقيق في قضية المرفأ مُجمّداً إلى ما بعد الانتخابات النيابيّة أو ربّما إلى حين حصول تسوية ما، بما ينسجم مع مصالح القوى السياسيّة التي عيّنته، طالما أنّ تعطيل ملء الشواغر في رئاسات محكمة التمييز يحول دون انعقاد هيئتها العامة بفعل فقدان النصاب وتالياً دون النظر في الطلبات التعسّفية المقدّمة أمامها بشأن قضية المرفأ. وهي طلبات يشكّل النظر فيها شرطاً لاستئناف التحقيق في هذه القضية وفق ما نعود إليه في القسم الثالث أدناه.
السذاجة: حيادية القضاء واستقلاليته لا تكفي
لم يأخذ اتهام بيطار بالسّذاجة[48] وهو اتهام ملطّف بالنسبة إلى كلّ الاتهامات الأخرى طالما أنه لا يفترض سوء النية لدى بيطار، البعد نفسه الذي أخذته الاتهامات الأخرى المشار إليها أعلاه. ورغم ذلك، اخترْنا إدراجه ضمن لائحة الاتّهامات ضد بيطار بالنظر إلى أبعاده وما يرشح عنه من حذر وارتياب إزاء استقلالية القضاء عموماً، وهي أبعاد تستكمل ما تعكسه الاتّهامات الأخرى. وتقوم سردية “السذاجة” على القول بأنّ بيطار غير مؤهّل للقيام بتحقيقات المرفأ ليس بالضرورة لأنه سيئ النية لكن لأنه بالحدّ الأدنى ينتقص إلى الحكمة والدراية والحيطة بدليل أنه يجازف في اتّخاذ هذه القرارات من دون أن يحتسب الأضرار الاجتماعية الفائقة الناجمة عنها ويستمرّ في النّهج نفسه من دون أي مراجعة ذاتية، ومع إصرار على إبراء ذاته من كل تبعاتها، ومنها انقسام القضاء وتعطيل الحكومة من دون الحديث عن مقتلة الطيّونة. ووفق هذه السردية، يبدو لبنان وكأنه وقع برمّته ضحية قاضٍ قيّد له أن يتولّى مهمة خطيرة من دون أن يكون هنالك أيّ آلية في كفّ يده أو عزله.
وفي حين يتميّز هذا الاتّهام عن الاتّهامات السابقة لجهة خلوّه من الطعن في حيادية بيطار أو قراراتِه، فإنه لا يقلّ عنها خطورة، طالما أنّ مؤداه اعتبار بيطار خطراً بفعل سذاجته أي حتى لو كان حيادياً وبكلمة أخرى حتى ولو عجزت القوى المناوئة للتحقيق عن تقديم أي إثبات أنه ليس كذلك. فالارتِياب ضدّه هنا ليس ارتياباً بحياديّته أو بانْخراطه في مخططات سيّاسية بل هو أيضاً ارتياب بما قد يناقض ذلك تماماً، ارتياب بنتائج هذه الحيادية وبأنّ بيطار يستمر في عمله من دون أن يأخذ بعين الاعتبار المعطيات السياسية المحيطة به والتي تكاد تفجّر البلد. ومن هذه الزاوية، يبدو هذا الاتّهام بمثابة تحذير من خطورة ما قد تؤدي إليه الحياديّة أو أيضاً استقلالية القضاء في حال غياب ضوابط تضمن تنبّه القضاة لمجموعة من الاعتبارات الاجتماعية والسياسية والتي تبقى طبعاً غير محددة وقابلة للتوسع والاجتهاد. وعليه، وفي حال مقبولية هذه الحجة، فإنّه يكون بإمكان أطراف عدة نافذة تبرير تدخلها في القضاء ليس لوجود ارتياب بحياديّته، بل فقط لعدم ارتياب بحكمته. كأن تعدّ جمعية المصارف أن من شأن الأحكام الصادرة ضد المصارف أن تؤدي إلى إجهاض كل الجهود المعتمدة منها لحماية حقوق المودعين أو أن يعدّ أي فريق سياسي أن من شأن ملاحقة أي من قياداته أو من شأن الاعتراف بحقوق ضحاياه أن يتسبّب بحرب أهلية وما إلى ذلك من أمثلة تقارب العبث. وعليه، لا نبالغ إذا قلنا أن هذا الاتهام، شأنه شأن الاتهامات الأخرى، يبرّر بالواقع للتدخّل في القضاء وإبقاء اليد الطولى عليه درءا لأي قرارات ساذجة قد يصدرها القضاء وتؤدي إلى أضرار اجتماعية فائقة.
وما يزيد من قابلية هذا السردية للانتقاد هو أنها تتناول أبعاد قرارات بيطار المصنّفة خطيرة من دون أن يتحدث عن النتائج الاجتماعية لنظام الحصانات والذي يؤدي انتقاد بيطار إلى تكريسه مجددا ولا لنظام الإفلات من العقاب. فكأنما هذا النظام قدر للبنانيين يتعين على مجمل القضاة التعامل معه على أنه واقعة يشكّل أيّ مسّ بها خطرا اجتماعيا كبيرا.
الطعن بالقضاء برمته: لا ثقة بالقضاء
إلى ذلك، لم تكتفِ القوى المناوئة للتّحقيق في الطعن بحياديّة بيطار بل ذهبت في اتجاه الطعن بالقضاء برمته. وإلى جانب ما سبق ذكره من مساع لتطْييف القضاء ومذْهبته وفق ما سبق بيانه، أخذ هذا الأمر ثلاثة أوجه: (1) المبالغة في تحميل بعض القضاة مسؤولية التفجير برمته في اتجاه تحويلهم إلى المتهمين الأساسيين في هذه القضية، (2) الطعن في مجمل الهيئات أو المنظمات القضائية وفي مقدمتها نادي قضاة لبنان التي دافعت عن بيطار وصولاً إلى (3) إعلان عدم الثقة بقدرة القضاء على تحقيق المحاسبة في هذه القضية كما في مجمل القضايا الهامة الأخرى. وقد وصل أحد النواب إلى حدّ القول إن القضاء هو في معرض تدمير ذاته بفعل تخلّيه عن مسؤولياته. وهذا ما سنفصّله أدناه.
1. التركيز على مسؤولية القضاء في التفجير
منذ اليوم الأول بعد التفجير، سعتْ جهات عدّة إلى التبرؤ من أي مسؤولية من خلال رشقها على قاضي الأمور المستعجلة جاد معلوف، يحجّة أنه هو الذي وافق على تفريغ حمولة السفينة المتفجّرة وأنه عين للحمولة حارسا قضائيا وأنه لم يتخذ أي قرار لاحق بهذا الشأن على الرغم من مراسلته مراراً من قبل المديرين العامين للجمارك السابق والحالي شفيق مرعي وبدري ضاهر بوجوب إعادة تصدير البضائع أو بيعها في المزاد العلني. وقد بدا تحميل معلوف غير المحسوب على أيّ من القوى السياسية الحاكمة مسؤولية التفجير أمرا مناسبا يسمح لها بتهريب الوزراء والموظفين الكبار التابعين لها من أي مسؤولية. ولم يقتصرْ هذا التوجّه على عدد من الأخبار الإعلامية في هذا الاتجاه (أبرزها الخبر الذي نشرته الجديد في تاريخ 12/8/2020 نقلا عن الصحافي رضوان مرتضى وقد جاء فيه: “المسؤولية الأولى يتحملها القضاء والقاضي الذي طلب إنزال حمولة النيترات ووافق على تخزينها” وعادت وأبرزتْه الميادين في تحقيقها بعنوان: “رواية الحقيقة” في تشرين الثاني 2021)، إنّما عاد ليؤيدّه أمين عام حزب الله حسن نصرالله في خطابه بتاريخ 17 تشرين الأول 2021. والملفت أنّ نصرالله حمّل مسؤولية كبيرة لمعلوف في موازاة دفاعه الصاخب عن سمعة الوزراء ومن بينهم وزيريْن للأشغال العامة زعيتر وفنيانوس، وعن حقهم بعدم الخضوع للقضاء العدلي، من دون أن يتنبه أن الوزارة طلبت إفراغ السفينة بولاية زعيتر وتولّت هي مسؤولية الحراسة القضائية على حمولتها طوال السنوات الماضية أي في فترتي زعيتر وفنْيانوس. هذا مع العلم أنه لم يكن هنالك أي حجز على البضاعة من قبل دائرة التنفيذ بل فقط على السفينة.
كما تجدر الإشارة تصحيحاً للمغالطات إلى الأمور الآتية:
أولاً، أنّ معلوف وافق على طلب مديرية النقل البحري على خلفية أن السفينة في حال حرجة، وأن غرقها قد يؤدّي إلى تلوث بيئي بالنظر إلى حمولتها ويُعيق الملاحة في المرفأ. وهو لم يوافق على طلب من شركة خاصة بل على طلب من إدارة عامة يفترض أن تكون الأكثر قدرة واختصاصا في هذا الشأن. هذا مع العلم أنّه كان للوزارة أن تعدل في أي حين شروط تخزين المادة توخياً للسلامة العامة،
ثانياً، أنّ معلوف سمح لوزارة الأشغال بتفريغ الحمولة شرط نقلها وتخزينها في مكان مناسب تحدده على ان تكون تحت حراستها وبعد اتخاذ الإجراءات اللازمة بالنظر إلى خطورة المواد الموجودة على متن الباخرة. وعليه، يتبيّن أن معلوف ترك للوزارة تحديد مكان التخزين وشروطه على اعتبار هنا أيضا أنه لا يكلف شركة خاصة إنما الدولة التي يفترض أن تكون الأكثر قدرة واختصاصاً بهذا الشأن. وبدل أنْ تختار الوزارة مكاناً آمناً، اختارت العنبر 12 في المرفأ من دون أن تولي أيّ انتباه لشروط التخزين أو تعترض على وجود مفرقعات فيه إلى جانب النيترات، لا هي ولا إدارة المرفأ ولا مديريّة الجمارك،
ثالثاً، أنّ معلوف عند تبلغه الرسائل من مرعي وضاهر وجد نفسه أمام جهازين للدولة هما مديرية الجمارك ووزارة الأشغال العامة، لا يتواصّلان فيما بينهما ولا يتفقان على موقف موحّد بشأن بضاعة موضوعة تحت حراستها. وعليه، راسل هيئة القضايا (ممثلة الدولة) مراراً والتي راسلتْ وزارة الأشغال العامة (الحارسة القضائية على البضاعة) من دون أن تعود إليه بجواب.
وعليه، وفي حين كان بإمكان معلوف أن يكون أكثر تنبّهاً وأن يتخذ حيطة أكبر في التعامل في كل من هذه المراحل، فإن مسؤوليته الكبرى تنتج عن أنه تعامل مع الدولة كما يفترض بها أن تكون وليس كما هو واقعها، أي مجموعة إقطاعات مفتتة. من حق الناس ربما أن تسائله لأنه فعل ذلك. لكن أن تأتي الملامة من القوى السياسية صاحبة اليد الطولى في تفتيت الدولة وتردّي إداراتها العامة، فهو أمر فيه كثير من التحامل.
2. الهجوم ضد الهيئات القضائية الداعمة لبيطار
سجلت القوى المناوئة للتحقيق هجوما أخذ أبعادا عنيفة ضد الهيئات القضائية التي ردّت طلبات ردّ بيطار أو اتخذت مواقف داعمة له. كما طال الهجوم بشكل خاصّ رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود بعدما توسّعت المطالبات والتلميحات بوجوب إقالته، بالنظر إلى عجزه أو رفضه وقف النهج المعتمد من بيطار. وقد أعابَتْ هذه القوى على عبّود مجموعة من التوجهات أو المواقف والتي أخذها بصفاته المختلفة. فإلى جانب انتقاده على خلفية إحالة طلبات الرد المقدمة أمام محكمة التمييز إلى هيئات “مسيحية” كما سبق بيانه، لقيت القرارات الصادرة عن الهيئة العامة لمحكمة التمييز (والتي يرأسها عبود) هجوماً صاعقاً من قبل نصرالله في خطابه المؤرخ في 26 تشرين الثاني 2021 وهذا ما سنعود إليه أدناه. هذا بالإضافة إلى اتهامه بالتدخّل بصفته رئيس مجلس قضاء أعلى لحماية بيطار وإجهاض محاولة كفّ يد بيطار بقرار من هذا المجلس.[49] وقد ذهبت الاتهامات إلى اعتباره جزءا من المخطط السياسي الأميركي فضلا عن كونه يطمح لتولي منصب رئاسة الجمهورية بدعم من السفارة الفرنسية. ولعل الهجوم الأعنف ضد عبود ورد من رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي ذهب إلى حد تحميله مسؤولية تطْييف القضاء ومذْهبته كما سبق بيانه.
فضلاً عن ذلك، تجدر الإشارة إلى تعرّض نادي قضاة لبنان بدوره لمجموعة من الاتهامات، أبرزها البيان[50] الصادر عن مكتب النقابات والمهن الحرة المركزي في حركة “أمل” بتاريخ 16 تشرين الأول 2021 والذي وصل إلى حدّ إنكار مشروعية النادي وقانونيته فضلاً عن اتهامه بالمسؤولية عن مقتلة الطيونة، وذلك على خلفية بيانه المؤرخ في 15 تشرين الأول بدعم بيطار وتحذير القوى السياسية من مواصلة “العبث في آخر حصن في فكرة الدولة”. وقد ورد حرفياً في البيان المذكور أن النادي تسبب بـ “قتلنا واستباحة دمنا”. كما اتهم مكتب حركة أمل النادي بعرقلة “الجهد الكبير الذي يقوم به رئيس مجلس النواب وكتلة التنمية والتحرير لإصدار قانون استقلال القضاء”.
ومن الممارسات التي رصدناها ضد الهيئات الداعمة لبيطار، المنحى العقابي في تداول التشكيلات الجزئيّة، وهذا ما نستشرفه من المعلومات[51] التي وردت على وسائل الإعلام لجهة رفض تعيين قضاة شاركوا في ردّ طلبات كفّ يد بيطار عن تحقيق المرفأ في رئاسات محكمة التمييز، كما هي حال القاضيتين جانيت حنا ورنده كفوري.
3. لا ثقة بالقضاء
لم يتوقف التهجّم ضد القضاء على بيطار أو داعميه، بل وصل إلى إصدار حكم عامّ ضدّ القضاء برمّته من خلال إعلان عدم الثقة بقدرة القضاء الوصول إلى الحقيقة والعدالة. أبرز المواقف في هذا الخصوص تمثلت في خطاب نصرالله يوم 26 تشرين الثاني، حيث صرّح تعليقا على قرارات الهيئة العامة لمحكمة التمييز بردّ عدد من دعاوى كف يد بيطار أنّ “أحداً من القضاة لا يجرؤ على اتخاذ إجراء بحقّ هذا القاضي (طارق بيطار) الذي تقف خلفه الولايات المتحدة ممثلة بالسفارة الأميركية في لبنان”. ثم ذهب إلى اتهام القضاء بأنه “يحمي بعضه البعض” ويتستّر على “القضاة المتهمين” في قضية انفجار المرفأ ليخلص إلى أنّ المسار القضائي الراهن “لن يوصل لا إلى حقيقة ولا إلى عدالة” لأنّ “الجهات القضائية المعنية تمارس الاستنسابية وتخضع للسياسة”. ولم ينسَ نصرالله في معرض ذلك الإشادة بالقاضي الوحيد الذي تجرّأ على كفّ يد بيطار وهو حبيب مزهر (وهو أمر سنتولى عرضه أدناه)، ليردف أنه تبعا لذلك تمّ تهديده في إشارة إلى التنديد الواسع ضد قراره المخالف للقانون على شبكات التواصل الاجتماعي والاحتجاج من قبل ذوي الضحايا وناشطين حقوقيين أمام مكتبه ومنزله. ويظهر نصرالله من خلال هذا الخطاب وكأنّه يفهم تسييس القضاء بصورة انتقائية. فليس بالضرورة مسيسا من يصدر قراراً يستجيب لمطالب حزب الله مهما بدا أساسه القانوني واهيا (ومنها بوضوح قرار مزهر الذي تصرف منذ تعيينه عضوا في مجلس القضاء الأعلى بموافقة بري على أنه مكلف بمهمة كفّ يد بيطار). بالمقابل، يكون مسيّسا القرار الذي يصدر خلافا لمطالب حزب الله بمعزل عن أساسه القانوني. وبكلام أكثر بساطة، فإنّ تسييس القضاء ليس بالضرورة إصدار قرارات بخلفيات سياسية بل إصدار قرارات ضد إرادة أقوى قوة سياسية وطنية، وهي خلاصة تقارب العبث. وكان النائب ابراهيم الموسوي (كتلة الوفاء للمقاومة) ذهب في الاتجاه نفسه أي في اتجاه إعلان عدم الثقة بالقضاة على قناة المنار في 11/8/2021 حيث صرّح أن “كل العالم تعلم أن القضاء مسيّس وأنّ هناك وشوشات على إذن القضاء ويتأثّر هنا وهناك ويدخل عليه قوى داخلية وخارجية، كل الناس باتت تعلم أنه يوجد استنساب، كل العالم تعلم أنه يوجد سكوت”.
بدوره، ذهب[52] النائب حسن فضل الله (كتلة الوفاء للمقاومة) في خطبة له في 12 كانون الأول 2021 إلى اعتبار القضاء عاجزاً تماماً عن أداء دوره في المحاسبة أو القيام بواجباته التي يفرضها عليه القانون. وفي حين أنّ هذا الخطاب اتّصل بالقضايا المالية وليس بقضية تفجير المرفأ، إلّا أنّ فضل الله ضمّنه أحكاماً عامة على القضاء مفادها أنه “يخضع للضغوط الداخلية والخارجية، ويستجيب لها على حساب العدالة ولقمة عيش الناس، وهو بات في أسوأ وضع وصل إليه عبر تاريخه. واليوم يدمّر هذا القضاء نفسه بنفسه من خلال تغليب الاعتبارات السياسية والطائفية لدى قلة قليلة تمسك بقراره”. ورغم أن فضل الله أعلن أن هذا العجز يحصل “كرمى لعيون سياسيين في البلد موزعين في كل الاتجاهات”، فإنه اكتفى بإدانة القضاء من دون توجيه أصابع الاتهام إلى أي من هذه الجهات السياسية التي بقيت مجهّلة. فكأنما فضل الله آثر (ربما بسبب الواقعية) نزع الثقة عن القضاء على خلفية تعرضه لتدخّلات القوى السياسية على المطالبة بملاحقة القوى السياسية على خلفية هذه التدخلات.
وقد بدا إعلان عدم الثقة بالقضاء بتجريده من دوره في عمقه مشابهاً تماماً للمناقشات النيابية الحاصلة في معرض مناقشة قانون رفع السرية المصرفية[53]. فبعد أشهر من مناقشة النواب لهذا الاقتراح في اللجان المشتركة والذي تضمّن منح النيابة العامة صلاحية رفع السرية المصرفية عن حسابات المسؤولين العامين، برزت فجأة قبيْل التصويت عليه في الهيئة العامة جوقة نيابية مكوّنة من كتل عدة تعارض إعطاء النيابات العامة إمكانية رفع السرية المصرفية عن الأشخاص القائمين بمصلحة عامة، بحجة أن القضاء مسيّس وأن لا ثقة بالقضاء. وعليه، نجحت هذه الجوقة في إنكار صلاحية النيابة العامة برفع السرية المصرفيّة، انتهى تصويت الهيئة العامة عملياً إلى إبقاء هذه الصلاحية محصورة في هيئة التحقيق الخاصة (برئاسة رياض سلامة)، مع ما يمنحها ذلك من صلاحية واسعة في فتح ملفات من تشاء وإغلاق ملفات من تشاء. ولا يخرج عن ذلك إلا قضايا الإثراء غير المشروع بموجب قانون السرية المصرفية الصادر في سنة 1956. وعليه، وكما شكّل إعلان عدم الثقة بالقضاء مدخلا لعدم المس بالسرية المصرفية بما يمنع محاسبة الجرائم المالية ويبقيها بمنأى عن العقاب (فيبقى رياض سلامة سيّداً)، من شأن الإعلان نفسه أن يشكّل في قضية المرفأ سببا كافيا لإبقاء أصحاب الحصانات بمنأى عن المساءلة. فما معنى رفع الحصانات أو المسّ بها في حال كان الجهاز المسؤول عن هذه المحاسبة غير موثوق ولا يضمن لا الوصول إلى الحقيقة ولا إلى العدالة؟ من هذه الزاوية، شكلت هذه الحجة في عمقها مدخلا آخر لتكريس نظام الإفلات من العقاب. وما يزيد من قابلية هذه الحجّة للانتقاد هو أن أيّا من القوى المشكّكة في القضاء لم تطرح مشروعا جدّيا لإصلاحه.
ومن المفيد بمكان العودة إلى تصريح أدلى به نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي يعدّ أحد أهم الناطقين باسم النظام السياسي الحاكم في سياق إحدى الجلسات التشريعية في مجلس النواب في 2020. فقد نقل مرصد البرلمان للمفكرة القانونية حرفياً عنه أن النوّاب “يبالغون في الميل الشعبي لزيادة اختصاص القضاء مع منع أيّ تدخّل في القضاء” وذلك في معرض تعليقه على اقتراح قانون بإعطاء النواب صفة الطعن أمام مجلس شورى الدولة بالقرارات الإدارية التي من شأنها المسّ بالأملاك العامة للدولة أو البيئة وما إلى ذلك من مصالح هامّة. وتابع “القضاء الحالي بحاجة إلى تغيير شامل. فإما نغيّره كلّه وإمّا نبقى على ما نحن من دون زيادة صلاحياته. لكن عيب أن نسنّ القوانين وتفرّحنا لدقائق أمام جمهور ثمّ لا تطبّق”. ثم سارع إلى إعلان رفضه لأن تتعرّض السلطة لأيّ محاسبة في ظل القضاء الحالي: “هل يجوز أن نفسح المجال للقضاة الحاليين ليقدّموا تقارير عن متلبّسين، ويكون أحدٌ منا بينهم؟” [54]
تجلّى الأمر نفسه في مواقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رداً على سلسلة من القرارات القضائية، ومنها مداهمة المصارف من قبل المحامي العام جان طنّوس للحصول على كشوفات حسابات الشقيقين سلامة (رياض ورجا) وادّعاء النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون على هذين الأخيرين فضلاً عن اتخاذها قراراً بتوقيف رجا (سلامة)، والأختام التي تمّ إلقاؤها على موجودات مصرف فرنسبنك. ففي 12/1/2022 تهجّم ميقاتي على قرار القاضي طنّوس بالمداهمة من خلال تصريح له على موقع المدن[55] اعتبر فيه أنّ القضاء لا يعمل بطريقة موزونة ومنطقية، مستغرباً “استخدام جهاز أمني مسلح للدخول إلى أماكن ومقرات”، وتابع ميقاتي “حتى إسرائيل عندما اجتاحت بيروت لم تدخل إلى مؤسسات بالسلاح وبهذا الشكل”.
وقد عاد ميقاتي ليهاجم القضاء في ختام جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 16/3/2022 وذلك تبعاً لملاحقات قضائية، أهمّها ملاحقة الشقيقين سلامة من قبل النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون. وقد صرح وفق ما نشره موقع رئاسة الوزراء “أنّه لا يمكننا كمجلس وزراء مجتمعا ألّا تكون لدينا إجابة عمّا يحصل في القضاء من عشوائية وانفعالية، خصوصاً وأن هناك انطباعا عاماً بأنّ بعض ما يحصل في القضاء لا يمتّ إلى الأصول القضائية بصلة. ما يحصل في الملف المصرفي غير سليم. أولويتنا كانت وستبقى حقوق المودعين وهذا ما نركز عليه في كل الخطط التي نجريها. لكن الطريقة الاستعراضية والبوليسية التي تتم فيها مقاربة ملف الحقوق والقضايا القضائية المرتبطة بالمصارف خطيرة ومن شأنها تقويض ما تبقى من ثقة بالنظام المصرفي. وسيدفع المودعون مجدداً الثمن وأخشى أن تتطوّر الأمور إلى ما لا تحمد عقباه إذا لم يصرْ إلى تصويب الشطط والخلل الحاصل”.
وإذ ألمح ميقاتي أن مجلس الوزراء طلب من وزير العدل “تصحيح مسار الوضع القضائي العام”، فإنه عاد ودعا بعد توقيف رجا سلامة إلى إلى جلسة طارئة لمجلس الوزراء بعنوان وحيد “وضع آلية للتعاطي القضائي مع ملف المصارف”[56]. وأشار موقع المدن إلى أنّ ميقاتي دعا “رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، ومدعي عام التمييز غسان عويدات، ورئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد، للبحث بصيغة لآلية التعاطي القضائي مع هذا الملف”[57]، إلا أن هؤلاء رفضوا حضور الجلسة بالنظر إلى طابعها المهين وإلى ما ترشح عنه من تدخل سافر في القضاء. وقد ترافقت هذه الدعوة مع تلميحات وتصريحات بإمكانية عزل عبود وعويدات وفق ما ذكرته “الأخبار”[58]. بل أن ميقاتي هدد القضاة والمدعي عام التمييز غسان عويدات، بقوله أنه من الوارد إقالته في حال لم يستجب لمطالبه في قضيّة الملاحقات للمصارف. وإذ رفض القضاة حضور الجلسة، فقد شكلت الدعوة إليها بحدّ ذاتها إعلانا بتفوّق السلطة التنفيذية التي تحسن إدارة الشأن العامّ على السلطة القضائية الغارقة في الانتقائية والفوضى. بدوره عقّب وزير الزراعة عباس الحاج حسن رافضاً “الاستنسابية في القرارات القضائية” وأضاف “لو قام القضاء بدوره لما كنّا وصلنا إلى هنا”.
نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من “ملف” المفكرة القانونية | جرائم نظام من دون عقاب (محور: ممارسات الإفلات من العقاب) وشكّلت نسخة محدّثة ومعدّلة منها القسم الثاني من الورقة البحثية “ع مرفأ العدالة: جدار الإفلات من العقاب وما بعده”، آب 2022.
[1] ملاك عقيل، 6 ملاحظات على قرار القاضي بيطار، أساس ميديا، 4/7/2021
[2] رازي أيوب، من المُناورات القانونيّة إلى الهُجوم المُباشر: السياسيّ والقاضي في قضيّة تفجير المرفأ، المفكرة القانونية، 19/8/2021.
[3] أين أخطأ نصر الله في هجومه على بيطار؟، المفكرة القانونية، 12/8/2021.
[4] نادين عرفات، لماذا شركات التأمين مُلزمة بتسديد تعويض عن تفجير المرفأ؟، المفكرة القانونية، 7/5/2021.
[5] نزار صاغية وفادي إبراهيم، القاضي أبو سمرا يدفن شبهات إثراء ميقاتي: على المجتمع نسيان جرائم الفساد التي دمّرته، المفكرة القانونية، 8/4/2022.
[6] نزار صاغية، وانفتحتْ معركة “حصانة الوزراء”… خطوة هامّة تهدّدها سياسات “الإفلات من العقاب”، المفكرة القانونية، 13/12/2020.
[7] استخدم هذا الشعار للمرة الأولى في جريدة الأخبار في 24/7/2021.
[8] نزار صاغية، سقوط التدقيق الجنائي: السرية خاتم سحري للإفلات من العقاب، المفكرة القانونية، 27/11/2020.
[9] قاسم س. قاسم، السنيورة يريد براءة ذمّة، جريدة الأخبار، 24/2/2012.
[10] رازي أيوب، احتكار الدواء والمحروقات من قبل من هم “خارج الحكم”: المساواة بين المحتكرين وإلا..، المفكرة القانونية، 24/9/2021
[11] ماذا تعلمنا قضية سميرة سويدان؟، المفكرة القانونية، 27/3/2015.
[12] غيدة فرنجية، حكم قضائي يقلب “الأفكار المسبقة” في قضية لاجئ سوري: “ممارسة حق اللجوء من دون تجاوز ليس جرما”، المفكرة القانونية، 2/8/2012.
[13] غيدة فرنجية، شورى الدولة اللبناني يكرّس حقاً طبيعياً لذوي المفقودين في المعرفة، المفكرة القانونية، 8/4/2014.
[14] بعد 4 أحكام ابتدائية، استئناف جبل لبنان تعلن أن المثلية ليست جرماً، المفكرة القانونية، 13/7/2018.
[15] نزار صاغية، تحولات إيجابية في اجتهاد محكمة المطبوعات في بيروت (1): من واجبنا تعزيز دور الإعلام في الكشف عن الفساد، المفكرة القانونية، 20/5/2020.
[16] نزار صاغية، 4 قرارات للقاضية صفا بكفّ التعقبات بحق ناشطي الحراك اللبناني: الدفاع عن المجتمع يبرّر المسّ الظاهر بكرامة الحكومة ووزرائها، المفكرة القانونية، 11/12/2018.
[17] نزار صاغية، بعد 6 سنوات، عمال سبينس ينتصرون: قمع النقابيين جرم جزائي، المفكرة القانونية، 10/1/2019.
[18] نزار صاغية وفادي إبراهيم، “كلب الحراسة” في مجتمع فقد لقمة عيشه: قرار قضائي بتوسيع هامش المساءلة الإعلامية، المفكرة القانونية، 6/11/2021.
[19] فادي إبراهيم، محطات أساسية في حياة نادي قضاة لبنان: هذا ما أنجزتْه هيئته الإدارية الأولى، المفكرة القانونية، 31/7/2021.
[20] كلمة رئيسة نادي قضاة لبنان خلال ندوة “استقلالية السلطة القضائية: تحديات وحلول”، المفكرة القانونية، 6/6/2019.
[21] نزار صاغية، محاكمة المتظاهرين تتحوّل إلى محاكمة للنظام: “القاضي يتنشّق رائحة النفايات نفسها”، المفكرة القانونية، 7/12/2020.
[22] ماهر الخشن، جلسة تشريعية لاستعادة هيبة المجلس في مواجهة الثورة.. الفرزلي: “الإسراف في تبرئة الذات إسقاط لها، ويؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الأسود”، المفكرة القانونية، 27/4/2020.
[23] نزار صاغية، لهذا أبعدتْ محكمة التمييز القاضي الذي تعاطف فتجرّأ، المفكرة القانونية، 24/2/2021.
[24] بيان صادر عن مديرية الإعلام في مجلس النواب، موقع المجلس النيابي، 22/7/2021.
[25] نائبُ “أمل”: لا حصانة في انفجار مرفأ بيروت إلا…، موقع ليبانون ديبايت، 31/7/2021.
[26] جدال مباشرة على الهواء بين محمد الحجار و منصور فاضل حول إقتراح تيار المستقبل في قضية مرفأ بيروت، قناة الجديد على يوتيوب، 30/7/2021.
[27] حوار خاص | علي حسن خليل – وزير المالية اللبناني السابق، قناة الميادين على يوتيوب، 12/10/2021.
[28] رازي أيوب. ” فتنة بيطار”… حول صناعة السرديّة والحدث وتبرير التعسف، المفكرة القانونية، 27\10\2021.
[29] انتشر هاشتاغ (#الدم_برقبتك_يابيطار) في 14 تشرين الأول في إشارة إلى ضحايا حادثة الطيونة، شارك فيه إعلاميون مشهورون وعدد كبير من الحسابات الوهمية
[30] قبلان: المطلوب إقالة البيطار الآن وحذار اللعب بالنار، موقع قناة ال بي سي، 13/10/2021.
[31] أحمد قبلان للقاضي البيطار: القضاء يبدأ برؤوس الأفاعي وليس بالعمل للأفاعي، موقع النشرة، 12/10/2021.
[32] “المُعطيات خطيرة”… قبلان: واهم من يَظنّ أن كمين مذبحة الطّيونة هو النهاية، موقع ليبانون ديبايت، 15/10/2021.
[33] قبلان: كل دم وفتنة وتهديد للسلم الأهلي وفلتان أمني هو بعنق السفارة الأميركية والقاضي طارق البيطار، موقع النشرة، 14/10/2021.
[34] تجمع علماء جبل عامل إلى البيطار: لا تكن وقودا أو أداة للفتنة، موقع قناة المنار، 14/10/2021.
[35] المقاومة تُفشل مخطط جرّ لبنان إلى جهنّم الفتنة ودعوات إلى توقيف المجرمين ومعاقبتهم بشدّة مجزرة غادرة في الطيونة: 6 شهداء وعشرات الجرحى برصاص قنّاصين احتجاجاً على تظاهرة سلمية! «أمل» و«حزب الله» يتهمان «القوات» بتنفيذ الاعتداء وجعجع يُقرّ ضمناً، البناء، 15/10/2021.
[36] سقط النصاب والأهالي أطاحوا بجلسة العار.. والجلسة المقبلة إلى أجل غير مسمى، موقع قناة الجديد، 12/8/2021.
[37] 13 شهراً على الانفجار… وقفتان لأهالي ضحايا المرفأ بين تمثال المغترب والبوابة رقم (3)، جريدة النهار، 4/11/2021
[38] التحقيق في مجزرة المرفأ: معركة ضد فنون الإفلات من العقاب، من سلسلة لقاءات حوارية نظمتها المفكرة القانونية، 26/7/2021
(المتحدثون: نزار صاغية- غيدة فرنجية- أسامة سعد- مازن حطيط- رياض قبيسي- اإراهيم حطيط)
[39] ميسم رزق، مطالب بتنحية سهيل عبود: تسبّب بانقسام طائفي في العدلية، جريدة الأخبار 18/10/2021.
[40] الثنائي للجمهورية: أساس المشكلة هو القاضي سهيل عبود ففي زمنه انقسم القضاء فأين عون وميقاتي من ممارساته؟، جريدة الجمهورية، 18/11/2021..
[41] الرئيس بري: معروف من لم يؤيد الطائف ولم يطبق لا القانون ولا الدستور، لقاء مع نقابة المحررين، 15/11/2021.
[42] بيان نادي قضاة لبنان، 15/10/2021.
[43] يراجع العددان الخاصين للمفكرة القانونية عن القضاءيْن العدلي والإداري.
[44] نزار صاغية وفادي إبراهيم وعماد الصائغ، فتح علبة باندورا بمناسبة قضية مكتّف: من حوّل الأموال إلى الخارج؟ وكيف؟، المفكرة القانونية، 24/9/2021.
[45] نزار صاغية، “فيتو” وزير المالية يعطّل محكمة التمييز: ضمانة جديدة لنظام الإفلات من العقاب، المفكرة القانونية، 26/5/2022
[46] لارا الهاشم، برّي هندَسَ وميقاتي تفرَّج والضحايا يصرُخون، موقع ميديا فاكتوري، 27/5/2022
[47] علي حسن خليل لعون: عطّلت التشكيلات القضائية… ولا يُمكنك الضّغط علينا، جريدة الأخبار، 19/4/2022
[48] إبراهيم الأمين، الساذج، جريدة الأخبار، 13/12/2021.
[49] «هندسات قضائيّة» برعاية رئيس مجلس القضاء الأعلى… خلافاً للقانون: ممنوع كفّ يد البيطار، الأخبار، 6/11/2021
[50] مكتب المهن الحرة المركزي في أمل: كفى عبثاً بالقضاء، موقع لبنان 24، 16/10/2021.
[51] عبّود في «القضاء الأعلى»: أنا أو لا أحد!، جريدة الأخبار، 16/2/2022.
[52] فضل الله: جاهزون لخوض الانتخابات النيابية والمتلاعبون بالدولار معروفون عند القضاء، موقع النشرة، 12/12/2021.
[53] كامل نتائج الجلسة التشريعية أيار 2020: محاصصة العفو العام تطيّر الجلسة بعد مناقشة 11 من أصل 37 مقترحا “مظلومية” النوّاب وخوفهم من كيدية القضاء غير المستقل تصون سرّيتهم المصرفية، المفكرة القانونية-المرصد البرلماني لبنان، 30/5/2020
[54] ماهر الخشن، جلسة تشريعية لاستعادة هيبة المجلس في مواجهة الثورة.. الفرزلي: “الإسراف في تبرئة الذات إسقاط لها، ويؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الأسود”، المفكرة القانونية، 27/4/2020.
[55] ميقاتي لـ”المدن”: إنهيار البلد والحكومة ممنوع..والصراعات مستمرة حتى الانتخابات، المدن، 12/1/2022
[56] الثورة المضادة لحزب المصرف: ميقاتي «ينتفض» ويهدّد عويدات بالإقالة، جريدة الأخبار، 19\3\2022
[57] القضاة رفضوا الحضور: أزمة القضاء-المصارف تحاصر حكومة ميقاتي، موقع المدن، 19\3\2022
[58] الثورة المضادة لحزب المصرف: ميقاتي «ينتفض» ويهدّد عويدات بالإقالة، جريدة الأخبار، 19\3\2022