القاضي أبو سمرا يدفن شبهات إثراء ميقاتي: على المجتمع نسيان جرائم الفساد التي دمّرته

،
2022-04-08    |   

القاضي أبو سمرا يدفن شبهات إثراء ميقاتي: على المجتمع نسيان جرائم الفساد التي دمّرته
المصدر المفكرة القانونية، تصوير: ماهر الخشن

أصدر قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل أبو سمرا بتاريخ 3/2/2022 قرارا قضى بإسقاط دعوى الإثراء غير المشروع عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورفاقه على خلفية قضية قروض السكن المدعومة. وللتذكير، كانت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون قد ادّعت في 23/10/2019 على ميقاتي وشقيقه طه ونجله ماهر وبنك عودة ومجموعة عودة سرادار وآخرين، بارتكاب جرائم الإثراء غير المشروع وجرائم أخرى نص عليها قانون العقوبات لاشتراكهم في منح أو الاستفادة من قروض مدعومة غير مستحقة. وعدا عن أنّ الادّعاء شكّل سابقةً في تطبيق قانون الإثراء غير المشروع منذ إقراره في صيغته الأولى في العام 1953، يلحظ أنه حصل بعد أيام من انتفاضة 17 تشرين وتحت وقْعها. وفي حين دار جدل واسع آنذاك حول صلاحية النيابة العامة في جبل لبنان في مباشرة الادعاء، فإنّ القاضي أبو سمرا أسقط الادّعاء هذه المرة على أساس حجة شكلية أخرى (وهي مرور الزمن) بما جنّبه إجراء تحقيقات في أساس الدعوى وتاليا مدى ثبوت ارتكاب ميقاتي ورفاقه الجرم المذكور. وبذلك، يكون ميقاتي الذي استفاد وعائلته من هذه القروض حين كان يرأس حكومته الأولى قد نجح بعد عشر سنوات في تبييض صفحته بفعل ترؤسه لحكومته الثانية.

وقبل المضي في تحليل هذا القرار وأبعاده، تجدر الإشارة إلى أنّه تمّ خلال سير الدعوى تعديل قانون الإثراء غير المشروع بموجب القانون رقم 189/2020 لجهة توسيع المفهوم وتسهيل الملاحقة وتشديد العقوبات. ومن اللافت أن من أبرز ما اعتمده المجلس النيابي في هذا الخصوص هو منع سقوط جرائم الإثراء غير المشروع بمرور الزمن، وذلك تأكيدا منه على أن هذه الجرائم باتت تشكل خطورة كبيرة على المجتمع، على نحو يستوجب تسهيل محاكمتها مع حرمان مرتكبها من إمكانية التذرع بحقّ النسيان (مرور الزمن). وقد تجلت خطورة هذه الجرائم طبعا في الانهيار المالي والاقتصادي والذي ما كان ليحصل لولا عقود من استباحة المال العام وهدره وسوء إدارته، أو لولا ما أسمتْه جريدة اللوموند الفرنسية “سرقة القرن”.

ورغم ذلك، تجاهل قاضي التحقيق أبو سمرا تماما القانون الجديد ليعود ويمنح ميقاتي ورفاقه امتياز نسيان أفعالهم أيا تكن خطورتها. وقد تمّ ذلك ليس فقط من خلال استبعاد تطبيق القانون الجديد، بل أيضا من خلال إجراء قراءة ملتوية لأحكام القانون القديم كما سنسهب في تبيانه أدناه. وسرعان ما لاقى هذا القرار إشادة رئيس الحكومة وذلك في بيان احتفالي صدر عنه بتاريخ 7/4/2021، حاول من خلاله الإيحاء بأن القضاء تثبّت بعد تحقيقات معمّقة من “عدم وجود أي إثراء غير مشروع وعدم وجود أي مسّ بالأموال العامة”، وذلك خلافا لحقيقة الأمر التي تتمثل في إسقاط الدعوى على أساس مرور الزمن بمعزل عن مدى صحتها.

أخطاء قانونية جسيمة

بالعودة إلى حجج قاضي التحقيق لإسقاط الدعوى، نلحظ أنّها تمثّلت في أنّ المواد المُدّعى بها هي مواد جنحية يمرّ الزمن على إمكانية إقامة الدعوى العامة عليها بعد 3 سنوات، وأنّ احتساب هذه المدّة يبدأ من تاريخ الاستحصال على آخر قرض وهو في شباط 2012 (وهي فترة كان ميقاتي لا يزال فيها رئيس وزراء). واِلإشكال في التعليل إنما يتأتى من أن القاضي أبو سمرا قرر تجاوز القانون الجديد من خلال تطبيق القانون القديم على الأفعال المدعى بها من دون إعطاء الأسباب التي دفعته إلى ذلك، وأنه حين طبّقه ربط مرور الزمن بحصول القرض من دون النظر لا في تاريخ انتهاء مفاعيله ولا في تاريخ اكتشاف الجرم الناشئ عنه، كل ذلك في مخالفة صريحة لمبادئ القانون الجزائي بل أيضا لأحكام صريحة في قانون الإثراء غير المشروع في صيغتيْه القديمة كما الجديدة.

فمع التأكيد على أن مبادئ القانون الجزائي تفرض من حيث المبدأ في حالات مماثلة تطبيقا فوريا للقانون الجديد، فإن ما انتهى إليه القرار يبقى خاطئا سواء كان القانون المطبق هو القانون القديم أو الجديد، وفق ما نبينه تفصيليا أدناه. 

فعلى فرض سلّمنا جدلا أن القانون في صيغته القديمة هو القابل للتطبيق (كما ذهب القرار إليه من دون أي تعليل)، فإن القرار يكون خاطئا لسببين أساسيين:

  • إن القاضي اعتبر مرور الزمن ساريا ابتداء من آخر عقد قرض من دون النظر في تاريخ اكتشاف الفعل الجرمي. وهو ذلك ارتكب مخالفة صريحة للمادة 19 من قانون الإثراء غير المشروع في صيغته القديمة التي نصّت أنّ “تبدأ مهلة مرور الزمن في قضايا الإثراء غير المشروع فيما يتعلق باستعادة المال العام من تاريخ اكتشاف الجرم”، (م. 19 من القانون 154/1999). ويتأكد ذلك من أنّ أول كشف إعلامي لفضيحة القروض السكنية حصل في صيف العام 2018 وأنّ النيابة العامة ما كانت لتكتشف حقيقة العقود المبرمة لفائدة المدعى عليهم إلا بعد الاطلاع على مضمونها .
  • إن القاضي اعتبر أنّ الحالة الجرميّة قد انتهت مع توقيع آخر عقد قرض في العام 2012 من دون النظر في ما إذا انتهت مفاعيل القروض الممنوحة. وهو بذلك أخطأ بحيث اعتبر أن الجرم المدعى به (منح قروض مدعومة والاستفادة منها) هو في طبيعته آنيّ يتمّ في لحظة إبرام العقود حيث يبدأ سريان مدّة مرور الزمن منذ إبرامها، في حين أن مفاعيله الواقعية تستمر طوال سريان القروض في فترة تسديدها، بما يجعله جرما متماديا لا يبدأ سريان مرور الزمن عليه إلّا من تاريخ انتهاء الحالة الجرمية، وهي في الحالة الراهنة تسديد القروض بفوائد مدعومة، وفق المادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

وما يؤكد ذلك هو أنّ عائلة ميقاتي ما زالت تستفيد من القروض الممنوحة لها، كونها ما زالت تُسدّد قيمة هذه القروض الميسرة على مدّة طويلة بفوائد مدعومة، لا بل تُسدّد قيمتها بالليرة اللبنانية علما أنّها حصلت على 5 من أصل 9 منها بالدولار الأميركي. وهذا ما تعزّز في ما سرّبته وسائل مقربة من ميقاتي في نهاية تشرين الثاني 2019 في سياق دفاعها عنه حيث ورد أنّه “تم الانتهاء من تسديد معظم القروض مع الفوائد العائدة لها”، بما يعني بالتأويل المعاكس أنّه لغاية نهاية العام 2019 لم تكن هذه القروض قد سُدّدت بالكامل، ما يعني أنّه لحين الادّعاء في تشرين الأول 2019 لم تكن مدّة مرور الزمن قد بدأت بالسريان أصلا.

وما يصح في حال تطبيق الصيغة القديمة للقانون يصح من باب أولى في حال تطبيق صيغته الجديدة، حيث أن هذه الصيغة أكدت بشكل واضح لا يحتمل أي استثناء عدم خضوع جرم الإثراء غير المشروع لمرور الزمن على الدعوى العامة (م. 13 من القانون) وذلك تأكيدا على ضرورة محاسبة هذه الجرائم من دون تمكين أصحابها من الإفلات من العقاب أو من التذرع بوجوب نسيانها بفعل مرور الزمن. وتجد هذه القاعدة ما يبررها ليس فقط في خطورة هذه الجرائم، بل أيضا بفعل صعوبة تحريك دعاوى مماثلة ضد أشخاص نافذين وبخاصة في حال استمرار توليهم مناصب رفيعة. ومن هذه الزاوية، يشكل إسقاط قاعدة مرور الزمن شرطا أساسيا لملاحقة أي مسؤول قد ينجح في تحقيق إثراء غير مشروع وفي قمع أي مسعى لمحاسبته في أثناء توليه السلطة. وهذا مثلا ما ذهب إليه المشرع التونسي بعد ثورة 2011 حيث أسقط قاعدة مرور الزمن عن كل انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الديكتاتورية بموجب قانون العدالة الانتقالية. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المبادئ والأحكام المطبقة على هذه القضية إنما تفرض تطبيق قاعدة مرور الزمن الواردة في القانون الجديد على كل الجرائم التي لم يصدر فيها حكم مبرم، وبخاصة على الجرائم ذات المفاعيل المتمادية كما هي حال الجرائم المشمولة في هذه القضية كما سبق بيانه. وهذا ما نستشفه بشكل خاصّ من المادة 7 من قانون العقوبات التي تنص صراحة على وجوب تطبيق كل قانون جديد، ولو أشدّ، على الجرائم المتمادية والمستمرّة والمتعاقبة أو جرائم العادة التي ثوبر على تنفيذها تحت سلطانه. وهذا الأمر ينسحب من حيث المبدأ على جميع الجرائم سواء كانت آنية أو متمادية، وفق المادة 5 من قانون أصول المحاكمات التي تعتبر أن أي تعديل في أصول المحاكمات يطبق بصورة فورية، خلافا لمبدأ عدم رجعية القوانين الجزائية. وإذ يبقى الجدل فقهيا ممكنا بشأن قاعدة مرور الزمن وإذا كانت تعتبر من ضمن أصول المحاكمة، فإن الصيغة الجديدة لقانون الإثراء غير المشروع إنما تميل إلى اعتبارها وذلك حين أدرج هذه القاعدة ضمن باب خاص ضمنه بعنوان “أصول التحقيق والمحاكمات”. وهذا أيضا ما يؤكّده العلامة الفرنسي الراحل رينيه غارو: فبعدما ذكر هذا الأخير أن قواعد مرور الزمن إنما تحدد وتنطبق وفق ما يراه المجتمع مناسبا فيقصر أمده بالنسبة إلى الجرائم قليلة الخطورة، مقابل تطويل هذا الأمد بالنسبة إلى الجرائم الخطيرة والتي لا يجدر بالمجتمع نسيانها، اعتبر ضرورة تطبيقها بصورة فورية على كلّ الجرائم التي لم يصدر فيها حكم مبرم، على اعتبار أنّها لا ترتب أيّ حقّ مكتسب للشّخص المرتكب. [1] 

حراس نظام الإفلات من العقاب

مما تقدّم، يظهر بوضوح أن القاضي أبو سمرا انتهى إلى إبراء ذمّة رئيس الحكومة بموجب قرار لا يصمد أمام أيّ جدل جدّي. وما يزيد من قابلية هذا القرار للنقد أمران:

  • الأول، أنّه صدر في أول ادّعاء في قضية إثراء غير مشروع، بمعنى أنّ الشعب اللبناني انتظر 66 سنة لمباشرة أول ادّعاء في قضية إثراء غير مشروع، ليسارع أبو سمرا إلى إحباطه بقرار يعيد الأمور إلى وضعها السائد منذ عقود، أي تعميم إفلات جرائم الفساد الكبرى والإثراء غير المشروع من العقاب.
  • والثاني أن النيابة العامة ممثلة بالنائب العام في بيروت زياد أبو حيدر قد أيدت إسقاط الدعوى على أساس مرور الزمن بحيث صدر القرار وفق مطالعتها. وعليه، بدت نيابة عامة بيروت هنا وكأنها تتخلى بذلك تماما عن الدفاع عن الحق العام في اتجاه تدمير الجهود التي بذلتها نيابة عامة جبل لبنان في هذا المضمار.  

بقي أن نذكر أن “المفكرة القانونية” قد لفتت النظر منذ فترة أنّ القاضي أبو سمرا إنما يشغل موقعه كقاضي تحقيق أول في بيروت بالإنابة وليس بالأصالة، وأنه تميز منذ إشغاله لهذا المنصب بإسقاط العديد من الملاحقات ضدّ عدد هام من أصحاب النفوذ، بما يحعله أحد أبرز الحرّاس لنظام الإفلات من العقاب. واللافت أنه رغم ذلك، فإنه حتى اللحظة لم تتخذ الهيئات المختصة أي خطوة للتحقيق معه أو لتعيين قاضٍ أصيل في هذا المركز المحوري، في حين تنشغل البرامج التلفزية الأكثر حضورا في وسائل الإعلام في تفنيد أخطاء القضاة الذين يفتحون الملفات في موازاة التزام صمت شبه مطبق حيال القضاة الذين يغلقونها.

النسيان المستحيل أم العفو العام؟

في حين ذهب التشريع تبعا للانهيار إلى جعل جرائم الإثراء غير المشروع غير قابلة لمرور الزمن تأكيدا على ضرورة محاسبتها وتذكرها مهما طال الزمن كما سبق بيانه، ذهب القرار موضوع التعليق من خلال إسقاط الدعوى على أساس مرور الزمن في اتجاه معاكس تماما أي في اتجاه إبراء ذمة المدعى عليهم، والذي ما زال أحدهم يشغل منصب رئيس السلطة التنفيذية، بما يعيد إليه منحة النسيان. وما يزيد من خطورة هذا القرار، أنّ من شأنه أن ينطبق على مجمل جرائم الفساد والإثراء غير المشروع كُلّما تذرّع المشتبه به بارتكابها أنّه انقضى زمن (وهو ثلاث سنوات للجنح وعشر سنوات للجنايات) منذ حصولها قبل صدور الصيغة الجديدة من قانون الإثراء غير المشروع في العام 2020.

من هذه الوجهة، بدا القرار بمثابة تمرد على القانون وعلى الإرادة المجتمعية التي يعكسها والأهمّ بمثابة إحباط لأيّ جهد في محاسبة جرائم الفساد وتطهير الإدارة العامة وحماية ما تبقى من موارد عامة في زمن الانهيار، وهو بذلك يكتسي دلالات رمزية لا تقل خطورة عن مفاعيله العملية. فلنراقب.

لقراءة هذا المقال باللغة الأنجليزية

للاطّلاع على قرار القاضي، إضغطوا هنا


[1] R. Garraud, Traite Theorique Et Pratique Droit Penal, 1913.

انشر المقال



متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني