“كلب الحراسة” في مجتمع فقد لقمة عيشه: قرار قضائي بتوسيع هامش المساءلة الإعلامية

،
2021-11-06    |   

“كلب الحراسة” في مجتمع فقد لقمة عيشه: قرار قضائي بتوسيع هامش المساءلة الإعلامية
رسم رائد شرف

أصدرت محكمة المطبوعات في بيروت حكمًا في 28/10/2021 أبطلتْ فيه التعقّبات المُساقة من قبل وزير الاقتصاد والتجارة السّابق راوول نعمة بحقّ جريدة الأخبار، وذلك على خلفيّة مقال نشرتْه هذه الأخيرة تحت عنوان: “راوول نعمة يسرق لقمة الفقراء: ربطة الخبز إلى 3000 ليرة”. وللتوصّل إلى هذه الغاية، ضمّنت محكمة المطبوعات حججا واجتهادات عدّة يستشفّ منها أمران أساسيان: (1) أن وظيفة الوسائل الإعلامية في الدفاع عن المصلحة العامة وحراستها ومساءلة المسؤولين العامين تزداد أهمية في ظروف الانهيار والتفقير الحاصليْن بفعل السياسات العامة المعتمدة و(2) الأهمّ أن من واجب المحكمة في ظل تعزيز هذه الوظيفة توسيع هامش النقد المباح. وفي حين عزا الوزير نعمة للجريدة نشرها أخبارا كاذبة عند ادعائها أنه “يسرق لقمة الفقراء” أو “أنّه يدعم كارتيلات الأفران عوضًا عن دعم الرغيف” وأنّه “ساهم مع شركائه السياسيين والمصرفيين بانهيار الاقتصاد”، اعتبرت المحكمة أنّ ما ورد في المقال ينقل بصورة موضوعية ما يتمّ تداوله في الشارع بخصوص الواقع الاقتصادي للمجتمع اللبناني إثر تدهور سعر الصرف. فحتّى لو لم تكنْ هذه الأخبار تتّسم بالدقة المتناهية إلّا أنّها كانت “تردادًا وانعكاسًا لصوت معظم الشعب اللبناني”.

وقبل المَضيْ في إبراز أهمّ الملاحظات التي يستدعيها هذا الحكم، تجدُر الإشارة إلى أنّه صدر عن الهيئة المكوّنة من الرئيسة المنتدبة ناديا جدايل ومن المستشارتيْن هبة عبد الله وأماني مرعشلي المنتدبة أيضًا.

 

“مبدأ التناسب” في تحديد دور الصحافة في حراسة المجتمع

أوّل الملاحظات على الحكم تتمثّل في مسعى المحكمة إلى توسيع هامش النّقد المُباح للمسؤولين العامين عملا بمبدأ التناسب. فبعدما وضعتْ أنه “يتوجب على القاضي التوفيق بين مبدئيْ حرية الصحافي بانتقاد الأداء السياسي للشخصيّة (القائمة بخدمة عامة) وحقّ هذه الشخصية بحماية سمعتها وكرامتها”، انتهتْ إلى وضع معايير لهذا التوفيق من شأنها توسِيع هامش حريّة نقد هذه “الشخصيّة”. ومن أهم هذه المعايير، المعياران الآتيّان:

  • الأول، أنّه يتوجب على الشخصيّات العامة ومن باب المسؤولية التي أُلقيتْ على عاتقهم أن يتقبّلوا النّقد ولو كان لاذعًا بدرجةٍ أعلى من أيّ مواطنٍ آخر وأنه يتعين عليها (أي المحكمة) تاليا أن تعتمد معيارٍا متساهلا مع الصحافة في هذا الخصوص. لا بل ذهبت هنا إلى تكرار قولها السابق بأنه “لا يستقيم عدالةً وقانونًا، إدانة من يصوّب ويدلّ على الفساد والخلل بشكل موضوعيّ”. وإذ استشهدتْ المحكمة مرّة جديدة بالحكم الصادر في قضية كولومباني عن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في 25/6/2002، فإنها عادت لتذكّر بالدور المفترض للصحافي بإطلاع الرأي العامّ وتنويره بالأمور السياسيّة والثقافيّة واصفة إياه ب “كلب حراسة” أو “chien de garde” “كلب حراسة” يتعيّن عليه السهر على حماية حقوق المواطنين من أيّ تعدٍّ يفرضه أداء الأشخاص القائمين بخدمة عامة.
  • أما المعيار الثاني لتوسيع هامش الانتقاد، فقد استمدّته المحكمة من الظروف الاجتماعية الضّاغطة التي يمرّ بها المجتمع والأضرار الجسيمة التي تكبّدها. فقد رأتْ أن ثقل حرية التعبير يزداد في الموازنة بينها وبين سمعة المسؤول بقدر ما تسوء الأحوال الاجتماعية التي يشتبه أن يكون مسؤولا عنها. وعليه، وبعدما ذكّرت أنّ المقال يندرج ضمن “الواقع المرير الذي يعاني منه الشعب اللبناني عامةً، وارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية لا سيما منها سعر الرغيف ما ينذر بأزمة أمن غذائي واجتماعيّ…”، أدلتْ بأن تناول نعمة في هذا الإطار “يصبح طبيعيا وواقعيا، في مجتمع فقد فيه الفرد حقه بالحصول على لقمة العيش” وبخاصة أنه كان يتولى آنذاك وزارة الاقتصاد المسؤولة عن سياسة دعم الخبز والمواد الغذائيّة.

وعليه، اعتبرت المحكمة أن العبارات الحادّة المُستخدمة في نقد نعمة ومنها أنه “يسرق لقمة الفقراء” أو “يدعم كارتيلات الأفران عوضًا عن دعم الرغيف” أو “ساهم مع شركائه السياسيين والمصرفيين بانهيار الاقتصاد” أو أساء “إدارة وزارة الاقتصاد خاصة في التعامل مع المحتكرين وبخاصة في مجال استثمار القمح” تبقى ضمن “ردّة الفعل العفوية المقبولة والمتناسبة مع فداحة الضرر الحاصل بالشعب اللبناني، لا سيما الطبقة الفقيرة منه”.

 

صدقيّة “المرآة” كسبب تبريريّ 

في حين ادّعى نعمة على الجريدة ومدير تحريرها بتلفيق الأخبار الكاذبة وبخاصّة لجهة العبارات التي طالتْه وحمّلته مسؤولية دعم الاحتكارات أو الانهيار أو حرمان الفقير من لقمة الخبز، ردّت المحكمة هذا الادّعاء على أساس أنه حتّى لو لم تكن هذه الأخبار تتّسم بالدقة المتناهية إلّا أنّها كانت “تردادًا وانعكاسًا لصوت معظم الشعب اللبناني”. وبذلك، بدتْ المحكمة وكأنها تضيئ على وظيفة أخرى للوسيلة الإعلامية وهي وظيفة المرآة التي تتمثل في نقل آراء الناس وأصواتهم وتردادِها. ونفهم ضمنا من الحكم أن المحكمة اعتبرَتْ أن نقل هذه الآراء يشكّل حجّة تبريريّة من شأنها ردّ ادّعاءات الخبر الكاذب حتى ولو كان ثمة جدل ممكن حول مدى دقّته. وقد بدتْ المحكمة وكأنها تجتهد في اتّجاه تضييق هامش الادّعاء بالخبر الكاذب في موازاة تكريسها لوظيفة المرآة لوسائل الإعلام.

 

مطبوعات بيروت تواصل التزامها بحماية حرية التعبير

لئن يعزّز هذا الحكم توجّه محكمة المطبوعات المستجدّ نحو حماية حرّية الرأي والتعبير، فإنه يشكّل دليلا هامّا على أنّ للهيئات القضائية قدرة هائلة على توسيع مدى حرية التعبير حتى في ظلّ القوانين نفسها. وهذا ما أشارت إليه “المفكرة القانونية” في مقاليْن سابقيْن تناول الأول توسّع المحكمة في حماية حرية التعبير في الكشف عن الفساد، فيما تناول الثاني حكميْن أصدرتْهما المحكمة في قضايا المسّ برئيس الجمهورية وانتهيَِا إلى توسيع حقّ انتقاده باسم المبادئ الديمقراطية.

كما يجدر التذكير في الوقت نفسه بالحكم الذي كانت أصدرته القاضية ناديا جدايل (رئيسة الهيئة) بصفتها قاضية منفردة جزائية في 30/11/2020 في قضية تظاهرة “لو غراي” خلال حراك 2015. وكانت جدايل أسقطت في الحكم المذكور تهم الشغب والتخريب عن جميع المدعى عليهم بعدما اعتبرتْ أنّ التواجد ضمن تجمعات شعبيّة … واجب على كل مواطن صالح يسعى الى تكريس مبدأ محاسبة المسؤولين عن أعمالهم في الدول الديمقراطية وبخاصة في ظل الظروف الاجتماعية المأساوية وأنه يتوجّب حمايته من قبل القضاء الذي يعاني من الصعوبات نفسها ويحكم باسم الشعب.

 

لقراءة حكم محكمة المطبوعات في بيروت اضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، قضاء ، المرصد القضائي ، مؤسسات إعلامية ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني