كيف تعاقب المنظومة القانونية والسياسية والمجتمعية الأمّهات العاملات


2024-05-04    |   

كيف تعاقب المنظومة القانونية والسياسية والمجتمعية الأمّهات العاملات

على الرغم من انخراط النساء ومنهنّ الأمهات في سوق العمل منذ عقود، إلّا أنّ الأعمال الرعائية والمنزلية لا تزال ملقاة على عاتقهنّ ما يجعل من “الأم العاملة” وبحسب العديد من المقابلات أجرتها “المفكرة القانونية” مع أمهات وباحثات وحقوقيات، أمًا مرهقة ينتابها شعور دائم بالإخفاق وعدم القدرة على إنجاز جميع مهامها. يحصل ذلك في منظومة ذكورية تجلعها تشعر دائمًا أنّ عليها “الإثبات” للمجتمع وصاحب العمل والزوج وحتى الأهل، ولاحقًا الأبناء، أنّها امرأة قوية وقادرة على التحكّم بالأمور.

اليوم تتقاسم الأمّ العاملة مع الرجل أعباء الإنفاق المنزلي بالإضافة إلى تحمّلها حوالي 90% من متطلّبات الرعاية والأعمال المنزلية، بحسب الباحثة المستقلّة زينة الحلو التي عملت على ورقة سياسة عامّة متعلّقة بالإجازة العائلية لصالح المعهد العربي للمرأة التابع للجامعة اللبنانية الأميركية، أما الأدوار الرعائية المنزلية فبقي الرجل عامة بمنأى عن تحمّل أيّ منها.

يحدث كلّ ذلك في ظلّ غيابٍ القوانين والسياسات الحكومية الداعمة للأسرة، والأهم التعاطي مع الأمومة كمسؤولية مجتمعية وليست محض شخصية، فمثلًا تشير الحلو إلى أنّ القوانين تقارب حق الأمومة من مفهوم طبّي، فترتبط إجازة الأمومة بمدى شفاء الأم وتعافيها جسديًا، من دون الالتفات إلى الدور التربوي الرعائي. كذلك لا تنصّ القوانين اللبنانية على إجازة الأبوّة التي تسمح للأب بالانخراط في عملية الرعاية.

ويحدث كل ذلك في ظلّ متغيّراتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ تدفع ثمنها اليوم الأم العاملة تعبًا إضافيًا وإرهاقًا، وتتحمّل وحدها مسؤولية تربية أجيال من دون أي مساعدة من أصحاب القرار أو أصحاب العمل والقوانين، ما يدفع بالكثير منهنّ إلى التوقّف عن العمل أو التوجّه نحو العمل الجزئي، أو الحرّ بدلًا من  الوظيفة، ما يحرم الأم العاملة من حقها في الارتقاء في السلّم الوظيفي و تبوّؤ مراكز عالية وتحصيل رواتبٍ مرتفعةٍ. وقد عبّرت 60% من النساء المستطّلعات في إطار دراسة للبنك الدولي بعنوان “خدمات رعاية الأطفال في لبنان تقييم العرض والطلب”، بأنّ مسؤوليات رعاية الأطفال هي السبب الرئيسي لعدم انضمامهنّ إلى القوى العاملة. 

وما يجعل المرأة المتزوّجة الخيار الأوّل في الأسرة لترك العمل وليس الزوج هو أيضًا تدنّي رواتب النساء مقارنة بالرجال في سوق العمل والبيئة غير المؤاتية وحتى العدائية أحيانًا، ولأنّ مجتمعنا ينظر إلى عمل المرأة على أنّه مساند لعمل الرجل وليس مصدر الدخل الرئيسي للأسرة. 

وتراجع عدد النساء في سوق العمل له تأثير مباشر على النمو الاقتصادي، لأنّ شريحة كبيرة من أفراد المجتمع أي النساء لم يتمّ تمكينهنّ اقتصاديًا وهنّ غير مشاركات في الإنتاج، بحسب الباحث علي فقيه الذي عمل على ورقة بحثية حول المشاركة الاقتصادية للمرأة في لبنان لصالح المعهد العربي للمرأة أيضًا. ويضيف فقيه أنّ تجارب دول أجنبية أعطت تسهيلات عائلية للأم العاملة والعائلة بشكل عام، أثمرت نتائج إيجابية لجهة نمو الاقتصاد. 

في هذا التحقيق سنسلّط الضوء على معاناة “الأم العاملة” الناتجة عن منظومة متكاملة من العناصر المجحفة تتألّف من القوانين المجحفة والسياسات العامّة التمييزية وغير الداعمة للمرأة والبنية المجتمعية التي لا توفّر رافعة للأم العاملة التي تضطلع عبر أمومتها بوظيفة اجتماعية تخدم الأوطان، وليست مجرد مسألة فردية أو شخصية، وما لذلك من تأثير على الأم بالمرتبة الأولى والأسرة والأطفال وبالتالي المجتمعات وأيضًا الاقتصاد.

عن وحدة الأم العاملة

“بدي نام مثل جوزي ما بدي نام مثل طفلي” عبارة قالتها أمّ عاملة من بين المشاركات في دراسة الباحثة زينة الحلو، وهي تختصر حال الأم العاملة التي يبدأ نهارها عند الساعة الخامسة صباحًا ولا ينتهي عند التاسعة مساءً، مع كلّ ما يتخلّله هذا الوقت من مسؤوليات ترهق كاهلها.

فما أن تصبح المرأة العاملة أمًا، حتى تنقلب حياتها رأسًا على عقب، فهي في غضون دقائق ستتضاعف مهامها ومسؤولياتها، وسيمنحها القانون اللبناني، من دون زوجها، إجازة 10 أسابيع كحدّ أقصى تعود بعدها إلى العمل وكأنّ شيئًا لم يكن. أسابيع يراها القانون “كافية” لأن تتعافى وتتدبّر أمر مولودها الجديد قبل بلوغه الثلاثة أشهر، مدفوعة إلى تركه إما في حضانة أو عند والدتها أو مع العاملة المنزلية لمدة ثماني ساعات متواصلة على الأقلّ. طفل يقتات في أغلب الأحيان على حليب أمه عبر  الرضاعة الطبيعية، إلّا أنّ القانون اللبناني لا يمنح الأم حتى ساعات استراحة مخصّصة للرضاعة، ولا يكترث إن بقي الطفل طيلة فترة دوام عمل والدته بلا طعام، أو كيف تتدبر أمرها. ولا يكترث من وضعوا القانون والذين هم إجمالًا رجال، إلى وضع الأم الجسدي والنفسي، فالأمهات المرضعات تمتلئ صدورهنّ بالحليب كلّ ثلاث ساعات ما يتسبّب لهنّ بآلام في الظهر والكتفين، ما يضطرّهنّ لاستخدام “جدابة الحليب” breast pump التي تقلّل كثرة استخدامها كمية الحليب المتدفق، وبالتالي تضطرّ الأم العاملة إلى فطم طفلها وحرمانه من الرضاعة الطبيعية سريعًا، ما له آثار سلبية على صحته وعلى نفسيّتها. كما أنّ ليل الأم يختلف عن ليل الجميع، خصوصًا إن كان طفلها رضيعًا. فحينها لا يكون ليلًا، بل عبارة عن ومضات قصيرة تغمض فيها الأم عينيها لكن يبقى دماغها وقلبها يقظين متأهّبين. 

وتؤكد الحلو أنّ صعوبات جمّة تواجهها النساء الممتدة أعمارهنّ من 35 عامًا لغاية 55 أو 65 عامًا، كونه الجيل الذي دخل إلى سوق العمل والوظيفة، وهؤلاء أبقين على أدوارهنّ الرعائية إلّا أنهنّ أضفن إلى سلّة مهامهنّ “العمل المأجور”. وتتابع أنّه اليوم وبدلًا من أن تقسّم الأدوار بالتساوي بين الرجل والمرأة، أي  مناصفة بين الدور الرعائي والدور الاقتصادي والإنفاق، انتهى الأمر بتحمّل النساء الجزء الأكبر من الأعمال المنزلية الرعائية والإنفاق في آن معًا، ما يجعلهنّ  يرزحن تحت ضغط كبير.

وتشير إلى أنّ وضع الأمّ العاملة زاد سوءًا مع الأزمة الاقتصادية بعدما فقدت رواتبهنّ قيمتها، وأصبحن عاجزات عن دفع رواتب العاملات الأجنبيات اللواتي كنّ يساعدنهنّ في التربية والأعمال المنزلية، فارتأت العديدات منهنّ أنّه بات من الأجدى  البقاء في المنزل والاهتمام بالعائلة على العمل بأجور زهيدة وتحمّل الضغط، وفي هذا تأثير كبير على استقلاليتهن وحفهن بالعمل والتطور. 

وتقول الأخصائية في علم النفس الاجتماعي غنى حمود، إنّ المرأة العاملة تتحمّل وحدها مسؤولية الرعاية والتربية ما يضعها تحت ضغط كبير، فقد ألقيت على عاتقها مهام عدّة مع شرط عدم التقصير، وضرورة إتمامها على أكمل وجه، كل هذا  في ظلّ غياب التسهيلات والحاضنة الاجتماعية والقانونية الداعمة،، ما يسبّب لها الاكتئاب والإرهاق حد الانهيار ويجعل منها “ضحية” لكل المنظومة من سياسات وقوانين وبنية اجتماعية. وهذا الأمر له تأثير مباشر على نفسية الأطفال الذين يشعر العديد منهم اليوم بالحرمان العاطفي، “أنا عندي كثير حالات أمّهات بيقولولي إنّه نحن مش عم نلحق، منشتغل منشتغل والمعاش بروح أقساط وفواتير وما بيبقالنا شي من معاشنا”.  

يوم طويل في حياة أمهات عاملات

تقول عبير، وهي أمرأة عاملة وأم لثلاثة أولاد، إنّ يومها يبدأ مع ساعات الفجر، وهو توقيت اعتمدته حيلة لضمان حصولها على استراحة صباحية قصيرة لنفسها تتناول خلالها فنجان قهوتها “على رواق” ما تلبث أن تنتهي لتحضير مستلزمات طبخة سريعة أو تحضير فطور وسندويشات للأولاد الذين غالبًا ما يستيقظون عند السادسة لـ “ينطلق النهار”. تقول عبير: “أنا بكون عم بركض بدّي لبّس ثلاثة أولاد وطعمّيهم وحضّرلهم شنطهم، إرجع إلبس أنا وحضّر زوّادة وجوزي بعده بسابع نومة”. وغالبًا ما تخرج عبير من المنزل بشعر “منكوش” ومن دون فطور، متأبّطةً سندويش حضّرته على عجل، أو حاملة فنجان قهوتها الذي بات باردًا كونه لم يتوفّر لها الوقت لإنهائه حين استيقاظها.

وتضيف عبير أنّه غالبًا ما يستيقظ زوجها قبل لحظات من الانطلاق إلى المدرسة ويحلو له اللعب قليلًا مع الأولاد، أو الطلب منها تحضير فنجان قهوة، فتنتهي آمالها بالوصول باكرًا إلى العمل والعودة باكرًا لإنجاز بعض الأعمال المنزلية، أو إمكانية المكوث قليلًا عند والدتها لتفقّد حالها مثلًا.

“ما بلحّق على شي وبحس حالي مقصّرة بكلّ شي ومع الكلّ، ما بقدر إضهر ضهرة مع رفقاتي، صارت حياتي شغل وأولاد ونوم”.

وبما أنّ دوام عبير في العمل أطول من دوام أولادها في المدرسة فإنّ حافلة المدرسة تُنزلهم لدى والدتها ومن هناك يكون على عبير أخذهم إلى البيت، وقبل ذلك تمرّ سريعًا على السوبرماركت لتشتري بعض الحاجيات.  يستمر “الركض” على حد تعبيرها، حتى في المنزل حيث تبدأ ماراتونًا آخر غير الماراتون الصباحي: تحضير الطعام، وضع  بعض الثياب في الغسالة، الإشراف على تدريس الأطفال أو الذهاب بهم إلى أنشطتهم، بعدها تعود بهم إلى المنزل، وبينما يستحمّون تحضّر من جديد لهم طعام العشاء ثمّ يخلدون إلى النوم عند التاسعة تقريبًا، وأحيانًا تنام عبير معهم من كثرة التعب والإرهاق. وتؤكّد الأمهات اللواتي حدثتهن “المفكرة” أنّ دوامهنّ لا ينتهي بنوم الأطفال بل يبدأن دوامًا جديدًا بمهمة جديدة تحت عنوان  تلبية “الواجبات الزوجية”.

وفي حياة الأمومة يصبح العمر محسوبًا بالثواني، وكلّ دقيقة هي استثمار لعدم الشعور بالتقصير، إمّا لإجراء محادثة سريعة مع أطفالها، أو اللعب قليلًا معهم أو حتى التنظيف، “ما عندي وقت لحالي أبدًا، حتى بإيّام نهاية الأسبوع بدّي نظّف البيت وجهّز كم طبخة خلّيهن بالثلاجة وإغسل، وإذا بقي شوية وقت بقعد مع الأولاد”، تقول عبير التي تعتبر أنّها وحيدة في عملية التربية والرعاية، “بحسّ ما في حدا حدي، جوزي إذا شي مرّة وصّل الأولاد الصّبح بيربّحني جميلة”. وتضيف أنّها لربما كانت ستشعر بالراحة لو شاركها زوجها جزءًا من المهام. “إذا تعبنا نحن الاثنين بقول نحن كأهل واجبنا نتعب بس أنا لحالي بحسّ بالظلم والاستغلال”. وتعبّر عن قلقها بسبب شعورها وكأنّ دورها كأم منحصر بتلبية حاجات أولادها البيولوجية، ولا يبقى الكثير من الوقت للاستماع إلى قصصهم وتجاربهم، “أصعب شي عندي إنّه عم  حسّهم عم يتعوّدوا على غيابي الطويل، بحس ما في وقت لشي كأنّي قطار ماشي وما قادرة وقّفه”.

وداد موظفة في شركة تقول إنّ ابنها لم يكن قد بلغ الأربعين يومًا حين اضطرّت للعودة إلى العمل بعد انتهاء إجازة الأمومة، “رجعت عالشغل وحطيت ابني بالحضانة، ابكي من قلبي كل ما وصّله، كنت بعدني عم رضّع، يملا صدري حليب وصير ملبّكة وين بدّي جدّب (أشفط الحليب)، ضهري وكتافي يوجعوني، بعدين صار أوقات الحليب يضهر على كنزتي وما تفرق معي”. تقول إنّ قوانين العمل جائرة وغير منصفة حتى مع تعديل إجازة الأمومة “سبعة أسابيع أو عشرة شو بتعمل، بعده الولد ما وعي حتى نتركه مع ناس غريبة بس كلّنا منخاطر، بعدين الولد بهيدا العمر بعده بيفيق بدّو ياكل بالليل، كيف بدنا نسهر بالليل ونشتغل بالنهار أيّ تركيز هيدا؟”. وتتمنّى وداد لو كان هناك حضانة في مكان عملها كما في دول عديدة حول العالم “كنت بنزّله معي بكسب وقت، وبيضل حدّي برضّعه كلّ شوي وبطلّ عليه، إذا كان حدي برتاح نفسيًا وبركّز أكثر عالشغل”.

ريما أم لأربعة أولاد أحدهم لديه إعاقة جسدية، تعمل في مجال الضيافة والخدمات في الأعراس والمناسبات، تقول إنّها فضّلت العمل الحر على الوظيفة رغم أنّها تعمل لساعات طويلة، لأنّها قادرة على المجيء إلى المنزل خلال النهار لمتابعة أطفالها قدر المستطاع. كما تختار العمل في مناطق قريبة لمكان سكنها، لتتمكّن من العودة إلى المنزل عند الظهر مع مجيء أولادها من المدرسة، أو لإرضاع ابنها الذي تبقيه عند جارتها مقابل بدل مالي. وتعود ريما بعد انتهاء الغداء مباشرة إلى العمل بينما تتابع معلمة خاصّة دروس أولادها. فهي المعيلة الوحيدة لعائلتها بعد طلاقها من زوجها، مضطرّة للعمل بساعات إضافية، وتعود أحيانًا في ساعات متأخرة من الليل، تنقل ابنها الرضيع من منزل جارتها وأولادها النائمين على الكنبات إلى فراشهم، “بيكونوا نايمين عالكنبيات بثيابهم، بفرشلهم وبلبسهم بيجامات، برجع برضّع الصبي وبقوم بنظّف البيت شوي، بكوي، بحضّر طبخة، أحيانًا كثيرة ما نام إلّا شي ثلاث ساعات كحد أقصى”.

الرجل أيضًا “محروم” من رعاية أولاده أو عاجز عن ذلك

“الرجل بحرمانه من دوره في رعاية واحتضان أولاده محروم من شعور كثير حلو ومن دور كتير مهمّ”، هذا ما يؤكده عدنان ملكي في اتصال مع “المفكرة”. وعدنان هو زوج لامرأة عاملة (جمانة زباني) التي يتطلّب عملها الكثير من السفر، اتفقا منذ فترة حملها، أنّه سيتوكل في غيابها بالدور الرعائي. وبهذه الطريقة تمكّنت جمانة من الاستمرار في عملها والارتقاء في وظيفتها. في المقابل دعمته هي عندما قرر استكمال دراسته لمدة سنتين وحملت عنه المسؤولية وحدها. ويؤكد عدنان أنّه وجمانة حين اختارا بناء عائلة، كان عليهما التضحية تجاه بعضهما البعض، وكي لا يُظلم شخص على حساب الآخر. 

فحين تغيب زوجته لفترة أسبوع يتوكّل وحيدًا رعاية طفلتيهما، أما إذا كانت مدة سفرها تتطلّب الغياب لأكثر من أسبوع فتسافر العائلة مجتمعة، وقد سافرت ابنته الرضيعة في عامها الأوّل تسع مرات، وكان عدنان يقوم بجميع المهام الرعائية التي تحتاجها ابنتاه في غياب جمانة. يروي أنّه كان يطعم طفلتيه ويحممهما ويشاركهما اللعب، ويسهر عليهما خلال فترات المرض، وهو ما جعله يلمس حجم الصعوبات والتعب الذي تمر بها الأمهات. فهو كثيرًا ما كان يذهب إلى العمل وهو مرهق بعد ليل طويل من السهر، وكثيرًا ما كان يضطر للتغيّب عن العمل أو التأخّر. يقول عدنان إنّه في الوقت نفسه كان يشعر بمتعة كبيرة في رعاية ابنتَيه، معتبرًا أنّ القوانين ليست مجحفة فقط بحق الأم بل أيضًا في حق الأب المحروم من إجازة الأبوّة والمحروم أيضًا من قضاء فترات ممتعة مع أطفاله. 

كذلك سمحت التجربة لعدنان بمعاينة كيف أنّ كلّ شيء مقولَب لتكون الأم هي المسؤولة عن التربية، فكان عندما يخرج برفقة ابنته سوية يواجه صعوبة في إيجاد مكان مخصّص للأب لتغيير حفاضها أو ملابسها “كل غرف التغيير للأطفال موجودة بحمامات النساء وممنوع انا فوت، كنت أنزل على السيارة لغيّرلها”. 

يشير عدنان أيضًا إلى أنّه مرّ بتجربة جعلته يفكّر كم من المفيد للعائلة أن تكون الزوجة عاملة، وهي إصابته بفيروس كورونا وتقدّم حالته إلى مستوى الخطورة، حينها يقول إنّه وفي لحظات الخوف على حياته وهو في غرفة العزل، كان مرتاحًا لأنّ جمانة امرأة عاملة تستطيع الاستمرار وحدها وتأمين مستلزمات عائلته إذا أصابه مكروه.

شربل زوج من دون عمل منذ بدء الأزمة، تعمل زوجته رنا معلّمة في إحدى مدارس بيروت ولديهما ثلاثة أولاد، وتعيش العائلة في صربا. لم يستطع شربل أن يقوم بمهام الرعاية وحده رغم أنّه لا يعمل “كنت أرتبك كثيرًا مع الأولاد، حتى حين كانوا اثنين، فأنا لم أعتد على القيام بأي دور في البيت قبل الزواج. سريري لم أكن أرتّبه”. يقول شربل إنّه أعلن سريعًا استسلامه وأبلغ زوجته أنّه غير قادر على القيام بالمهمّة. اليوم يأتي الأطفال الثلاثة من المدرسة مباشرة عند والدة رنا ويلاقيهم والدهم حيث يتناولون الغداء إلى أن تصل والدتهم من بيروت. ويكون على رنا بعد ذلك تدريسهم والاهتمام بأمورهم الأخرى رغم تعبها ووقوفها طيلة اليوم. يأسف شربل لهذا المآل ويعيد عجزه إلى تربيته وإلى التمييز في منزل أسرته حيث لم تكن والدته تُشركه هو وشقيقه في أي من أعمال المنزل وكانت تستعين فقط بأخته الكبرى.  

معاقبة الأمومة على مقصلة القوانين المجحفة

تلحظ القوانين اللبنانية وضع الأم العاملة لناحية تحديد إجازة الأمومة التي عدّلت في العام 2020 لتصبح عشرة أسابيع بعد أن كانت سبعة. وتؤكد زينة الحلو أنّ هناك الكثير الأمهات لا يُسمح لهنّ بأخذ حتى كامل هذه الفترة. وخلال تحضيرها للدراسة أخبرتها إحدى الأمهات المتبوّئة منصبًا عاليًا في إحدى الجامعات أنّها عادت إلى العمل بعد ثلاثين يومًا من ولادتها.

ويشرح المحامي كريم نمور في اتصال مع “المفكرة”، أنّ قانون العمل اللبناني لحظ عمل المرأة في مواد عدة تصنّف قاصرة منها: المادة  26 التي تحظر التمييز ضدّ المرأة العاملة وتمنح الأم العاملة إجازة أمومة مدتها 10 أسابيع، والمادة 27 التي تحظر تشغيل المرأة في بعض الأعمال لخطورتها. لكن لبنان لم يوقع على اتفاقيتين مهمتين لمنظمة العمل الدولية هما الاتفاقية رقم 183 التي تتحدث على  “حماية الأمومة”، والاتفاقية رقم 156 المتعلقة بالمسؤوليات العائلية.

وتختلف حقوق الأم العاملة في القانون اللبناني عن الحقوق الواردة في اتفاقية  183، ففي حين تمنح الاتفاقية 14 أسبوعًا كإجازة أمومة تقتصر مدتها في قانون العمل اللبناني على 10 أسابيع. كذلك تعطي الاتفاقية للأم الحق  في الحصول على استراحات للرضاعة الطبيعية خلال عملها إلّا أنّ القانون اللبناني لم يأت على ذكر هذا الحق بتاتًا، ولا على إعطاء الأب إجازة أبوّة التي تصل في بعض البلدان إلى 12 أسبوعًا. هذا ويتوافق القانون اللبناني مع بنود الاتفاقية فقط لجهة حظر توجيه إنذار للمرأة الحامل أو صرفها خلال مدّة حملها وإجازة الأمومة.

وفي هذا السياق، نلفت إلى أنّ النائبة عناية عز الدين رئيسة لجنة الأم والطفل النيابية تقدّمت باقتراحي قانون الأوّل تستفيد منهما المرأة العاملة، يقضي الأول بتمديد إجازة الأمومة إلى 14 أسبوعًا مع استراحات للرضاعة الطبيعية في أماكن العمل، وإعطاء إجازة أبوّة لمدة 10 أيام، وقد حاز الاقتراح على موافقة اللجنة النيابية بانتظار أن يعرض على الهيئة العامّة للتصويت عليه. والثاني يقضي بتعديل المواد 1، 2، 12 من قانون العمل ليشمل العمل المرن والعمل عن بعد. وتقول عز الدين في اتصال مع “المفكرة” أنّه يتم العمل على ملف تحسين وتطوير وضع الحضانات وتطوير مفهوم العمل الجزئي من 5 ساعات إلى  ثلاث ساعات مع الحفاظ على الحماية الاجتماعية. كل هذه التعديلات بحسب عزالدين من شأنها خلق نوع من التوازن داخل الأسرة بحيث يستفيد الرجل من التسهيلات، فإذا كانت الأم تعمل بأجر عال يمكن أن تبقى في عملها بينما يختار هو العمل الجزئي ما يؤمّن حماية اجتماعية ويخفف من العمل غير المنظّم وغير المسجّل، ما ينظم وضع الأسرة ويوزّع المسؤوليات ويحسّن الوضع الاقتصادي. 

أما اتفاقية 156 بعنوان “اتفاقية تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة من العمال من الجنسين: العمال ذوو المسؤوليات العائلية”، فيشرح نمّور أنّها اتفاقية خاصّة بالأجراء وتنصّ على ضرورة وجود مساعدات اجتماعية وعلى واجب الدول في خلق نظام رعائي لمساعدة الأهل، مضيفًا أنّه على الرغم من أنّ القوانين اللبنانية تلحظ إعطاء مساعدات عائلية إلاّ أنها حتمًا مساعدات غير كافية ولا تواكب المعدّلات المعيشية الثلاثة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي  معدل الحد الأدنى للأجور وإيجارات البيوت إضافة إلى معدل المستوى المعيشي.

ويضيف نمّور أنّه في ظلّ غياب مواد قانونية منصفة وداعمة، يمكن التعويل على المؤسّسات الخاصّة التي باستطاعتها وضع نظام داخلي من روحية هذه الحقوق تصدّق عليه وزارة العمل، ولكن في هذه الحال غالبًا ما يُتخوّف من تحمّل صاحب العمل وحده الأعباء، ما يدفع به نحو التمييز تجاه توظيف المرأة، “يعني ممكن يقول بلا ما وظّف امرأة بدها بكرا تحبل وإجازات وغيرها، فبيوظّف رجالا”.

من هنا يعتبر نمّور أنّ على الدولة وضع سياسات وتحديد الأولويّات في المساعدات العائلية، وإعادة تخصيص أموالها مع مراعاة أهداف الرعاية الاجتماعية “مثلًا تِعمل ضرائب على الشقق الفارغة هذا من شأنه أن يخفض من القيمة التاجيرية ما يخفّف عن كاهل الأهل”.

تراجع حضور المرأة في سوق العمل وأثره على الاقتصاد

يُظهر تقرير لإدارة الإحصاء المركزي صادر في العام 2021 بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أنّه على الرغم من أنّ أعداد الإناث في التعليم العالي متقدّمة كثيرًا على أعداد الذكور، إلّا أنّ نسبة عمل النساء في الوظائف المقنّنة (قطاع رسمي وقطاع خاص) لا تتجاوز 27% كحد أقصى، ومعدّل ارتفاع نسبة مشاركتها  لن تزيد في المستقبل عن 32%، وهذا ما يؤدي إلى حالات من التبعية الاقتصادية لدى النساء من جهة، وانخفاض عائدات الاستثمار في تعليم النساء من جهة أخرى. 

ويضيف فقيه أنّه غالبًا ما تتوجّه النساء للعمل في قطاع الخدمات لا سيّما في قطاع التعليم أو التمريض، فنسبة الإناث 81.11% من مجمل عدد المعلّمين في القطاعين الرسمي والخاص للعام الدراسي 2022-2023 بحسب دراسة لسهام أنطون نشرتها “المفكرة”، في حين لا تتجاوز مشاركتهنّ 7% في القطاع الصناعي.

وتعتبر الحلو أنّ التمييز على صعيد الرواتب والتقديمات، هو ما يدفع المرأة والأم إلى ترك الوظيفة أو البقاء تحت ضغط الشعور بعدم التقدير، وأنّ عدم إعطاء رواتب منصفة وعادلة يقلّل من قدرة المرأة على الإنفاق، هذا إضافة إلى العقلية الذكورية التي تجعل المرأة  في حال دائم ومستمر من “إثبات الذات”. وبحسب تقرير إدارة الإحصاء المركزي يبلغ متوسّط أجور النساء اللبنانيات أقلّ بـ 6.5% من أجور الرجال اللبنانيين. 

ويؤيّد الباحث علي فقيه بأنّ التمييز ضمن الوظيفة هو سبب رئيسي لانخفاض نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، “في سيستام تمييزي بالمؤسسات، بيشتغلو نفس الشي بس بيكون معاشه أكبر من معاشها”. ولا يقتصر التمييز على الرواتب والحوافز، بل يتعدّاها إلى بيئة العمل التي قد تكون أحيانًا عدائية من حيث عدم تقدير عمل المرأة أو التقليل من قدراتها والتنمّر عليها وبشكل خاص تعرّضها للتحرّش وغياب المحاسبة خصوصًا إن كان المتحرّش في منصب قيادي. وتشير الحلو إلى أنّ حالات التحرّش في مكان العمل تدفع النساء إلى الاعتكاف عن الذهاب للعمل وتقديم استقالتهنّ، “انت هلق بس تتعرّضي للتحرش شو بتعملي…  بتبطلي تروحي”. 

وتعتبر إقبال دوغان، المحامية ورئيسة رابطة المرأة العاملة في لبنان، أنّ أكبر ضرب للحركة النسائية هو التمييز ضدّها بخاصّة في أماكن العمل “أنا كنت موظّفة ريجي بالأول كانت المرأة إلها سقف بالترقية، كان ممنوع توصل لتكون رئيسة دائرة، هيدا الشي بيخلّي الرجّال متفوّق عليها وبيخلّي راتبه أعلى من راتبها،  ولليوم بعدها”.

تؤكّد الحلو أنّ القوانين الحمائية بعيدة عن الواقع كون المجتمع وأصحاب القرار وأصحاب العمل يعيشون في حال من الإنكار: “بيقولولك لا نحنا ما عنّا فجوات بالأجور لا مش مزبوط في تمييز”. من جهة ثانية ترى أنّ القوانين تراعي الهيئات الاقتصادية التي تتحفّظ على إعطاء إجازات أطول للنساء والرجال.

وتلفت الحلو إلى أنّ النتائج الاقتصادية لدول أوروبية عمدت ابتداء من العام 2018 إلى تقديم شكل من أشكال إجازة الأبوّة أو العائلة كانت إيجابية، وأكدت شركات عدة بدأت اعتماد سياسات وظيفية وعائلية أكثر مرونة أنّ الكلفة الاقتصادية ليست مرتفعة كما يظنّ البعض.

حلول أوّلية 

تقول المحامية إقبال دوغان، إنّ تربية الأطفال وتأسيس عائلة هي مسؤولية الأب والأم، ومسؤولية مجتمعية لذا على أصحاب العمل تحمّل جزء من المسؤولية، فعلى سبيل المثال، هناك ضرورة لوجود حضانات في المؤسسات الكبيرة بحيث تستطيع المرأة وضع طفلها في مكان آمن وقريب منها، حيث يمكنها الذهاب خلال فترات إرضاع ابنها أو الاطمئنان عنه.  

وتدعو دوغان إلى رفع إجازة الأمومة إلى 15 أسبوعًا وإقرار إجازة أبوّة، مؤكدة أنّ كلّ هذه التسهيلات تزيد من إنتاجية المرأة إذ تصبح مطمئنة على أطفالها.

وتشير الباحثة منى فياض إلى المثال الكندي (حيث يسكن أولادها) في تنظيم المدينة والبنية المجتمعية التي تقوم أساسًا على دعم الأسرة، حيث هناك حضانات حكومية وبدوام متأخّر في كلّ حي بحيث تكون قريبة من المنازل، عدا عن المساحات العامّة المجانية. أما إجازة الأمومة في كندا فهي ستة أشهر براتب مدفوع، بعدها تمنح الأم فترة سنة ونصف براتب جزئي، أما إجازة الأبوّة فهي 12 أسبوعًا أي عمليًا أكثر من إجازة الأمومة في لبنان.

وتشدد دراسة البنك الدولي الآنفة الذكر على ضرورة النظر إلى حلول رعاية الأطفال في أماكن العمل على أنّها استثمار وليس تكلفة إضافية، فهي تخفّض من معدّل غياب الموظفين، وتمكّن المؤسسة من الاحتفاظ بأصحاب المهارات، وتزيد من قدرة الموظفة على تأمين التوازن بين الحياة المهنية والحياة الشخصية ما ينعكس إيجابًا على أدائها الوظيفي.

وتؤكد الدراسة أنّه يمكن لمشاركة المرأة في القوى العاملة أن ترتفع بنسبة 2.1 نقطة مئوية إذا توفّر المزيد من خدمات رعاية الأطفال المدفوعة، و6.7 نقطة مئوية في حال زيادة توفّر خدمات مجانية لرعاية الأطفال، وأنّ 81% من الأمهات لأطفال ما دون الست سنوات مستعدات للبدء بالعمل أو زيادة الساعات لو كان بإمكانهنّ الحصول على رعاية مجانية.  

وتشير الحلو إلى أنّ الحلول تبدأ بالعمل على تحسين القوانين عبر تحسين وضع المرأة والأم العاملة، بمنحها مدة حضانة أطول أو إقرار إجازة أبوّة وغيرها، والعمل على التوعية على أهمية إجازة الأبوّة كي يكون الأب شريكًا في عملية الاحتضان، إضافة الى تحمّل  الإعلام دورًا أساسيًا في زيادة هذا الوعي. 

وهناك حلول “ثورية”، برأي الحلو، بتسليط الضوء على أهمية تمكين المرأة وعملها لرفع النمو الاقتصادي، وضرورة مواءمة الاقتصاد مع العمل مع مخطّط الإنتاج، عبر وضع سياسات اقتصادية عمالية. وتوضح أنّ “الدولة بدها تحط مخطط، مثلًا بدها تقول بدّي زيد الولادات أو نقّص الولادات، حسب نحن مجتمع فتي ولا كهل، لأن بحسب الهرم السكاني بقدر أعرف كيف بدي وجّه اقتصاد المجتمع. إذا مجتمع فتي يعني قاعدة الهرم عريضة بيصير في ضغط على الطبقة العاملة لأنّها بدها تؤمّن متطلّبات الصغار وهون لازم الدولة تعطي تقديمات تعليمية وضمان اجتماعي وغيرها”. من هنا يتحدّد برأيها حجم التقديمات ونوعيتها “بعض الدول قالت أنا بعطي إجازة أمومة عالية عالولد الأول، وخفّفت التقديمات للولد الثاني والثالث لأن بدها تخفف الولادات لأن بحسب الهرم السكاني المجتمع فتي”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني