في 30/11/2018، أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا حكمين لافتين في قضيتين من قضايا الحراك الشعبي الحاصل في صيف 2015. وقد تميز الحكمان بإبطال التعقبات بحق ناشطيْن في هذا الحراك بشأن ما كان نسب إليهما من تحقير وقدح وذمّ بحق الحكومة بكامل وزرائها. وكان الادعاء استند في القضية الأولى على قيام الناشطيْن برفع صورتين تضمّان جميع وزراء لبنان كتب عليها “زبالة لبنان”، فيما استند في القضية الثانية على قيام الناشطيْن برمي طابات بينغ بونغ صغيرة الحجم، برتقالية اللون، مدوّن عليها بخط اليد عبارات “حرمي، وزير حرامي، زبالة لبنان، 24 فاسد، فاسدين، فاسد..”.
وكانت القاضية صفا أصدرت، خلال السنة نفسها، حكمين آخرين ذهبا في الاتجاه نفسه: الأول، صدر بتاريخ 3/4/2018 بكفّ التعقبات بحقّ أحد ناشطي الحراك على خلفية العبارات القاسية التي وجهها إلى رئيس الوزراء آنذاك تمام سلام، اعتراضا على أزمة النفايات التي كانت سائدة في صيف 2015، والتي جاء فيها: “يا تمام يا زبالة”. والثاني، صدر بتاريخ 31/10/2018، بكف التعقبات بحق خمسة نشطاء كانوا دوّنوا الشعارات الآتية عن طريق الرشّ على بلوكات الباطون في منطقة الروشة في أوائل 2016، وذلك اعتراضا على الضرائب التي كانت تعمل الحكومة على فرضها. وقد تضمنت الشعارات الآتي: “لا لزيادة الضرائب- ما رح ندفع – إيدكم عن جيبتنا – أنتو بتسرقوا ونحنا مندفع”.
للوصول إلى هذه النتيجة، اعتمدت القاضية صفا تعليلا متشابها في مجمل قراراتها. فبعدما سلمت في القضايا الأربع أن العبارات المستخدمة هي عبارات قاسية “جاءت بشكل صريح ومباشر خارج أدبيات التخاطب وحدود اللياقة في إبداء الرأي، والمفروض التحلّي بها تجاه أي شخص”، وأنها تنمّ عن “تجاوز في التعبير يشكل في ظاهره مساسا بالكرامة” وأنها “تشكل العنصر المادي لجرائم التحقير والقدح والذم”، عادت واعتبرت أنها لا تشكل جرما، لغياب العنصر المعنوي (النية الجرمية). ومن أهم المبررات التي تكرر ذكرها في متن هذه الأحكام والتي انبنتْ عليها النتيجة التي وصلت إليها المحكمة، الآتية:
- أن التعبير عن الرأي والذي حصل بأشكال مختلفة (يافطات، رش على الحيطان، أشكال مبتكرة كرمي طابات البينغ البونغ) تمّ بطريقة سلمية، من دون أن يتخلله أي عنف أو أذى لأحد. وقد بدا واضحا اتجاه القاضية صفا في اشتراط الطابع السلمي لإقرار حرية التعبير لناشطي الحراك، وذلك من خلال التأكيد على أن طابات البينغ البونغ التي تم رميها كانت خفيفة الوزن غير مؤذية،
- أن العبارات موضوع المحاكمة اتصلت بمصلحة اجتماعية، بحيث اتصلت في ثلاث قضايا بأزمة النفايات (بما يتصل بناشطي حراك صيف 2015) واتصلت في القضية الرابعة بالأزمة الاقتصادية المعيشية التي يجتازها لبنان (بما يتصل بالاحتجاجات ضد الضرائب). وعليه، أكدت الأحكام الأربعة بأن الظروف المحيطة آنذاك لم تقتصر على المدعى عليه (م) وحده، إنما طالت “جميع المناطق اللبنانية” ومست “بالمواطنين أجمعين”، وذلك تدليلا على الطابع الاجتماعي للمشكلة. وهذا الأمر نجده في الأحكام المتصلة بالاحتجاجات ضد أزمة النفايات (حيث تمت الإشارة بشكل خاص إلى الخطر البيئي والصحي الذي يعاني منه جميع المواطنين والمناطق)،ـ والأحكام المتصلة بالاحتجاجات ضد زيادة الضرائب (حيث تمت الإشارة إلى معاناة الشعب اللبناني في مختلف المناطق اللبنانية الإقتصادية والإجتماعية منها)،
- أن الاتهامات الموجهة إلى الحكومة بالتسبب بالأزمات الاقتصادية والبيئية، “لا تخفى على أحد”، بمعنى أنها في عمومها، ورغم قسوتها، تصف سياقا صحيحا للسياسات العامة والأضرار المتأتية عنها. ويلحظ هنا أن القاضية كررت عبارة “لا تخفى على أحد” مرة على الأقل في كل من الأحكام المذكورة، بما يؤكد على طابعها البدهي الذي لا جدل فيه.
- أن القصد الوحيد من العبارات المستخدمة هو الدفاع عن المصلحة العامة المعنية، من خلال التعبير عن الاستياء العام إزاء الأزمات الحاصلة وتفاقمها، وحثّ المسؤولين على إيجاد حلول. وقد عززت القاضية صفا تحليلها هذا من خلال التأكيد على صفة المدعى عليهم (وهم ناشطون اجتماعيا ومنهم محامون وصحافية يدخل ضمن اهتمامهم اليومي العام نقل الواقع والإستياء العام والتعبير عنه) والطابع العفوي للعبارات المستخدمة والتي جاءت وليدة واقع الحال السائد في البلد، وأيضا عمومية الاتهام والذي ينفي أي قصد بازدراء شخص بعينه أو النيل من شرفه أو كرامته. ويلحظ أن القاضية صفا تمسكت باعتبار الاتهام عموميا، ليس فقط في الحالات التي اتهم فيها جميع الوزراء بالسرقة أو الفساد، إنما أيضا حين وجهت سهام الاتهام إلى رئيس مجلس الوزراء بمفرده. ففي هذه الحالة أيضا، وبالنظر إلى الظروف المحيطة، اعتبرت المحكمة أن دافع المدعى عليهم هو الدفاع عن المصلحة العامة، من دون أي قصد بالإساءة إلى شخص بعينه أو النيل من كرامته.
- أنها اعتبرت أن ورود عبارات من شأنها المس ظاهريا بالشرف أو السمعة لا يكفي بحدّ ذاته لإدانة المدعى عليهم بارتكاب جرائم الذم والقدح والتحقير. فهذه العبارات توفّر العنصر المادي للجرم، لكن لا تكتمل عناصر الجرم إلا إذا تم علاوة على ذلك إثبات عنصره المعنوي، أي النية بالإساءة إلى شخص بذاته أو مؤسسة بذاتها. وبكلام آخر، ميّزت الأحكام بشكل لافت بين النيّة بالذم أو القدح أو التحقير (التي هي تتوفر فور إثبات استخدام عبارات تمس بالشرف والسمعة) والنيّة بالإساءة التي هي تفترض قبل كل شيء التحرّي عن حقيقة المقاصد والنوايا من هذه العبارات. فهل الهدف الأساسي منها الإساءة إلى الأشخاص موضوع المذمة، أم الدفاع عن مصلحة عامة من دون تجاوز، وإن ترتب عليها تبعيا مذمة بأشخاص معينين؟ في الحالة الأولى، يكون الجرم ثابتا. أما في الحالة الثانية، فتُغلّب المصلحة المتمثّلة في ضمان حرية التعبير على المصلحة المأمولة من منعها، وينتفي الجرم. ومن هذه الزاوية، تضع هذه الأحكام حدّا لمعاقبة العبارات التي تمس بالشرف أو التي تخرج عن إطار اللياقة والأدب، بمعزل عن مقاصدها، والأهم تشكل ضمانة للنشطاء الاجتماعيين للدفاع عن الصالح العام من دون أن يتعرضوا للملاحقة،
- أن هذه الأحكام بيّنت بشكل تفصيلي الشروط التي تؤدي إلى إخراج العبارات التي تمس ظاهرا بكرامة الحكومة أو وزارئها، من خانة غير المباح لجعلها مباحة. وقد تلخّصت هذه الشروط كما تقدم بيانه بأربعة، هي الآتية: (1) أن تكون العبارات قد تمّ استخدامها بطريقة سلمية من دون تجاوز، (2) أن تكون العبارات متصلة بمصلحة عامة، (3) أن تكون مبنية على معطيات معروفة أو صحيحة ولو في عموميتها أو جاءت لتعكس سياقا صحيحا للسياسات العامة وانعكاساتها، (4) أن يكون القصد منها الدفاع عن المصلحة العامة من دون أي استهداف شخصي. ويعدّ هذا الشرط الأخير متوفرا ليس فقط في حال تناول الاتهام عموم الطبقة السياسية أو الوزراء أو النواب، إنما حتى في الحالات التي يتناول شخصا معينا طالما أنه يتناول منصبه ومسؤولياته من دون أي نية بالإساءة إلى الشخص بذاته. ومن هذه الزاوية، أرست هذه الأحكام اجتهادا مفصّلا يؤمل أـن يُبنى عليه في مختلف أعمال القضاء المتصلة بحرية التعبير،
- أخيرا، تمثل هذه الأحكام تحولا هاما في المنظومة القانونية. ففيما تتجه هذه المنظومة نحو إعلاء شأن كرامة الزعماء والطبقة السياسية على حرية التعبير، تعود هذه الأحكام لتنتصر من خلال توسيع إطار هذه الحرية، لحقوق المواطنين في إبراز همومهم وأزماتهم بل في إشهارها في مواجهة سلطة الحاكم.
وإذ تعكس مواقف القاضية صفا تصورا لافتا لوظيفتها القضائية على أنها تقوم أولا على حماية الحقوق والحريات، إلا أن الحذر يبقى واجبا لجهة أن هذا التصور يبقى للأسف بعيدا عن كونه محل إجماع لدى لقضاة. وهذا ما سنعود إليه في مقالات أخرى.