أين أخطأ نصر الله في هجومه على بيطار؟


2021-08-12    |   

أين أخطأ نصر الله في هجومه على بيطار؟

في هجوم هو الأقسى من نوعه على المحقّق العدلي في جريمة تفجير المرفأ القاضي طارق بيطار، كال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه يوم السبت العديد من التهم له مشككاً في مسار التحقيق ونواياه. توزّعت التّهم بين تسييس التحقيق والاستنسابيّة في الاستدعاءات والتواطؤ مع شركات التأمين، مع تكرار المطالبة (بلهجة الأمر هذه المرة) بنشر “التحقيق الفنّي” تحت حجج أبرزها دفع تعويضات التأمين من قبل الشركات الضامنة. وفي خضمّ هذا الهجوم على بيطار، انبرى نصر الله للدفاع عن نوّاب العار معتبراً أنّهم “نوّاب الشرف” وأنّ هؤلاء يسعون لكشف الحقيقة. إلى ذلك، توجّه نصر اللّه إلى عوائل الضحايا قائلاً لهم “بشكل رسمي هذا القاضي عم يشتغل سياسة” داعياً إياهم إلى التظاهر تحت منزله للكشف عن التحقيق الفنّي بدل التظاهر أمام منازل مسؤولين “ما خصّهم”. في ظلّ هذا الهجوم غير المسبوق ضدّ القاضي وما استتبعَه من خطواتٍ كتحديد موعد لجلسة نيابية للنظر في الطلب النيابي، نجد لزاماً مناقشة بعض ما ورد في خطاب نصر الله والتي لا تستقيم قانوناً ومنطقاً مع مسار أي تحقيق وبخاصة التحقيق الذي يحصل في جريمة تفجير المرفأ.

وجوب الكشف عن التقرير الفنّي؟

طالب نصر الله مجدّداً بالكشف عن “التقرير الفني” الذي يُجسّد بالنسبة إليه الحقيقة الثابتة التي يجب أن يعرفها اللبنانيون وأهالي الضحايا حول أسباب التفجير، معتبراً أنّ عدم نشر هذا التقرير يشكّل إخفاءً للحقيقة. وقبل المضي في دحض قانونية وملاءمة هذه المطالبة، يجب التذكير بأنّ هذا التقرير صدر عن أجهزة أمنية (فرع المعلومات ومخابرات الجيش) وتمّ تسريب معلومات عنه رجّحت حصول الانفجار بفعل تطاير شرارات بفعل تلحيم فجوة في حائط العنبر 12.

1. القانون يفرض سرّية التحقيق:

يفرض قانون أصول المحاكمات الجزائية السرّية التامة على مرحلة التحقيق (المادة 53)، وهي المرحلة التي تمرّ فيها جريمة تفجير المرفأ حالياً، كما تفرض هذه المادة عقوبات على من يُفشي هذه السرّية تصل إلى الحبس لسنة كاملة إضافةً إلى غرامات. وفي حين يفرض القانون السرّية على مرحلة التحقيق، وحده القرار الاتّهامي الذي يصدره بعد إنهاء تحقيقه يكون علنياً. وعليه، فإنّ مطالبة القاضي بالإفصاح عن التقرير الفنّي يعني مطالبته بمخالفة القانون صراحةً وإذا فعل، يكون قد ارتكب جرماً يعاقب عليه. لا بل إنّ الريبة بأدائه قد تنشأ جرّاء هذه المخالفة. وهذا ما أثاره نصر الله فعلياً في خطابه في 5 تموز جرّاء تسريب طلبات رفع الحصانات للإعلام، معتبراً أنّ هذا التسريب (الذي لم يعرف مصدره) قد يشكّل شبهة على استهداف سياسي. هذا فضلاً عن أنّ المحافظة على السرّية قد تشكّل شرطاً لإنجاح التحقيق.

2. النشر ممكنٌ استثنائيّاً لتنوير الرأي العام وليس لتضليله:

في حين يبقى المبدأ هو سريّة التحقيق كما أوضحنا أعلاه، نشهد في الآونة الأخيرة انفتاحاً محدوداً للموازنة بينه وبين حقّ الجمهور في الاطلاع وبخاصّة بما يتّصل بقضايا الشأن العام، وهو حقّ يوازن سريّة التحقيق من حيث الأهمية الدستورية والقانونية. ومن أهم شروط هذا الاستثناء هو أن يكون الهدف تنوير الرأي العام على تطوّر التحقيق أو العوائق التي تعترضه.

من هذا المنطلق، يصبح معيار التحقّق من مدى مشروعية مطالبة المحقق العدلي بنشر هذا التقرير هو مدى اقتناعه بصحّة الفرضيّات التي توصّل إليها وأهمّية إعلام الرأي العامّ بها. ففي حين يؤمل من نشره بعد التثبّت من هذه الفرضيات، تنوير الرأي العامّ، فإنّ من شأن نشره من دون التثبّت منها أو في حال كانت لا تزال موضع شكّ من أن يؤدي إلى تضليله. وهذا أمر يصبح غير مشروع.

وانطلاقاً من ذلك، فإنّ المطالبة الحثيثة للمحقق العدلي بنشر التقرير يرشح عن إنكار لحقه في التدقيق في صحة الفرضيات المعلنة فيه.

3. الجهاز الأمني تحت إشراف القاضي وليس العكس:

إنّ إعلان التقرير الفني كما ورد من الأجهزة الأمنية مع إنكار حقّ القاضي بالتدقيق في الفرضيات التي توصل إليها إنما يؤدي عمليا إلى إخضاع القاضي للحقيقة الأمنية وعمليا للأجهزة الأمنية في حين أن المبدأ هو العكس تماما وهو أن الأجهزة الأمنية تخضع للقاضي الذي له وحده أن ينتهي إلى تكريس الحقيقة القضائية. ومن هذه الزاوية، تظهر المطالبات الحثيثة بمثابة مسّ فاضح باستقلال القضاء.

ومن المهم هنا التذكير بأنّ وزير الاقتصاد راوول نعمة كان ذهب في الاتجاه نفسه حين طالب بيطار بـ “إصدار تقرير رسمي يُخرج الأعمال الحربية والإرهابية من دائرة الأسباب التي أدّت إلى وقوع انفجار 4 آب 2020” بما يشكّل جرماً جزائيّاً في التدخّل بالقضاء على ضوء المادة 419 من قانون العقوبات. فكأنّما نصر الله كما نعمة يسعيان إلى وضع خطوط حمراء يتعيّن على القاضي احترامها، وهي تتمثل في التسليم بالفرضيات التي توصّل إليها التقرير الأمني والتي ترجّح فرضية حصول التفجير تبعاً لشرارات التلحيم من دون أن يكون هنالك أي عمل حربي أو إرهابي.

ويتأكّد هذا الأمر من كون تسريب التقرير قد حصل سابقا بحيث يظهر جليّا أن مطالبة القاضي بنشره إنما ترمي ليس إلى توفير المعلومة ولكن إلى انتزاع التزام منه بها.

موضوع التأمين أو تقريش العدالة

تعزيزاً لمطلبه بوجوب نشر التّقرير الفنّي، لم يجد نصرالله حرجاً في أن يستمدّ حجّة إضافية من امتناع شركات التأمين عن تسديد التعويضات للمتضررين من التفجير. فوفق نصرالله، تتذرّع هذه الشركات للتريّث في تسديد التعويضات باحتمال حصول التفجير بفعل عمل حربيّ أو عمل إرهابيّ وهما عملان لا تغطّيهما بوليصة التأمين، في حين تسقط هذه الذريعة في حال نشر التقرير الأمني/الفنّي الذي يستبعد حصول أيّ من هذه الأعمال. انطلاقاً من ذلك، سجّل نصرالله أنّ التأخّر في نشر التحقيق يؤدّي إلى تأخير دفع تعويضات تتراوح بين مليار و200 مليون دولار ومليار و600 مليون دولار، وهو أمر كان من شأنه أن يُحرّك العجلة الاقتصاديّة في البلاد. وإذ انتهى نصر الله من هذا التحليل، ذهب إلى حدّ اتّهام بيطار بالتواطؤ مع شركات التّأمين، طالما أنّه يرفض نشر التقرير الأمنيّ. وعليه، وفي حين كان نصرالله استخدم هذه الحجة من قبل لمطالبة المحقق العدلي السابق بإنهاء التحقيق ضنّاً بحقوق المؤمنين، فإنّ اللهجة التي استخدمها هذه المرة بلغت حدّ تحقير القاضي حين اتهمه بالتواطؤ مع هذه الشركات، طبعاً من دون أن يعطي أي دليل، سوى أنّه لم ينفذ مطلبه غير القانوني بنشر التقرير الفني.

وبالإضافة إلى الحجج التي سقناها أعلاه بخصوص نشر هذا التقرير، فإنّ استخدام مسألة التأمين كحجة ليس في محله للأسباب الآتية:

1. تقريش العدالة منسف للعدالة

إنّ مجرّد استخدام حجّة تسريع دفع تعويضات التأمين لتبرير إنهاء التحقيق إنّما يعكس نيّة في اختزال التحقيقات أو تسريع إنجازها ولو على حساب الحقيقة والعدالة، وتالياً تغليباً للمصالح الماديّة على هذه الاعتبارات. وهذا ما أسميْناه توجّهاً نحو تقريش العدالة أي تحويلها إلى مسألة تعويضات مالية بمعزل عن المسؤوليات أو الخير والشر. وهذا التوجّه يصبح أكثر قابلية للنقد عند صدوره عن حركة مقاومة يفترض أن يكون نضالها بالأساس تغليب قيم العدالة على أي شيء آخر. وما يزيد من غرابة هذه الحجّة هو أنّ عدد المتضرّرين من التفجير الذين يستفيدون من التأمين تبقى أقليّة (تقتصر ربما على الفئات الميسورة) طالما أنّ الفئات الأخرى قلّما تلجأ إلى تأمين حياتها أو منازلها أو سياراتها أو أشغالها.

2. أنّ شركات التأمين ملزمة بأية حال بالدفع دون انتظار أي تقرير

تتحجّج شركات التأمين لعدم الدفع بأنّها تنتظر معرفة سبب التفجير، طالما أنّ التأمين لا يغطّي الأضرار الناتجة عن أعمال إرهابية أو حربية. إلّا أنّ هذه الحجة مردودة، حيث استقرّ الفقه والاجتهاد على أنّ الحادث الذي يخرج عن نطاق التغطية، هو ذلك الذي كان سببه العمل الحربي بصورة مباشرة وحصرية. وفي حالة تفجير مرفأ بيروت، يشكّل تخزين النيترات والإهمال في معالجة عملية تخزين هذه المادة كما وحجم الكمية المتواجدة سبباً رئيسياً ومباشراً في حصول التفجير وذلك بغضّ النظر عن السبب أي الفعل المحدّد الذي أدّى إلى انفجار هذه المادة، سواء أكان فعلاً حربياً أو عدائياً أو مجرّد حريق ناجم عن التلحيم أو أي سبب آخر. وهذا يعني، وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ ثمة عملاً أو فعلاً حربياً أدى إلى التفجير، فإنّ نتائجه وامتداد الدمار الناجم عنه إلى أحياء واسعة في بيروت لم يكن بسبب هكذا فعل بل بسبب أفعال أخرى ساهمت بشكل مباشر وحتمي في حصول الضرر، ونعني بذلك الإهمال وقلّة الاحتراز ومخالفة القانون في تخزين النيترات في مرفأ بيروت، وهي مخاطر غير مستثناة من موجب الشركات المؤمّنة. وعليه، فإنّ الأسباب المتعدّدة لحصول الحادث تجعل من العمل الحربيّ سبباً غير مباشر وغير حصريّ لحصوله. وهذا يؤدّي إلى تعليق تطبيق الاستثناء المرتبط بالعمل الحربي ويوجب على شركات التأمين تغطية الحادث.[1]

ادّعاء تسييس القضاء لتحليل تسييس التحقيق

هنا أيضاً ذهب نصرالله بعيداً جداً في اتهام المحقق العدلي في الاستنسابية وتسييس القضاء واعتماد معايير مزدوجة وتالياً استهداف فريقه السياسي. وقد استمدّ هذه الخلاصة من أنّ بيطار استدعى رئيس الحكومة حالياً دون رؤساء الحكومات السابقة، أو أنّه استدعى أمنيين سابقين دون الحاليين (في إشارة إلى استدعاء قائد الجيش السابق جان قهوجي دون قائد الجيش الحالي جوزيف عون)، وكلّها حجج استخدمت في سياق الهجوم الممنهج من حزب الله وسواه ضدّ المحقق العدلي السابق فادي صوّان. وقد وصل نصر اللّه إلى حدّ التوجّه إلى عوائل الضحايا قائلاً لهم “بشكل رسمي هذا القاضي عم يشتغل سياسية”، داعياً إياهم إلى التظاهر أمام منزله وليس أمام أشخاص آخرين “ما خصهم”. وما أنْ انتهى نصرالله من اتهام القاضي على هذا الوجه حتى انطلق في الدفاع عن النوّاب الذين وقّعوا طلب الاتّهام النيابي، معتبراً إيّاهم “نوّاب شرف” (وليس نوّاب عار) يسعون لجلاء الحقيقة. وقد انتهى بالنتيجة إلى تأييد إجراء تحقيق برلماني طبقاً لما ذهبت إليه لائحة الاتّهام الصادرة عن عدد من النوّاب. وهذه الحجج أيضاً مردودة للأسباب الآتية:

1. محاكمة النوايا

لم ينهِ المحقّق العدليّ تحقيقاته ولا استدعاءاته بعد، وله طبعاً أن يحدّد المنهجية التي يراها مناسبة في هذا الخصوص، ومنها مثلاً أن يقيم الأدلة المتاحة له أو أن يستدعي شخصا أولاً للحصول على أدلّة قد تسمح له باستدعاء أشخاص آخرين. ومن هنا فإنّ اتهامه بالاستنسابية قبل إنهاء تحقيقاته إنّما يكشف عن جهل في آليات التحقيق ومسعى لتجريده من صلاحياته في هذا الخصوص والأهم محاكمة للنّوايا.

وما يزيد من قابليّة هذا الأمر للنّقد هو أنّنا أمام مشهد هجين قوامه أن يعمد كلّ طرف سياسيّ إلى التهجّم على المحقّق العدليّ على خلفية عدم استدعاء غريمه السياسي أي على أساس ما أمكن تسميته الهوى السياسي. فنصرالله مثلاً يركّز بشكل خاص على عدم استدعاء قائد الجيش الحالي في حين يركّز الحريري على عدم استدعاء رئيس الجمهورية ميشال عون وهلم جرا. وهو مشهد يظهر أنّ مسعى التسييس هو لدى منتقدي القاضي أكثر مما هو لدى هذا الأخير. وخير دليل على عدم صحة هذا التهجّم هو أنّ النوّاب أنفسهم (ومن ضمنهم نوّاب حزب الله) لم يتّهموا في طلب الاتهام إلّا حسان دياب دون أيّ من رؤساء الوزراء السابقين. فكأنّهم يباركون لأنفسهم ما ينتقدون القاضي عليه.

2. ادّعاء شبهة التسييس لتبرير التسييس المطلق

ما يدحض تماماً حجة التسييس هو تأييد نصرالله إنشاء لجنة برلمانية (تتكوّن من 3 نوّاب يعيّنهم مجلس النوّاب بالغالبية) طبقاً لطلب الاتّهام النيابي، فكأنّه يعالج شبهة التسييس التي لا يوجد عليها أيّ دليل جدّي بتسييس حتمي ومؤكّد. وهذا ما نستشفّه من التجربة الوحيدة التي حصلت في لبنان في 2003 في إثر طلب الاتّهام المقدّم ضد النائب السابق شاهي برصوميان، حيث انتهى مجلس النوّاب إلى تعيين لجنة برلمانية من النوّاب إيلي الفرزلي وعضوية ياسين جابر ومحمد الصفدي، وهي لجنة خلصت إلى القول إنّ الأفعال المنسوبة إلى برصوميان “غير ثابتة الثبوت الكافي، ولا مبرّر قانونياً لاتهامه أو ملاحقته”. ولا ينتهي التسييس في هذه الحالة بإنشاء لجنة تحقيق مسيّسة إنّما يتجلّى أيضاً في إجراءات الاتهام التي يفترض حصولها بعد إنهاء التحقيق البرلماني، حيث يُدعى المجلس النيابي مجدداً للتصويت على اتهام الوزراء السابقين أو عدم اتهامهم بصورة سرّية ومن دون أي تعليل. فلا يتم الاتهام إلّا في حال توفّر أكثرية الثلثين وهو أمر أشبه بالمستحيل. فإذا تمّ تجاوز هذا الشرط شبه المستحيل، ينتهي الاتهام إلى مجلس أعلى مسيّس في تكوينه، حيث يتكوّن من 7 نوّاب منتخبين من زملائهم و8 قضاة.

أمام وقائع كهذه، يتبدّى بوضوح أنّ نصرالله تذرّع بالتسييس ليس لإيجاد طرق لتجاوزه أو لتصويب المسار، إنّما فقط لتبرير تحقيق برلماني موازٍ، تحقيق بإمكان القوى السياسية المهيمنة التحكّم به، بما يؤدّي إلى التشويش على التحقيق العدلي وإفلات الوزراء من الملاحقة.

  1. للمزيد: نادين عرفات، لماذا شركات التأمين ملزمة بتسديد تعويض عن تفجير المرفأ؟، المفكرة القانونية، 7/5/2021.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني