فتح علبة باندورا بمناسبة قضية مكتّف: من حوّل الأموال إلى الخارج؟ وكيف؟

فتح علبة باندورا بمناسبة قضية مكتّف: من حوّل الأموال إلى الخارج؟ وكيف؟
غادة عون أثناء اقتحام شركة مكتف

ادّعت النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون بتاريخ 30 آب 2021 ضدّ عدد من الأشخاص في قضية تحويل الأموال إلى الخارج وهي القضية التي عُرفت بـ “قضية مكتّف”، وقد عادت لترفق به ادعاءً إضافياً بتاريخ 9 أيلول 2021. وفي حين حصل التحقيق تحت أضواء الكاميرات تبعاً لإصرار القاضية عون على متابعة النظر فيها رغم قرار النائب العامّ التمييزي بكفّ يدها عنها، تمّ الإعلان عن الادّعاء ضدّ مكتّف ورفاقه، وسط صمت مناوئي عون كما مؤيّديها، من دون أن يستتبع ذلك أيّ اهتمام عام. فكأنّما الإعلام أبدى اهتماماً شديداً بمُتابعة ما أسماه المناوِئون لها “تمرّداً” وذلك ضمن حملة موجّهة ضدّها أو ما أسماه مؤيّدوها انتفاضة قضائية أو ثورة نيسان، من دون أن يُعير أيّ انتباه لقضية تهريب الأموال إلى الخارج بحدّ ذاتها. هذا التّناقض الظّاهر يمكن تفسيرُه باتّجاه قوى السلطة إلى طمس هذه القضيّة بعدما حوّلتها إلى ساحة للنزاع السياسي بمعزل عن مضمونها: فإذ أفشلت عون محاولة طمس القضية بفعل إصرارها على المضيّ في التحقيق، يتجلّى مجدّداً مسعى طمسها في التعتيم على نتائج التحقيق والادّعاء الحاصل بنتيجته. فكأنّما ثمة اتفاقاً على أنّ قضية تهريب الأموال إلى الخارج قضية يتوجّب طمسها، رغم أنّها اليوم إحدى أهم علب باندورا. وقبل المضي في تبيان ما كشفه الادعاء، سنسعى أولاً إلى إعادة التذكير بالترسانة القضائية وغير القضائية والتي سُخّرت لكفّ يد عون عن هذه القضية. 

 

ترسانة لمنع التحقيق  

ما إن فتحتْ عون الملف حتى انطلقت في مواجهتِها مجموعةٌ من المواقف السلبيّة، تمثّل أوّلها في التعرّض لها من قبل محامي مصرف “سوسيتيه جنرال” SGBL آلان بو ضاهر في مكتبها بتاريخ 25/3/2021 والذي استتبعه هجوم من الإعلاميّ مارسيل غانم في برنامج “صار الوقت” في الليلة نفسها. لم يكتفِ وكيل رئيس مجلس إدارة المصرف أنطوان الصّحناوي بهذا الحدّ بل ذهب إلى حدّ تقديم دعوى ضد القاضية عون على خلفية ما اعتبره ذمّاً وقدحاً بحقّ موكّله، ساعياً من خلال ذلك إلى قلب الأدوار بحيث يصبح موكّله المشتبه به الذي رفض المثول أمامها هو الضحية وتصبح القاضية التي تحقّق في قضيّته هي المدّعى عليها التي يفترض أن تمثل أمام القضاء وتحاكم. الأسوأ من كلّ ذلك هو أنّ النّيابة العامة التمييزية أسرعتْ في استدعاء عون للتحقيق في القضية المرفوعة ضدّها. وإذ اعتذرتْ عون عن الحضور، بات تغيّبها عن الحضور قضيّة مسلكيّة بحقّها احتلّت في اهتمامات الهيئات القضائيّة مكانةً أكبر بكثير من قضية تحويل الأموال إلى الخارج التي عمدت الهيئات نفسها على العكس من ذلك تماماً إلى طمسها. 

تجلّت أبرز تجلّيات الترسانة المناوئة للتحقيق في الخطوات الآتية: 

 

  • هرمية النيابة العامّة التمييزية

كان من البيّن أنّ النيابة العامّة التمييزية اتّخذت موقفاً مناوئاً للتحقيق في هذه القضية وبخاصّة لجهة قيام عون به. وقد تجلّى ذلك في ثلاث خطوات اتّخذتها تباعاً على ضوء تطوّر القضية. أخطر هذه الخطوات على الإطلاق تمثل في القرار الصادر عن النائب العام التمييزي غسان عويدات بتاريخ 15/4/2021 بإعادة توزيع الأعمال في النيابة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان مع مفعول رجعي. وبنتيجة هذا القرار، كفّ عويدات يد عون عن مجمل القضايا المالية الهامّة ومنها قضية مكتّف- الصحناوي- سلامة، ليُحيلها بأكملها إلى محامٍ عامّ آخر في جبل لبنان هو القاضي سامر ليشع. وقد أسند عويدات قراره على المادتين 12 و13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والمادة 31 من قانون تنظيم القضاء العدلي، معتبراً ضمناً أنّ سلطته الهرمية على النيابات العامّة في المحافظات تشمل تعديل قرارات توزيع الأعمال الصادرة عن النوّاب العامّين فيها. وقد أثار هذا القرار ثلاث إشكاليّات كبرى: 

الأولى، أنّه تمّ إبلاغ عون القرار وهي في خضمّ مداهمة مكاتب مكتّف، ومن قبل وكيل مكتّف نفسه المحامي ألكسندر نجّار، بما يدلّ على أنّ هذا الأخير أخذ علماً بقرار توزيع الأعمال في النيابة العامّة في جبل لبنان قبل النائبة العامّة فيه. يستشفّ من هذا الأمر حصول تواصل يصل إلى حد التنسيق بين هذا الأخير والنيابة العامّة التمييزية لوقف التحقيق في هذه القضية،   

الثاني، أنّ قرار عويدات أتى مُنسجماً مع عدد من تعاميمه السابقة التي هدفتْ إلى توسيع صلاحيّاته في التحكّم في قضايا الحقّ العامّ وبخاصّة قضايا الفساد والإثراء غير المشروع بحجّة أنّ هذه القضايا خطيرة، وهذا ما كانت حذّرت منه المفكرة القانونية منذ الشهر الأوّل لتولّيه مهامه، 

الثالث، أنّ القرار هو بحدّ ذاته غير قانونيّ ويهدف إلى توسيع صلاحيات النيابة العامّة التمييزية ومعها شخصنة الحقّ العامّ وحصره في شخص واحد. وهذا ما يتحصّل من المادة 22 من قانون تنظيم القضاء العدلي، حيث أنّ النوّاب العامّين في المحافظات هم الذين يرأسون دوائر النيابات العامّة فيها ويديرون شؤونها ويشرفون على موظّفيها وعلى حسن سير العمل فيها وتالياً على توزيع الأعمال فيها، من دون أن يكون للنائب العام التمييزي أي صلاحية قانونية بالحلول محلّها في هذا الخصوص. وفي حين سجّل عدد من الخبراء القانونيين مخالفة القانون في هذا الخصوص، أصدرت المنظمة الدولية للحقوقيين بياناً اعتبرت فيه أنّ كفّ يد عون على هذا الوجه إنّما يشكّل مسّاً خطيراً باستقلالية القضاء. 

وفي حين أصرّت عون على استكمال مهمّتها بحجّة عدم قانونية هذا القرار، استجابتْ الضابطة العدلية المرافقة لها لقرار عويدات الذي عمّم عليها في متن قراره بـ “مساعدة التقيّد بهذا القرار” (قرار كفّ يد غادة عون)، علماً أنّ القرار أبلغ وفق ما جاء فيه لقيادة الجيش ووزارة الدفاع والمديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي والمديرية العامّة للأمن العام المديرية العامّة لأمن الدولة والمديرية العامّة للجمارك بالإضافة إلى الوزارات المعنيّة والهيئات القضائية.   

وبفعل ذلك، اضطرّت عون إلى الاستعانة بمرافقيها لإكمال مهمّتها، وهو الأمر الذي نقلته وسائل الإعلام مراراً، وشهده المواطنون وبخاصّة عند اتخاذ قرار خلع باب الشركة المغلق في وجهها. 

لم يكتفِ عويدات بهذا القدر، إنّما كلّف المباحث الجنائية بإجراء تحقيقات مع الخبراء الذين حضروا مع عون إلى مكاتب شركة مكتّف لمعاينة المعلومات، بناء على شكوى قدّمها وكيل هذه الشركة. واللافت أنّ هذه التحقيقات استغرقتْ ساعات بما عكس مسعى لثني الخبراء عن التعاون مع القاضية عون في هذه القضية.

 

  • سلطويّة مجلس القضاء الأعلى

في الاتّجاه نفسه للنيابة العامة التمييزية أي في اتّجاه كفّ يد عون عن القضية، ذهب مجلس القضاء الأعلى. وقد مارس المجلس لهذه الغاية صلاحيّات يستدلّ منها سلطوية فائقة ومسّ بمعايير استقلال القضاء. وقد تمثلت أخطر مواقف المجلس في هذا الخصوص بالآتية: 

 

– التهويل بإعلان عدم الأهلية أي العزل من دون محاكمة: 

تسرَّب عقب اجتماع لمجلس القضاء الأعلى إمكانية أن يستخدم المجلس المادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي بحق القاضية عون. وهي مادة تسمح للمجلس بإعلان عدم أهلية قاضٍ وتالياً عزله من دون محاكمة أي من دون تمكينه من الدفاع عن نفسه، وذلك بقرار يصدر بموافقة 8 من أعضائه العشرة. وإذ استدعى المجلس عون للاستماع إليها تمهيداً لتطبيق هذه المادة، تسرّب أنّ بعض أعضاء المجلس اعترضُوا على تطبيق هذه المادّة بحقّ عون، ما منع المجلس من السير في الإجراءات.   

 

-بيان “نفّذ ثم اعترض” 

إذ فشل المجلس في تطبيق إجراءات إعلان عدم أهلية عون، عاد ليصدر عقب الاستماع إليها بياناً شديد اللهجة بحقّها أوعز إليها فيه وجوب تطبيق قرار النائب العام التمييزي من دون إبطاء. واللافت أنّه أصرّ على وجوب احترام هذا القرار رغم تسليمه بوجود علامات استفهام حول صحته ومن دون أن يتكبّد عناء الإجابة عليها. وهذا ما نستشفّه من العبارة المُستخدمة منه تمهيداً للتأكيد على وجوب تنفيذ القرار، وقد تضمّنت حرفياً: “بمعزل عمّا أثير حول مضمون القرار”. وقد بدا المجلس من خلال ذلك وكأنّه يطبّق القاعدة العسكرية المعروفة بـ “نفّذ ثمّ اعترض” على التنظيم القضائي، بمعنى أنّه يطلب من القضاة تنفيذ القرارات الصادرة عن رؤساء الهرمية القضائية بمعزل عن مدى صحّتها. 

وفي البيان نفسه، طالب المجلس هيئة التفتيش القضائي التحرّك وإجراء المقتضى بحق عون، بما يمهّد لاتخاذ عقوبات تأديبية بحقّها. ويلحظ هنا أنّ المجلس تعمّد في هذا الخصوص حصر مطلبه لجهة تحرّك هيئة التفتيش في هذه القضية بالتحقيق مع غادة عون من دون أيّ توسّع للاستماع إلى عويدات، وذلك بخلاف ما كانت وزيرة العدل طالبت به من قبل. ولتبرير هذا الموقف، عمد المجلس إلى توصيف القضية على نحو يؤدّي إلى تقزيمها وذلك بفعل تحميل مسؤولية كلّ الضجيج حولها لسلوكيات القاضية عون مع طمس لسائر أبعادها. وقد جاء فيه حرفياً: “انطلاقاً من أنّ ما يحصل ليس بين من يريد مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وبين من لا يريد أو من يمنع ذلك، وانطلاقاً من أنّ ما يحصل ليس صراعاً بين النائب العام التمييزي والنائب العام الاستئنافي، وهو بالتأكيد ليس صراعاً سياسياً بين تيارين كما يصوّره البعض”. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المجلس عزا لعون مخالفات عدّة طالباً التحقيق بشأنها وهي خرقها موجب التحفّظ، وعدم التزامها بتنفيذ تعهّداتها المتكرّرة أمام المجلس، وتمنّعها عن الحضور إلى النيابة العامّة التمييزية، فضلاً عن خرق قرار عويدات. 

   

  • تقاعس مجلس شورى الدولة عن تأدية دوره 

في سياق دفاعها عن نفسها وإصرارها على استكمال مهمّتها، تقدّمت القاضية عون بطعن لدى مجلس شورى الدولة طلبت فيه وقف تنفيذ وإبطال قرار توزيع الأعمال الذي أصدره عويدات لرفع يدها عن هذه القضية وقضايا أخرى. وإذ كان يُنتظر من مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة اتّخاذ قرار بشأن وقف تنفيذ القرار المطعون فيه ضمن مهلة أسبوعين من ورود جواب الدولة إليه، فإنّ هذا المجلس انتهى بتاريخ 17/5/2021 إلى إصدار قرار غير مألوف يعكس في عمقه عجز أعضائه عن البتّ بالقضية في وجهة معيّنة. تمثّل هذا القرار في ضمّ طلب وقف التنفيذ إلى الأساس، إضافةً إلى استدعاء مجلس القضاء الأعلى لتَبيان رأيه في القرار المطعون فيه.

ويشكّل قرار ضمّ طلب وقف التنفيذ إلى الأساس مخالفة للقانون الذي يلزم المجلس بالبتّ بطلبات التنفيذ خلال مهلة أسبوعين (المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة)، وهي مخالفة تقارب استنكاف المجلس عن إحقاق الحق. وهو يشكّل إلى ذلك بدعةً حيث لم يسبق لأيّ من هيئات مجلس شورى الدولة على حدّ علمنا أن اتّخذت قراراً مماثلاً له. أمّا وأنّ المجلس قرّر بموجب قراره هذا ألّا يقرر، فهو بذلك ذهب مذهب الهيئات السياسية وليس القضائية، والتي تنهي خلافاتها بتسويات سياسية وليس بأحكام. وما يزيد من قابلية هذا التوجه للانتقاد هو أنّ المجلس اكتفى بقرار ضمّ الطلب إلى الأساس من دون أي تبرير.

وما يزيد من قابلية القرار للنقد، هو أنّ مجلس شورى الدولة طالب مجلس القضاء الأعلى بإبداء الرأي وهو على بيّنة من الانتهاء الوشيك لولاية غالبية أعضائه ومن شبه استحالة تعيين بدائل عنهم في ظل حكومة تصريف الأعمال في ظل تفسير رئيسها السابق حسان دياب الاعتباطي لهذا المفهوم

 

  • رجال الدين: وعظ ضد التحقيق 

إلى جانب الترسانة القضائية، شهدنا انقضاض قادة دينيين ضدّ التحقيق الذي تجريه القاضية عون. أبرز أوجه هذه الترسانة الهجوم الذي شنّه متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة في عظة أحد الشعانين على عون من دون تسميتها، فقال متسائلاً: “هل يجوز أن يتمرّد قاض على القانون وهو مؤتمن على تطبيقه، هل يجوز أن يقتحم قاضٍ أملاكاً خاصّة دون مسوغٍ قانونيّ؟ هل يجوز أن يخرج قاضٍ عن القانون؟ أي عدل نتّبع وأي حكم وملك بما أن العدل أساس الملك”. 

أمّا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، فقد توجّه إلى القاضية عون في عظته في اليوم نفسه قائلاً: “أصابنا الذهول ونحن نرى على شاشات التلفزة واقعة قضائية لا تمتّ بصلة إلى الحضارة القضائية ولا إلى تقاليد القضاء اللبناني منذ أن وجد. فما جرى يشوّه وجه القاضي النزيه والحرّ من أي انتماء، ذي الهيبة التي تفرض احترامها واحترام العدالة وقوانينها. نحن نصرّ على أن يكافح القضاء مكامن الفساد والجريمة بعيداً من أي تدخل سياسي. ونصرّ على أن تعود الحقوق إلى أصحابها، لا سيّما الودائع المصرفية”. وأضاف: “لكن ما جرى، وهو مخالف للأصول القضائية والقواعد القانونية، قد أصاب هيبة السلطة القضائية واحترامها وكونها الضمانة الوحيدة لحقوق المواطنين وحرياتهم في خلافاتهم فيما بينهم، وفي نزاعاتهم مع السلطة والدولة، وبتنا نتساءل بقلق عظيم عن ماهية ما حصل وخلفياته. وإن كان ليس من شأننا، أو من شأن أحد، التدخّل في مسار التحقيقات القضائية، أو اتّخاذ موقف من صحة أو عدم صحة الأفعال موضوع التحقيقات، إلّا أنّنا لا يمكننا السكوت عما يجري والتعبير عن مخاوفنا من مثل هذه الممارسات التي تضرب ما تبقى من صورة الدولة، ما يدفعنا إلى رفع الصوت لإعلان رفضنا المطلق لهذا الانحراف ومطالبة المسؤولين بضبط هذا الانفلات الخطير وتفادي سقوط السلطة القضائية بالكامل، إذ أن سقوطها يشكل الضربة القاضية لدولة الحق والمؤسسات”.

وقد بدتْ هذه الوعظات بمثابة مباركة للإجراءات المتّخذة من الهرمية القضائية ضد عون، وبمثابة درع ديني لمكتف ورفاقه حيال التحقيق القضائي. 

 

  • التلويح بتدخّل البرلمان لوضع حدّ للتحقيق 

أهّم المواقف السياسية المناوئة للتحقيق صدرت عن نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي شدّد على أنّ القاضية غادة عون “تمرّدت على قرار النائب العام التمييزي غسان عويدات بكفّ يدها عن القضايا المالية”، لافتاً إلى أنّ “هذا المشهد يشير إلى أنّ هناك تحلّل في الجسم القضائي، ومشروع لإنهاء دور القضاء واستقلاليته، وهذا الأمر لم يحدث ولم يجرِ حتى في سنوات الحرب الأهلية، لذلك ما فعلتْه القاضية عون هو عمل تمرديّ بامتياز”. ودعا الفرزلي مجلس القضاء الأعلى إلى “اتّخاذ القرار الأنسب في هذه القضية والذي يتناسب مع مستوى هذا الحدث، ويجب على هذا القرار أن يمنع ويردع أي تفكير مستقبلي من قبل أيّ قاضٍ للقيام بهذا العمل”. واللافت أنّ الفرزلي دعا في نهاية حديثه بصريح العبارة الهيئة العامة لمجلس النواب لتأليف هيئة برلمانية ذات صلاحيات قضائية تحقّق في هذا التمرّد وفي ما إذا كانت حسابات سياسية تشوبه. 

 

ماذا كشف التحقيق الذي أريد له ألّا يحصل؟ 

بمراجعة الادّعاء الصادر عن القاضية عون والذي نشر في عدد من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، نلحظ الآتي: 

  • أنّها ادّعت على كلّ من رياض سلامة وميّة الدبّاغ (رئيسة لجنة الرقابة على المصارف) وأنطوان الصحناوي ومصرف “سوسيتيه جنرال” وميشال مكتّف وشركة مكتّف ش.م.ل والمدقق الحسابي شركة “برايس واتر هاوس كوبرز” (PWC)،
  • تضمّن الادّعاء الوقائع الآتية:
    • أنّ شركة مكتّف حوّلت إلى الخارج 13.3 مليار دولار بين سنتي 2015-2019 من ضمنها 4.3 مليار دولار بقيت مجهولة المصدر، 
    • أنّ شركة مكتّف استقدمت إلى لبنان 355 مليون دولار في 2020 و243 مليون دولار في 2021 (الأشهر التي شملها التحقيق) أي ما مجموعه 598 مليون دولار خلال هذه الفترة من مصادر بقيت مجهولة، 
    • أنّ مصرف “سوسيتيه جنرال” والصحناوي حوّلا ملياراً و17 مليون دولار في 2019 و2020 في استغلال لمعلومات مفادها أنّ العملة الوطنيّة ستنخفض، محققين بذلك أرباحاً غير مشروعة.
    • أنّ ميشال مكتّف محا بعض بيانات الشركة، 
    • أنّ مكتّف والصّحناوي اسْتفادا من معلومات مميّزة بصفتهما المهنية، 
    • أنّ رياض سلامة تواطأ مع “سوسيتيه جنرال” وشركة مكتّف للقيام بأعمال غير مشروعة على خلفية إضرارهما بالعملة الوطنية والاقتصاد بصورة قصدية، 
    •  أنّ رئيسة لجنة الرقابة على المصارف كتمت معلومات عن التحقيق وأهملت التحقيق في الجرائم التي أمكنها الاطّلاع عليها، 
    • أنّ شركة “برايس واتر هاوس كوبرز” أعطت إفادة كاذبة وأخفت معلومات عن القضاء، 
    • أنّ مكتّف وشركة مكتف فضّا الأختام واستمرّا في تحويل الأموال إلى الخارج حتى 23 آب 2021 أي حتى ما قبل أسبوع من القرار.   

وعليه ادّعت عون على ميشال مكتّف صاحب شركة مكتّف والذي يملك 98% من أسهمها وعلى وشركة مكتّف وكما أنطوان الصحناوي ومصرف “سوسيتيه جنرال” بجرم تبييض أموال غير مشروعة ناتجة عن استغلال معلومات مميّزة، وهي معلومات مفادها أنّ العملة الوطنيّة ستنخفض محققين بذلك أرباحاً غير مشروعة. وهو ما ساهم في تدنّي النّقد الوطني والمُضاربة على العملة الوطنيّة (المادة الأولى من قانون تبييض الأموال 44/2015 معطوفة على المادة 210 بالنسبة للمصرف والشركة وعلى المادة 3 من البند (أ) من قانون مكافحة الفساد 175/2020). كما ادّعت على الأوّلين بارتكاب جريمة فضّ الأختام (395 عقوبات) مع طلب تشديد العقوبة حيث استمرّا في العمل وفي القيام بعمليات الشحن حتى 23/8/2021 على الرّغم من ختم المؤسّسة بالشمع الأحمر منذ حوالي 3 أشهر وعلى ميشال مكتّف بجرم التهرّب الضريبي.

أمّا بالنسبة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة فقد تمّ الادعاء عليه بجرم التدخّل في تبييض أموال غير مشروعة. كما تمّ الادعاء عليه بجرائم الفساد وصرف النفوذ والإخلال بالواجبات الوظيفية وإساءة استعمال السلطة (مواد 371 و363 و377 من قانون العقوبات مع المادة 3 من قانون 175/2020). وفي حين نسبتْ له بصفته حاكم المصرف وأيضاً بصفته رئيس لهيئة التحقيق الخاصة التواطؤ مع مصرف “سوسيتيه جنرال” وشركة مكتّف بقصد ضرب الاقتصاد اللبناني والعملة الوطنية، وذلك على نقيض مهمته الأساسية التي تقوم على الحفاظ على سلامة النقد اللبناني. إلّا أنّه يلحظ أنّ القاضية عون لم تدّع صراحة بمواد قانون العقوبات التي تتناول هذه الجرائم. 

أما بالنسبة لرئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميّة الدبّاغ، فقد ادّعت عليها بجرم الإخلال بالواجبات الوظيفية (363 و377 من قانون العقوبات) وكتم معلومات عن التحقيق (399 من قانون العقوبات) وهما جنحتان يبلغ سقف عقوبة كلّ منهما 3 سنوات حبس بالإضافة إلى غرامة مالية مع إمكانية تشديد العقوبة ما بين الثلث والنصف ومضاعفة الغرامة، وذلك لعدم إتيانها بالإثبات الكافي على قيامها بإبلاغ حاكم مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصّة عن التحويلات النقدية المشبوهة الحاصلة أثناء تولّيها منصب رئيسة لجنة الرقابة على المصارف (منذ 10/6/2020 حتى اليوم).

أخيراً ادّعت على شركة “برايس واتر هاوس كوبرز” بجرم الإفادة الكاذبة وإخفاء معلومات عن التحقيق (مادة 412 عقوبات و14 و15 و16 من قانون تنظيم مهنة مفوضي المراقبة)، وتشكّل عقوبتهما غرامة بالإضافة إلى منع من مزاولة المهنة بالنسبة للشركة. وقد تأتّى الادّعاء بسبب إبراز الشركة لجزء غير مكتمل من أوراق العمل وتصريحها بأنّ شركة مكتّف قد راعت عام 2016، 2017 و2018 و2019 الأصول المفروضة قانوناً خلافاً للحقيقة.

يبقى أنّه وقد تخطّت القضية مرحلة الادّعاء لدى النيابة العامّة، ينبغي انتظار قرار قاضي التحقيق للاطّلاع على تفاصيل الملفّ وما قد يؤول إليه في ظلّ مخاوف من تكرار سيناريو قضية سوناطراك الذي اتّخذ منحى مشبوهاً وأخرج العديد من المتورّطين من لائحة الاتّهام الجدّي.

ومجرّد صدور هذا الادّعاء (الذي تعود صلاحية التحقيق فيه لقاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور) إنّما يستتبع ملاحظات عدّة، أبرزها الآتية:  

 

  • فرصة لتحصيل أموال وغرامات مرتفعة جدا

إذ ادّعت القاضية عون على مكتّف وشركته، وصحناوي ومصرف “سوسيتيه جنرال” إضافةً إلى رياض سلامة بالمادة 3 من قانون مكافحة الفساد وبمواد قانون مكافحة تبييض الأموال وذلك لاستفادتهم من معلومات غير متاحة للعموم، فإنّ توفّر شروط تطبيق أيّ من القانونين إنما يسمح بتحصيل غرامات طائلة من هؤلاء. فإضافة إلى عقوبة حبس قد تصل إلى 7 سنوات في حالة تبييض الأموال و3 سنوات في حال ثبوت جرم الفساد، يُعاقب كلا القانونين بغرامة تتراوح بين ضعفي وثلاثة أضعاف قيمة الـمنفعة المادية المتوقعة أو الـمحقّقة. وندرك أكثر أهمية هذا الادّعاء حين نستعيد بعض المبالغ المذكورة أعلاه، ومنها تحديداً مبلغ 4.3 مليار دولار المحوّل إلى الخارج وغير معروف المصدر ومبلغ مليار و17 مليون دولار الذي حوّله “سوسيتيه جنرال” بواسطة مكتّف إلى الخارج في عامي 2019 و2020 بحسب الادّعاء. بمعنى أنّ حصيلة الغرامات في حال صحّة هذه الدعوى قد تصل إلى مليارات عدّة. 

 

  • أسباب إضافية لعزل سلامة ولإخضاع أجهزة مصرف لبنان للرقابة 

يشكّل الادّعاء سبباً إضافياً يضاف إلى مجموعة من الأسباب لعزل سلامة سنداً للمادة 19 من قانون النقد والتسليف. كما أنّه يشكّل إضاءة على أداء لجنة الرقابة على المصارف برئاسة ميّة الدباغ.  

 

  • سبب موجب لرفع السرّية المصرفية للتحقيق في الأموال المحوّلة إلى الخارج

شكّل التحقيق الذي باشرته عون باباً لإعادة فتح ملف الأموال المحوّلة إلى الخارج من بوّابة الصرّافين وشركات شحن الأموال (مكتّف) غير الخاضعين للسرّية المصرفية. وإذ نجحتْ عون في خرق الحواجز التي رُفعت في وجهها، فإنّ نجاحها في الحصول على الوثائق يشكّل دافعاً لإعادة إحياء مطلب رفع السرية المصرفية، أقلّه بما يخصّ الأشخاص الذين استفادوا من تحويل أموالهم إلى الخارج في الفترة المشبوهة. للتذكير، إنّ هيئة التحقيق الخاصّة كانت أبلغت النيابة العامّة التمييزية أنّها لم تجد أيّ شبهة في التحويلات التي جرت بين 17 تشرين 2019 وآخر 2019 وشملت ما يزيد عن ملياري دولار.      

 

  • ماذا لو لم تُكمل غادة عون؟

على ضوء ما تقدّم، يثار تساؤل: ماذا لو لم تصرّ عون على استكمال التحقيق في ملفّها، ماذا لو وقفت أمام باب مكتّف المغلق في وجهها من دون أن تحرّك ساكناً؟ ماذا لو بقيت كلّ الأسرار التي كشفت عنها طيّ الكتمان؟ طبعاً ليس هنالك حتى الآن أيّ ضمانة بوصُول القضية إلى خواتيمها. لكن على الأقلّ ثمّة فرصة ما كانت لتتوفّر لو نجح عويدات في تنفيذ قراره في هذه القضية. والأهم، من شأن هذا الادّعاء أن يكشف حجم الفرص الضائعة في تحقيق العدالة وكشف الجريمة لو تسنّى تحرير النيابة العامّة من القيود التي تغلّها، وبخاصّة لجهة رضوخها للهرميّة التي يمارسها النائب العام التمييزي. فمن يتحمّل اليوم مسؤولية تضييع كلّ هذه الفرص؟ النائب العام التمييزي؟ رئيس مجلس القضاء الأعلى؟ أعضاء مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة؟ رجال الدين والسياسة الذين يستغلّون نفوذهم لتعطيل ملفات العدالة؟ ويجدر التذكير تأكيداً على ذلك، بأن قاضي التحقيق الأوّل في بيروت شربل أبو سمرا كان منع المحاكمة في قضية متلازمة مع هذه القضية عن الصحناوي وآخرين وكان بالإمكان أن تنتهي الأمور عند هذا الحدّ. 

لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط

Lebanon’s Mecattaf Case: Who Transferred Money Abroad and Why?

انشر المقال

متوفر من خلال:

اقتصاد وصناعة وزراعة ، قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم جزائية ، مصارف ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني