حكومة “سعيّد” تكمل سنتها الأولى: أي رصيد على صعيد الحريّات؟


2022-10-15    |   

حكومة “سعيّد” تكمل سنتها الأولى: أي رصيد على صعيد الحريّات؟
رسم عثمان سلمي

وصلت حكومة نجلاء بودن للقصبة، بعد أدائها لليمين الدستوريّة، يوم 11 أكتوبر 2021، ضمن مسار استثنائيّ انطلق  في 25 جويلية 2021. سياق استثنائيّ وجدت فيه أول رئيسة حكومة تونسيّة نفسها تلعب دورا ثانويا أمام تجميع السلطات بيد رئيس الجمهوريّة من جهة وغياب إعلاميّ وميدانيّ لها من جهة أخرى. في واقع اشتدّت فيه الأزمة السياسيّة وواصلت فيه كلّ المؤشّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة نزولها الحادّ لمستويات غير مسبوقة. أفرز هذا الوضع احتقانا سياسيّا ومدنيّا تمظهر في تحركّات اجتماعيّة وسياسيّة في عديد المحطّات التي رافقت وجود حكومة بودن.

وبعد سنة من تولّيها منصب رئاسة الحكومة، تعود المفكّرة القانونيّة في هذا المقال إلى كيفية تعامل حكومة بودن مع التحرّكات الاجتماعيّة والسياسيّة التي جابت البلاد، وإلى مؤشّرات حريّة التعبير والإعلام والنشر فضلا عن مناخ التعاطي مع الفضاء العام خلال هذه الفترة.

سجلّت تونس في بداية سنة 2022، تراجعا هامّا في التصنيف العالمي لحريّة الصحافة، وفق التقرير السنوي لمنظّمة مراسلون بلا حدود الذي وضعها في المرتبة 94 من مجموع 180 دولة بعدما كانت تحتلّ المرتبة 73 في السنة الفارطة. ولئن يعدّ هذا التراجع مؤشرا على التضييقات على الصحفيّين والمصوّرين وغيرهم من العاملين في القطاع الاعلاميّ الّا أنه يمثّل كذلك مؤشرا هاما لما يشهده المجال العام في البلاد من انغلاق.

تراجع مؤشرّ حريّة الصحافة وارتفاع نسق الاعتداءات على الصحفيّين

بلغ عدد الاعتداءات التي طالت الصحفيّين منذ وصول نجلاء بودن لرئاسة الحكومة، في شهر أكتوبر الفارط، الى حدود آخر شهر جويلية 2022، 204 اعتداء، حسب التقارير الشهريّة لوحدة الرصد بمركز السلامة التابع للنقابة الوطنيّة للصحفيين التونسيّين. ويعدّ هذا العدد من الاعتداءات كبيرا بالمقارنة مع السنوات الفارطة حيث تم تسجيل 155 اعتداء سنة 2020 و208 اعتداء سنة 2019 و136 اعتداء سنة 2018. في حين أن الاعتداءات المسجّلة مؤخرا كادت تتجاوز كلّ المعدّلات السابقة بالرغم من أن الفترة التي تمّ الرصد ضمنها تمثّل فقط 10 أشهر من أصل 12 شهرا.

وترجع منسّقة وحدة الرصد، خولة شبّح هذه الأرقام لـنقطتين أساسيّتين متعلّقتين بالعمل الصحفي. تتعلّق النقطة الأولى بالحق في النفاذ للمعلومة الذي أصبح صعبا جدّا مع وصول حكومة بودن واصدارها للمنشور 19 الذي يمنع موظّفي الدولة والإدارات من التصريح للإعلام دون الحصول على ترخيص مسبق. والذي بموجبه مُنع العديد من الصحفيّين من القيام بواجبهم وتمّ استغلاله في حجب المعلومات على المواطنين. واعتبرت شبّح أنه “تم التخلّي عن خطّة المكلّفين بالاتصال وتعويضهم بالناطقين الرسميّين مما عمّق الاعتداءات المسجّلة من حيث الحجب” وأضافت “أن هذه الممارسات لم تكن موجودة قبل حكومة بودن ونشر المرسوم 19”.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فاعتبرت منسّقة وحدة الرصد، أنّ “الاعتداءات الأمنيّة خلال هذه السنة كانت عنيفة على الصحفيّين وخلّفت أضرارا كبيرة خلال فض الاحتجاجات أو خلال التعامل مع الصحفيين في مراكز الأمن والتي كان آخرها الاعتداء الجسدي الذي طال الصحفي بإذاعة تونس الدوليّة، سفيان بالنجمة لدى إيقافه من قبل الأمن”. كما اعتبرت شبّح أن “الاعتداءات الأمنيّة كانت موجودة من قبل لكنّها لم تكن بنفس الحدّة خاصة بعد غياب التفاعل مع هذه الاعتداءات من قبل السلطة الرسميّة”. وأضافت أنّه “على الرغم من أن حكومة بودن بالشراكة مع نقابة الصحفيين وضعت مكلفّين من وزارة الداخليّة لتسهيل عمل الصحفيّين خلال التغطيات، لكنّنا لاحظنا غياب هؤلاء المكلّفين خلال تغطياتنا في الشهرين الفارطين”.

واعتبر شهر جانفي وشهر جويلية الأبرز من حيث عدد الاعتداءات التي طالت الصحفيّين. فبالنسبة لشهر جانفي، يعود ارتفاع عدد الاعتداءات باعتبار أنه الشهر الذي تدخل فيه الميزانيّة طور التنفيذ ما يدفع بالعديد من المواطنين للاحتجاج والتظاهر لرفض الزيادات في الأسعار أو رفع الدعم أو الزيادة في الضرائب. أما جويلية فكان هذه السنة فترة الاستفتاء على الدستور الذي أعدّه رئيس الجمهوريّة خلفا لدستور 2014. ويعدّ ارتفاع عدد الاعتداءات على الصحفيّين في هذه الفترات ذاتها نتيجة لتواجدهم لتغطية هذه التظاهرات والاحتجاجات.

وعلى الرغم من أن الاعتداءات على الصحفيّين ترتفع في تونس في جل المحطّات الانتخابيّة، إلّا أن استفتاء 25 جويلية كان الأعنف على الصحفيّين الميدانيّين الذين تعرّضوا لـ 41 اعتداء خلال فترة الاستفتاء في مقابل 18 اعتداء خلال آخر انتخابات تشريعيّة سنة 2019.

تواصل اعتماد الحلّ الأمني ومحاولات لزرع الزبونية

ولئن تأتي أبرز الاعتداءات التي تطال الصحفيّين خلال تغطيّاتهم للتحركات الاجتماعيّة والسياسيّة باعتبار التعاطي الأمني مع هذه التحرّكات، فإن التضييق على المجال العام لم يشمل فقط الصحفيّين والعاملين في قطاع الاعلام بل شمل المحتجيّن والناشطين. فبالرغم من أن عدد الاحتجاجات المسجّلة طيلة فترة حكومة بودن لم تكن الأعلى مقارنة بالسنة السابقة لوصولها إلّا أن التعاطي معها لم يكن مختلفا. وهو ما أكّده الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، رمضان بن عمر الذي اعتبر أنّ “التعامل مع الاحتجاجات يتمّ كالعادة وفق مقاربات أمنيّة وعبر إحالات بالجملة للمحتجّين على القضاء بسبب تحرّكاتهم”. وأضاف أنّ “حكومة بودن عبر وزرائها ابتدعوا شكلا جديدا لضرب هذه الاحتجاجات” وهو شكل ناعم على حدّ تعبيره، “من خلال استقطاب واستمالة بعض القيادات البارزة في الحركات الاجتماعيّة”. معتبرا أن “الولاة ووزير الشؤون الاجتماعيّة وغيرهم يقومون بهذا الدور عبر إغراء بعض قيادات الاحتجاجات بالمناصب وهو ما حصل مع بعضهم الذين تقلّدوا فيما بعد مواقع في الدّولة”. ما اعتبره بن عمر، شكلا من أشكال إضعاف التحركّات الاجتماعيّة عبر محاولات زرع بذرات الزبونية داخلها.

من جهة أخرى يمكن إرجاع الانخفاض النسبي للتحرّكات الاجتماعيّة، للوعود التي كرّرها ويكرّرها رئيس الجمهوريّة منذ إعلانه عن تفعيل الإجراءات الاستثنائيّة، والتي ساهمت في تهدئة العديد من الحركات الاجتماعيّة التي أمهلت سعيّد فسحة من الوقت، خاصة بعد انسداد الأفق الذي رافق فترة حكومة المشّيشي. وبالرغم من ذلك حافظت التحرّكات الاجتماعيّة والسياسيّة على نسق كبير. حيث بلغ عدد الاحتجاجات المسجّلة طيلة فترة حكومة بودن، حسب تقارير الشهريّة لمرصد الحركات الاجتماعيّة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، أكثر من 8500 احتجاجا بين أكتوبر 2021 وجويلية 2022. حوالي 6000 منها لأسباب اقتصاديّة واجتماعيّة.

واعتبر بن عمر أنّ “انخفاض عدد الاحتجاجات ليس مؤشرا إيجابيا باعتبار أنه ينبئ بنوع من انعدام الأمل وغياب للحكومة من الجهة المقابلة التي لم تغيّر طريقة التعاطي الأمنيّة بل أضافت عليها جرعة من عدم الاهتمام بما يطلبه المحتجوّن بإعتبار عدم قدرتها على فتح الملفّات”. وأضاف بن عمر بأن “الشباب ابتكر أساليب جديدة للاحتجاج عبر الهجرة غير النظاميّة، وهي خير دليل على انغلاق سبل التواصل مع السلطة المركزيّة الرافضة للاستماع إليهم”.

وشهدت التحرّكات السياسيّة أكبر تراجع مقارنة بفترة الحكومة السابقة، حيث بلغت فقط 204 تحركا، طيلة نفس الفترة. وهو ما يمكن تفسيره بتعدّد المحطّات الانتخابيّة، كالاستشارة الوطنيّة والاستفتاء وغيرها التي جعلت من الفاعلين في موقع انتظار لمآلات هذه المسارات. وهو ما يبرز في المقارنة بين عدد الاحتجاجات خلال شهري جويلية 2021 وجويلية 2022 حيث مرّ عدد الاحتجاجات من 975 الى 335.

حالات موت مسترابة وإدخال القضاء في مسار تكميم الأفواه

بعد سنة مليئة بالاحتجاجات، سجلّت فيها البلاد تواصلا لسياسات قمع المتظاهرين كما حصل مع المحتجّين إثر أحداث عقارب الذي خرجوا للدفاع عن حقّهم في بيئة سليمة ولرفض تحوّل مدينتهم لمصبّ نفايات. حيث جوبهوا بعنف أمنيّ غير مبرّر في مطلع شهر نوفمبر الفارط، ممّا أدّى إلى وفاة الشاب عبد الرزاق الأشهب بعد استنشاقه لكمّيات كبيرة من الغاز المسيل للدموع، وانتهت بعديد الإحالات على القضاء بسبب احتجاجهم. ميّز هذا التعاطي الأمني مع الاحتجاجات حكم بودن، لنجد نفس الممارسة في التصدّي لاحتجاج المعلّمين النوّاب لدى توجهّهم بمسيرة في اتجاه قصر القصبة، تطالب بتسويّة وضعياتهم المهنيّة بالإضافة لقمع احتجاجات المجموعات الشبابية والمجتمع المدني الرافضين للاستفتاء الذي أجري في 25 جويلية الفارط.

لكنّ الجديد في التعامل هو إدخال القضاء في التصدّي للاحتجاجات الاجتماعيّة والسياسيّة. وهو ما اعتبرته نورس الدوزي منسقّة الائتلاف من أجل الأمن والحريّات “مستجدّا خطيرا باعتبار أنه أصبح يعرّض الناشطين لعقوبات مبالغ فيها الهدف الوحيد منها هو محاولات إخماد أصوات المحتجّين وترهيبهم وهرسلتهم“. وأضافت الدوزي أن “الإحالات على القضاء كانت موجودة منذ السابق لكن الخطير أن هذه الاحالات أصبحت مرادفا للسجن مباشرة”. وأرجعت دوزي هذه الحدّة غير المفهومة في الأحكام أساسا، إلى الضغط المتواصل على القضاء من قبل السلطة التنفيذيّة.

ولم يتوقّف الأمر حدّ المحاكمات الصارمة التي زجّت وتزجّ بالمحتجيّن والناشطين خلف القضبان بل ترافق ذلك مع تسجيل عديد حالات الموت المسترابة، وهو ما أكّدته منسّقة الائتلاف من أجل الأمن والحريّات حيث “تم تسجيل 3 حالات موت مسترابة خلال 10 أيام فقط من شهر سبتمبر الفارط، وهي وفاة لشاب بعد مطاردة أمنيّة في تينجة من ولاية بنزرت، ووفاة شاب بعد إطلاق النار عليه في منطقة الباساج وسط العاصمة بالإضافة لوفاة كهل بولاية تطاوين بعد منعه من الحصول على أدويته خلال فترة الإيقاف”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، مؤسسات إعلامية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني