القمة الثلاثية في تونس: هيمنة الأجندة الجزائرية


2024-04-26    |   

القمة الثلاثية في تونس: هيمنة الأجندة الجزائرية

انعقدتْ يوم 22 أفريل في العاصمة تونس، القمة الثلاثية بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره التونسي قيس سعيد ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي. وتأتي هذه القمة تطبيقا لما تمّ التفاهم عليه مُسبقا ضمن الاجتماع التمهيدي الذي جمع الأطراف الثلاثة يوم 3 مارس على هامش قمة الدول المصدرة للغاز التي نظمتها العاصمة الجزائرية. فهي القمة الأولى من نوعها، التي ستنتظم بشكل ربع سنويّ في المستقبل للتداول في “الأوضاع السائدة بالمنطقة المغاربية وضرورة تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية”.

وتحظى الرهانات الاستراتيجية بالمكانة العليا في هذا الاجتماع، وإن أُظهرت بصيغة شاملة وعائمة لا تُقحم كثيرا من التفاصيل حولها في لهجة البيان الختامي. فمع تصاعد الضغوطات الدبلوماسية الأوروبية، والإيطالية بالأخصّ، للبلدان الثلاثة في ملف الهجرة غير النظامية وطرح فكرة “إيواء” المهاجرين من جنوب الصحراء في بعض دول ضفاف المتوسط الجنوبي، تسعى الدول الثلاث إلى إظهار موقف موحّد والإصداح بشعارات سياديّة وتقديم صورة إطار للتداول، لا يزال خاويا من أيّ مضمون سياسي أو منهجية واضحة كما من أيّ بناء مؤسساتي، في ظلّ تراجع فعالية الاتحاد المغاربي إلى الحدود الدنيا. كما من المرجّح أن يكون هذا الإطار الجديد نوعا من خارطة الطريق التي يريد من خلالها الرئيس الجزائري هيكلة تحالف إقليمي مضادّ لمبادرة “الطريق نحو الأطلسي” المغربية، وهي مبادرة استراتيجية نجحت في تحقيق اختراق واسع ضمن خاصرة الجزائر الاستراتيجية في عدد من دول الساحل والصحراء المهمة للأمن القومي الجزائري، على غرار النيجر ومالي وإن لم تُوفّق بعد في استقطاب بعض دول الإطلالة الأطلسية الأخرى بخلاف المغرب وأساسا السنغال وموريتانيا. كما طرح الاجتماع ضمن ملفاته مسألة تأمين المناطق الحدودية بين البلدان الثلاثة التي شهدت في الآونة الأخيرة تحدّيات متعدّدة اختلطتْ فيها الأبعاد المناطقيّة والوطنيّة بالأجندات الإقليميّة والدوليّة.

الحدود مرآة الاستراتيجيات

ينعقد الاجتماع في مناخ خانق من التوتّر السياسي والاستراتيجي الذي يُحيط بالدول الثلاث على مختلف الجبهات. فلا يزال المشهد الليبي يحاذر الانحدار إلى أشكال أخطر من الانقسامات السياسية بعد إغلاق معبر رأس جدير منذ شهر مارس الماضي، وهو الحدث الذي امتدّت تأثيراته سلبا على العلاقات التونسية الليبية التي لم ترتقِ أصلا إلى مستوى الرهانات المشتركة والاستراتيجية المنتظرة منها. وتُعدّ عملية الغلق في أبعادها الظاهرة استمرارا للصراع الداخلي على إدارة المعبر بين قوات مدينة زوارة المستفيدة من تواجدها التقليدي في النطاق الحدودي لكسب مزيد من التنفّذ السياسي والمادي، وبين القوات المنتسبة لوزارة الداخلية التي توجهت للسيطرة على المعبر تحت شعار مكافحة الآثار السلبية للتهريب والتجارة الموازية حسب ما صرّح به الخطاب الرسمي، وضمن خطة أمنية باشرتْها حكومة الوحدة الوطنية للتحكّم في المعابر والمجال الحدودي في غرب البلاد. ويرى البعض في هذا الصراع المستجدّ محاولة من وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية عماد الطرابلسي وضع قواعد جديدة ضمن المجال الحدودي بالاعتماد على قوة الدولة، ولكن لغايات خاصة بالطرف الجهوي الذي يمثّله الطرابلسي نفسه أي منطقة الزنتان، التي تحمل بدورها تاريخا من التنافس العسكري مع مدينة زوارة امتد على مدار السنوات الماضية. فقد سبق لأسامة الجويلي مثلا وهو قيادي آخر من مدينة الزنتان أن حاول بسط السيطرة على المعبر في جانفي 2018 أثناء مشاركته ضمن حكومة الوفاق الوطني السابقة.

وكانت حكومة الوحدة الوطنية قد بادرتْ، قبل أربعة أشهر من الآن، بتنفيذ عملية أمنية في مدينة غدامس الليبية التي تقع ضمن المثلّث الحدوديّ الليبي التونسي الجزائري، بتنسيق مشترك بين رئاسة الأركان ووزارة الداخلية لحكومة الوحدة الوطنية الليبية لها. وبقراءة للسياق، نجد أنّ هذه العملية قد تمّت هندستها بعد حوالي شهر من اتفاق دبلوماسي جزائري مع حكومة الوحدة الوطنية يشمل عودة شركة “سوناطراك” الطاقية الجزائرية للعمل في ليبيا بعد إغلاقها لثماني سنوات والسعي الجزائري الحثيث لإعادة فتح المعبر الحدودي “غدامس-الدبداب” الرابط بين البلدين والمُغلق منذ اندلاع الثورة الليبية (باستثناء فاصل قصير في 2015). ولئن تمّ تقديم هذه المبادرات المستمرة من حكومة الوحدة الليبية في تأمين المناطق الحدودية على أنها محاولة استباقية لحصر تمدّد بعض القوى العسكرية المعارضة للحكومة والتي تستفيد من السيطرة على المعابر، إلا أن بعض التقديرات السياسية تضع العملية برمّتها ضمن نطاق استراتيجي أوسع. إذ ترتبط رهانات السيطرة على المعبر، على الأرجح، بتوقيع حكومة الوحدة لعقود استغلال الغاز طويلة الأجل وضرورة تأمين مناطق الاستغلال، ومن أهمّها حوض غدامس الحدودي الذي تم اكتشاف مخزون غازي ضخم به.

من جانب آخر، اعتمدت الجزائر على توسيع مبادرتها في المناطق الحرّة الحدودية التي شملتْ سابقا ثلاث مناطق حرّة رئيسيّة مع كلّ من تونس وموريتانيا ومالي لتصبح خمس مناطق عبر إضافة منطقتين جديدتين مع كل من ليبيا والنيجر. هذا الاعتماد الجزائري المكثف على التعاون الثنائي يصبّ ضمن محاولات تجاوز ما خلّفه فشل الجزائر في الانضمام لمجموعة البريكس، وهو الملف الدبلوماسي الذي راهنت عليه الجزائر سابقا لتعزيز دورها الإقليمي ولتثبيت عدد من التوازنات السياسية تجاه الجار المغربي خصوصا. أما الآن فتلتفت الجزائر نحو هذه المبادرة لبثّ آلية للترابط مع المشاريع اللوجستية والاقتصادية ضمن النطاق الإفريقي على غرار مشروع الطريق الرابطة بين مدينة تيندوف الجزائرية ومدينة الزويرات بموريتانيا أو مشروع أنبوب الغاز الصحراوي الذي من المخطط أن يربط بين نيجيريا وأوروبا مرورا بالأراضي الجزائرية.

التقاء الاستراتيجيات الحدودية للجزائر وحكومة الوحدة الوطنية الليبية، يدفع للتساؤل في المقابل عن غياب استراتيجيّة واضحة للدولة التونسيّة حاليا في التعاطي مع المتغيرات ضمان النطاق الحدودي. وهذا التخبّط ليس بالأمر المستغرب في ظل عدم تبنّي الدولة لرؤية واضحة تجاه المناطق الحدودية. إذ لم يُحدّد موعد دقيق مثلا لانطلاق العمل بالمنطقة الحرة الحدودية في الشوشة قرب معبر رأس جدير. كما لا يظهر إلى الآن من مخرجات اللقاء الثلاثي أنّ الدبلوماسية التونسية قد بذلت جهدا لاغتنام هذه المناسبة في اتجاه إعادة فتح المعبر أو التباحث مع الجانب الليبي في بعض أوجه العلاقة الثنائية التي لا تُعتبر اليوم في أحسن حالاتها لأسباب متعدّدة. بل كان يُمكن لتونس، لو كانت لها دبلوماسية ناجعة وسليمة، التوسّط بين أطراف الخلاف الليبي الداخلي في المنطقة الحدودية بما يضمن سلامة التراب الليبي واستباق تطور الأزمة لاجتناب توتر الأوضاع في الجانب التونسي من الحدود نتيجة غلق المعبر. ولكنّ كلّ المؤشرات تدلّ على العكس.

وبذلك تبدو النقطة التي أشار إليها البيان الختامي للاجتماع الثلاثي حول تكوين فريق عمل لتنسيق الجهود لحماية الحدود المشتركة أمرا بالغ الصعوبة في الظروف الحالية، خصوصا مع التوتر الذي يشهده النطاق الحدودي وصعوبة توفير الموارد المالية واللوجستية الكافية لتأمين العملية ضمن مختلف أبعادها.

الهجرة: الملفّ الأهم ولكن ليس الوحيد

طُرحت قضية الهجرة غير النظامية على النقاش بشكل واسع بين الدول الثلاث كأهمّ النقاط لرسم استراتيجية مشتركة و”العمل على توحيد المواقف والخطاب في التعاطي مع مختلف الدول الشقيقة والصديقة المعنية بظاهرة الهجرة غير النظامية في شمال البحر المتوسط والدول الإفريقية جنوب الصحراء”، كما نصّ البيان.

هذا الموقف المشترك لم يكن مبنيّا على قناعات راسخة بضرورة تنسيق الرؤى والاتجاه نحو “صوت موحّد” بقدر ما كان ردة فعل تكتيكية على الضغوطات المسلّطة تجاه دول جنوب المتوسط. وقد سبق للرئيس الجزائري انتقاد التعامل المنفرد لكل دولة على حدة والاتفاقيات الثنائية مع الاتحاد الأوروبي التي تصبّ في خانة تحويل دول المنطقة إلى حائط صدّ مبكر للهجرة غير النظامية، ودعا إلى اتخاذ معالجات مشتركة. إلا أن آليات تنفيذ هذا الموقف لم تتبلور في اللقاء الثلاثي الذي اكتفى فقط بالتنصيص على تشكيل فريق يتولّى صياغة موقف موحّد بشأن ملفّ تدفّقات الهجرة للتعامل مع الضغوطات ككتلة موحدة. كما تطرح هذه المبادرة تساؤلات عن حجم الخشية الجزائرية من التحركات الإيطالية المستمرّة في تونس التي تتخذ ملف الهجرة غير الشرعية كغطاء لمشاريع إقليمية ترى فيها الجزائر تهديدا لمصالحها الإستراتيجية. وفضلا عن ذلك لم تظهر من مخرجات اللقاء بوادر عميقة لبناء استراتيجية مغاربية للملفّ تمكّن من تعديل العلاقة مع دول الشمال أو اعتماد مقاربة أكثر إنسانية وحقوقية في التعامل مع المهاجرين من دول جنوب الصحراء، بعد الجرائم الفظيعة التي حصلت في حقّهم في السنوات والأشهر الأخيرة.

على المستوى الطاقي والاقتصادي، تطرّق البيان الختامي إلى تكوين فريق عمل مشترك لصياغة آليات إقامة مشاريع واستثمارات كبرى مشتركة في مجالات وقطاعات ذات أولوية على غرار إنتاج الحبوب والعلف وتحلية مياه البحر ضمن خطة لتحقيق الأمن المائي والغذائي للدول الثلاث والتعجيل بتنفيذ مشروع الربط الكهربائي المتزامن بين شركات نقل الكهرباء وتطوير التعاون وإقامة الشراكات في مجالات استكشاف وإنتاج وتخزين المواد البترولية وفي قطاعات المناجم والطاقات المتجددة والنظيفة. وفي تطبيق “سريع” لبعض هذه المخرجات، انعقد اجتماع في الجزائر بعد يوم واحد من اللقاء الثلاثيّ ضمّ كلا من وزير الموارد والأمن المائي الجزائري طه دربال ووزير الفلاحة التونسي عبد المنعم بالعاتي وووكيل وزير الموارد المائية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية محمد فرج الصيد قنيدي للاتفاق على إنشاء آلية للتشاور حول المياه الجوفية المشتركة بين الدول الثلاث. وقد كان ملفّ المياه الجوفية بالذات من أبرز الملفّات التي احتوتْ على خلافات غير معلنة في وجهات النظر، عبّرت عنه أحيانا بعض الأصوات الإعلامية التونسية والليبية بشكل غير رسمي في انتقاد للاستغلال الجزائري المفرط للمائدة المائية الجوفية المشتركة التي تمتدّ على أكثر من مليون كيلومتر مربع يقع 700 ألف كيلومتر منها في الجزائر و80 ألف كيلومتر في تونس و200 ألف كيلومتر في ليبيا.

على محكّ التحديات الإقليمية

تطرقت عديد القراءات إلى الطابع “الثنائي” للاجتماع الأخير باعتباره إطارا ينظم جانبا من العلاقات التونسية-الجزائرية أكثر منه اتفاقا ثلاثيا. فلئن تناول البيان الختامي للاجتماع رفضا تاما للتدخلات الأجنبية في الشأن الليبي ودعم الجهود الرامية إلى التوصل إلى تنظيم الانتخابات، إلا أن السؤال يبقى مطروحا حول مدى فاعلية هذا الإطار المشترك في مواجهة تحديات المشهد السياسي الليبي المهددة فعلا بانقسامات مناطقية وعسكرية قد تواجه حكومة الدبيبة.

وفي جانب مهم، تعكس لهجة البيان توجسا جزائريا بالأساس من التحركات العسكرية الأمريكية والتركية في قاعدة الوطية الليبية قرب الحدود التونسية، والتواصل الأمريكي مع قوى أمنية نافذة في الغرب الليبي (خصوصا في طرابلس ومصراتة والزاوية)، وهو تحدٍّ يقابله تطور التمركز العسكري الروسي في ليبيا وسعيه لتعميق تواجد أقوى في الواجهة الساحلية على مستوى مدينة سرت، مما يمكن أن يُعيد الساحة الليبية إلى أن تكون حلبة صراعات إقليمية ودولية جديدة. ضمن هذا الظرف يُطرح تساؤل مشروع حول مدى نجاعة الإطار الثلاثي، خصوصا وأن الطرف الممثل لليبيا فيه وهو رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي لا يمتلك دورا مؤثرا جدا ضمن هيكلة صنع القرار في ليبيا. كما أن تمثيليّة حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا في اللجان المشتركة المنبثقة عن الاجتماع، لا تعني ضمان فاعلية كاملة لتطبيق المخرجات على الأرض مع تواجد حكومة موازية في الشرق الليبي غير معنيّة بمخرجات الاجتماع الثلاثي.

ينظر البعض إلى الاجتماع كذلك كمشروع جزائري بالأساس لتجاوز الانغلاق الديبلوماسي الذي تمرّ به البلاد منذ سنوات على عديد الجبهات، ومن بينها التوتر الملحوظ في العلاقة مع عدد من دول الساحل الإفريقي (مالي، النيجر وبوركينا فاسو على سبيل المثال). وفي بُعد أهمّ، تهدف الجزائر عبر هذا الإطار إلى مواجهة بعض المشاريع الاستراتيجية المضادة وعلى رأسها مبادرة الطريق نحو الأطلسي بقيادة المغرب. فقد سعى مؤتمر مراكش المنعقد في 23 ديسمبر 2023 إلى تطوير تحالف دول “الإكواس” نحو استراتيجية مغربية تعتمد على مشاريع اقتصادية وتطوير للبنية التحتية في البلدان المنضمّة للمشروع وربطها بميناء الداخلة الواقع في منطقة الصحراء الغربية، مما من شأنه أن يؤدي إلى سيطرة مغربية بحكم الأمر الواقع على الصحراء الغربية ومضايقة المشاريع التي تعتزم الجزائر تنفيذها مع موريتانيا. وقد حاولت موريتانيا من جهتها تجنب سياسة المحاور، عبر عدم مشاركتها في مشروع الطريق نحو الأطلسي رغم تقارب رئيسها الحالي مع المغرب لتجنب استفزاز الجزائر كما لم تنخرط بدورها في الاجتماع الثلاثي المنعقد في تونس لتفادي حفيظة الجار المغربي.

في المحصّلة، لم يكن هذا الإطار “المنعقد على عجل” ناضجا كفاية للبناء عليه كنموذج مُستدام للتداول المستمرّ بين الدول الثلاث في القضايا ذات الاهتمام المشترك. وربما كانت زيارة وفد من المجلس الرئاسي الليبي إلى موريتانيا والمغرب مباشرة إثر الاجتماع إحدى أهم الرسائل السياسية التي سعتْ إلى تجنّب تأويل المشاركة الليبية في الاجتماع على أنها انخراط في مشروع بـ “قيادة جزائرية”. وعلى العكس من ذلك أظهر الموقف الدبلوماسي التونسي تناغما مستمرا -إن لم نقل تخندقًا- مع الرؤية الجزائريّة في عديد القضايا الإقليمية على حساب العلاقات مع المغرب، كانت أشدّ مظاهره حدة في أوت 2022 عندما استقبل الرئيس قيس سعيد قائد جبهة البوليساريو على هامش قمة التيكاد المنعقدة في تونس. ومع ذلك تبقى المسائل المتداولة في القمة الثلاثية ذات أولوية مشتركة للبلدان الثلاثة في انتظار معالجة مؤسساتية حقيقية لا تقوم على منهجية ردود الفعل أو تمرير مشاريع أحادية بغلاف تشاركي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الجزائر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني