عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (3): “ثورة في بلاد الإسلام” لعياض بن عاشور


2024-04-27    |   

عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (3): “ثورة في بلاد الإسلام” لعياض بن عاشور

يندرج هذا المقال ضمن سلسلة من مراجعات الكتب حول تجربة الانتقال الديمقراطي، كنّا بدأناها بمراجعة ثنائية عدنان المنصر “سنوات الرمل” و“سنوات الطين”. وقد اخترنا التركيز على المحاولات التي يجمع أصحابها بين الخلفيّة الفكرية والأكاديمية من جهة، وبين لعب دور سياسي مهمّ في مرحلة ما. الأستاذ عياض بن عاشور، الذي تتجاوز كتاباته تخصّصه القانوني نحو قضايا فلسفية وإسلاميّة وسياسيّة، كان أيضا من أبرز الفاعلين خلال الفترة الأولى من الانتقال الديمقراطي، إذ ترأّس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ساهمت في قيادة المرحلة الانتقالية وأعدّت النصوص المتعلقة بالحريات العامّة ومهدت لانتخابات 23 أكتوبر 2011. ونهدف من خلال هذه المراجعات، إلى المساهمة في تفكيك جدليّة الثورة والانتقال الديمقراطي، وفي تفكير رصين في التجربة الديمقراطية الوحيدة التي عرفتها البلاد، في نقاط قوّتها ومواطن ضعفها، بعيدا عن الضوضاء والبروباغندا المهيمنتين (المحرّر).

صدر هذا الكتاب في نسخته الفرنسية سنة 2016، وفي ترجمته العربية سنة 2018 عن معهد تونس للترجمة ودار سراس للنشر،  وعنوانه “تونس: ثورة في بلاد الإسلام” للكاتب عياض بن عاشور وترجمة فتحي بالحاج يحي. للثورة التونسية، بالنسبة للكاتب، من الخصائص ما يجعلها ثورة بكل ما للكلمة من معنى. وضمن الكتاب محلّ القراءة، تفصيل ذلك نظريا وعمليا انطلاقا من تجربة الكاتب كمشارك في المراحل الأولى للفترة الإنتقالية، ومخيّرا الحفاظ على خلفيته الفكرية المعهودة. لكن بعد أكثر من سبع سنوات من صدوره، وضمن سياق نسف  كل ما أطلقته الثورة وحققته من مكاسب، بتعلّة الانتصار لها على من انحرف بها،  يجوز التساؤل عن صلاحية هذا الطرح وحدوده. أم أنّ مراحل الارتداد والانتكاسة  طبيعيّة في تاريخ الثورات، تماما كما مراحل الهزّات الارتداديّة التي تعود عبرها الثورة إلى الواجهة.

يقول عياض بن عاشور “لعلّ عصر الثورات في أوروبا قد أُغلق، لكنه بالنسبة لنا قد بدأ. مستقبل الثورة قد فُتح والأمل الديمقراطي يغمر أرضها”،[1] في ختام الدرس الافتتاحي في كولاج دو فرانس 2019-2020. أكّد بن عاشور في هذا الدرس، الأطروحة المركزية في كتابه، وهي ثورية الثورة التونسية في تاريخ هذه الظاهرة، إزاء السياقات المقارنة وفي السياق المحلي، مُحيلا على خصائصها التي تجعلها ثورة سياسية مبنية على المطلب الديمقراطي الشعبي من أجل الحرية والكرامة والعدالة. حاول بن عاشور بذلك  ضبط النص على إيقاع تعريف “الثورة” دون ظفرين،[2] في كتاب من 385 صفحة وسبعة أقسام، قدّم من خلالها الكاتب دينامية الثورة التونسية والتناقضات والتوترات والصراعات التي اعترتها بناء على خطاب تونسي عنها. لكن انطلاقا من ملكية القارئ للنص لمتابعة طرح الكاتب والبناء عليه، أعدنا “الظفرين”  مؤقتا لنقع على “الثورة” دونهما.

خطاب تونسي للإنسانية عن الثورة

في هذا الكتاب يكتب عياض بن عاشور عن الزمن مستقرئًا الذات في سياقها الإنساني، فهي ليست عاجزة، ولا هي خاضعة لتجارب ومفاهيم الآخر. الثورة التونسية، حسب بن عاشور، ليست ممتنعة ذاتيا في أهلها بل هي وليدة سياقها وتاريخها الخاص، بحيث تصبح الثورة في طيّات الكتاب ظاهرة إنسانية وقعت في جزء من بلاد الإسلام. في هذا الكتاب محاورة مع كاتب، بخلفية علمية معلومة، وهو يُفكّر مُعالجا مفهوم الثورة إزاء أطروحات “الثورة ظاهرة أوروبية صرفة” (ص. 44-48)، والأخرى التي تعتبر المجتمعات العربية، وخاصّة المجتمع التونسي، كيانا سلبيا لا زمن له ولا تاريخ.

يُثير المدخل النظريّ للكتاب في القارئ حميمية “الثورة” بخطاب هادئ جدا على حافة التواترات. ولكنه لا يتوانى عن الاشتباك الصّريح مع الطروحات المناقضة لفكرته الرئيسية: “لقد قمنا بثورة”، يقول عياض بن عاشور، مُصرّا دائما على نزع الظفرين عنها، أيا كان مأتى واضعها.

لنعد إلى ثلاثية الزمن والتاريخ والذات. مذهب الكاتب تونسي، فينطلق من منطلقات معرفية وأنطولوجية لتصدير قول عن هذه الثلاثية. ويقولها صراحة: “عندما أقول “بالنسبة إلينا” نعني بذلك أن خطابنا هو خطاب تونسي يتحدث عن تجربة معيشة وملموسة” (ص. 27-28). لكنّ مذهبه يقع في الزمن الإنساني للكتابة عن موضوع تاريخي. في هذا الاتجاه، يقول عن القراءات التاريخية “إنه بوسع كلّ مؤرّخ أن يبحث في ثنايا التاريخ عن أصل ثورة ما وسوابقها وأن يعود أبعد ما يطيب له في الزمن. وقد تكون أطروحته على قدر كبير من التماسك والمنطقيّة لكنها تبقى هندسة ذهنية بأثر رجعيّ ونوعا من الترميم” (ص. 48). رغم أنه لا يقول ذلك صراحة، لكن الأثر العميق في قراءة الأبواب الثلاثة الأولى هو تموضع ذات القارئ كتونسي وتونسيين في الزمن، من دون استحالات خارجية أو امتناعات ذاتية. فهو أيضا يرمّم الزمن مفاهيميا: فلا “المؤامرات” المفترضة كافية لتمنع ثورية “الثورة” ولا أطروحات العجز المتأصّل في المجتمع كذلك. إن مدخل بن عاشور أنطولوجي بامتياز، فهو يضع الإنسان التونسي على قدم المساواة الأنطولوجية مع الأوروبي والآخر عموما، ليُسجّل الإنسان التونسي نفسه في مساره الطويل. وعندما يبحث في الحرية والحريات المخصوصة في الديمقراطية يقول أنها أصيلة في الذات البشرية (ص. 60). ليقول تاليا أن الثورة التونسية ثورة سياسية لا تحتاج الى مرجعيات معيارية للحكم عليها، بل إنّ المرجع الوحيد هو أنّ من قام بها قد بلغ مرحلة الوجود السياسي لافتكاك مصيره من أمثاله، الآن وهنا، لتبدو بذلك الثورة التونسية أمرا ممكنا ومتحققا دنيويا. فجاء التفصيل في التاريخ (الوقائع) مرتبطا بأصل فلسفي وأخلاقي، هو الشرط الإنساني المتمثل في الحرية كحدّ أدنى. لقد طالب بها الشعب التونسي في لحظة ثوريّة، بعد أن تجذّرت في نضال أفراد اكتسبوا “شرفا خصوصيا من الناحية الأخلاقية” (ص. 54) لأنهم مهّدوا بتشكيل الروح والوعي حولها للملايين من التونسيين. عندما ثار التونسيون أفرادا ومجموعة، في أفق الكتاب، دخلوا الزمن الإنساني وصنعوا التاريخ البشري، فلا يمكن ولا يجب أن نسلبهم موقعهم الجديد في العالم الحديث ولا أن نحطّ من فعلهم. يبقى أنّ هذه الفكرة تواجه اليوم حقيقة مرّة، هي أنّ جزءا لا يستهان به من النخب المناضلة قبل الثورة، تورّط في خيارات سياسيّة مساندة لاحتكار السلطة وانتهاك الحريات العامّة وتجريم العمل السياسي.

هذا الكتاب الهادئ حول فترة متوترة ومعقدة ومهمة في التاريخ التونسي، خطاب مباشر وصريح يريد أن يقول التالي: إنّ الحدث الثوري تونسي صميم وخاصّ، من حقّه أن يتّصف بالثورية، ومعياريته منه. فكانت له خصائصه كثورة تونسية دخلت أفق تغيير عميق “ميتافيزيقي”. الإنسان التونسي، في الكتاب، مارس فعلا -بتعلم الإرادة (ص. 96)- من أجل سياسة فرد ومواطن ومجتمع سياسي يحدد مصيره بنفسه، إزاء تاريخ الاستبداد وجذوره العميقة، مُقتحما أفقا روحيا وميتافيزيقيّا يجعله جديدا على العالم العربي والإسلامي. إلا أن المفارقة العميقة التي تفرض نفسها علينا اليوم، هي أن الإنسان التونسي نفسه يفقد مركزه الجديد لصالح تمركز القوة في أشكال الاستبداد التي تعيد التاريخ إلى ما “وراء الوراء”، ويعود في نفس الوقت بحنين طفولي إلى طمأنينة التقليدي والقديم. ما يسمح لنا بطرح السؤال: هل “ميتافيزيقية” الثورة كافية أمام خطاب متعالٍ كالخطاب الشعبوي، وهو يمارس السلطة وينتج القانون؟

الثورة التونسية: خصائص أربع

الثورة مفهوم مُتغيّر خاضع لحركية تاريخية ومعنوية من دون انقطاع (ص. 66). يؤكد الكاتب على ذلك دائما بشكل يجعل من الثورة الفرنسية والإنجليزية والأمريكية هي التوقيع الزمني لذاك الإنسان لنفسه على منجزه التاريخي الخاص به. إذن، لا معيارية له تسمح بجعله النموذج الوحيد للحكم على غيرها من الأحداث الثورية ما دام الإنسان نفسه في كل مكان. لكنها، أي الثورة، دخلت الاستعمال التاريخي بعيدا عن هذه التجارب، وسمحت باكتشاف واقع تاريخي جديد واكتساب المفردات لمعاني جديدة. على امتداد قرون كان مصطلح “ثورة” ينازع أوجاع ولادة مُحايثة لسياقها وشروطه التاريخية والثقافية، منذ انطلاق الحركة الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي، وفي تونس، إلى اليوم. فخرجت من المعاني الكلاسيكية للفتنة والهرج (في السجل الديني التقليدي) إلى الاستعمال المُحيل على الحركات المعادية للغرب والاستعمار بحيث أصبح الشعب وراءها وهدفها. كما أصبحت رديفة لتحرك العسكر فتجاوزت مجرد الانقلاب إلى “تمثيل إرادة الشعب” ضمن برنامج سياسي واقتصادي لم يكن موجودا سابقا. وتحقق منها ما يشبه الثورة التونسية (في مطلب الحرية والديمقراطية) في السودان (سنة 1964)، لكنها كانت “ثورة” أقل من ثورة (ص. 43).

الثورة التونسية بخصائصها الأربع تختلف عما سبقها. كثورة ديمقراطية مبنية على دولة القانون وحقوق الإنسان والدولة المدنية، تميّزت، أولا، بكثافة الاحتجاج الشعبي الواسع (خلافا للتجربة السودانية في 1964) والموحد بعزيمة وشحنة عاطفية تجاوزت حاجز الخوف مكتسبة “أخلاقيات الشرف” وروح الانتصار، التي تحوّلت جميعها مع مرور الأيام إلى فعل سياسي عقلاني (ص. 84). كان مجتمع الثورة يُراكم المتغيّرات والخصائص المهيّئة جميعها لخيار واحد، لم يكن غيره ممكنا لتغيير الواقع، فقط انتظر تحقق القادح الظرفي. وشعب الثورة رمزي أساسا، تحققت سوسيولوجيته حسب السياق الاحتجاجي لتضمّ تدريجيا جميع الأفراد من الهامش إلى المركز. ولعبتْ فيه المنظّمات الوطنية والأحزاب دورا، لم يكن رئيسيا كما هو معلوم، لكنه مثّل جزءًا من التراكم الذي سمح بتكوين تلك الرمزية الجامعة. هذا البعد الجمعي، يكتسب في الكتاب معنا حديثا يُحيل على الكيان السياسي ككل (كيان حديث) ذاك الذي “تعلّم الإرادة” ليصبح سيّد نفسه ويبني مستقبله وينتخب ممثليه ويقرر دستوره (ص. 96).

ثانيا، للثورة رسالتها التي عبّر عنها “الشعب الذي يريد”. إنه أخيرا يريد الحرية والكرامة. ومعنى كليهما لا يتنزل في سجلّ إيديولوجي ولا فلسفة معيّنة (ص. 100) بل يتجذّران في “الحلم التونسي”. هذا الحلم الملهم جديد كليّا ومغاير لما سبقه لأنه يقع في روح الزمن الطويل. عكستْ الشعارات هذا الحلم أو اليوتوبيا الثورية من أجل الأفضل. فالثورة التونسية “حدثٌ لغويّ تاريخيّ” كثّف مطلب الحرية والكرامة من أجل المواطنة. من الصحيح القول أنّ “الديمقراطية” لم تُذكر منذ بدايات الاحتجاج لكن عمق الحرية والكرامة، ولازمتيهما العدالة، كانت قد تجذرت في تشكلها في رفض الدكتاتورية والاستبداد والفساد وغياب التوزيع العادل للثروة (ص. 99). فخرج التونسيون ضد دولتهم الخارجة على القانون، ذاك المتأصل في التراث السياسي والقانوني الإصلاحي للبلاد، ودافعت عنه فئات تمسّكت بأخلاقية النضال من أجل هذه المبادئ والمُثل.

ثالثا، نجح الاحتجاج الشعبي في إسقاط النظام برأسه ورموزه ودستوره. أي أنّ تلك المنظومة السياسية التي حالت بينه وبين مطالبه وبين وجوده السياسي نفسه قد انتهت لتصبح تلك المطالب مبادئ مرجعية في التغيير الثوري ومساره. وقّعت الثورة على نهاية نظام سياسي وقانوني (ص. 106). فكان تاريخ 14 جانفي هو يوم الثورة الذي حفر في التاريخ تتويجا لمسار تراكمي له محدداته الداخلية (الثقافية، القانونية، السياسية والإقتصادية) وألغى النظام، الذي هرب رأسه دون عودة (ص. 104). هنا، يرفض الكاتب الطرح القائل بأن مشاركة وجوه النظام القديم تُلغي الثورة. حتى مع غياب حكومة ثورية، نجحت الثورة في فرض نفسها مُستجيبة للتاريخ الطويل حسب الأحداث الظرفية. وحتى مع تواصل الإدارة والجيش والأمن دون تطهير، فهي كلها “عصبية متحالفة” (ص. 107) قد اضطرت للاعتراف بالثورة. بل إن منطقها القانوني والمؤسساتي لم يكن إلا خطوات للاعتراف بما حدث. وهنا مرة أخرى، يستعيد القارئ مع الكاتب حدث الثورة كحدث عجائبي من سجل “الأحداث الرهيبة” القادرة على تكثيف رمزي للمميّز والتطوري في تاريخ الشعوب (إصلاح، دساتير، انتفاضات…). لم تكن الأحداث الجديدة إلا المسرح التاريخي الذي أجبر شخوص النظام القديم كمحمد الغنوشي على القول: “راهي ثورة، ثورة يا سي عياض” (ص. 108). فما يقدّم عادة كمؤشرات تنفي الطبيعة الثورية للتحوّل الذي حصل، بما فيها الهيئات والمجالس بتوتراتها وصراعاتها التي أثبتت غياب “نخبة ثورية” وحضور القديم وتجدده أيضا، جميعها لم تكن حسب بن عاشور إلا دليلا على الثورة، (انظر مثلا الباب الأول: الخروج إلى الحق، القسم 6، ص 259-260) وليس  نفيا لها. فالفضاء والحرية المدنيان قد تشكلا في “ثقافة علمانية” (ص. 149-150) من الأسفل، رغم مآزقها في المجتمع وعوائقها في التشكل الفوقي في مستوى الهياكل والمؤسسات والقوانين قديما وحاليا. إن ولادتهما الثورية قد تحققت لتكون “الثورة” دون ظفرين. إنها الثورة رغما على التاريخ وتقلباته.

خاض الكاتب في خاصيّة الاعتراف (الرابعة) في كلّ الكتاب مؤكّدا أن التحوير الوزاري المعلن في 17 جانفي 2011، والحكومة الجديدة المعيّنة بمقتضى أمر 29 جانفي 2011، واستقالة الوزير الأول محمد الغنوشي، وتسمية الوزير الأول الباجي قايد السبسي في 27 فيفري والمرسوم عدد 14 المؤرخ في 3 مارس وجميع الأحداث اللاحقة، إلى حدود دستور 2014، لم تكن سوى مراحل تأكيد الثورة (ص. 109). هذا الاعتراف القانوني والمؤسساتيّ والأخلاقيّ، لنا أن نضيف له اعترافا من الفاعلين (ما دمنا نقع على معطى غياب الثوريّين في سطور النص وبينها). فلولا فضلها ومحاولات تملُّكها لم يكن لهم أن يتموقعوا ويتحركوا جميعهم. غير أن الكاتب، وهي من الأفكار الرئيسية في الكتاب، يؤكد على هذا المعطى في علاقة بما اصطلح عليه بـ “النهج الديني الثقافوي” (ص. 71). لم يكن من بُدّ بالنسبة لممثلي هذا النهج  إلا أن يخضعوا لمنطق الثورة المتنزّل في القانون والدستور والمؤسسات الحديثة، في مقابل الحداثة السياسية التي تأصلت كمرجعية تعبوية ومؤسسات وشخصيات وإرث عميق (ص.72). يقرّ الكاتب أن التناقض لم ينحلّ عميقا في المجتمع، فهو كما تحقق في وجوده السياسي الدنيوي، لا ينفصل عن المقدس وثقافته وإيديولوجيته كذلك. وحتى مع عدم حلّ التناقض، والكاتب لا يفترض حلّه تماما، لم يخرج التناقض عما اشترطته الثورة من “دنس” سياسي عبر القانون والمؤسسات والإجراءات لمواطنيها. المقدس قد تعلمن (ص. 248-250) في معارك الدستور والديمقراطية والشرعية الانتخابية. لم يكن البحث عن معنى مشترك ممكنا زمن الاستبداد، لكن الثورة قد أتاحت فرصة البحث عنه بيننا، بعيدا عن أية غيبيات.

نفس خصائص شمولية الثورة ورسالتها الأخلاقية وتحقيقها للاعتراف بها عبر نظام سياسي وقانوني جديد، منها دينامية الثورة وتناقضاتها التي فصّل فيها الكاتب من موقع مزدوج: المشارك والملاحظ. للقارئ الذي يبحث عن تفاصيل المرحلة الانتقالية قبل 2014 أن يعود لشهادة تاريخية على غاية من الأهمية، إلا أن خيار القراءة هنا تجاوز تجربة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، ليعود إلى مفهوم التوافق وآثاره، الذي ترك التناقضات والقضايا كما هي لمن بعده، في الوقت الذي حُلّت فيه المؤسسات وانتهى العمل بالتشريعات التي تحرّك ضمنها.

التوافق: تحوّل الدلالة والأدوات ودينامية الثورة

التوافق فكرة ظرفية للضرورة وأيضا رافد تاريخي يتكون من نماذج تقارب بين فاعلين متناقضين ومضامين مُصاغة حول قضايا خلافية. وأيضا له بعد إجرائي كبديل عن التصويت أو مؤسساتي كهيكل (لجنة التوافقات في المجلس الوطني التأسيسي). يُدلّل ذلك على القدرة التحويلية للتوافق، فقد جمع فاعلين متناقضين، وغيّر مفاهيم ومصطلحات ومؤسسات وصاغ خطابات لم تكن تعني ما تقول، كما سمح بإنتاج نصوص قانونيّة يقال عبرها الشيء وضدّه من دون تناقض (ص. 253-254). على سبيل المثال، نفس التوافق، كان مطلبا للفاعل الإسلامي في مرحلة أولى داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، لكنه تراجع عنه مرحليّا عندما وفّرت الانتخابات فرصة الاستناد إلى منطق الأغلبية. فصار التوافق حجة المعارضة الأقلية من أجل استعادة التوازن. ثم يعود مرّة أخرى إلى تبنيه تحت وقع التحولات العنيفة التي عرفتها البلاد والمنطقة.

مصطلح التوافق في نصّ الكتاب يتغيّر حسب الفاعل وحسب السياق وحسب الضرورة. فمثلا في صفحاته الأخيرة يظهر كـ”لعبة تسوية استراتيجية تأجيلية…” للتناقضات العميقة في المجتمع التي انعكست على كامل المسار الثوري والدستوري. كما أعاد القديم (ص. 357)، انتصر لثورة دون إيديولوجيا وأحزاب وقيادة عندما وفر فرصة تغيير وتجديد الإطار المؤسساتي الانتقالي وقياداته. لكن المنطق المؤسساتي ذاته ينتصر على ديناميّة الثورة، إذ يعترف خطابيا بمبادئها من دون السماح بإنتاج “حكومة الثورة”. وهو الحال بالنسبة للمجلس الوطني لحماية الثورة (ص. 181)، الذي أثبت بالانشقاقات داخله أن “نخبة الثورة” ليست موحدة، وقد التقت في النهاية في مراحل مختلفة مع القديم. مُعطى أكد عليه الكاتب في مواطن عديدة (ص. 172). وهكذا انتقل الكاتب دائما متتبعا ممارسة الفاعلين وردود الفعل داخل المجتمع السياسي على اختلافها وتناقضها.

لم يغِبْ كلّ ذلك عن الكاتب في استعراضه للمراحل الانتقالية قبل وبعد 2014. لكنه يؤصّل دائما للحدث التّاريخي والتحليل في أفق واسع يجعل من الثورة شرطا معنويا ومنهجيا في استخلاص النتائج. فالتوافق العابر للخطاب والفعل السياسي وللمؤسسات والنصوص القانونية، يمثل دائما دليلا على فعل ووجود سياسي منطقه حديث تماما. يريد الكاتب بذلك أن يعود بالتفاصيل إلى مرجعية الثورة للقول بأنّ القانون والدستور والمؤسسات هي الثورة (ص. 267-269). ومن خلفها الحرية والكرامة والعدالة، فهي الثورة. وهي نتيجة استخلصها الكاتب من تراكمات التاريخ السياسي للمجتمع والدولة والفاعلين السياسيين والمفكرين والمثقفين والتونسيين في تحولاتهم السوسيولوجية والديمغرافية والثقافية والدينية.

لنقّاد عياض بن عاشور وجهة نظر تعتبر أن قراءة الثورة كما وضعها هي في النهاية قراءة عن “ثورة” بظفرين خاصّين تُركّز على المسألة الدينية والحضارية بشكل عامّ، في إطار النظرية السياسية. ولعلها هي ما يفسر تمحور أطروحة الكتاب حول القانون والمؤسسات. كما أننا نجد أن التفسير الاقتصادي والاجتماعي لم يأخذْ قسطا كافيا في التحليل حيث يرد في مواقع يتحكّم فيها المفهوم النظري للعدالة. فمثلا نجده محدودا في علاقة بالنظرية الخلدونية حول العصبية المهيمنة، أو في فشل الثورة في تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي من دون علاقة مباشرة بالهيمنة السياسية القديمة أو التي أعادت التموضع من جديد.  رغم ذلك، يسمح الطرح الجريء للكتاب بالبناء عليه انطلاقا منه، خاصة مما ورد على لسان زياد كريشان، بأنّ  التطور الذي حصل “ليس كميا فحسب بل هو نوعي: وليس تغييرا في الدرجة بل تغيير في الطبيعة” في الإنسان التونسي. فإزاء الدين والحداثة، لم نصبح أحدهما تماما، والخيارات مفتوحة في كل اتجاه. كما أن التفكير فيهما وممارستهما مفتوحان. وهو معطى لو بقي وحده، لكفى أن نقول أن هناك ثورة للفرد والمجموعة، ولو رجع التاريخ إلى الوراء لأن زمنها قد بدأ، والحق دون وصاية مرتبط به (ص. 360).

رغم ذلك، فلنعد لما يقول الكتاب. يقول: هكذا هي الثورة وهكذا حدثت، وهكذا قد تحركت. فلا تلوموها إن لم تكونوا ثوريين كما هي. ولا تلوموها إن كنتم من القديم أو تحنّون إليه. فهي إن قدمت الحرية والكرامة والعدالة في أفق الديمقراطية لتحفر في الزمن الطويل مُتيحة فرصة الوجود والتحقق للإنسان التونسي، فلا ذنب لها إن كنا تونسيين دون إنسانيتنا. حقيقة صعبة التقبُّل، ومُرّة مرارة ما يحدث كل يوم: لكن هكذا هي الحقيقة.


[1]Yadh Ben Achour, La Révolution, une espérance, Leçons Inaugurales du Collège de France, Collège de France/Fayard, 2019-2020, p27.

[2] عياض بن عاشور، “ثورة بلا ظفرين”، ورد بـ: حركية المجتمع التونسي في عشرية الثورة: بين إرادة الحياة واستجابة القدر، تقديم المولدي القسومي، دار محمد علي للنشر، تونس، 2020، ص 71-74.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني