تتجدد الممارسات القمعية تحت “سامي إشراف” سلطة الاستثناء


2022-01-21    |   

تتجدد الممارسات القمعية تحت “سامي إشراف” سلطة الاستثناء
REUTERS | Zoubeir Souissi

تعددت صور الاعتداءات والانتهاكات من قبل أعوان الأمن ضدّ المتظاهرين السلميين  خلال الذكرى الحادية عشرة للثورة حيث استجاب متظاهرون لدعوات عدّة من قبل أحزاب ومنظّمات لعدم احترام التدابير المعلنة من منع التجمعات والالتحاق بالشوارع المُتاخمة لشارع الحبيب بورقيبة قصد الاحتفال، كلا على طريقته بعيد الثورة. اعتداءات وايقافات عشوائية طالت صحفيين ونشطاء في المجتمع المدني ومنتمين لأحزاب ومعارضين وضحايا الاستبداد وحتّى عائلات شهداء الثورة الذين لا زالوا ينتهزون فرصة الاحتفال السنوي بالثورة للتذكير بحق شهدائهم المهدور. اعتداءات معمّمة أعقبتْ حادثة اختطاف قياديّ من حركة النهضة ثمّ الاعلان عن وضعه تحت الاقامة الجبرية في اعتداء خيّل للعديد بأنه لن يطال سوى المنتمين للتيار الإسلامي. إلا أنّ أحداث 14 جانفي 2022 جاءت لتفنّد هذا الاعتقاد وتذكّرنا بالقاعدة الأولى: عصا القمع كالرحى، لا تستثني أحدا. 

قطع طريق، اختطاف، الوضع تحت الإقامة الجبرية: ممارسات متجددة

نظّمت لجنة الدفاع عن نور الدين البحيري، المحامي والقيادي بحركة النهضة، ندوة صحفية بتاريخ 03 جانفي سردت خلالها زوجته المحامية سعيدة العكرمي وقائع وحيثيات “إيقافه” مؤكّدةً أنّه في صبيحة يوم 31 ديسمبر 2021 وبعد ركوبهما سيارتهما للتوجّه إلى عملهما، تمّ قطع طريقهما من قبل سيّارات رباعية الدفع لا تحمل أيّة إشارة أو معلومة بأنّها تابعة لوزارة الداخلية أو أيّ سلك بها. توجّه ركاب هذه السيارات إلى سيارتهما وطالبوا البحيري بالنزول من السيارة من دون تقديم أيّة معلومة عن صفتهم رغم طلب ذلك من قبل البحيري وزوجته. عند رفضه النزول من السيارة، قام هؤلاء الأشخاص بالاعتداء عليهما بالعنف وضربه على رأسه إلى أن تمّ إنزاله من السيارة واقتياده عنوة إلى سيارة أخرى. عند محاولة الزوجة التقاط هاتفها قصد طلب المساعدة، قام هؤلاء الأشخاص بسلبها إياه وضربها وترهيب بعض الجيران الذين شاهدوا الواقعة ومن ثمّ مغادرة المكان تاركين الزوجة في حالة هلع ودون تقديم أيّة معلومة تذكر عن المكان الذي اقتيد إليه زوجها. قطع طريق واقتياد على الطريقة المافيوزية، اتّضح بعد ذلك أنها مورست من قبل أجهزة أمنية تعتبر نفسها تابعة للأمن الجمهوري طبقا لقرار من وزير داخلية دولة يدّعي رئيسها أنها دولة قانون. 

وحسب رواية الزوجة، جاء الإعلام بوضع البحيري بالإقامة الجبرية متأخرا ذلك اليوم من قبل وزيرة العدل ليلى جفال وقد اقتصر توضيحها على أنه متواجد بمكان مدني، خصوصا بعد توجّه الزوجة رفقة رئيس فرع هيئة المحامين بتونس للقاء وكيل الجمهورية والوكيل العام والاتصال بالقضاء العسكري لتقصّي أية معلومة عن مكان إيقاف البحيري، لكنهم أكدوا عدم علمهم بأي قرار إيقاف صبيحة ذلك اليوم. 

إحالة على الإقامة الجبرية، كان قد أكدها وزير الداخلية توفيق شرف الدين بعد 3 أيام من اقتياد البحيري إلى مكان غير معلوم، معلّلا بأنه إجراء قانوني طبقا لنص ساري المفعول ألا وهو الأمر الرئاسي المنظّم لحالة الطوارئ. نصّ قانوني كان قد سنّ لتقنين التضييق على الحريات يوم 26 جانفي 1978 أو ما يُعرف بالخميس الأسود. حيث كان قد أصدره نظام بورقيبة آنذاك لقمع الاحتجاجات الشعبية التي انتشرت في العاصمة تبعا للإضراب العام الذي أقرّه الاتحاد العام التونسي للشغل بكامل البلاد والتي أدّت إلى سقوط ما يزيد عن 50 قتيلا و200 جريحا وإيقاف قرابة 5000 شخص بحسب رواية السلطة آنذاك.  

إيقافات عشوائية، قطع طريق، اختطاف، عنف واعتداء، ممارسات قمعية متكررة ومتواصلة تمارسها أجهزة الدولة ضدّ ضحايا مختلفين، متحصنة بنصوص قانونية بالية. فما مورس من اختطاف واعتداء ضدّ القيادي بحركة النهضة كان قد مورس ضدّ متظاهري جانفي 2021 على سبيل المثال وضدّ ضحايا آخرين في عدة أحداث سابقة. 

الإقامة الجبرية: آلية لقمع الأعداء وابتزاز القضاء 

خلافا لما اعتادتْه حكومة حالة الاستثناء من انتهاج للتعتيم وعدم التواصل مع الإعلام، جاء تأكيد القرار بالوضع تحت الإقامة الجبريّة على لسان وزير الداخلية، خلال ندوة صحفية وهي الأولى له، بعد تعكّر صحة نور الدين البحيري ونقله إلى المستشفى على خلفية إضرابه عن الطعام وتصريح زوجته التي أفادت بأنّ زوجها بين الحياة والموت وأنها لم تتمكّن بعد من زيارته والاطمئنان عليه.

خلال الندوة الصحفية، أكّد الوزير بأنّه اتخذ قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية في مكان غير معلوم للعموم ضدّ شخصيْن (أولهما البحيري والثاني فتحي البلدي مستشار سابق بديوان وزير الداخلية). وقد استند في ذلك إلى محاضر أعوان الضابطة العدلية التي كشفت شبهات إسناد الجنسية التونسية بطريقة غير قانونية لشخصين لم يكشف عن هويّتهما، ملمّحا بأنّ المحاضر كانت قد أشارت إلى شبهة جرائم ارهابية من دون أن يكشف أية معلومة عن كيفية ارتباطها بالشبهة الأولى أو بالشخصين المعنيين. كما أكّد وزير الداخلية على اتخاذه هذا القرار بعد يأسه من تحرّك النيابة العمومية التي كان قد أفادها بهذه المعلومات عن طريق وزيرة العدل، ممّا اضطرّه حسب قوله لاتخاذ هذا القرار إحساسا منه بالمسؤولية وحرصا منه على تأدية الأمانة وحماية البلاد. تلميح مباشر بعدم حرص النيابة العمومية على التحقيق في شبهات خطيرة تمسّ من أمن البلاد، لا يختلف عمّا سبقه إليه رئيس الجمهورية قيس سعيّد من تصريحات ضدّ السلطة القضائية والتشكيك في نجاعتها ونزاهتها. وهو ما سارعت المحكمة الابتدائية بتونس للردّ عليه، معبّرة عن استغرابها من تصريحات الوزير ومؤكدة بأن النيابة العمومية كانت قد أحالت هذا الملف على أنظار القطب القضائي لمكافحة الإرهاب يوم 22 ديسمبر 2021 والذي بدأ بالأعمال التحقيقية. إنّ توجيه أصابع الاتهام للنيابة العمومية في قضية الحال يثير العديد من التساؤلات، خصوصا لارتباط وكيل الجمهورية تراتبيا بوزارة العدل وعدم استقلاليته عنها مما يعدّ تشكيكا بنجاعة وكيل الجمهورية، ويمكن فهمه كنقد موجّه إلى وزيرة العدل ومدى انخراطها فيما يقوم به وزير الداخلية ومن خلفه الرئيس.  فقد تواصل العمل بنفس الإجراء الإداري لاحقا ليتمّ وضع شخصين آخرين لم يعلن عن إسميهما تحت الإقامة الجبرية لتدافع السلطات عن هذا القرار أيضا بالقول أنه إجراء استعجالي وضروري اضطرّت السلطة التنفيذية للقيام به نظرا لخطورة الجريمة التي تتعلق بهما (قيل أن الملف يتعلق بجريمة إرهابية). وهو ما تمّت الاشارة إليه من قبل رئيس الجمهورية عند ترؤسه المجلس الوزاري. فلم يكتفٍ الرئيس سعيّد بتقمّص دور القاضي وإطلاق حكم قطعي على الشخص باعتباره إرهابيا على الملأ، بل انتقد كذلك النيابة العمومية وأعمالها بتهكّم باعتبارها غير كافية وهي التي كانت قد تعهّدت بالملف وقرّرت توجيه استدعاء للشخص المعني قصد الاستماع إليه قبيل إقرار الايداع بالإيقاف أو الاحتفاظ وهو ما يمثّل أبسط الإجراءات القضائية وأوّلها. تدخّل وتشكيك في السلطة القضائية عبر استعمال آلية الوضع تحت الإقامة الجبرية لكسب المناصرين عبر قمع الأعداء من جهة، ولابتزاز السلطة القضائية وتوجيهها من جهة أخرى. فما أن تمّت السماعات الأولية والأبحاث الأولية في قضية الحال، تمّ رفع الإقامة الجبرية عن الشخصين المعنيين، وهو ما يمكن فهمه كطريقة جديدة تستخدمها سلطة الاستثناء لإرباك السلطة القضائية أمام الرأي العام ولتوجيه أعمالها. 

من جهة أخرى وفي تناقض تامّ لما لم يحترمه عند اتخاذ قراره الإداري، دعا الوزير الرافضين لهذا القرار للتوجه للقضاء والطعن فيه قائلا:من يؤمن بدولة القانون والمؤسسات، يختار السبيل القانوني للمواجهة، وهو دون شكّ الطعن قضائيا. ولعلّ قرارات المحكمة الإدارية الأخيرة في علاقة بالوضع تحت الإقامة الجبرية قد تفسّر هذا التناقض في النظرة إلى القضاء ودعوة الوزير. وخلافًا لفقه قضائها في هذه المادة، صدرت القرارات الاستعجالية للمحكمة الإدارية الأخيرة لصالح وزارة الداخلية معلّلة بأنّ الأشخاص المعنيّين بالإقامة الجبرية يمكنهم التنقل في مساحة تقدر بعشرات الكيلومترات وهو ما يكفل حسب رأيها حرية التنقل، دون التثبت في مدى تمتّعهم الفعلي بالتحرّك في هذه المساحة والسماح بذلك من قبل وزارة الداخلية، والحال أن المعنيّين بها أكّدوا زيف ذلك.  

وفي ردّ غير مباشر على من استنكروا واقعة الاختطاف وظروف الإقامة الجبرية التي لم ينفِها الوزير خلال كلمته، أشار هذا الأخير لما أملاه من تعليمات مباشرة إلى الوالي كي يحسن استضافة البحيري حسب تعبيره، مؤكّدا أنّه تمّ توفير حسن المعاملة والاحترام والمعيشة والرعاية الصحية الكاملة للبحيري. وهو ما يعتبر طبعا من الشروط الدنيا التي يكفلها الأمر المنظم لحالة الطوارئ وما يضمنه الدستور والمواثيق الدولية. 

في ظلّ عدم توجيه أي اتهام له في علاقة بالملف القضائي المذكور وعدم رفع قرار الوضع تحت الاقامة الجبرية، يواصل البحيري إضرابه عن الطعام مما يعكّر جديّا حالته الصحية حسب ما أفاد به بعض المقربين منه.  وفي حين قوبلت هذه الحادثة باستنكار من قبل العديد من الحقوقيين، استساغتها فئة أخرى معلّلة ذلك بتمتع عدة سياسيين وقيادات حزبية بالإفلات من العقاب طوال السنوات التي تلت الثورة ومستبشرة بانطلاق المحاسبة حتى وإن كانت بآليات وممارسات لا تحترم القواعد القضائية الدنيا والحقوق والحريات. 

توسّع دائرة الضحايا في غياب الضمانات

بينما كان الجدال قائما حول ارتفاع انتهاكات حقوق الإنسان وعدم قانونية الممارسات التي انتهجتها وزارة الداخلية، جاء قرار منع التجمّعات قبل يومين من الذكرى الحادية عشرة للثورة التونسية، تحت شعار مكافحة الموجة الوبائية الجديدة، كخطوة أخرى في اتجاه التضييق على الحريات. فقد عبّر العديدون عن رفضهم لمثل هذا القرار معتبرين إيّاه قرارا سياسيا دون أيّ أسس علميّة وأن غايته الوحيدة التضييق على الحريات، خصوصا أنّه اقتصر على التضييق على حرية التجمّع وعدم إيلاء أي أهمية للتجمعات اليومية التي تشهدها وسائل النقل والمقاهي والمطاعم والمرافق العمومية. وفي هذا السياق، دعا العديد من الأطياف السياسية إلى عدم احترام هذا القرار والمشاركة في المظاهرات المزمع تنظيمها في يوم ذكرى الثورة 14 جانفي 2022. فجاءتْ المشاركة من قبل المساندين لحراك “مواطنون ضدّ الانقلاب” المدعوم أساسا من حركة النهضة، ومساندين لحزب العمال، وآخرين مساندين لحزب التيار الديمقراطي، والحزب الجمهوري وحزب التكتل وعائلات الشهداء وضحايا النظام السابق، وعدد من المواطنين إضافة إلى نشطاء في المجتمع المدني. 

جاء ردّ وزارة الداخلية عنيفا كالعادة، فتمّت عسكرة شارع الحبيب بورقيبة منذ الساعات الأولى صبيحة يوم الجمعة وتمّ إغلاق كل مداخله. إذ لا يسمح للمارّة باجتياز الحواجز إلا بعد التثبت من هوياتهم وسؤالهم عن سبب توجّههم إلى ذلك الشارع. مع بداية تجمّع المحتجين في شوارع محاذية لشارع الحبيب بورقيبة، بدأ أعوان الأمن بقمع الاحتجاجات عبر استعمال الغاز المُسيّل للدموع، واستعمال خراطيم المياه، والاعتداء بالعنف على الصحفيين والموثقين للانتهاكات والإيقافات العشوائية لمتظاهرين سلميين من مختلف الحساسيات بعد اختطافهم من قبل أعوان بالزيّ المدني، لا يحملون أيّة إشارة توحي بانتمائهم للأسلاك الأمنية ولا يقدّمون أنفسهم كذلك.

ممارسات قمعية تمّ تسليطها على المحتجّين وتمّ رفضها من قبل العديدين وفاجأت آخرين كانوا قد دافعوا وقَبِلوا بالتجاوزات التي طالتْ خصومهم السياسيين. فأثبتت أجهزة البوليس مرّة أخرى بأنّ آلة القمع لا تميّز أحدا وأنّ في السماح والقبول بالاعتداءات على الخصم، ترخيص لتعميم التجاوزات والاعتداءات. 

إن تواصل الممارسات القمعية والاعتداءات هو النقطة الوحيدة الثابتة في تونس ما بعد الثورة، فطالت هذه المرة ضحايا جددًا، كانوا بالأمس القريب من مناصريها والمدافعين عنها. فما كان يصدر من قيادات حركة النهضة من دفاع على حرفية أعوان الأمن، على سبيل المثال خلال مظاهرات جانفي 2021، أصبح اليوم شعارات لإدانة الدولة البوليسية وممارساتها، وما كان من مبادرة لمعاضدة جهود أعوان الأمن للدفاع عن الممتلكات ودرء ما سمّي “بالمخرّبين”، أصبح اليوم دعوات لاحترام حقوق الإنسان وشكاوى للمنظمات الدولية.

إنّ في توسّع القمع ليشمل ضحايا جددًا، كانوا في مأمن منه حين كانوا في الحكم، يؤكّد دعوات الحقوقيين طيلة 10 سنوات بأنّ إصلاح المؤسسة الأمنية والمنظومة القانونية أولوية قصوى. فمن تثاقل ورفض إرساء المحكمة الدستورية، وإرساء مؤسسات الرقابة وتنقيح الأمر المنظم لحالة الطوارئ الذي كان تحت أنظار المجلس النيابي منذ سنة 2018، إضافة إلى تنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، وتنقيح المجلة الجزائية وغيرها من الإصلاحات، أصبح اليوم من ضحاياها. وإنّ في اختلال موازين القوى وتعميم ممارسات القمع لدرس أيضا لمن اختار تبرير اعتداءات ما بعد 25 جويلية والانحياز للمنتهك ما دامت يده تطال الخصم والأعداء. لقد بات جليّا بأن الضمانات الحقيقية الوحيدة تكمن في القوانين والمؤسسات لا في القرب من مواقع الحكم، وأنّه على المكونات السياسية للمشهد التونسي أن تعي بأنّ المسألة الحقوقية ليست ترفا وأن برامج الإصلاح يجب أن تجمع أساسا بين الحقوق العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، قضاء ، مقالات ، أجهزة أمنية ، تونس ، محاكم إدارية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، محاكم دستورية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أحزاب سياسية ، المهن القانونية ، حركات اجتماعية ، احتجاز وتعذيب ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، حرية التنقل ، حرية التجمّع والتنظيم



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني