أهالي عقارب بين القمع البوليسي والإرهاب البيئي

أهالي عقارب بين القمع البوليسي والإرهاب البيئي

شهدتْ مدينة عقارب في ولاية صفاقس في الجنوب الشرقي التونسي احتجاجات متواصلة منذ يوم 8 نوفمبر الجاري إثر قرار إعادة فتح مصبّ النفايات في المنطقة. احتجاجات الأهالي ومطالبتهم بحقّهم في بيئة سليمة، قوبلت بقمع بوليسي عنيف، وصل إلى حدّ استخدام خراطيش الرشّ يوم الأربعاء 10 نوفمبر 2021، خلال الإضراب العام الذي عاشته المدينة والذي يأتي ردّا على تجاهل السلطات لمطالبهم وتنديدا بالعنف الأمني الذي أودى بحياة شابّ من متساكني المنطقة بحسب رواية الأهالي رغم نفي وزارة الداخليّة تورّطها في القضيّة.

ولئن عاد الهدوء إلى مدينة عقارب منذ مساء يوم الخميس، بعد استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد وفدا من شباب حراك مانيش مصبّ وتعهده بإيجاد حلّ خلال الأيام القليلة القادمة، إلاّ أنّ هذه التحرّكات الغاضبة، تعيد تسليط الضوء على كارثة بيئية تعيش على وقعها المدينة منذ أكثر من عقد من الزمن، والتّي وجدت نفسها ضحيّة للقرارات التعسفيّة من السلطة السياسيّة وبطش أجهزتها الأمنية التي تريد إعادة تشغيل المصبّ بالإكراه.

 

الأربعاء الحزين في عقارب؛ غضب وحداد

كان الحزن والغضب السمتين الأساسيتين لمدينة لم يكفِها الاختناق بدخان المصبّ وروائح الفضلات المكدّسة فيه، لتُضاف إلى معاناة أهلها قنابل الغاز المسيّل للدموع الذي تمّ استعماله بكثافة من قبل قوات الأمن خلال المواجهات المتواصلة منذ أسبوع تقريبا. حيث سادتْ حالة من الشلل التام في المنطقة إثر إعلان الاتحاد المحلّي للشغل بعقارب الإضراب العامّ في القطاعين العام والخاص يوم الأربعاء 10 نوفمبر الجاري، احتجاجا على إعلان وزارة البيئة عن استئناف نشاط المصبّ المراقب بالقنة والقمع الأمني الذي واجهت به الحكومة احتجاجات المواطنين. دعوة استجابت لها مختلف المؤسسات الإدارية والخدمية والتربوية وحتّى المحلات التجارية.

لكن، وقريبا من المصبّ المذكور كانت الأجواء مشحونة مع إصرار السلطات على تأمين السير العادي لعملية تجميع النفايات ومنع الأهالي من إغلاقه. احتقان انتهى إلى مواجهة عنيفة وقمع أمني أفضى إلى تعرض عدد كبير من الاهالي إلى اختناق بالغاز المسيل للدموع إلى درجة استنفاذ مخزون الأكسجين من المستشفى المحلي الذي غصّ بالمصابين والتجائه إلى طلب المساعدة من مستشفى معتمدية منزل شاكر القريبة منه.

مشهد بحثت المفكرة القانونية في تفاصيله من خلال الشهادات التي عرّت عنف القمع البوليسي الذي واجهه أهالي المنطقة طيلة ثلاثة أيّام بعد أن أصر المسؤولون على مقاربة واحدة للأزمة عمادها الحلّ الأمني والترهيب.

 

“حلّ فوريّ” بقمع غاشم

لم يدر بخلد أحد وهو يستمع إلى رئيس الجمهوريّة مساء الثامن من نوفمبر وهو يطالب وزير الداخليّة توفيق شرف الدين بإيجاد حلّ فوري لأزمة تكدّس النفايات في مدينة صفاقس، أنّ العصا الأمنية ستكون هي الخيار المعتمد. إزاء هذا التصعيد، قام سكّان عقارب بتنظيم تحرّك احتجاجيّ على إثر اعلان رئيس الجمهورية عن فتح المصب بالقوة العامة. حيث قاموا بغلق المداخل إلى المصبّ، ليتحول الاحتجاج الى حالة من الاحتقان تطوّرت خلال ساعات الليل إلى مواجهات مع أعوان الأمن الذين حضروا بكثافة في تلك المدينة الصغيرة. وبحسب تصريحات الأهالي، فإن أعوان الأمن قاموا تلك الليلة بتمزيق العجلات المطاطية لكل السيارات المتواجدة بالطريق، كما تم إيقاف عدد من المحتجّين وتلفيق تهم مختلفة منها توزيع الأحذية والملابس على المحتجّين. ولم تنتهِ تلك الليلة إلا بتسجيل وفاة الشاب عبد الرزاق الأشهب.

وبينما نفت وزارة الداخليّة أيّ صلة لها بوفاة الأشهب، مستندة إلى التقرير الأولي للطبّ الشرعي الذي لم يشذّ عن العادة في مثل هذه الحالات، ليفيد بأن الوفاة كانت طبيعية وناجمة عن انسداد تامّ بالشريان التاجي الأيسر للقلب ممّا تسبب في قصور حادّ بوظائف القلب، يؤكّد عدد من الأهالي الذين تحدّثوا إلى المفكرة القانونية أنّ الفقيد، الذي يعمل في مجال تثمين النفايات العضوية وتحويلها إلى علف، أصيب بالغاز أثناء خروجه لشراء حاجيات لابنته. ليتم نقله على الفور من طرف عدد من المتواجدين بقربه أثناء إصابته في سيارة الإدارة العامة للغابات. لكنّ المأساة تواصلت عندما التحقت بهم الوحدات الأمنية وأطلقت الغاز المسيل للدموع على السيارات مما أصاب عبد الرزاق الأشهب بالاختناق وتوفي على الفور. وطالت الاعتداءات الأمنية حتّى المستشفى المحليّ، بعد أن تمّ استهدافه بقنابل الغاز المسيل للدموع أثناء إسعاف المواطنين.

وتتطابق رواية شهود العيان حول ملابسات وفاة عبد الرزّاق الاشهب مع ما جاء في بيان الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان – فرع صفاقس الجنوبية، بتاريخ 10 نوفمبر 2021، حيث أكدّت المنظّمة وفق الشهادات التي جمعتها أنّ “الفقيد وبمناسبة تنقّله إلى وسط المدينة لشراء الحليب لإبنته الرضيعة التقى بالمحتجين  فتلقّى عن قرب قنبلة مسيلة للدموع فحصلت له حالة اختناق حادة، تمّ نقله على إثرها بواسطة سيارة إدارية يقودها عون تابع لإدارة الغابات، وقامت قوات الأمن المتمركزة بالطريق العمومي بتعطيل وصول السيارة إلى المستشفى المحلي، وحين الوصول إلى المستشفى تواصل إلقاء الغاز بمحيط المستشفى، وهناك لفظ الفقيد أنفاسه الأخيرة.”

 

عقارب ومأساة الإرهاب البيئي

تحوّل مصبّ النفايات الذي أشعل فتيل الاحتجاجات في مدينة عقارب إلى كابوس حقيقي منذ أن تم انشاءه سنة 2008. وقد توسّع استغلاله مع فتح الخانات الثانية والثالثة إلى حدود 27 سبتمبر 2021، ليتمّ غلقه بصفة فجائيّة تماما كما أعيد تشغيله بشكل تعسفي في 8 نوفمبر الجاري.

وقد خاض المواطنون في تلك المنطقة نضالا طويلا منذ سنوات للمطالبة بإغلاق مصب القنّة نظرا للضرر البيئي الذي تسبّب فيه، خصوصا وأنّه يستقبل يوميا أكثر من 600 طنّ من الفضلات المتنوعة كما يقع بمحاذاة المحمية الطبيعية القنّة بعقارب. في هذا السياق، أفاد الناشط في حملة “مانيش مصبّ”، شكري البحري، أنّ هذه المدينة تدفع غاليا ثمن تركيز تلك المنشأة، حيث أصبحت عامل جذب للمستثمرين في مختلف الأنشطة الصناعية نظرا لسهولة تصريف نفاياتها، إضافة إلى تراجع سعر الأرض بسبب التلوّث وقيام الدولة بتقديم حوافز جبائية تتمثّل في اعفاء المستثمرين في الأرياف من جملة من الأداءات لمدة خمسة سنوات[1]. كما تعتبر عقارب أقرب منطقة ريفية الى مدينة صفاقس حيث تبعد عنها حوالي 30 كيلومتر. ليضيف الناشط البيئي شكري البحري “في الصباح يجنون منا الأموال وفي المساء يلقون إلينا الفضلات”.

هذا وتسبّب تركيز المصب في المنطقة بتراجع قدرة الأرض على الإنتاج الفلاحي، إضافة إلى تلوّث الهواء بسبب روائح الفضلات وبسبب الدخان المنبعث منها أثناء حرقها، إضافة إلى خطورة النفايات التي تصل إلى هناك، من مياه صرف أو نفايات صناعية.[2]

ويذكر أنّ محكمة الناحية في عقارب كانت قد أصدرت حكما في 11 جويلية 2019 يأذن بغلق المصب، دون الشروع في تنفيذ إجراءاته. كما توصّلت جلسة مشتركة بين ممثلي الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات ونواب جهة صفاقس ووالي الجهة والمجتمع المدني ورؤساء البلديات في 29 أوت 2020 إلى قرار بغلق المصب نهائيا في نهاية ديسمبر 2021.

 

 

[1]  قانون عدد 8 لسنة 2017 مؤرخ في 14 فيفري 2017 يتعلق بمراجعة منظومة الامتيازات الجبائية

[2]  راجع مقال مهدي العش – أزمة نفايات صفاقس: عندما تسقط الشعارات في اختبار الميدان – المفكرة القانونية – (الرجاء إضافة رابط مقال مهدي العش حول قضية عقارب والذي أرسله يوم الجمعة 12 نوفمبر 2021 لأن المقالتين تكمّلان بعضهما)

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مساواة ، الحق في الحياة ، بيئة ومدينة ، الحق في الصحة ، سياسات عامة ، فئات مهمشة ، تحقيقات ، مقالات ، أجهزة أمنية ، تونس ، محاكم مدنية ، حراكات اجتماعية ، سلطات إدارية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حركات اجتماعية ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، قرارات قضائية ، الحق في الصحة والتعليم ، قرارات إدارية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني