عرسٌ انتخابيّ للمؤيّدين وقمعٌ عنيف للمعارضين


2022-09-28    |   

عرسٌ انتخابيّ للمؤيّدين وقمعٌ عنيف للمعارضين

لم يتّسم الاستفتاء بضعف نسبة المشاركة فيه وبعدم قانونيته فقط، بل تميّز بحملة انتخابية  ضعيفة على مستوى الشكل والمضمون. فالحملة وعلى تعدّد المسجّلين للمشاركة فيها لم تدُرْ حول مضمون الدستور وأحكامه ولم تستطِعْ إطلاق نقاشٍ عامّ حول نظام الحكم المقترح. حملة فاترة تميّزت بتغييب رأي المعارضين للاستفتاء والدستور، وهو تغييب ترافق مع إجراءات لتقييد حرياتهم وصلت إلى حدّ الانتهاك. ويلحظ أن الانتهاك لم يحصل بفعل من قبل الأجهزة الأمنية فقط، بل أيضًا من قبل مؤيدي سعيّد أو “التنسيقيات” وهي عبارة عن تنظيم هلامي موازٍ يضمّ المقرّبين له وأنصاره. اعتداءات تسارع نسقها وارتفعت حدّتها مع اقتراب موعد الاستفتاء لتبلغ درجة العنف المادي الوحشي والإيقافات التعسفية.

تضييقات واعتداءات في حقّ من اختار “لا”

انطلقت الحملة الانتخابية يوم 03 جويلية، يومين بعد نشر نصّ الدستور موضوع الاستفتاء والذي تمّ تعديله فيما بعد من قبل سعيّد بحجّة تسريب أخطاء إليه. لم يتجاوزْ عدد المشاركين في الحملة والداعين إلى التصويت ب”لا” 7 أطراف من مجموع 148 مشاركا[1]. قاد حزب آفاق تونس حملة الرفض بعد أن أعلن مشاركته فيها تحت شعار “لا لمشروع قيس سعيّد” يوم 13 جوان، أي أسبوعين تقريبا قبل نشر مشروع الدستور. اعتبر رئيس هذا الحزب مقاطعة الاستفتاء موقفا غير فعّال في غياب التنصيص على حدّ أدنى للمشاركة في الاستفتاء قصد إنجاحه، مُعتبرا أنّ الاجابة بـ”لا” هي الوحيدة القادرة على مقاومة مسار سعيّد. مشاركة الحزب في الحملة كانت الأكثر إشعاعًا وجديّة. فقد شرع في تنظيم الاجتماعات الشعبية وتوزيع المطويات الورقية وكان تقريبا المشارك الوحيد في الحملة الذي قام بإلصاق معلّقاته المبيّنة لموقفه في الأماكن المخصصة بمراكز الاقتراع. يبدو أنّ حملة الحزب النشيطة استفزّت المؤيدين وأذْرعهم في مؤسسات الدولة، فاختاروا التضييق على الحزب وأنشطته. منذ اليوم الأوّل للحملة، مُنع ممثلو حزب آفاق تونس من دخول مدينة الرقاب. كما مُنع العديد من المواطنين من النفاذ إلى مكان الاجتماع، حسب ما أعلن عنه رئيس الحزب[2] فاضل عبد الكافي. تمّ منع التئام الاجتماع الشعبي عبر التهديد باستعمال العصيّ والحجارة من قبل تنسيقيات قيس سعيّد حسب نصّ البيان، في غياب كلّي للسلط الأمنية رغم الإعلان المسبق عن هذا الاجتماع.

لم يقتصرْ تورّط أجهزة الأمن في التضييق على أنشطة الحزب على هذه المناسبة فقط، بل تمادَتْ إلى حدّ منع مناضليه من القيام بنشاط ميداني على الرّغم من قانونيته ومن تحصّل الحزب على ترخيص في الغرض من قبل هيئة الانتخابات. فقد أعلن الحزب عن تعرّض فريقه الميداني يوم 15 جويلية للمنع من قبل قوات الأمن بباردو التي لم تسمح لهم بنصب الخيمة المبرمجة والاقتصار على توزيع المنشورات الورقية حتى بعد إرسال نسخة الموافقة من قبل هيئة الانتخابات[3]. ولكنّ أعنف التضييقات من قبل التنسيقيات التابعة لسعيّد حصل في مدينة طبلبة يوم 18 جويلية 2022. إذ بحسب بلاغ للحزب[4]، تعرّض أحد أعضاء الحملة يومها للاعتداء بالعنف اللفظي والجسدي كما تمّ تهشيم سيارته الخاصة أثناء قيامه بتعليق اللافتة الانتخابية للحزب. عنفُ جوقةِ المؤيدين يغذّيه حتمًا العنف اللفظي والتخوين المتكرّر والاتهامات الجائرة التي لا ينفكّ سعيّد عن إطلاقها في حقّ معارضيه. حالة الاحتقان والعنف السياسي المخيّم لم يقتصر إذنْ على الفضاء الافتراضي والهرْسلة الإلكترونية، وإنما انتقل إلى الشارع وهو المؤشّر الأخطر على الإطلاق منذ 25 جويلية الماضي.

القمع لم يرتكبه البوليس وحده لكن التنسيقيات أيضًا

موجة العنف تطال حتّى المقاطعين للاستفتاء

لم تقتصر الاعتداءات العنيفة على المعارضين المنتمين إلى حزب آفاق تونس. فقد تعرّض سياسيون عدّة من المنتمين للأحزاب الخمسة المكوّنة للحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء للاعتداء العنيف من قبل أنصار سعيّد يوم 25 جوان 2022 بسوسة. فأثناء تنظيم هذه الأحزاب وقفة إحتجاجية أمام المسرح البلدي بقيادة حمّة الهمامي (أمين عام حزب العمال) وغازي الشواشي (أمين عام حزب التيار الديمقراطي)، تعرّض المشاركون لاعتداء من قبل مجموعات مناصرة لسعيّد كانت قد التحقت بمكان الوقفة، رافعين عدة شعارات ومتهمين المحتجين بالخيانة والعمالة. تطوّرت المناوشات لتصل حدّ السبّ والشتم وصولًا إلى رشق الرافضين للاستفتاء بالقوارير والحجارة. من جهة أخرى، تمّ التضييق على الحزب الدستوري الحرّ الذي أعلن رفضه لكلّ مسار الاستفتاء وعدم اعترافه بشرعيته. فبعد أن أعلن الحزب عن نيّته تنظيم تجمّع شعبي في شارع الحبيب بورقيبة يوم 23 جويلية قصد “الاحتفال بعيد الجمهورية”، أعلن هذا الأخير لاحقا عن منع التظاهرة من قبل والي تونس. حمّلت رئيسة الحزب عبير موسي قيس سعيّد ووالي تونس مسؤولية المنع التعسّفي، معتبرةً أنّ المنع كان قرارًا سياسيًا وليس أمنيًا بعد أن أفصحتْ بأنه تمّ التنسيق مع وزارة الداخلية حول مكان النشاط وبرنامجه. على عكس ما مورس على الحزب الدستوري الحرّ، تمّ السماح لجبهة الخلاص بالتظاهر في ذات اليوم والمكان. ازدواجية التعامل، أثارت استنكار عبير موسي التي اتهمت سعيّد بالخوف من منافستها مؤكّدة من: “أنه يخاف من مشهد المليونية الذي جدّ يوم 18 جوان الماضي[5].

لا تكمنُ خطورة التضييق على تظاهرات الأحزاب المكوّنة للحملة أو الداعية لمقاطعة الاستفتاء في الطابع القمعي الذي اتخذته والمساس بحقهم في التعبير وإسكات أي صوت معارض فقط. بلْ إنّ هذه الممارسات تجسّد حجم القطيعة السياسية بين أنصار الفرقاء السياسيّين، وخطورة إرتدادها مجتمعيا بين المواطنين. فقد عانت البلاد من آثار العنف السياسي الذي غذّته مواقف وخطابات السياسيين ومآلات تسلّله بين الجماهير والشوارع. وما كانت الحادثة التي راح ضحيتها لطفي نقض، في 18 أكتوبر 2012، إلاّ خير دليل.

انتهاكات جسيمة يومين قبل الاستفتاء

ارتفعت وتيرة الاعتداءات ضدّ المعارضين مع اقتراب موعد الاستفتاء. فبعد اصطفاف العديد من الجمعيات ضمن موقف موحّد رافضٍ للدستور ولمسار سعيّد وللاستفتاء المنظّم[6]، تمّت الدعوة للتظاهر بالعاصمة من قبل ناشطين عدّة في مرحلة أولى. كما دعا الائتلاف المدنيّ لوقفة احتجاجيّة يوم 22 جويلية 2022 أمام المسرح البلدي للتعبير عن هذا الرفض. دعوة لبّتها الأحزاب الديمقراطية المشاركة في حملة إسقاط الاستفتاء والعديد من الناشطين الذين كانوا قد نظموا تحرّكا غير معلن يوم 18 جويلية للتعبير عن رفضهم لنصّ الدستور المقترح.

جوبهتْ الوقفة الاحتجاجية بعسكرة شارع الحبيب بورقيبة وغلق الأنهج المؤدّية له وتركيز الدوريات الأمنية بالمكان. وبمجرّد انطلاق المحتجّين للتحرّك من أمام المسرح البلديّ في اتجاه وزارة الداخلية، اعتدى عليهم أعوان البوليس بطريقة بالغة العنف. شارك في قمعِ الوقفة أعوانٌ بالزي الرسميّ وآخرون بزيّ مدني، وحتّى قيادات أمنيّة معروفة. شمل الاعتداء أيضا الصحفيين الذين كانوا يؤمّنون التغطية الاعلامية. وتمّ التنكيل بالمحتجّين من ناشطين وسياسيين عبر الضرب والسحل والشتم واستعمال الغاز المسيّل للدموع على مستوى الوجه مباشرةً، ممّا أدى إلى حالات اختناق استوجب إسعافها ومن بينها نقيب الصحفيين محمّد ياسين الجلاصي. لم يكن قمع التظاهرة عملًا اعتباطيًا ولا تجاوزات فردية من قبل الأمنيّين. فقد تطابقت الشهادات حول دعوة الأعوان للقبض على ناشطين محدّدين بالاسم وأظهرت فيديوهات أخرى صرخات البوليس المنادي لزملائه بالقبض على الفتيات المحتجّات. ما تمّ توثيقه من اعتداءاتٍ وبطشٍ يبرز نيّة النظام القائم على إخماد أي شرارة لحراك واسع في الشارع وحرصه الشديد على الإيهام بالاصطفاف الشعبيّ الكليّ وراء دستور سعيّد وانعدام المعارضة للنصّ وكاتبه. قمع المعارضين 3 أيام قبل موعد التصويت على الاستفتاء انتهى بايقاف 9 أشخاص من المتظاهرين بعد تعنيفهم أمام مرأى ومسمع الجميع واتّهامهم بالاعتداء على 20 عونًا من البوليس. تمّ الافراج على الموقوفين في اليوم الموالي، ليكشفوا في شهاداتهم المقدّمة خلال ندوة صحفية[7] عن شدّة الانتهاكات ووحشية الاعتداءات التي تعرّضوا لها خلال فترة الإيقاف وما سبقها. شهادات الموقوفين كشفتْ عن حالات تعذيب واعتداءات وحشية تركتْ آثارًا واضحةً على أجسادهم. بالإضافة لأشكال العنف المختلفة التي كانوا ضحيتها، كشف وائل نوار، الناشط في حركة “قاوِم”، عن دهسه من قبل عون بوليس بدراجة نارية. وكشف رفاقه عن تعرّضهم للإغماء جرّاء تعنيفهم وتصويرهم من قبل الأعوان في مركز الشرطة كما تعرّضوا للشتم والإذلال وحتّى التحرّش. شهادات الضحايا الصادمة كشفتْ أيضا عن جريمة أخرى في حقهم ألا وهي انتزاع عيناتهم الجينية (ADN) من دون موافقتهم. فبعد أن تمّ حرمانهم من النوم والماء والأكل، تمّ تقديم الموقوفين واحدًا تلو الآخر على نفرين من الشرطة الفنية اللذين قاما بأخذ بصماتهم ووضع عود قطن في أفواههم دون أخذ الموافقة أو تقديم أي تفسير لذلك، حسب شهادة الناشط سيف العيادي الذي رفض مدّ البوليس عينته الجينية. من غير الضروري طبعًا التأكيد على أن أسباب الإيقاف والتهم الموجًهة لا تستوجب هذا النوع من الأعمال البحثية وعلى أن أعوان البوليس لم يعلموا المحامين ولم يطلبوا موافقة الموقوفين للقيام بمثل هذا الإجراء.

لم تردّ وزارة الداخلية على هذه الشهادات ولم تقدّم أيّ تفسيرٍ لأسباب القيام بهذا الإجراء واكتفتْ بنشر فيديو يوضح محاولة المحتجّين لإزالة الحواجز التي وضعوها في شارع الحبيب بورقيبة. انتزاع العينات الجينيّة لم يكن الأول من نوعه. فقد مارستْه السلط التونسية على المهاجرين من جنوب الصحراء قصد تحديد هويتهم فيما بعد من قبل سلط الدول الأوروبية إن تمّ إلقاء القبض عليهم لاحقًا على أراضيها بعد العبور إليها بطريقة غير نظامية وذلك تحسبًا لإتلافهم وثائق هوياتهم وحرق أصابعهم قصد محو بصماتهم. انتهاك المعطيات الشخصية للأفراد وممارسة مثل هذه الإجراءات عنوةً ومن دون أيّ احترامٍ للقانون يُضاف إلى قائمة الانتهاكات والجرائم التي قامتْ بها الأجهزة البوليسية في ظلّ نظام قيس سعيّد وتحت حكم سابقيه. وما يزيد هذا الانتهاك فداحة أنّه لا يجد أي ّ تبرير معقول، سوى أنها رسالة تخويف وردع موجّهة للمعارضين بأنهم سيكونون تحت رقابة صارمة وشاملة من هذه الأجهزة.

مقابل اختلاف الفاعلين السياسيين وتعبيراتهم السياسية فيما يخصّ الاستفتاء، توحّدت أذرع النظام حول التضييق عليهم وانتهاك حقهم في التعبير والتظاهر وعملت على إقصائهم طيلة حملة الاستفتاء الذي يقدّمونه كآلية ديمقراطية للتعبير عن الاختلاف. لا يمكن لقمع المعارضين وانتهاك الحقوق والحريات أن يكون بادرةً لإرساء الديمقراطية، وهي أفعال تدحض حتمًا مقولة نزاهة الاستفتاء ونجاحه.

في ظلّ تغوّل الجهاز البوليسي وإطلاق أيدي النظام القمعي، لا يمكن للمتابع للأحداث الأخيرة إلاّ أن يتوقّع السيناريوهات الأسوأ فيما يخصّ التضييق على الحقوق والحريات. أمّا التمعّن في الصورة العامة للأحداث فلا يولّد إلاّ الاحساس بالخوف والتوجّس عمّا يمكن أن تؤول إليه الأحداث القادمة. لكن في ظلّ تقدّم النظام نحو إرساء المشروع الاستبداديّ، ما زال يتمسّك البعض بإعلاء أصواتهم قصد مقاومته واسترداد الحرية.

انتزاع العينات الجينية للمعارضين الموقوفين غصبًا كما يحصل مع مهاجري جنوب الصحراء 

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] القائمة النهائية للأطراف المشاركة في حملة الاستفتاء 2022، الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، 05 جويلية 2022.

[2] منشور للفاضل عبد الكافي في صفحته على وسيلة التواصل الاجتماعي فايسبوك، 3 جويلية 2022.

[3] حزب آفاق تونس، بلاغ إلى الرأي العامّ، 15 جويلية 2022.

[4] حزب آفاق تونس، بلاغ حول الاعتداء على أحد أعضاء حزب آفاق تونس وتهشيم سيارته أثناء حملة الإستفتاء، 18 جويلية 2022.

[5] مقال بعنوان “عبير موسي: لن أصمت وسأبقى شوكة في حلقكم”، مقال لبيزنس نيوز، 20 جويلية 2022.

[6] لائحة عامة بعنوان “لا تراجع عن الحريات والحقوق الإنسانية، لا استفتاء على مدنية الدولة ورفضا لسياسة الأمر الواقع”، 18 جويلية 2022.

[7] ندوة صحفية للموقوفين تحت عنوان “نواجه القمع.. نفضح الانتهاكات” بتاريخ 28 جويلية 2022.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، حرية التعبير ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، مجلة تونس ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني