“حرقة” التونسيّات: تقسيم عادل للأمل والموت


2022-09-03    |   

“حرقة” التونسيّات: تقسيم عادل للأمل والموت

إثر بضعة أيام من العيد الوطني “للمرأة”، أفاق الرأي العامّ التونسي على فاجعة فقدان امرأة وابنها البالغ من العمر 4 سنوات، في عمليّة هجرة غير نظاميّة انطلقت من مدينة المنستير باتجاه السواحل الايطالية. لا يمكن القول أنّ الهجرة غير النظاميّة استثناء يفاجئ الواقع التونسي، بل على العكس أصبحت الظاهرة شبه يوميّة. الاّ أنّ المعطى المستجدّ خلال السنوات الأخيرة، هو تغيّر الصورة النمطيّة للمهاجر من شاب معطّل عن العمل، قادم من أحزمة الفقر في العاصمة أو من المناطق الداخلية حالم بفرصة عمل وحياة أفضل، إلى نساء مختلفات الأعمار والوضعيات الاجتماعية والمستوى التعليمي، يكنّ تارة وحيدات وطورا مصحوبات بأبنائهنّ القصّر. لكلّ منهنّ دوافعها وأسبابها التي تجعلهنّ يجتمعن في خيار الهجرة مع الحارقين من الرجال، أملا في مستقبل ممكن، إن أفلتن من الموت.

“حارقٌ”[1]…إسمٌ يأبى التأنيث

بين بحر تحوّل في أعين الكثيرين إلى مقبرة جماعيّة تبتلع كل من حاول عبورها وفانتازمات النجاح في نعيم أوروبا، تضيع قصص الحارقين والحارقات في زحمة الأرقام. فنتعامل مع خبر الوصول إلى البرّ المقابل بتنفّس الصعداء ومع خبر الوفاة بعدّ الضحايا. وما هذه الأسطر سوى محاولة بسيطة للاعتراف بقصص نساء فضّلن خطر “الشقف[2]” على “أمان” البرّ، قبل أن يتحوّلن إلى مجرّد أرقام في قائمات الضحايا والناجيات.

آخر صورها على مركب “الأمل” التقطتها مع ابنها ذي الأربع سنوات، اختصرتْ فيها شقاء سنوات في أرض الوطن تطلّعا لمستقبل حسبتْه يأتي في “برّ الطليان”[3]. شهيدة اليعقوبي، أستاذة معطّلة عن العمل، أمّ لطفل تعيله وحدها إثر فرار طليقها إلى ليبيا بعد إثارتها قضايا ضدّه، حسب رواية الزوج. لم تكن هجرتها وليدة قرار مفاجئ، إذ أكّدت مرارا لعائلتها عزمها على الحرقة هربا من الظروف الاجتماعية القاسية. جمّعت كلفة الحرقة من خلال الدروس الخصوصيّة التي كانت تقدّمها في منزلها وعملها في محضنة، لتنطلق رحلتها نحو المجهول من سواحل البقالطة في ولاية المنستير حاملة معها الأمل في حياة قادمة، يرافقها ابنها ذو الأربع سنوات.

صورة أخرى تلتقطها سبأ السعيدي، فتاة الثمانية عشر ربيعا، ملامحها وثيابها تختلف عن الصور النمطيّة المعتادة في قوارب الحرقة. تبتسم للكاميرا محتفلة برؤيتها ضفاف جزيرة لامبيدوزا. صورة كانت لتكون عاديّة لولا اقتراف صاحبتها إثما هو أنها امرأة، جميلة، شابّة، معروفة على شبكة “إنستاغرام” ومستقبلة لليابسة المقابلة بثغر باسم. يخاطبها أحد المذيعين متسائلا عمّا إذا راودها الخوف وهي في مركب الحرقة؟ سؤال من فرط بداهته يكاد يضحكها، تجيبه: “طبعا خفتُ عندما داهمت المياه مركبنا. طبعا خفتُ. فقد كنت مدركة بأن 30 بالمائة فقط من الحارقين يصلون لإيطاليا. طبعا خفتُ ولكنّ عند رؤيتي لليابسة وددت تأريخ اللحظة، عبر صورتي، فلقد نجوت”. يصرّ المذيع متسائلا هل ندمت على الرحلة؟ أو لست تشجعين الشباب على الهجرة؟ يتمسّك بتحميلها وزر الحارقين والحارقات، فتجيبه: “نعم ندمت عندما قضينا 23 ساعة في عرض البحر بدل اثني عشر ساعة، بل شعرت بالرعب عندما داهمتنا المياه، إلاّ أنني لم أشجع يوما أحدا على الحرقة”. ثم تستطرد قائلة؛ “هل تعتقدون أنّ الجيل الجديد يحتاج لمن يشجعه على الهجرة غير النظامية؟ هل يمكن لأحد التحكّم فيما يشاهده الشباب أو يطمح إليه؟” واصلت مؤكّدة أنّ والدتها على علم بأنها ستُهاجر، مشددة على أنّ قاربها حمل إلى ضفاف لامبيدوزا شابّة أخرى وامرأة حامل. يسألها المذيع عن أسباب حرقتها خصوصا وأنّها الفتاة الجميلة المعروفة على الانستغرام وأنّها منحدرة -نظريّا- من طبقة اجتماعية “محظوظة”، فتردّ باقتضاب “لا أحد يدرك حجم معاناتي في تونس، لا تغرنّكم المظاهر على شبكات التواصل الاجتماعي. أنا الوحيدة التي تدرك ما مررت به في بلدي”.

وجهان لا يختزلان البتّة وجوه كلّ النساء المهاجرات غير النظاميّات. فالحرقة في صفوف النساء ظاهرة. وإن انتشرت خلال السنوات الأخيرة، فإنها ظلت تواجه رفضا مجتمعيا للتعاطي معها كحالة تستحق الوقوف على مسبباتها ورمزيتها. في الواقع، تبدو الحارقات اللواتي يلتقطن صورهنّ في عرض البحر في حالة مقاومة وتحدّ لإغفال المجتمع لهنّ في أوطانهن وتجاهل اقتحامهنّ لخيار لطالما كان حكرا على الرجال. فهنّ بنظرهنّ للكاميرا يطلبن من المجتمع أن يرى مأساتهنّ أو خيارهنّ وفي أسوأ الأحوال أن يتمّ قبول “اختيارهنّ” كما يقبل قرار الحارقين الرجال.

في أسباب الحرقة المؤنّثة

تقتحم التونسيات سنة بعد سنة قوارب الهجرة غير النظاميّة. قوارب جعلها العُرف حكرا على الذكور على مرّ عقود وظلّت في المخيال الشعبي مرتبطة بقوّة بدنيّة وحب مغامرة وشجاعة لا يمتلكها سوى الرجال، في تصوّر ذكوري لممارسة حقّ التنقّل وإن كان بصفة غير نظاميّة.

لا ينفصل ارتفاع نسبة المهاجرات غير النظاميات التونسيّات عن الوضعيّة الاقتصاديّة والسياسية والاجتماعيّة التي تعيشها البلاد. حيث تضاعفت نسبة النساء المُقدمات على الحرقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة واللواتي وصلن إلى وجهتهنّ الأخيرة. فمنذ كان عددهنّ 72 سنة 2019 ارتفع العدد ليبلغ في أوت الجاري 513 واصلة إلى الضفّة المقابلة حسب أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية. ارتفاع عدد المهاجرات غير النظاميات مرتبط جذريّا بعدد المهاجرين الذي ما انفكّ بدوره يتضاعف في السنوات الثلاث الأخيرة والذي ارتفع من 2645 في 2019 إلى 11462 مهاجر واصل، علما أنّ الأرقام مرجّحة للارتفاع في آخر السنة. إلاّ أنّه تجدر الإشارة الى أنّ نسق ارتفاع أعداد النساء المهاجرات أسرع من النسق الإجماليّ للحرقة، حيث ارتفع من 2017 إلى اليوم قرابة 7 أضعاف مقابل 4 أضعاف بالنسبة للعموم المهاجرين غير النظاميّين.

يفسّر رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاع نسبة إقبال التونسيات على الهجرة غير النظامية بظاهرة تأنيث الفقر والبطالة اللذين أصبحا أكثر حدّة في صفوف النساء. حيث لا يمكن قراءة أرقام الحرقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة بمعزل عن أرقام المعهد الوطني للإحصاء التي تشير إلى تجاوز نسبة البطالة 20.5% في صفوف النساء مقابل 13.1% عند الرجال خلال الثلاثي الثاني لسنة 2022، إلى جانب تفاقم الفقر لدى الحلقات الأكثر هشاشة في المجتمع وعلى رأسها النساء.

من جهة أخرى، يعتبر بن عمر أنّ الجائحة قد ساهمت في تعزيز دوافع النساء للهجرة. حيث أنّ ارتفاع ظاهرة العنف الأسري خلال الجائحة إلى جانب العنف المنتشر عموما والمُسلّط على النساء في الفضاءات العامّة كما الخاصّة، يعدّ من الأسباب التي جعلت “الحرقة” طريقا “مقبولا” لدى النساء نحو واقع مختلف.

يضيف بن عمر أنّه “يمكن قراءة الأرقام المتعلّقة بالنساء الحارقات كإحدى وسائل المقاومة وكطريقة لكسر القالب النمطيّ للمهاجرات والذي يختزلهنّ في صورة المرأة التي لفظها المجتمع، للمرور إلى صورة النساء اللواتي يبحثن عن نفس قدر المساواة وعن عيش كريم وحياة لائقة. وهو ما يفسّر أيضا وجود نساء ذوات خلفيات اجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة يركبن قوارب الحرقة”.

تربك النساء اليوم الصورة النمطيّة للحرقة حيث أصبحن يخضعن لمنطق جديد يتقاطع فيه السنّ مع الجندر مع الطبقة الاجتماعية مع الجهة الأصليّة للحارق/ة. كما يزعزع هذه الصورة مرافقة النساء لأطفالهنّ القصّر. حيث سجّل المنتدى خلال السنوات الأخيرة ارتفاعا للقصّر المرافقين لذويهم من 17 في سنة 2017 إلى 686 في حدود أوت 2022، بحسب الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ويعزي بن عمر ذلك لكون النساء الحارقات، على غرار الرجال أصبحن يمتلكن معرفة بالمعلومات المستوجبة عند الوصول ويدركن بأنّ الاتفاقيات الدولية تمنع السلطات الايطالية من ترحيل النساء والأطفال باعتبارهم يمثلون “فئات هشّة”.

تعدّ قصص النجاح في الهجرة إلى أوروبا من الأسباب التي تجعل النساء يركبن زوارق الحرقة كما أنّ تعطلّ المصعد الاجتماعي يجعلهنّ اليوم أكثر من أي وقت مضى أمام خيارات لم يكنّ سابقا ليتّخذنها كما يؤكّد رمضان بن عمر. على أنّه لا توجد دراسات معمّقة حول ظاهرة الحرقة المؤنّثة، إلاّ أنّ أغلب من يخاطرن بذلك ينحدرن أساسا من أحزمة الفقر في المدن الكبرى ومن بعض المناطق الداخلية المهمّشة.

يشدّد المتابعون والمتابعات لحرقة النساء على أنّ قرار الهجرة ليس من باب الترف بل هو اضطرار قد يكون ناتجا عن وضعية اجتماعية واقتصادية سيّئة كما يمكن أن يعود إلى تدهور وضعيّة الحقوق والحريّات التي تجعل من الهجرة أكثر معقوليّة من البقاء. وفي كلّ الأحوال تترجم الهجرة ممارسة لحقّ كوني ألا وهو حقّ التنقّل ورغبة -وان كانت غير واعية- بالتمرّد على سياسات تمييزيّة. وهي نتيجة طبيعية وحتميّة لسياسات التضييق التي تمارسها بلدان شمال المتوسّط على الهجرة النظامية وسياسات الهجرة الانتقائية التي تقتصر على فئات محدودة جدا تحتاجها أسواق العمل الأوروبية.

المجتمع وحرقة النساء: سياسة الكيل بمكيالين

حضور النساء في مشروع الهجرة غير النظامية ليس مستجدّا. حيث لعبت النساء على مرّ عقود أدوارا تعدّ “ثانويّة” في الحرقة على غرار دور “أمّ المهاجر” أو “زوجة المهاجر” أو “أخت المهاجر”. إلاّ أنّهنّ يتحمّلن حصريّا وزر هذا الدور اجتماعيا من خلال ضرورة محافظتهنّ على ترابط الأسرة وديمومتها، واقتصاديا من خلال تلبية حاجيات العائلة ومجتمعيّا من خلال تحمّل عبء الوصم الاجتماعي للحارق على اختلاف مركزه في العائلة. لا شكّ كذلك بأنّ النساء حاضرات بقوّة في “المشروع الهجري” سواء بالدعم أو التخطيط، الاّ أنّ تفاقم ظاهرة حرقة النساء يجعلنا اليوم أمام تشكّل دور جديد أساسيّ لهنّ، تأخذن من خلاله مقود تغيير الواقع وإن كان عبر قوارب الأمل والموت.

إلاّ أنّ هذا الدور الجديد للنساء في الحرقة ما انفكّ يُجابه من قبل الرأي العامّ التونسي بسياسة المكيالين. في الواقع، كلّما التقطت إحدى “الحرّاقات” صورة لرحلتها نحو البرّ المقابل، يشتعل الرأي العامّ مقابل صمت حاسد أو مباركة فصيحة للصور والفيديوهات العديدة والمتكرّرة لرحلات حرقة الرجال الواصلين إلى ضفاف إيطاليا. ليس آخرها صورة الأستاذة المفقودة مع ابنها ذي الأربع سنوات التي قوبلت بكلّ أنواع التجريم تحت مسمّيات العقلانيّة المفترضة في الزوجة، المسؤوليّة المفترضة في الأمّ أو الستر المفترض في المرأة. تجريم مبنيّ على جندر الحارقة وليس على الفعل بذاته، حيث لم نشهد نفس ردّ الفعل العنيف السنة الماضية تجاه أب صاحب ابنيه في إطار “حرقة” كان مآلها الهلاك انطلاقا من سواحل المهديّة.

لا يختلف ما تعرّضت له المفقودة في سواحل المنستير عن السحل الجماعي الذي تعرّضت له المؤثّرة سبأ السعيدي السنة الماضية عند نشرها لصورها في قارب الحرقة نحو لامبيدوزا وفي مركز في إيواء المهاجرين. حيث حُمّلت وزر تشجيع الشباب على الهجرة بطريقة غير نظاميّة وتصوير الحرقة على أنّها عمليّة آمنة ومضمونة.

لا يتوانى المجتمع عن تجريم الفئات الأكثر هشاشة كلّما وقعت فاجعة أو تحدّ للأدوار المحدّدة من قبله حتّى وإن تعلّق الأمر بالهجرة غير النظاميّة. فلا يكفي أنّ تكون الحرقة حكرا على الرجال في المخيال التونسي بل تحمّل المرأة الحارقة في الآن ذاته هاجس الوصول بأمان وعبء رفض المجتمع لولوجها قوارب الحرقة وكأنّ ممارسة حق التنقل والبحث عن مستقبل أفضل، مسرح رجالي لا يقبل “تطفّل” النساء على خطورته. فلئن كان المصير ذاته، فإنّ سحل المجتمع يبقى حكرا على النساء.

على غرار الرأي العامّ، تبدو الدولة التونسيّة متجاهلة تماما لظاهرة الحرقة في صفوف النساء، فالتعامل معها لا يتعدّى نشر وزارة الداخلية لبعض الأرقام من وقت إلى آخر دون تحليل مظاهرها وأسبابها. ويرجّح أن تتعاظم ظاهرة الحرقة في السنوات المقبلة في ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتفاقم ظاهرة تأنيث البطالة والفقر، إضافة إلى تواصل تشدّد سياسات الهجرة والتضييق على المهاجرين وتمسّك الدولة التونسية بدور الحارس الأمين للحدود الأوروبيّة.


[1] كلمة عاميّة تونسيّة تعني “الهجرة غير النظاميّة”.

[2] كلمة عاميّة تونسيّة يعنى بها مراكب الهجرة غير النظاميّة.

[3] كلمة عاميّة تونسيّة تشير إلى السواحل الإيطالية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، جندر ، تحقيقات ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني