“الجوع ولا قضاء الخضوع” : مذكّرات مُرافق (10) قصصٌ على هامش الاحتجاج القضائي


2022-10-17    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع” : مذكّرات مُرافق (10) قصصٌ على هامش الاحتجاج القضائي
من صفحة الجوع ولا قضاء الخنوع على فيسبوك

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع، بما يضيء على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة.

ننشر هنا الحلقة التاسعة من هذه السلسلة التي اخترنا لها عنوان: “الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق، علما أننا نشرنا منها حتى الآن تسع حلقات يمكن قراءتها على الروابط الآتية:  الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة (المحرّر).

منتصف نهار يوم 07 جويلية 2022، يدخل المرافق غرفة الاستقبال في النادي حيث كان المضربون عن الطعام مستلقين استعدادا للقيلولة في يوم شديد الحرارة. وإذ يعلمهم أن حمادي غادر المستشفى، ينهض طاهر فرحا سائلا: “هل سيأتي اليوم إلى النادي؟ اشتقت له ولصحبته الطيبة”. لكن سرعان ما يأتيه جواب مخيّب مفاده أن حمادي يحتاج فترة راحة مع أسرته قبلما يعود إلى النادي.  

كان يريد أن يطمئنهم وينقل لهم خبرا سارا. ولكن السؤال أربكه وكاد يضطره لكشف ما كان يخفي: حمادي غادر لكنه لا زال مريضا والأطباء يقولون أنه لن يتعافى قبل خمسة عشر يوما على أقل تقدير وأنه من المرجّح أن يترك الإضراب بعض آثار في جسده المنهك قد تظهر في كل حين مرضا مزمنا. حمادي تلقى رعاية يندر مثيلها في المستشفيات  العامة والخاصة بفضل ما كان لنضاله وكل القضاة دفاعا عن الديمقراطية والحق في القضاء المستقل من احترام وسط الإطارات الطبية وشبه الطبية بمستشفى المنجي سليم بالمرسى. لكنه لم يكن يتمتع بتغطية صحية بسبب الإعفاء واضطرّت بالتالي أسرته لتحمل عبء مالي ربما لم تكن مستعدة له وإن كان مما هو مقدور عليه.

تاه “المرافق” في الشمس الحارقة للحظات قبل أن ينتبه لرجل وامرأة يتجهان صوبه قادمين من الباب الخارجي وفي حضن كل واحد منهما طفل فيتقدم نحوهما ظنّا منه أنهما من الزوار ليفاجأ أنهما فرنسيان وأنّ لهما طلبا غير ذلك. فبعد أن بادرته المرأة بالتحية، أعلمته أنها وزوجها محاميان بفرنسا وأنهما يعرفان أن قضاة تونس يخوضون صراعا مع السلطة دفاعا عن استقلالية القضاء وأنها تساندهم في ذلك قبل أن تستدرك قائلة: “لكن موضوع زيارتنا غير ذلك. والدي سيحتفل بعيد ميلاده  الثمانين هذا الاسبوع. هو يحب هذا المكان كثيرا لأنه قضى فيه طفولته  ويتمنى زيارته و لو لمرة واحدة  قبل وفاته. هل تسمح له بذلك؟ هو الآن في سيارة التاكسي ينتظر. أنا أهديته هذه الرحلة لموطنه تونس. أبي يتمنى أن يدخل دار والده هذه ولو لمرة واحدة. هل يمكن أن تساعدني في أن أحقق له حلمه؟” لم يفهم المرافق عما تتحدث وكيف أن رجلا عمره ثمانون عاما قضى طفولته في منزل محمد مزالي الذي بني حسب ما كان يظنّ في ستينات القرن الماضي لكنه لم يرَ مانعا من أن يقول لها “طبعا أهلا بكما وبه”.

حكاية النادي من جديد: مكان ضحاياه كثر

كان رجلا نشيطا رغم كبر سنه. وبدا وهو يدخل النادي كطفل صغير لا يقدر على كبح فرحته. شكر المرافق وقال له: “زرت تونس خلال السنوات الماضية أكثر من مرة وفي كل واحدة منها كنت أحاول زيارة منزلنا لكن أجده دائما مغلقا. أنا سعيد جدا لأني وجدتكم  هنا أخيرا. أكاد أرى أمي وأبي وإخوتي في كل مكان. كل ركن في هذا المكان لي فيه ذكريات. هل تسمح لي بجولة داخل دارنا؟”.

إذّاك، سأله المرافق: “هو منزل محمد مزالي. لم أفهم هل أنت من أسرته؟” فكان الجواب: “هو قبل ذلك منزلنا، والدي ألبير كاليرا[1] من شيده، كان قاضي صلح بقرمبالية[2] ورئيسا لبلدية نابل، اشترى قطعة أرض هنا، وشيد لنا بها منزلنا هذا. سنة 1964 اعتبرت الحكومة دارنا  عقارا فلاحيا وصادرته[3] قبل أن يطردنا أعوانها منه ويضطرونا للهجرة إلى فرنسا حيث نقيم الآن. هذا منزلي. أنا لا أطالب به. كل ما أريد هو استرجاع بعض ذكرياتي معه. هل تسمح لي بجولة قصيرة رجاء؟”  

“لم أفهم هل هذا يعني أن مزالي لم يشيّد  هذا المحل وأن والدك هو من تولّى ذلك؟” يعود ليسأله المرافق وهو في حيرة من أمره ليصله جواب سريع: “نعم. تلك كانت غرفة أختي. هذا شباك غرفتي: هل يمكن أن أدخل للمحل؟” تعترض ابنته: “عفوا والدي، هناك مضربون عن الطعام بالداخل. قد نزعجهم”. فيقول المرافق: “لا. تجوّل كما تشاء. لا يوجد أي إزعاج”. ويتركه يمضي في المقدمة ليتبعه ويستمع له فيما يقول من وصف للمكان من ذاكرته أكد أنه يعرفه جيدا.

تحت التوتة، ذكريات وعهد

قبل ان يغادر، توجّه الشيخ وقد تلألأت عيناه إلى التوتة ليحضنها وهو يقول مخاطبا ابنته متجاهلا كل من يحيطون به: “هذه ساعدت جدك في غرسها. لقد أصبحت عظيمة. كان حلمه وجدتك أن ينهيا حياتهما في هذا المنزل. وكانا يرددان يوم تكبر التوتة سنستمتع يالجلوس تحت ظلالها. رحمهما الله ماتا وقد حرما من ذلك. كانا كلما تذكرا منزلهما يبكيان لما لحقهما من قهر. والدي ألبير شخص عظيم لقد خدم مدينة نابل بإخلاص. أتعلم أيها القاضي أنّ معرض نابل هو من أسسه وأنه وأسرته قدموا تبرعات كبيرة لبناء مرافق عامة بالمدينة لا زالت قائمة حتى اليوم. واعترافا بهذا تولى منذ سنوات مجلس البلدية تسمية أحد الأنهج باسم عائلتنا. نعم بنابل هناك نهج يحمل إسم أسرتي[4]. نحن تونسيون ونعتزّ ببلدنا لكن ولأن لنا جنسية فرنسية تمت معاملتنا كأجانب[5] وطردنا من بلادنا وسرق منا منزلنا ليعطى بداية لمسؤول سامٍ بثمن لا يلائم قيمته وفي النهاية لكم. هذا ليس عدلا لكن هذا الواقع”. بعد تلك الزيارة التي دامت لمدة لم تتجاوز النصف ساعة في أقصى تقدير، كانت حيرة دامت ساعات وأسئلة عن سر هذا المكان الذي كان كل من مر به في أول وقته صاحب سلطة سعيد بها وفي نهايته ممن يتظلّمون من السلطة. وفي المساء، خاطبه أحد زملائه: “هذه حكاية لا تصدّق ربما كانوا أجانب أرادوا أن يتجسسوا على بلدنا وأنت سهلت لهم الأمر. ما كان يجب عليك ان تكون متساهلا في أمور كهذه”. فيرد المرافق: “لقد سألت “الأخضر” حارس النادي وقد أعلمني أن أهالي المنطقة حدّثوه عن مالكين قدامى للمنزل من الأجانب”. وقبل أن يتم التفصيل في قوله،  قاطعته زميلته رفيقة وهي ممن كانوا يواظبون على خدمة المضربين: “عهدا بمجرد إنصاف زملائنا، سأذبح في هذا المكان عجلا. يجب أن يسيل الدم تحت التوتة لترفع اللعنة. هذا الظلم الذي يتكرر يجب أن ينتهي.” يضحك الجميع. لكنها تواصل غير عابئة بهم: “هذا عهدي ونذري وأنا مسؤولة عنه. أبي فلاح ومن الغد سأطلب منه أن يعطيني العجل، ليكون أضحية العيد لمن ظلموا من زملائنا لا بل لكل من ظلموا بمن فيهم الرجل الذي تتحدثون عنه”. قالت ذلك ثم كبست على شفتها بأسنانها وهي تشاهد قيس يغادر في اتجاه الغرفة لتقول في ندم كبير: “تحدثت عن العيد ونسيت أن قيس سيحرم من فرحة مشاركة أبنائه احتفالاته. سيفرغ النادي ويجدون أنفسهم وحدهم هذا مؤلم”. وفي هذا كان حدسها مطابقا لما كان من الغد وبعده.


[1]  Albert Karila

[2]    مدينة  بولاية نابل  .

[3]   بتاريخ 12-05-1964 ، صدر قانون الجلاء الزراعي الذي حجر على  الأجانب  الاجانب العقارات الفلاحية ، وتمت وفق احكامه مصادرة كل المستغلات الفلاحية التي كانت على ملكهم لفادئة الدولة التونسية والتي فرطت لاحقا بشروط ميسرة في عدد منها لفائدة مواطنها وميزت دوائر الحكم من قدماء المناضلين و النافذين بأفضلها .

[4]  من العائلات التونسية ذات الديانة اليهودية ، كانت تتميز بثرائها خلال الحقبة الاستعمارية اختار أفرادها التحصل على الجنسية الفرنسية واشتغل عدد منها بإداراتها .

[5]  كان افراد العائلة مرسمين بدفاتر الحالة المدنية كفرنسيين .

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، تونس ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني