“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (1)… خطوة أولى في طريق لم يُسلك من قبل


2022-08-13    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (1)… خطوة أولى في طريق لم يُسلك من قبل

في الوقت الذي يحتفي فيه قضاة تونس ومعهم كلّ من آمن ودافع عن قيمة القاضي حامي الحقوق والحريات بالقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 48 منهم، يهمّ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك أن تشاركهم فرحتهم بنشر سلسلة من النصوص توثّق من الداخل إحدى أهم عناوين ملحمة القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع.

ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: شهادة مرافق” تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيئ على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقف عندها لفهم أفضل وأعمق للقضاء بعيداً عن الآراء المتسرعة أو المسبقة.

المقدمة:

في تمام العاشرة من ليلة 01-06-2022، أعلن رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد قراره تنقيح المرسوم عدد 11 المنظم للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء ليعفي على أساسه جملة من القضاة بعد وصمهم بالزناة والفاسدين والمتواطئين مع الإرهاب. وفي ختام خطابه، انتهى سعيّد إلى دعوة  الشعب لإسناده في تصدّيه لهم وفي معركة تطهير القضاء التي انطلق في خوضها. ساعاتٌ قليلة بعد ذلك بدت ثقيلة وطويلة لكل القضاة وقبل طلوع الصباح، نُشر التنقيح التشريعي ومعه القائمة الموعودة بالجريدة الرسمية والتي ضمّت 57 قاضياً. إذّاك اكتشف الجميع أنّ الرئيس أسند لنفسه صلاحيّة إعفاء القضاة خارج أيّ مساءلة تأديبية في موازاة تعليق حقّ القضاة المعفيين بالمراجعة القضائية إلى ما بعد صدور قرارات جزائيّة باتّة (مبرمة) في الاتهامات المساقة ضدّهم.

اليوم الأول بعد الإعفاءات: انكسار فمقاومة

ومع بداية يوم العمل الموالي، تمركزت وحدات أمنية بالزيّ النظاميّ على مستوى الأبواب الخارجية للمحاكم بهدف منع القضاة المعفيين من الدخول إليها. أما في داخلها، فقد تولّى أعوان الأمن حراسة مكاتب المعفيين بهدف منع دخولها من أيّ كان ولو كان ذلك لغاية تحصيل ملف أو وثيقة لازمة للعمل. في ظلّ هذه التدابير الاستثنائية، تجمهر بصورة عفويّة عددٌ من القضاة في أروقة المحكمة. كانُوا يتحدّثون عن قاضٍ سامٍ ليس من متابعي الفايسبوك ولم يعلم بخبر إعفائه دخل مكتبه عند الصباح الباكر قبلما يُطرد منه فور التفطن بوجوده، أو يتحدثون عن قاضٍ آخر اعترضتْه دورية أمنية بالطريق لتعلمه أنه موضوع إجراء حدوديّ.

يومها، أوحى ظاهر الأمر بنجاح كبير في مخطط الإعفاءات. فالأمن ضبط النظام داخل المحاكم كما أثمرتْ خطة بثّ الرعب بين القضاة. ولكن سرعان ما ولّد التعسف في الإعفاء وما لحقه من إجراءات زجرية بحقّ القضاة مقاومة داخل أوساطهم، كان مقرّ جمعية القضاة بقصر العدالة بالعاصمة غرفة قيادتها.

داخل ذاك المكتب الذي لا تتجاوز مساحته عشرين مترا مربعا، كان القضاة المعروفون في الوسط القضائيّ “بقضاة الجمعية” يتوسطهم رئيسها أنس الحمادي يتداولون في ذات الحين الذي كان فيه الى جانبهم عشرات القضاة هم في أغلبهم من جيل الشباب يستشيطون غضبا ويطالبون بقرارات عاجلة. في خضمّ هذا التداول، برزتْ فكرة الدعوة لمجلس وطني للجمعية تُدعى إليه الهياكل القضائية كافة. استدعى التحضير لذلك الحدث الانتظار حتى يوم 04-06-2022. وفي هذه الأثناء، ودون تنسيق مسبق، كانت الجلسات تؤخّر على حالتها بمبادرات فردية مما عطّل فعليا العمل بكل المحاكم وأشّر إلى انطلاق حراك قضائي واسع.

المجلس الوطني: حضور كبير وشهادات مزلزلة

غصت قاعة النزل الذي تم عقد الجلسة فيه بالقضاة. وقد بلغ عددهم باعتماد معيار من أمضى بطاقة الحضور ألفاً ومائتين أي ما يعادل تقريبا ثلث القضاة المباشرين. وحضرت وسائل إعلام متعددة منها الأجنبية والمحلية ومنها الإعلام العمومي. وجلس في منصّتها رؤساء مختلف الهياكل في مشهديّة لم يكن يتوقّع سابقا حدوثها لكثرة الخصومات بينهم. كان المعفيّون أوّل من تحدّث بعد الافتتاح الرسميّ وفي حضور وسائل الإعلام، فقدّم عدد كبير منهم روايات لخلفيات القرارات التي شملتهم فتبيّن أنّ ما ادّعت السلطة أنّه مكافحة للفساد إنما كان في أغلب الحالات استهدافاً لقضاة مهنيّين رفضوا إملاءاتها.

كان لشهاداتهم وما تميّزت به من مظاهر صدق أثرٌ هامّ في التخفيف من هيمنة السرديّة الرسميّة في هذا الشأن. ويرجّح أن تكون أسهمتْ في مقبولية قرار الهياكل القضائية تعطيل عمل المحاكم لفترة أسبوعين (أسبوع يقبل التمديد بأسبوع آخر).

ما بعد نصف شهر من الإضراب: جلسة عامة ثانية

هدّدت وزارة العدل القضاة بخصم الأجور وبملاحقات تأديبية، ولم تبحث عن حلّ للإشكال القائم. وهو أمر فرض دعوة القضاة إلى جلسة عامّة ثانية سمّيت جلسة تنسيقية هياكل القضاة. وقد عقدت بذات النزل وذات القاعة بتاريخ 18-06-2022 وحضرها ألف قاضٍ تقريبا كان جميعهم مصمّما على مواصلة الإضراب.

في تلك الجلسة العامة، تدخّل القاضي المُعفى حمادي الرحماني ليعلن قراره ومجموعة من زملائه الدخول في إضراب جوع فرضاً لاستقلاليّة القضاء. قوبل  تدخّله بالتّصفيق قبل أن يتقرّر تضمين لائحة الجلسة بنداً ورد فيه أنّ القضاة يدعمون “مبادرة .. خوض إضراب جوع بهدف إلغاء المرسوم الذي أسند لرئيس الجمهورية حقّ إعفاء القضاة خارج أي إطار قانوني وتصدّيا للانتهاكات الحافّة بقرارات الإعفاء ودعماً لنضال القضاة من أجل استعادة المسار الدستوري والقانوني للسلطة القضائية”.

بدا واضحاً منذ ذلك الحين أنّ المواجهة بين القضاة والسّلطة ستأخذ بإضراب الجوع منعرجاً جديداً لم يعهد سابقاً في تحرّكات قضاة تونس وربما كل قضاة العالم، عنوانه الأهم التضحيّة بالذات دفاعاً عن الحقّ والقيمة.

خطوة أولى في طريق لم يُسلك من قبل

يوم 22-06-2022، ومن مقرّ جمعيّة القضاة بقصر العدالة بتونس العاصمة وفي حضور إعلامي هامّ سبق دعوته لمواكبة تظاهرة قضائية، تلا القاضي حمادي الرحماني بعد أن توسط زميليه رمزي بحرية ومحمد الطاهر الكنزاري بيانا اختاروا له عنوان “الجوع ولا قضاء الخنوع”. وقد أعلن القضاة الثلاثة في بيانهم ذاك دخولهم في إضراب عن الطعام بمقرّ نادي القضاة احتجاجاً على مسّ الرّئيس قيس سعيد بضمانات استقلالية القضاء وسعيه إلى تدجين القضاة وتخويفهم بفعل إعفاء سبعة وخمسين منهم، هم من بينهم.

لم يكن الحدث عاديا، إذ لم يسبق لقضاة في العالم أن استخدموا هذا الأسلوب الاحتجاجي. كما لم يكنْ إعلان معركة الأمعاء الخاوية مرحّبا به من طيف واسع من القضاة ومُسانديهم. فقد رأى هؤلاء أنّ الرئيس سعيد ليس ممن يتأثر بالحالات الإنسانية أو بالضغوط، وبالتالي فإن جوع القضاة سيضر بصحتهم ويعرّضها للخطر من دون فائدة تٌرجى.

بعيدا عن هذا الجدل وصخب الحوارات الإعلامية وفي ذات الصباح وبضاحية سكرة، دبّت حركة كبيرة في نادي القضاة، قاضيات وقضاة يرتّبون المقر الذي كان في أغلب أيامه مهجورا، جلب لحشايا وأغطية، أعمال تنظيف وتعقيم، شعارات تعلق وتموين يشترى. حركة كان يجب أن تتمّ من دون لفت انتباه رقيب قد يكون موجودا فيكشف مكان الإضراب قبل انطلاقته. وهو أمر يُخشى أن يحدث فيتدخل السياسي ويستولي عنوة عليه. حركة أكّدت أنّ ما بدا تحركا فرديا لثلاثة قضاة معفيين إنما شكّل في واقعه حركة جماعية يسندها قضاة كثيرون.

الإعداد لإضراب الجوع: عمل جماعي في الخفاء

حديث حمادي عن عزمه الدخول في إضراب الجوع سبقته وأعقبتْه جلسات عمل كانت القاضية روضة قرافي (رئيسة جمعية القضاة التونسيين سابقا) مهندستها، وضمّت عددا قليلا من القضاة المُنخرطين في المشروع. لقد راهنوا على تلك الخطوة لضمان استمرارية التحركات الاحتجاجية للقضاة متى انتهى إضرابهم عن العمل. “الإضراب لا يجب أن يستمر لوقت طويل.. لا يمكن ذلك. هذا قد يؤدي لتأليب الرأي العام ضد القضاة.. علينا أن نطور أساليب تحركنا.. إضراب الجوع مهم وهو الحلّ الذي يحقق لنا هذا. يجب أن ننجح فيه”. هذا ما كانت القاضية قرافي تردده لحثّ القضاة على إنجاح التحرّك المنتظر. اشتغلتْ المجموعة على مسائل متعدّدة، من أهمّها من سيشارك في الإضراب وأين سيكون مكانه وكيف ستخاض إضرابات الجوع وهو أمر لم يكن لهم جميعا معرفة به.

“اطلبني على الأخضر” في بداية كل حديث

–   آلو كيف حالك رئيس؟

–   أهلا أنا كالعادة وأنت، هل من جديد؟

–   نأمل الخير اللإضراب ناجح. الزملاء جميعهم معكم نطلبك على الأخضر عندي ما نقلك؟

–   نعم اتّصل بي الآن نفس الرقم عليه الواتساب.

فيما سبق، لم يكن التونسيّون يميلون إلى استعمال تطبيقات الإنترنت في اتّصالاتهم الهاتفية لكون مشغلو شبكات الهاتف الجوال كانوا يوفرون لهم خدمة الاتصال الخليوي بتكلفة منخفضة. إلا أن موقفهم تغيّر بعد إجراءات الرئيس سعيّد بتاريخ 25-07-2021. فقد دفعتهم الخشية من اختراقات لسريّة اتّصالاتهم إلى تحويل وجهتهم نحو تطبيقات الإنترنت متى كان حديثهم يلامس السياسي.. أو كانوا يريدون التطرّق لأمر يستحقّ الكتمان. ومن ذلك حديث قضاتنا عما يخططون له.

كان مطلوبا الاتصال بالقضاة المعفيين وتعريفهم بما عُقد عليه العزم زيادة على إقناع عدد منهم بالانخراط فيه. وكانت الفكرة أن يُقسّم هؤلاء لمجموعات يرتب دخولها في التحرك على ضوء تطوّراته. لم يكن ممكناً لقاؤهم جميعا لكون عدد كبير منهم مقيماً خارج العاصمة، فضلا عن أن العديد منهم آثر بفعل صدمة الإعفاء تجنّب الأماكن العامة واعتكف بمنزله. وعليه، تمّت أغلب الحوارات بواسطة  الهاتف الجوال وتحديدا من خلال التطبيقات التي اختلف القضاة في أيّها الأكثر أمانا.

بعيدا عن هذا التفصيل، كشفتْ الاتصالات بتعدد وسائلها لمن تكفّلوا بها عن وجود راغبين في المشاركة. واستقرّ الرأي على أن ينطلق التحرّك بمجموعة مكوّنة من ثلاثة أفراد ويتم تطعيمها لاحقا حسب تطور الأوضاع بمتطوعين جدد. ووقع الاختيار على حمادي ورمزي وقاضٍ ثالث ليكونوا في الكوكبة الأولى واعتمد في معيار هذا الانتقاء التمثيل الجغرافي للمضربين علاوة على تعدّد خلفيات إعفائهم. لكن في اليوم الموعود، طال انتظار القاضي الثالث ولم يحضر ليكتفي بإرسالية وجهها إلى زميل له ذكر فيها أنّ أسرته رفضتْ مشاركته في أي إضراب جوع وأن الامر استحال لخلاف عائلي لا قدرة له على ردّه. في ذات الحين، كان محمد الطّاهر يخاصم ليفرض حقّه في مباشرة الإضراب وهو ما تمّ له بسبب هذا الطارئ.

أين سيخاض إضراب الجوع؟

مع بداية طرح الفكرة، بدا لحمادي أنّ مقرّ الجمعية هو المكان الأنسب لخوض الإضراب. وقد برّر ذلك بأنّ قربه من القضاة سيحفّزهم على مزيد التضامن مع المُضربين؛ كما أن وجوده في قصر العدالة سيشجّع منظمات المجتمع المدني على تأدية أكبر عدد ممكن من زيارات التضامن. لم يقنعْ هذا الرأي بعض زملائه ممّن تمسّكوا بأنّ من شروط الإضراب توفّر ظروف مريحة غير متاحة في مقر المحكمة، حيث لا توجد دورات مياه تصلح للاستعمال أصلاً. وقد تخوّف آخرون من أن تتذرّع السلطة بتعطيل الإضراب للعمل القضائي لتبرير استهداف مقر الجمعية. إذ ذاك، تمّ اقتراح مقر النادي الكائن في … بديلا، بالنظر إلى ما يتوفر فيه من شروط الراحة ولكون جمعية القضاة هي من تتصرف فيه وتديره. بعد تردد في قبول هذا الاقتراح لبعد النادي عن العاصمة (13 كلم)، عاد الجميع للإقرار بصحة الحجة. ولكن اتُّفق على أن يتمّ التظاهر خلال ساعة الإعلان عن  الاضراب بأنّه سيدور في قصر العدالة وألّا يعلن عن النّادي إلّا متى كان المضربون قد احتلّوا أماكنهم فيه تحسبا لما قد تفعله السلطة.

أي وصفة لإضرابات الجوع؟

“إضراب الجوع لا يجب بحال أن يكون سببا في تهديد حياة زملائنا. يجب أن نستعد له جيدا”. هكذا تحدث أحدهم في لقاء جمع القضاة المنخرطين في تنفيذ المشروع، مضيفاً: “ستكون كارثة لو أدّت خطوتنا لذلك” . كانت قرافي أول من تفاعل معه لتقول بصوتها الواثق: “علينا سؤال من لهم خبرة في تنظيم إضرابات الجوع”. وسريعا ما اتفق على استشارة عياشي الهمامي نظراً لخبرته والثقة بشخصه. فالرجل عُرف بنشاطه الحقوقي ضمن جبهة 18 أكتوبر 2005 التي خاضت أحد أهم إضرابات الجوع في التاريخ السياسي التونسي. كما تميّز بمناصرته للقضاء المستقلّ ودفاعه الدائم عنه. وقد جاءت نصيحته تبعاً لاتّصال ولقاء سريع معه على النحو الآتي: “المهم إطلاق الإضراب.. وأن يكون تحرّكا جديا.. مهم جدا أن نلتزم بالنزاهة.. لاحقا نرتب التأطير الصحي وغيره من المسائل. كل المجتمع الحقوقي التونسي سيدعمكم.. هذا حدث نضالي هامّ. القضاة يقودون معركة الدفاع عن الديموقراطية ويجب أن يصمدوا …نحن جميعا معكم”. لم يكن القاضي الذي التقاه يتخيّل يوماً أن يصفه وزملاءه شخصٌ في قيمة العياشي الاعتبارية بالمناضل وأن ينسب له ومن معه شرف الدفاع عن الديمقراطية.. شعر بالحرج لكن ابتسامة عريضة لم يقدر على حجبها كشفت عن سعادة طفولية اكتسحتْ الرجل الخمسيني وجعلتْه يكون أكثر حماسة للحظة التي يكون فيها وزملاؤه من المضربين في النادي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، احتجاز وتعذيب ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني