“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (8): ظلم أرهق أجسادا قاومتْ


2022-10-03    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (8): ظلم أرهق أجسادا قاومتْ

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع، بما يضيء على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة.

ننشر هنا الحلقة الثامنة من هذه السلسلة التي اخترنا لها عنوان: “الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق، علما أننا نشرنا منها حتى الآن سبع حلقات يمكن قراءتها على الروابط الآتية:  الأولى والثانية  والثالثة والرابعة والخامسة  والسادسة و السابعة (المحرّر).

منذ بدء إضراب الجوع، تطوّع مجموعة من الأطباء المعروفين بانشغالهم بالشأن العام في إسناده[1] من خلال توفير الإرشادات والعناية الصحية عند الاقتضاء. لا بل ذهب بعضهم حدّ توفير تجهيزات طبية تصلح في تأمين الفحوصات الطبية بالمقر. ورغم أنهم لم يكوّنوا فريق عمل موحّدًا، إلا أنهم أعدّوا دفترا ضمنوا به ما يحتاجون إليه من تبادل للمعلومات الصحية. وطيلة فترة الإضراب نادرا ما مضى يوم دون حضور أحدهم أو أكثر، علما انهم كانوا يحضرون تلقائيا أو بناء على طلب أي من قضاة النادي. وقد لقي تطوع هؤلاء الأطباء درجة عالية من الامتنان من قبل القضاة. وكان لسان حالهم كلما شكرهم قاضٍ: “نحن نؤمن بقيم مهنتنا كما أننا من أبناء هذا الوطن ومن واجبنا بالتالي أن ندافع عن حقنا في القضاء المستقل. هذه معركة لأجل تونس ونحن نريد أن يكون لنا دور فيها”.

الإشراف الطبي والتعليمات الصحية

كان الطبيب سمير عبد المؤمن أول من فحص المضربين يوم انطلق إضرابهم. آنذاك، قال بعد سؤالهم عن سوابقهم الصحية: “صديقنا طاهر سيكون الأكثر قدرة على مقاومة الجوع لأنه الوحيد الذي يعاني مرضا مزمنا وهو ملتزم بالحمية الطبية. هو زيادة على ذلك ممتلئ. وهذا يعني أن في جسده خزان من الدهون التي قد تساعد على مقاومة نقص الطاقة. زميلاه ليس لهما نفس الخاصيّات الجسدية والصحية وهما على عكسه نحيفان ويظهر عليهما الإجهاد النفسي. أرأيتم هناك أمور عكس ظواهرها. هنا الإصابة بمرض السكري من صنف 2 والتعايش معها يعني بالنسبة لنا وعي صحي وإضراب الجوع يحتاج ذلك”. أما الطبيب ماهر العباسي فقد قال للمضربين أيضا منذ بدء إضرابهم: “الإحساس بالجوع سيغيب تماما عنكم بعد وقت قصير. مدّة العشرة الأيام الأولى في الأغلب ستكون مستقرة لكن عدم الالتزام بالتوصيات الطبية قد يؤدّي لانهيار صحّي سريع”. وعاد ليخص حمادي بتنبيه صارم: “أنت فيما ألاحظ مقلّ في شرب الماء. فحصك يؤكد ذلك. عليك أن تكون أكثر التزاما” قبل أن يوجه تعليمات عامة: “راقبوا رجاء مخرجاتكم من السوائل لجهة لونها وكميتها. إذا ما لاحظتم أنها داكنة أو أنّ كميتها قليلة وجب عليكم إعلامنا بذلك من دون أدنى تأخير. إضرابكم ليس وحشيا وهو رغم ذلك ليس بالأمر الهين، إذ قد يترك بأجسادكم آثارا يصعب تداركها لاحقا لذا وجب علينا الحذر”.

وكان طاهر يحرص كما لو أنه يؤدي فريضة دينية على تنفيذ توصيات الأطباء التي يلحّ في سؤال كل طبيب يحضر عنها. ولا يملّ أبدا من تكرار ذلك داعياً زميليه لحذو حذوه: “الكلى تحتاج الماء. أضيفا لكل قارورة ماء نصف ملعقة من الملح هذا مهمّ لتوازن الجسد”. وقد كان كلما انهمك في خلط الماء طبق وصفته أو في تعبئة الماء المنقوع بالبقدونس الذي كان يحضّره الزملاء ولا يشربه أحد غيره يبدو كما لو كان يؤدي طقسا مقدسا لا يقبل أن يتحدث معه أحد خلاله ولا أن يشغله شيء عنه. بالمقابل، كان حمادي يغالب نفسه لتنفيذ التعليمات بضرورة شرب ثلاث لترات من الماء يوميا: “لا أعلم سببا لسلوكي. ربما مردّه أنّي فيما أستبطن أشّبه ما أنا بصدده بصيام رمضان. وعليه، يحتاج شرب الماء مني مغالبة كبيرة لنفسي. سأحاول أن أصلح من حالي”. وكان رمزي لا يختلف عنه كثيرا في هذا. وربّما مردّ ذلك تأثّره به وفق ما وصفه بأسلوبه الذي يمزج بين الجد والهزل: “هذا الرجل أحبّ نزاهته. أنا ملتزم في النادي باتّباع نهجه، هذا في تنفيذ الإضراب فقط. فيما زاد على ذلك لا وألف لا لا فحكاية النضال التي ضيّع فيها حياته لا تروق لي”.

ما بعد العشرة الأوائل: تعب..

تغيب عن المرافق الدقة فيما تعلق بتحديد زمن بداية تردي الحالة الصحية لكل من حمادي ورمزي. وهو يتحدث دوما باندهاش عن ذلك فيقول: “طيلة العشرة أيام الأولى كانا في كامل لياقتهما. من يلاحظهما لا يقدر على تصديق أنهما مضربان عن الطعام. بعد ذلك بيوم أو اثنين، تغيّر كل شيء. فقد أمسى وجه الأول شاحبا يوحي دوما بإرهاق كبير وبات يتحرك بصعوبة فيما بات الثاني يشتكي من فترة لأخرى من أوجاع على مستوى بطنه يردّها للغازات. لكن كان من الواضح أنّها تسبب له ألما كبيرا وربما كان سببها غير ما كان يظن، وهي حالة تطورت بعد ذلك بأكثر لتصل يوم 04 جويلية إلى حد خطير.

فحينها ومع بداية النصف الثاني من النهار، لاحظ كلّ من حضروا إلى النادي التدهور الكبير لصحة حمادي. كان لا يقوى على الحركة ولا يقدر حتى على حمل قارورة الماء ليرتوي منها. زوجته سلوى التي جلست بمحاذاته كان الحزن باديا على ملامحها وآثار الدموع لا تخفى على من ينظر إلى وجهها. حاولت أن ترعاه وكانت في ذلك عصاه التي يتكئ عليها متى تنقّل مضطرّا لدورة المياه في رحلة يحتاج للمضي فيها على قصر مسافتها لاستراحات متكررة ويضطرّ متى سلكها لأن يصدر صرخات ألم بصوت يكاد لا يسمع. وهي مع حملها الثقيل ذلك لها شاغل تراه ربما لا يقل أهمية تبوح به للمرافق طلبا للمساعدة فيه: “عيش خويا. عزيز ومريم (ولداهما) يتابعانك أنت وعددا من زملائك بالفايسبوك. رجاء لا تنشروا أي خبر عن صحة حمادي. أخاف عليهما إن ظنّا أنه في خطر. هل هو في خطر؟ حاول إقناعه بفكّ الإضراب. نحن نحتاجه. متى يأتي الطبيب؟ هل اتصلتم بطبيب؟ حمادي سيموت”.

“تمّ الاتصال هو في الطريق، لن ننشر شيئا سأحرص على ذلك”. بمجرد انتهاء المرافق من كلامه، يتبيّن أن عدد زملائه في الغرفة بات كبيرا فيلتفت عن سلوى ليقول لهم: “حمادي يحتاج  لقسط من الراحة. الغرفة مكتظة وهذا لا يجوز. من الأفضل انتظار الطبيب في الخارج”. وهنا وفي طريقه وإياهم للخروج، يتذكّر رمزي فينظر صوب ركنه فيراه يلتحف بغطاء رغم حرارة الطقس. فيستغرب من ذلك لكنه وتقصيرا منه لا يعطي الأمر الأهمية التي كان يستحقها.

في الساحة قلق وإرباك: الخوف

في ساحة التوتة، كان عدد القضاة أكبر بكثير. أعلمته أنيسة أن الخبر انتشر وسط القضاة وأن جانبا من الإعلام يتداوله ففهم سبب ما شاهد من كثافة حضور. كان حينها في وضع من لا يعلم ما يفعل ويظن أن ذلك كان شعور كل من كان معه. وهو في حيرته تلك، تقدّمت نحوه زميلته نعيمة وهي لا تخفي غضبها: “هذا خطير. كان الاتفاق في البداية على عدم تعريض حياة أي كان للخطر. حمادي يكاد يتحوّل إلى جثة. ألا تلاحظون ملامحه؟ الحياة تغادره. رجاء يجب أن نعلق الإضراب حالا. نحن لن نغيّر واقع البلاد. حاولنا المقاومة في وقت صمت فيه الجميع، لقد قمنا بواجبنا. الرئيس لا يهتمّ بتاتا لصحّة المضربين ولن يتأثر بذلك. حمادي رمزي طاهر أسرهم تحتاجهم. يجب أن نقنعهم بتعليق إضرابهم”.

لم يكن له ما يقوله سوى كلمة “نعم” والتي ربما كان القصد منها إنهاء حوار لم يكن ذهنه قادرا على استيعاب أبعاده قبل أن ينسحب مسرعا. لقد حلّ الطبيبان فوزي الشرفي وخليل الزاوية ودخلا على عجل إلى غرفة الاستقبال الكبرى ليخرجا بعد وقت قصير وقد حسما موقفهما: “لا مجال لتضييع الوقت. الوضع حرج ويجب نقل المضرب حالا للمستشفى”. هذا ما قالا قبل أن يبتعدا عن الجميع وينهمكا في  اتصالات هاتفية غايتها تنظيم حضور الإسعاف الطبي وتنسيق الإيواء بالمستشفى.

حمادي يغادر محمولا ورمزي ضوء أحمر جديد

لم يستغرق حضور الإسعاف وقتا طويلا. وكان رأي أطبائه مطابقا لرأي الأطباء المتطوعين: “الوضع خطير ولا يحتمل الانتظار”. تقترب سيارة الإسعاف من باب البناء ويحمل حمادي الذي بات عاجزا عن الكلام إليها. تصرّ سلوى على أن تكون بجواره وهو امتياز سمحت لها به الطبيبة التي تشرف على الوحدة الطبية المتنقلة. يبدو أنها علمت أهميته لها ولحمادي ورأت فيه أمرا أحبّته.

بعدها ومن دون تضييع وقت ولا اهتمام بحديث العواطف الذي كان القضاة يريدون إشراكهما فيه، يعود الطبيبان إلى غرفة الاستقبال لفحص بقية المضربين. فيتم إعلامهما أنّ رمزي نائم هناك فيما يطلب من طاهر مغادرة الساحة للالتحاق بهما. وهذه المرة، دام مكوثهما طويلا ليخرجا بعده ويعلنا “رمزي وضعه مقلق. سنطلب بعض التحاليل السريعة قبل أن نعلن الرأي الطبّي في الموضوع”.

ساعات بعد ذلك، ترد نتيجة التحاليل. فيؤكد الأطباء بعد استشارة زملاء لهم من ذوي الاختصاص “رمزي ليس بخير: وضعه قد يتطوّر بشكل سريع خلال أيام قليلة في اتجاه لا رجوع منه. كليتاه تأثرتا بإضرابه. عليه الدخول في مرحلة إعادة تأهيل تحت إشراف طبي. هذا الموقف الطبي وله القرار”. يبدو رمزي عاجزا عن اتخاذ موقف ف تتكلم روضة قرافي فيما يشبه نطقا بحكم مبرم: “أنتم ناضلتم بصدق ورفعتم الصوت عاليا. لقد خدمتم القضية بإخلاص ونحن زملاؤك نرجو منك الآن أن ترفع إضرابك. عليك لأجلنا أن تعلن ذلك وأن تقبل برأي أطبائك”. وهنا ودون أدنى نقاش تنهمر دموع رمزي وهو يقول: “وهل يمكن أن اذهب لزيارة حمادي؟ هل هو بخير؟ إن سمحتم لي بذلك، الليلة سأرفع إضرابي”. وهو ما كان.


[1]  من أبرز أطباء المجموعة سمير عبد المؤمن  وماهر العباسي و خليل الزاوية وإيهاب الغرياني و ذاكر الهيذب وفتحي التوزري و الطاهر المستيري وفوزي الشرفي وجوهر مزيد و أحلام بالحاج 

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني