“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (4): قضية عادلة تجمع من تفرّقوا


2022-09-05    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (4): قضية عادلة تجمع من تفرّقوا

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع. ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: مذكّرات مرافق”، والذي سبق نشر الحلقات الأولى والثانية  والثالثة منها، تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيئ على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة (المحرر).

“أمقت هذا المكان وأكره القدوم إليه. لكن أهمية القضية وعدالتها يرغمانني على ذلك. أتعلم نادي المحامين؟ زرته مرة واحدة مضطرة. يومها من كثرة ارتباكي، أضعت حافظة أوراقي وفيها مبلغ مالي مهم. كان أجرة أعطاني إياها حريف. ناديكم (أي نادي القضاة) دار محمد مزالي ونادينا (أي نادي المحامين) منزل ابنه مختار[1]. لقد استولت الدولة عليهما من دون وجه حقّ ولأسباب سياسية. وبعد محاكمة جائرة، منحتهما لرموز العدالة ليكون لطغيانها واعتدائها طعم أكثر مرارة”. وقبل إعطائه مهلة للجواب، سارعت إلى سؤال “المرافق” الذي كان في استقبالها: “أشعر بالخجل. نحن قصّرنا في دعم المضربين وإسنادهم. انشغلنا عنهم. كيف حالهم؟ هل زارهم الأطباء البارحة؟ هل يحتاجون شيئا؟ يجب أن نشتغل على إيصال صوتهم”. هذه الزائرة هي بشرى بالحاج حميدة[2]، ذات الشخصية المركبة، صاحبة البسمة العريضة التي تكاد تتحوّل إلى ضحكة دائمة وفي باطنها شخصية تجمع بين قوة السياسي وقدرته على إدارة الأمور والأزمات ومبدئية الحقوقي وحنان امرأة تقول أنها وهبت حياتها لتونس. وهي لمن لا يعلم كان لها ولصديقاتها النسويات دورٌ في التصدي لمذبحة القضاة وفي صناعة إشعاع إضراب الجوع.

النسويات، نجمات النادي

الناشطات النسويات كنّ دوما محل ترحاب خاص من حمادي الرحماني وهو لا يفوّت مناسبة ليحدّث من كان معه من الزوار والزملاء عنهن: “لقد كان للنسويّات دور كبير في كسر موجة التشهير التي أعقبتْ الإعفاءات، والتي تخلّلها الكثير من التنمّر على الحياة الخاصة لعدد من القاضيات على شبكات التواصل الاجتماعي. المظاهرة التي دعت لها النسويات وضمّت كل أطيافهن يوم 06-06-2022 أي بعد خمسة أيام فقط من المذبحة كانت حدثا فاصلا. (هزّ يديك على القضاء.. ضمّ فمك على النساء) شعارٌ رفع يومها وغيّر كثيرا في الخطاب حول القضاء”. يذكر حمادي ذلك قبل أن يستدرك موضحا: “أختلف معهن في كثير من المسائل لقناعاتي المحافظة المتمايزة عنهن لكني احترمهن كثيرا. هن مناضلات ينتصرن دوما للحق ولتونس وهذا هو الأهم”. موقفٌ كان يشي بأنّ لقاءات النادي القضاة ومن قبله ردّ الفعل على الإعفاءات كانا سببا في جمع أطياف لم تلتقِ من قبل وكان لكلّ منها حكم مسبق على الآخر نجح التعارف فيما بينها على تجاوزه.

النادي ساحةٌ للقاء

مرتين في الأسبوع تقريبا، عند الصباح، وبعد فتح المرافق لباب النادي بوقت وجيز، يحضر الأستاذ بشير الصيد العميد[3] السابق للمحامين وأحد أهم الزعماء التاريخيين للقوميين العرب بتونس ليطمئن على المضربين. لم يمنعه تقدّم سنه من ذلك. وهو كلما جلس إليهم يذكرهم بأنّه من مؤسسي جمعية القضاة الشبان وينتمي عاطفيا للقضاء بما يجعله ملزما بدعمه أكثر من غيره: “في سنة 1973، خضنا أول إضراب في تاريخ القضاء التونسي. وأنتم الآن تخوضون أول إضراب جوع. هي مسيرة مستمرّة من أجل بناء قضاء مستقل”. كان الجميع يحترمون مواقفه المبدئية التي أبعدتْه عن أصدقائه السياسيين خصوصا منهم العروبيين والذين اختارت الأغلبية منهم أن تصطفّ مع الرئيس سعيّد.

كل يوم ومع بدايات الليل، يحضر عميد المحامين الأسبق أو عميد الثورة[4] كما يحلو لمحبيه مناداته عبد الرزاق الكيلاني ليجالس القضاة ويحثّهم على الصمود. كان صلبًا في مواقفه مساندا للقضية من دون تحفّظ. يردّد في كل مكان يحضر فيه: “معركة القضاء معركة تونس. نحن ناضلنا طويلا من أجل قضاء مستقل ولا يجب أن نفرّط فيه إرضاء لشخص يريد أن يحكم البلاد بإرادة منفردة”. عدد من القضاة يتحرّجون من مواقفه السياسية المعلنة  المعارضة لإجراءات 25 جويلية 2021 وللرئيس قيس سعيد ولكنّه محل احترام من أغلبهم والأهمّ من ذلك أنه كان يحاول قدر جهده التعريف بالقضية والدفاع عنها و هو أمر كان من ثماره التي يعلمون  إصدار مجلس عمداء محاماة فرنسا بيان مساندة لهم بتاريخ 01-07-2022[5].

وفي غير ذلك ومع بداية الأسبوع الثاني من الإضراب، تحقّق وعد عياشي الهمامي بأنّ إضراب الجوع سينجح في اجتذاب تأييد واسع فور التأكد من جديته. فقد بات النادي مزارا للمساندين الذين يحضرون أفواجا في كل وقت ومن دون موعد. أمرٌ كشف أنّ التحرّك بدأ يحقّق أهدافه وإن تسبّب دفق الزيارات في إرهاق المضربين عن الطعام الذين طالبوا المرافق وغيره من زملائهم باتخاذ إجراءات تضمن حقّهم في القيلولة. وهو أمر تمّ تنفيذه ولم يكن محلّ ترحاب من بعض الزوار لكنه وجد تفهّما من غالبيتهم.

ومنذ أول أيام الإضراب، أسرّ أصدقاء من غير القضاة بأنّ بالإمكان أن يتحوّل إلى حدث أكبر في حال فتح المعنيون به الباب أمام زيارات السفراء وممثلي الدول الأجنبية والسياسيين. وقد برّر هؤلاء نصحهم بأنّ كثيرين يرغبون في زيارة النادي وأن الإعلام الذي يتجاهل بشكل كبير نضال القضاة سيهتمّ به في حال حضورهم. بمعزل عن المواقف من هذه النصيحة، فإنها غالبا ما كانت مثار نقاشات أثثت سهرات تحت التوتة.

حديث السياسة يطيل السهر

لم يثِر السؤال حول حضور السفراء جدلا ولا خلافا. فبمجرّد طرح المسألة، اتفق المتدخلون على رفضه من دون حاجة للغوص في تفاصيله. وقد صاغ رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي تفاصيل الموقف بقوله: “نحن قضاة نحترم سيادة دولتنا ونرفض التدخّل الأجنبي في شأننا الوطني. ولذا نرفض أن يكون إضرابنا مدخلا لغير ذلك”. وعاد ليوضح: “طبعا، لا يعني هذا أن نتنازل عن الآليات الدولية التي تنخرط فيها دولتنا ولا أن نعدل عن الاستفادة من الهياكل المهنية الدولية التي ننخرط فيها”.

في المقابل، انقسم القضاة المعنيون بشأن زيارات السياسيين إلى أغلبية وأقلية. كانت الأغلبية حاسمة في موقفها والذي أمكن تلخيصه على الشكل الآتي: “نحن نرحّب بكل المواقف الداعمة لاستقلالية القضاء التي تصدر في شكل بيانات أو مواقف لكننا نرفض أن نكون موضوع اصطفاف سياسي. نحتجّ على قرارات الرئيس التي مسّت باستقلالية القضاء لكننا لسنا معارضين له. نحن قضاة ولا يحقّ لنا أن نعبّر عن مواقف سياسية”. ومن أبرز أصحاب هذا الرأي، القاضية روضة قرافي (الرئيسة الشرفية  لجمعية القضاة التونسيين): “علينا الحذر. نحن موضع استهداف. هم – أي أعداء القضاء المستقل- يريدون حشرنا في زاوية الخلاف السياسي ليشقوا صفنا ويؤلّبوا الرأي العام ضدّنا. علينا الاعتذار عن قبول الزيارات. الخطأ مرفوض ويمس بقضيتنا العادلة”.

حاول حمادي والمرافق وقد كانا من ضمن الأقلية صاحبة الرأي المخالف مجادلة الغالبية في هذا الشأن: “نحن نحتاج دعم السياسيين. قضيتنا سياسية ولا معنى لحجب بعدها الحقيقي ذاك. نحن الآن ندافع عن قيم المجتمع الديموقراطي. القاضي ليس آلة تطبق القانون ليقول أنا غير مهتم بمحيطي السياسي. هل أن قاضي المجتمع الديموقراطي يقبل أن يتحوّل لقاضي السلطة؟ هذا السؤال الذي يطرح اليوم علينا ويجب أن نكون واعين به. فرنسا التي أخذنا عنها فكرة واجب التحفظ راجعت تشريعاتها في الموضوع هي اليوم تقرّ بكل الحقوق السياسية للقضاة. علينا أن نطوّر نظرتنا للموضوع”. حججٌ كان يستمع لها ويدور حولها كثير من النقاشات، من دون أن تؤدي إلى تغيير في القناعات. 

وإذ حسمت تحذيرات روضة في حينها الجدال لقوة الحجة، لكن هذا لم يمنع المرافق وحمادي تاليا من أن يواصلا حوارهما بعد خلو النادي من الزوار. ما معنى منع السياسيين من حق التضامن؟ من يأتون يوميا هنا هم بالضرورة أصحاب مواقف سياسية. لقد زارنا أبرز السياسيين. المنع لا معنى له ولا يتعلق إلا بمن اختاروا استئذاننا قبل الحضور. يتدخّل رمزي في نقاشهما ذي البعد الواحد ليقول: “اليوم فقط كان في هذا الصالون جنبا إلى جنب محامية معروفة بكونها تجمعية وهي تتحدث عن ذلك دوما وتتمسك بكونها تفتخر بانتمائها للدستوريين. وإلى جوارها كان يجلس زميلٌ لها من قيادات ائتلاف الكرامة يشاركها الإنصات لزائر يساري وآخر من الإسلاميين. هذا المكان جمعهم وكانوا خارجه متخاصمين”. حديث أعجب حمادي الذي رد بنبرة الواثق: “جمعتهم القضية العادلة”. كما يبدو أنه استفز طاهر الذي كان خارجا لتوه من غرفة الاستحمام. فتدخّل وهو يجفف شعره بما يحجب ملامح وجهه ويمنع تبيُّن إن كان جادا أم ساخرا: “ما داموا اجتمعوا حول القضاء، لمَ لا يكون ذلك منطلقا لحوارهم … حوار وطني برعاية قضائية. ما رأيكم؟” بعدها، يقول المرافق فيما يشبه الهمس لأصدقائه: “كنت أعرف أنهم يرفضون حضور السياسيين. لكن قبل ثلاثة أيام، اتّصل بي صديق ليعلمني بعزم حمة الهمامي وراضية النصراوي القيام بزيارة تضامن. رحّبتُ بذلك من دون تردّد وأنكرت في جوابي وجود رفض لحضور قادة الأحزاب السياسية. راضية رمز حقوقي كبير وحمّة مناضل محترم وكلاهما يشرّفنا حضوره”. وبعد ضحكة من تمرّد عن حسن نية على الأوامر، واصل المرافق حديثه ببعض حسرة: ” كنت سعيدا بذلك لكن علمت لاحقا أن حالة راضية تعكرت وتعذر عليها الحضور. فهي كما تعلمون مريضة ولكنها ورغم ذلك كانت ترغب في أن تكون معنا. كم هي متميزة”.

ليلتها، طال السهر. تذكّر المرافق أنه لم يأكل شيئا طيلة النهار سوى قطعة كعك صغيرة، بعدما لمح علبة بسكويت فوق الطاولة في غرفة الاستقبال على مقربة من حشية حمادي. هي تخصّ سارة ابنة زميلته أنيسة نسيتها هناك وهي ما يحتاج إليه. فكّر في التقدم نحوها لكنه عدل عن ذلك خجلا.    فهم لا يشعرون بالجوع. ذاك ما قاله طبيب زارهم قبل أيام. لكن هو ليس مضربا هو جائع ومن حقه ان يأكل بسكويت سارة. هواجس لازمته طويلا قبل أن يغلبه النوم وينسيه إرهاق يومه تساؤلاته بشأن حقه بالبسكويت وحق السياسيين بالتضامن مع القضاء.


[1]  محمد مزالي سياسي تونسي من بناة الدولة الوطنية. شغل خلال المدة الفاصلة بين سنة 1980 و1986 خطة وزير أول وكان يسمى حينها خليفة الرئيس بورقيبة  . أطاحت به صراعات القصر و فرضت عليه الفرار خارج تونس. تمت ملاحقته وابنه مختار بتهم فساد مالي رغم أنه لم يعرف عنه ذلك ولم يكن يملك غير مسكنه الكائن بجهة سكرة ، بعد صدور الاحكام التي نفذت في حق ابنه وتعذر تنفيذها في حقه في جانبها المتعلق بالعقوبة السجنية  عرض منزليهما للبيع لخلاص الخطايا المالية لكن لم يتقدم راغبون في الشراء. يشاع أن السلطة حينها توقعت أن يكون سبب العزوف عن المشاركة في البتة العمومية مرده موقف سياسي وقررت لذلك أن تمنح منزل الابن للمحامين ليكون ناديا لهم ومنزل الأب لجمعية القضاة ليكون ناديا لها وق استمر الامر كذلك حتى بعد عودة مزالي من المنفى الاختياري .

[2] محامية وناشطة سياسية من مؤسسي الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات في 1989 والتي ترأستها من 1994 إلى 1998 وهي عضوة سابقة في مجلس نواب الشعب، ترأست لجنة الحقوق والحريات الفردية التي كلفها الرئيس التونسي الراحل بصياغة تصور لفرض المساواة الكاملة بين الجنسين في التشريع التونسي. 

[3]  التحق في بداية مسيرته المهنية بالقضاء وساهم في تأسيس جمعية القضاة الشبان وقاد أول إضراب خاضه القضاة التونسيون. استقال من القضاء والتحق بالمحاماة ليكون واحدا من أهم المحامين المهتمين بالدفاع في قضايا الرأي و ولينتخب عضوا بالهيئة الوطنية للمحامين ومن بعدها عميدا للمحامين في دورتين من الزعماء التاريخيين للقوميين العرب بتونس.

[4]  يسمى كذلك لكونه كان عميد المحامين فترة الثورة التونسية وقاد حراك المحامين خلالها والذي كان من أسباب انتصارها، ترؤس جمعية المحامين الشبان. وكان عضوا بالهيئة الوطنية للمحامين قبل أن ينتخب عميدا لها. يعتبر من قادة الحراك المعارض لإجراءات 25 جويلية 2021 وتعرض جراء ذلك لمحاكمة عسكرية تمّ اعتقاله بمناسبتها قبل أن يفرج عنه للتضامن الحقوقي الوطني والدولي معه .

[5]  Résolution du conseil national des barreaux concernant la dissolution du conseil supérieur de la magistrature tunisien et la révocation collective de magistrats adopte par l’assemblée générale du 1 juillet2022

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني