“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (3): دور القضاة في إسناد حراك زملائِهم


2022-08-29    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (3): دور القضاة في إسناد حراك زملائِهم

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع. ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: مذكّرات مرافق”، والذي سبق نشر الحلقتين الأولى والثانية منها، تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيئ على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة (المحرر).

بعد أيامٍ من بدء إضراب الجوع، تلقّى مُرافق المُضربين اتّصالًا من قاضيّة لم يكن يعرفها من قبل قالت له أنّها تعيش في قابس وأنّ زوجها الذي يزور العاصمة حضر إلى المقرّ صباحًا ومعه حاجيات ومساهمة دعم ماليّ منها لزملائها المعفيين، لكنه وجد بابه الخارجي مغلقًا وهي لذلك تسأل متى يمكنه أن يأتي.

كان شابّا لم يتمّ الثلاثين من عمره. قال مباشرة بعد إلقاء التحية: “أنا أساند كلّ تحرّكاتكم ليس لأنّ زوجتي قاضية. أنا أحبّها لكن هذا لا يعني أنّي اتّفق معها في كلّ مواقفها. أنا رفضتُ إضرابكم عن العمل فترة الكورونا. اعتبرتُ ذلك تعسّفًا منكم يضرّ بالبلاد. هي كانت متحمّسةً حينها. الآن، الأمر مختلفٌ نحن متّفقان. أنتم تناضلون من أجل تونس. إذا انهار القضاء سنخسر حريتنا. معي مستلزماتٌ أرسلتْها زوجتي لكم وهذا الظرف طلبتْ منّي أن أسلّمه لك. هل تقبل منّي أن أساهم أنا أيضا ببعض الماء والعصائر. أكون سعيدًا بذلك. هل تقبلون مني؟ لست قاضيًا. أنا تاجر.” وإذ دعاه المرافق لتناول القهوة في النادي، اعتذر الشابّ عن ذلك: “عليّ أن أنطلق مباشرةً إلى قابس ولن أصل هناك إلا مع الساعات الأولى من الصباح. المسافة طويلة[1]. أتيت خصّيصا لزيارتكم. وكنت أفكر في أن أقضي ليلتي بالعاصمة عند أقاربي لأنتظر موعد لقائكم. لكن ما دمْتُ قد أوصلتُ لك الأمانة اليوم ونمتُ فترة القيلولة بما خلّصني من تعب الطريق فلا حاجة لذلك. هل تعلم سيّدي الرئيس أني من اقترح القيام بهذه الرحلة. ليس لي أيّ غرضٍ من ذلك سوى التّعبير عن احترامي للقضاء. زوجتي قالتْ لي: “هذا يفرحني لكنه يرهقك”، لكن أصرّيت على ذلك معتبرًا أنّه واجبي. هم يضحون بحياتهم لأجل تونس يجب أن نكون معهم. أنا أحبّ أن تكون زوجتي قاضية مستقلة. يجب أن تكون إلى جانب زملائها ولو طُردت من العمل. هي مضربةٌ عن العمل وملتزمةٌ بكلّ قرار”.

بعد ذلك، اتّجه الضيف باستيحاء ظاهر نحو الصندوق الخلفيّ لسيارته ليفرغ منه ما وضعتْ فيه زوجته من أغراض.

لم تكن هذه الصورة الوحيدة التي أبرزتْ تضامن القضاة (وعوائلهم) خلال فترة الإضراب، إذ أنّ النادي كان يعجّ كلّ مساءٍ بزوّاره من القضاة. كانُوا يحرصون على التواجد اليوميّ رغم التحذيرات التي كان بعض زملائهم ينقلونها لها “أنهم يراقبون مدخل النادي ويكتبون أرقام السيّارات التي تأتي كل يوم. الرئيس غاضب وسينتقم منهم حتمًا”. لقد كان حضورهم مقاومةً لثقافة الخوف وفعلًا فيه انتصار للقضية.

ممن عمّروا النادي، القاضية سندس التي أمضتْ كل أيام الاستعداد لحفل زفافها مع زملائها ولم تغبْ عنهم الا أيامًا معدودة قبله وبعده. ومنهم أيضًا منير القاضي الإداري الذي لم يكن قادرًا في اغلب الأحيان عن كبح دموعه وهو يصلّي طلبًا للرّحمة وكفّ الظلم عن القضاء والقضاة. وإيمان صاحبة الهاشتاغ الذي علّم القضاة أساليب نضال لم تكنْ لهم بها سابق معرفة: “أنقذوا قضاة تونس”.

هاشتاغ “أنقذوا قضاة تونس”

فور إطلاق هاشتاغ “أنقذوا قضاة تونس”، اكتسح شبكات التواصل الاجتماعي. 14 ألف مشاركة في وقت قصير وهو رقمٌ كبيرٌ في تونس. كل القضاة والحقوقيين والسياسيين ينشرونه في صفحاتهم. الاتّحاد العالمي للقضاة ينشره بصفحته الرسمية. السؤال عن هوية مطلقه تردّد كثيرًا قبل أن تجيب إيمان المزوغي: “أنا صاحبة الفكرة. لقد استوحيْتها من: “أنقذوا غزة”.

كانت من القاضيات الشابّات لم تتجاوز أقدميّتها في العمل الأربع سنوات. ورغم أنها تقطن بجهة رأس الجبل من ولاية بنزرت، فإنها كانت تصرّ على أن تكون بالنادي بشكل شبه يوميّ: “هناك كنت أشعر أني قاضية وأني قادرة على أن أكون مستقلّة. أنا التحقت بالقضاء في فترة الدولة الديموقراطية وأخاف كثيرًا أن أفتقد هذا المكسب. انخراطي في القضية دفعني لأن أقضيَ أغلب يوم خطبة أختي مع زملائي في مجلسهم الوطني. لم أشاركها فرحتها كما يجب لكنها تفهّمت حالتي. لم أكن قادرةً على التخلّف عن ذلك الموعد النضاليّ الذي سيبقى محفورًا في ذاكرتي”.  

بدتْ إيمان منسجة في ذلك مع الرئيس الشرفي لجمعيّة القضاة أحمد الرحموني أو “سيدي أحمد” كما يحلو للقضاة مناداته بالنظر إلى تاريخه في رئاسة الهيئة الشرعية لجمعية القضاة في زمن الاستبداد. وقد كان “سيدي أحمد” أوّل من نبّه إلى أهميّة أن يكون لإضراب الجوع إعلامه الخاصّ. وقد أنشأ لهذا الغرض صفحةً على الفايسبوك سمّاها الجوع ولا قضاء الخضوع. قبل الإضرابين عن العمل والطعام، كان الرحموني ابتعد بعض الشيء عن الشأن العامّ القضائيّ مكتفيًا بنشر بعض التدوينات على صفحته للتواصل الاجتماعي من وقت إلى آخر. لكنه وبمجرد بداية الاحتجاجات، عاد إلى الصفوف الأمامية في الاجتماعات العامة يشارك بالرأي ويدعو للتمسّك بالاستقلالية. وقد كان من الروّاد القارّين للنادي. وهو متى حضر، يتجمّع حوله القضاة طلبًا للمعلومة والتحليل. فالرجل كان على اتّصال بالقضاة السامّين من أعضاء المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، أو المجلس المُنصّب كما يسمّيه الجميع. وعليه، كان مطّلعًا على تطورّات لا يعلمها الآخرون. كما كان صاحب خبرةٍ في المعارك السياسيّة وله رأيٌ يسمع فيما يتمّ تداوله من مواضيع. مكانة الرجل في وسطه المهني وتقدّم سنّه نسبيًّا مقارنةً بغيره من زملائه الذين كان يتسامر معهم لم يكن يمنعه من أن يكون في أغلب وقته ممسكًا لهاتفه الجوال يلتقط الصور ويُسجّل الحوارات مع المضربين وزوّارهم. لم تحتجْ فكرته صناعة صورة الإضراب وتوثيق فعاليّاته معدّاتٍ خاصّةً ولا ذوي اختصاص. فقد كان يتكفّل بما هو مطلوب ويحرص على أن يطلب من المرافق أو ممّن يعلم أنهم مواظبون على الحضور أن يتكفّلوا بذلك وأن يرسلوا إليه المادة المصورة بهواتفهم بهدف نشرها: “التّصريحات لا يجب أن تتجاوز مدّتها أكثر من أربع دقائق. النشر يكون بمدد قصيرة أفضل. أرسلوا لي كلّ جديدٍ. مهمّ أن ننشّط صفحتنا. يجب أن يكون هناك يوميًا أخبار حول الإضراب”.

طيلة الأسبوع الأول من إضراب الجوع، كان المساندون الذين يزورون مقرّه من غير القضاة قلّة. لم يستغربْ الناشط الحقوقي والوزير السابق عياشي الهمامي ذلك، بل طمأن المرافق والمُضربين عن الطعام ومعهم القضاة المتواجدين في النادي: “النّاس ستأتي وستتزاحم إذا ما تأكّدت من كون إضرابكم جدّيًا وليس مجرد تصريحٍ إعلاميّ. اصمدُوا فأنتم في الطريق الصحيح”.


[1]  تبلغ المسافة بين تونس العاصمة وولاية قابس 400 كيلومتر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، سلطات إدارية ، قرارات قضائية ، قرارات إدارية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني