“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (7): نجاح مريم أو لنا من الفرح بعض نصيب


2022-09-26    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (7): نجاح مريم أو لنا من الفرح بعض نصيب

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع.

ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: مذكّرات مرافق”، والذي سبق نشر الحلقات الأولى والثانية  والثالثة والرابعة والخامسة  والسادسة  منها، تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيء على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة (المحرّر).

كان المرافق مستلقيا على حشيته يستعدّ لبداية يوم جديد حين وصله صوت حمادي: “لقد نجحت”. ينهض على عجل ويتجه صوب ركن القاعة حيث يقف المتكلم. وكذلك فعل كلّ من رمزي وطاهر. كانت السعادة بادية عليه وهو يحملق في هاتفه الجوال قبل أن يقول لهم: “هي إرسالية نتائج الباكالوريا وصلتني الآن. مريم ابنتي نجحت وبتفوق في باكالوريا علوم.  لم يكن الأمر سهلا. لقد اجتازت الامتحانات بعد إعفائي بأيام قليلة وهي تأثرت بذلك كثيرا. حمدلله على هذا الفرج”. يبادرون لتهنئته فيما هو منشغل عنهم باتصال هاتفي يحاول إجراءه لكن يجد صعوبة في ذلك بفعل الضغط الذي تشهده الشبكة في مثل تلك المناسبات. ليقول لهم بعد حين قصير: “دقيقة رجاء هاتف مريم يرن أخيرا”، قبل أن ينشغل عنهم مع من صنعت فرحته. “آلو مبروك حبيبتي كنت متأكد أنك ستنجحين… لا لا تقولي ذلك معدلك ممتاز. سيمكنك من تحصيل توجيه جامعي جيد. أين أمك؟ آلو مبروك سلوى هو نجاح لك. لا أقدر. لا أقدر. أنتظركم مساء”.

“الاستعانة بصديق” لرسم حدود الابتهاج

بعد إنهاء الاتصال، يعود حمادي إلى رفاقه ليحدثهم بحبّ عن مريم وعن حسرة لديها  لكونها لم تتوصّل لعلامات تمكّنها من الالتحاق بكلية الطب. إذ ذاك، أسكته المرافق بقوله: “هيا نذهب. لمَ الانتظار؟ يجب أن نخرج بسرعة. مريم تنتظرك لتكتمل فرحتها في هذا اليوم”. يوجه له نظرة تائهة قبل أن يرد: “من يذهب معك وإلى أين يا رجل؟ نحن في إضراب جوع ومن شروطه أن نعتكف هنا. لن اخرج من هذا النادي لأي سبب كان. هل تريد أن تفسد تحرّكنا أم ماذا؟” 

يجيب المرافق في إلحاح فيه بعض الشدّة: “مريم وسلوى ترغبان في أن تكون معهما وعليك أن تستجيب لإرادتهما ولا تفسد فرحتهما. بأيّ حقّ تفعل ذلك؟ حمادي هذا تعسّف لا يقبل بتاتا”. لم يجد المرافق في ذلك حرجا إذ أن صداقتهما تعود لأكثر من ربع قرن بما يجيز له أن يعاتبه وأن يضغط عليه. وكان من ثمار فعله عرض خاص كان في نظر من قدمه تنازلا كبيرا: “سلوى طلبت ذلك أيضا وألحّت فيه. أنا وأنت لا نفهم في إضرابات الجوع: لنستشر عياشي الهمامي. أنا أقبل حكمه: هو من سيدلّنا لما فيه الصواب”. فيضحك كل من في المكان وأولهم المتحدث من فكرة الاستعانة بصديق في اتخاذ القرار والتي ذكرتهم ببرنامج تلفزي للألعاب “من يربح المليون؟”. وفورا ومن دون أي إبطاء، وتماما كما يحصل في البرنامج التلفزي، باشر المرافق اتصالاته. 

–       أهلا صباح النور، كيف حالك هل أزعجك بالاتصال في هذا الوقت المبكر؟

–       لا أبدا كيف حالك صديقي؟ وكيف حالك المضربين؟

–       هم بخير. ابنة حمادي نجحت في الباكالوريا. يجب ان يذهب لمنزله ليشاركها فرحتها. هو متردد و قال أنه لن يذهب إلا إذا أشرت عليه أنت بذلك.

–       طبعا.

–       ما معنى طبعا؟ لم أفهم.

–       طبعا يجب أن يذهب. هل يعقل ألا يذهب؟ مرّر لي حمادي لتهنئته.

يسلّم المرافق هاتفه لحمادي بعد حذف خاصية تشغيل مضخم الصوت. لقد كان سعيدا بنتيجة الاستشارة وكذلك حمادي فيما ظهر له.

دقائق قليلة بعد ذلك ومن دون أي تحضيرات، يمتطيان السيارة  في اتجاه  المنزل. وقد كان الوقت الذي قضياه في الطريق والذي ناهز العشرين دقيقة مناسبة جديدة لحديث عن رسوم مريم المبدعة وعن وعيها الحقوقي والسياسي الذي يفسر حضورها في كل التظاهرات المدافعة عن الديمقراطية. كما كان فرصة للبوح بمشاغل الحياة التي تؤرق ومنها ترتيب الحياة ما بعد المذبحة: “قبل الإعفاءات بأشهر قليلة، بعت شقتي واشتريت منزلي الجديد. أنا الآن مطالب بخلاص قسط قرض شهري ثقيل لا أعلم كيف سأفي بهذا الالتزام… لكن من المؤكد أن الله سيجد لي في ضائقتي مخرجا”.

يعجز المرافق عن التفاعل ويكون الوصول إلى مسكن صديقه سببا في رفع حرج ذلك عنه. فبعده، غاب عن مشهد كان فيه موجودا لينحصر الاهتمام بعناق مريم الطويل لوالدها وفرحة سلوى وابنهما عزيز بزائر تمنّيا قدومه وحديثهم جميعا عن تفاصيل حياة عائلة أرهقها النضال. كانت لحظة لقاء أسري أفسدها قرار حمادي بالعودة إلى معقله: “يجب أن نذهب الآن. من الأفضل ألا نغيب عن النادي لمدة أطول”.

تغيب البسمة عن جميع من بالمكان ليحضر حزن مكبوت يستشعره المرافق ولا يجد مخرجا له إلا القول: “مريم، أصدقاء والدك سيحتفلون اليوم بنجاحك في النادي. سيكون حدثا جميلا ننتظرك آخر العشية هناك”، قبل أن  يسرع الخطى في اتجاه السيارة ليترك لمن خلفه  فرصة وادع ظن أنهم يحتاجونه وليتصل بأنيسة لحاجته إليها للإعداد لما وعد للتوّ به.

–       أهلا أنيسة، كيف حال البنات؟

–       أهلا بخير وأنت؟

–       بخير. ابنة حمادي نجحت في الباكالوريا أنا الآن أمام منزله.

–       نعم قرأت على الفايسبوك الخبر وسأتّصل بحمادي لتهنئته.

–       أنيسة ما أريده منك أهم من ذلك. هل يمكن أن ننظم حفلة صغيرة مساء؟

–       نعم يمكننا.  

–       هل أعول عليك في هذا. نحن الآن منتصف النهار هل يكفينا الوقت؟

–       ثق بي يمكننا ذلك سنحضّر جميعا لنفرح. نحن نحتاج فرحة: كان صيفا كئيبا.

يسأله حمادي في طريق العودة: “ما تخطط له؟”. يجيبه من دون تفكير: “لاشيء”. كان صادقا في قوله فهو لم يكن يعلم ما سيكون. لقد اكتفى بإطلاق فكرة غير واضح تصوره لها وترك لزملائه مسؤولية توضيحه كما يرونه مناسبا.

في النادي حفلة للرفاق

إلى حدود الساعة الرابعة بعد الظهر، لم يكن هناك أي أثر يدلّ على استعدادات للاحتفال الموعود. كل شيء في وضعه المعتاد. ينتاب القلق المرافق ولا يغادره إلا بحضور أنيسة وطلبها منه وكل الموجودين معه باستثناء المضربين ترتيب مكان الحفلة: “المغني الملتزم ياسر الجرادي يساند تحركنا وقد قرر أن يحيي حفلة اليوم تضامنا معنا. الزملاء في الطريق. لقد رتّبنا أمر الحلويات والعصائر. مريم وفّرت لنا فرصة لنفرح. يجب أن نستغلها من حقنا أن نفرح”.

حوالي الساعة السابعة مساء، حضرت ضيفة الشرف مريم للنادي صحبة والدتها وشقيقها وأفراد من عائلة والديها. استقبلتها زميلات والدها بالزغاريد، زغاريد بنجاح بدا بمثابة انتصار على قرارات الإعفاء، وتضامن مع والدها في خضم إضرابه. حضر للحفل أكثر من خمسين قاضيا وتابع فعالياتها من خلال الفايسبوك عدد أكبر منهم بكثير. واستذكر المغني الجرادي أيام الثورة سنة 2011 من خلال إعادة إنشاد الأغاني التي كتبها آنذاك وتمحورت حول قوة الإرادة في قهر الظلم والاستبداد.

كان المرافق واقفا في مكان منزوٍ قليلا يتابع الحفلة عن بعد حينما اقترب منه حمادي ومعه سلوى ومريم. “أريدك أن تشاركني في نصيحتها”، قال حمادي، “معدّلها يمكّنها من  الالتحاق بكليات عديدة مرموقة في اختصاصات علمية منها الهندسة وربما طبّ الأسنان. هي ترفض ذلك وتصرّ على كونها تريد أن تتوجه إلى شعبة الحقوق. هذا لن يضمن لها مستقبلا: المسائل القانونية والحقوقية يمكن أن تكون من اهتماماتها مستقبلا لكن من الأفضل ألا يختزل فيها مستقبلها المهني”. يبتسم المرافق مخاطبا مريم: “أنت لا تبحثين عن تخصّص معرفي. أنت ترغبين أن تكوني مثله. هل لك القدرة على تحمل طريقه الصعب؟”.

تضحك سلوى لتجيب في خطاب موجه لابنتها: “هو طريق صعب عليك وعلى من سيشاركك الحياة  فاحذري”. وقد عكس حديثها هذا ثقل العبء الذي نتج عن نضال زوجها القضائي قبل الثورة ومن بعدها. إذ ذاك، تجيب مريم في مجاملة ظاهرة لأمها: “أنتما متشابهان ومتكاملان. أنا أكون مثله يعني أن أكون مثلك أيضا”. كان واضحا إذ ذاك أن مريم قررت تغيير مسارها الدراسي وأن صورة حمادي التي أراد صانع الإعفاءات ترذيلها  تحوّلت إلى مثل أعلى سيتبعه كثيرون منهم ابنته وقضاة احتفلوا بها تعبيرا عن احترامهم له. هذا ما قاله المرافق لذاته قبلما ينتهي الحديث بدعوة مريم إلى التفكير مجددا وبعقلانية بعيدا عن العواطف.

حفلة لا تحجب الحديث عن الظلم وآثاره

بعدئذ، التحق المرافق بقضاة تجمعوا تحت التوتة. هناك كان فضاءٌ لحديث عن الإعفاءات بمنظار من ذاق مرارتها وعلم أن ظلمها يتجاوز القضاة ليشمل أسرهم.

كان أكرم أول من فتح باب هذا النقاش بقوله: “لا زلت أذكر تلك الأيام بكل تفاصيلها المؤلمة. لقد تمّ إعفائي ضمن قائمة 81 سنة 2013[1]. قيل حينها إنها حملة تطهير للقضاء فوصمت وزملائي بالفساد من دون أن نؤاخذ أو نساءل. وكان من أكثر ما آلمنا أن القضاة لم يدافعوا عنا. أنا أغبط زملائي على تعاطفكم معهم ويؤلمني أني لم أجد ذلك منكم. لقد تركنا لوحدنا فتعذبنا كثيرا”.

يرد عمر وكان من أنصار النقابة: “نحن خضنا إضرابا دفاعا عنكم. الجمعية ربما هي من تقصد بالقول. أما نحن فلا. هم كانوا ينادون بالتطهير ويلوّحون بالقوائم”. فيجيب حسن وهو من قيادات الجمعية: “غير صحيح. نحن في جمعية القضاة كنا دوما ضد الإعفاءات. وكان موقفنا في هذا ثابتا من أول مرة استعملت فيه. أذكر أننا أصدرنا بيانا في هذا سنة 2012. للتاريخ، نحن حاولنا إرساء ثقافة المحاسبة. ولو تمت المحاسبة ربما لم نكن لنقع في مثل هذا المطبّ”. لا يبدي أكرم اهتماما كبيرا بما سمع ويعود ليقول: “غير صحيح. الجميع تركنا لمصيرنا. الإضراب كان هدفه منع إعفاءات جديدة فيما قيل أما البيانات فلم تكن لتغير شيئا من الواقع  الجميع أضر بنا”.

علتْ نبرة الخطاب وتحميل المسؤوليات بما ينذر بعودةٍ لصراع الهياكل القضائية. ولكن تدخّل سمير، وهو من المعفيين، عن ابنه الذي يدرس بالمرحلة الابتدائية عاد ليُسقط الجميع في تضامن عنوانه تقاسم الشعور بالظلم: “معلمة ابني سألته البارحة عن سبب عزل الرئيس لي ضمن قائمة القضاة الفاسدين. لقد اغتاظ من ذلك وبكى طويلا طلب مني نقله من مدرسته. لا أعلم ما أفعل: هو متأثر. اتّصلت أمه بالمعلمة والمدير وقد اعتذرا لها. لكن ما فائدة ذلك؟ لا أرى لي ولا لإبني ذنبا فيما يلحقنا من قهر”.

بعد انتهاء السهرة، وإذ خلا المرافق لركن نومه بالنادي، حاول أن يطرد صورة ولد صغير سكنه الحزن بأن استحضر فرحة مريم وحديثها له عن رغبتها في أن تلتحق بكليّة الحقوق  لتكون كحمادي الرجل الذي تفتخر به. فينشغل لوقت قصير بالصورة الجميلة قبل أن يتذكر أن والدة زميله سامي ماتت حزنا تبعا لإعفائه من دون ذنب غير أنه فصل في ملف بغير ما يريد حاكم البلاد. هل يشعر هذا الحاكم بالظلم الذي تسبّب به بجرة قلم؟ هل يشعر بالقهر الذي عاشته والدة سامي وتسبب بوفاتها؟ هل يشعر بقهر ابن سمير وما قد يلحقه من أثر نفسي قد يواكبه كل حياته؟ كم هي مرهقة ليالي النادي. كلها أرق وهواجس. هل هو الوعي أو لعنة مكان سكن الظلم جدرانه؟ هل هي محنة ستمضي أم أنه خيار حكم سيستمر؟ أسئلة تراكمت قبل نوم وصل مع ساعات الفجر الأولى ليكون سبيل الخلاص منها.


[1]  حول إعفاءات 2012 و  إعفاءات  2013 والمواقف منها يراجع “القضاء التونسي خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي: نحت الجسد الحي “ الصفحة 39 وما بعدها

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني