“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (6): زيارات هامّة تمهّد لرفع الإضراب عن العمل


2022-09-19    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (6): زيارات هامّة تمهّد لرفع الإضراب عن العمل
الطبوبي في زيارة تضامنية مع القضاة المضربين عن الطعام

تبعاً للقرارات الصادرة عن المحكمة الإدارية بوقف تنفيذ قرارات إعفاء 49 قاضياً، باشرتْ المفكرة القانونية التي لا تخفي تأييدها الكامل لهم في نضالهم ذاك نشر سلسلةٍ من النّصوص توثّق من الداخل إحدى ملاحم القضاء، وهي ملحمة إضراب الجوع. ويهمّ المفكّرة في هذا الإطار أن توضح أنّ سلسلة “الجوع ولا قضاء الخضوع: مذكّرات مرافق”، والذي سبق نشر الحلقات الأولى والثانية  والثالثة والرابعة والخامسة منها، تحاول أن توثّق وقائع من داخل إضراب الجوع، بما يضيء على الجوانب الإنسانية لمجتمع القضاة والتي يجدر التوقّف عندها لفهمٍ أفضل وأعمق للقضاء بعيدًا عن الآراء المتسرّعة أو المسبقة )المحرر(.

استيقظ يومها المرافق مع ساعات الصباح الأولى.حاول تمضية وقته في جولة بالنادي بعيدا عن أصدقائه المضربين خشية إيقاظهم مبكرا في يوم طويل ومرهق ينتظرهم. كان فيما رأى كلّ شيء مرتّبابشكل جيّد.شعارات الإضراب التي علّقت قبل يوم ومعها أعلام تونس أضفت جمالية على المكان. أمر ذكّره  بقول أنس وهو يشارك زملاءه في عملهم ذاك:”كل صورة تلتقط أو مشهد يُذاع من هنا يجب أن تزيّنه رايتنا الوطنية التي تؤكّد أن نضالنا هدفه حماية الوطن. وعلينا أن نحرص على أن يتضمّن شعارا من شعارات حراكنا. زيارة وفد مهم من الشخصيات الوطنية لنادينا سيعرّف بقضيتنا وهي فرصة لنا علينا حسن استغلالها إعلاميا”.

وفي غفلة منه، يتفطّن المرافق لرمزي يجذبه من يده ويتحدّث همسا كمن يريد الإفصاح عن سرّ: “لا أفهم ما هدف هذه الزيارة لست مطمئنا”. يردّ المرافق: “هل من إشكال صديقي؟ سبق وتوافقنا جميعا في موضوعها والهدف منها. لمَ التخوّف؟هي زيارة مساندة”. يجيب رمزي بنبرة تعكس توترا: “أخشى أن ينتهي يومنا بوعود دعم تبرر تخلّينا عن قضيتنا وينساها من سيطلقها بمجرد بداية عطلته الصيفية..أريد أن أخوض معركتي دفاعا عن شرفي وحقي.هل تفهمني؟ أكره الذل وأمقت الظلم.. أنا لا أثق في السياسيين لهم حساباتهم نحن لا نفهمها ولسنا ضمنها”. يحاول المرافق أن يتمالك مشاعره ويحجب دموعا تكاد تنفلت وهو يقول لمحادثه:”أرجوك لا تبكِ…”.ثم يتصنّع بسمة قبل أن يتمتم: “سيحضر بعد ساعات قليلة إلى هذا المكان وخصّيصا للقائكم وللتعبير عن احترامهم لكم ومنهم سهير بلحسن الرئيسة السابقة للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، محمد ياسين الجلاصي رئيس نقابة الصحافيين، رامي الصالحي رئيس الشبكة الأورو متوسطية، عبد الرحمان الهذيلي رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وآخرون من المناضلين والشخصيات الوطنية. البارحة، أكّدت لي ذلك في اتصال هاتفي معها نائلة الزغلامي. هل كنت يوما تتخيل حدثا مثل هذا؟ يجب أن تكون فخورا بنفسك. فهؤلاء من الشخصيات المحترمة التي لا تجتمع إلا لحدث وطني هام”. ينسحب رمزي في اتجاه دورة المياه وهو يقول: “يعجبني فيك تفاؤلك .. لست مطمئنا”. فيتبعه المرافق بنظره قبل أن يصله صوت صديقه فاكر مجدوب الذي تجاوز مدخل النادي.

  • أتيت وحدك من نابل؟
  • لا توفيق صويدي معي.هو الآن بالمقهى المجاور يشتري لنا كوبي قهوة لقد حرصنا على الوصول باكرا فلم نجد وقتا لتناول فطورنا. أين حمادي والزملاء؟
  • رمزي بصدد الاستحمام. حمادي وطاهر نائمان.أريد سؤالك:”هل صحيح أنّك خضعت لبحث في التفقدية على خلفية مشاركتك في الإضراب ومساهمتك في إنجاحه بمحاكم نابل؟”
  • نعم صديقي، أتعرّض لهرسلة كبرى أنا وعدد من الزملاء.لكن لا يهمّ: نحن نعلم أيّ ثمن علينا أن ندفعه كمقابل لمعركة الشرف التي نخوضها ومستعدون لذلك. أنا وتوفيق سنقضي الليلة معكم ولدينا كثير من الوقت للحديث في هذا الموضوع.ما يهمّ الآن هي الزيارة: ما هو مطلوب مني؟
  • المطلوب أن تتصل بتوفيق لتطلب كوبا من القهوة لي أيضا فيما عدا ذلك كل شيء على ما يرام..علينا أن ننتظر الضيوف وننسّق جهودنا في خدمتهم متى وصلوا..أنت وتوفيق من المهمّ أن تديرا هذه العملية بنجاح.

يقول المرافق قبل أن يمضي وزميله لتحيّة زملاء آخرين حضروا منهم أحمد الرحموني الذي كانت كاميرا هاتفه الجوال تتقدمه ولا تغفل عن تسجيل التفاصيل.

حوالي الساعة التاسعة صباحا، كان النادي يعجّ بضيوفه. كثيرٌ منهم لم يدخله سابقا ويحاول على استحياء استكشاف محلّ كان يسمع عنه كثيرا في فترة شبابه.”قيل لي أنه في هذا المنزل اتّخذ قرار تجنيدنا القسري برجيم معتوق[1]. لست متأكدا من ذلك، لكن أعلم جيدا أن مزالي (وزير أول راحل) كان يعقد أهم اجتماعاته في منزله هذا. هو ليس فخما كما كنت أعتقد رحم الله سي محمد كان مثقفا. اختلفنا معه لكن لا ننكر أبدا وطنيته”. هذا ما قاله أحد الزوار للمرافق وهم يتجوّلون معا في غرف النادي الذي كان سابقا منزلا لمحمد مزالي.

ساعة فقط بعد ذلك وفي الموعد المحدد للزيارة دون تقديم أو تأخير، ينزل الطبوبي من سيارته ويتّجه ومستقبلوه وهم من القضاة وضيوف النادي إلى القاعة الكبرى ليجلس وسط الصالون وعلى مقربة منه المضربون عن الطعام ورئيس جمعية القضاة أنس الحمادي وغير بعيد عنهم رؤساء جمعيات وناشطون حقوقيون من مختلف الأجيال كل واحد منهم كان له بصمة في تاريخ تونس بنضاله من اجل إنهاء الاستبداد أو في سبيل تحقيق البناء الديمقراطي، لتنطلق فعاليات الزيارة الحدث وسط حضور مكثّف للإعلام الذي وثّقها في كل تفاصيلها والتي كان أهمّ ما فيها حديث الضيف وكلام أهل النادي.

“لقد أتينا اليوم في وفد مكوّن من شخصيات وطنية اختارتني للحديث باسمها لنحيي صمود القضاة في دفاعهم عن استقلالية القضاء ونحييكم لأنكم تدافعون على تونس لا عن القضاء. نحن نطلب الإصلاح ولا ندافع عن المذنبين. لا نريد  لصورة القضاء أن تضرب في عمق المجتمع من خلال ادّعاء تعطيل مرفق القضاء، لذا نطلب منكم رفع إضرابكم عن العمل وسندافع على قضيتكم. وللسادة القضاة المضربين عن الطعام، نقول: لا نريد أن يلحقكم أيّ سوء ولأن العيد على الأبواب ولأجل عائلاتكم، فنحن نطلب منكم رفع إضرابكم أيضا. شخصيا، عمري 62 سنة لم أقف يوما أمام قاض لكني أحترم القضاء… غير معقول أن تحاكم الناس بتقارير وبما ينشر في الفايسبوك… هذا غير مقبول البلد بلدنا ونحن أصحاب حقّ فيه. السيد رئيس الجمهورية في يوم من الأيام ستعود مواطنا وقد تحتاج إلى قضاء مستقلّ لا قضاء تعليمات.. نحن في الاتحاد ندعمكم ودليلنا على ذلك أنّا كنا خلف المواقف المساندة التي صدرت لفائدتكم عن السيزل واتحاد النقابات الأوروبية[2]… أكيد نحن مع الإصلاح ونرفض الدفاع عن الفاسدين ولكننا نرفض ثقافة الكره والبغض وتصفية الحسابات. وندعو لمحاسبة باعتماد الملفات”.

كذلك تحدّث الطبوبي معلنا افتتاح الجانب الرسمي من اللقاء قبل أن يحيل الكلمة لأنس الحمادي الذي أجاب: “نشكر لكم خطوتكم ونعي جيدا الحاجة لتقييم التحرّك الاحتجاجي. ونتعهّد لكم بالنظر جدّيا في الأمر صلب تنسيقية القضاة”.

وفيما بدا جلسة ودية أعقبت ذلك، قدّم أنس لضيوفه مجموعة من زملائه المعفيين مفسحا المجال لكلّ  منهم ليتناول ما يراه سببا لأذى ألمّ به. وكان منهم حمادي الرحماني الذي قال: “قبل الثورة وخلال الحقبة الاستبدادية، رفضت الانقلاب على المكتب الشرعي لجمعية القضاة والتدخل في القضاء وتمسكت بالدفاع عن حق الجميع في قضاء مستقبل. تمّ التنكيل بي من أجل ذلك بنقل عقابية ولكني زدت إصرارا على المضي قدما. بعد الثورة، لم أبحث عن الامتيازات ولا المناصب والتزمت بالدفاع عن القضاء الذي أعتقد فيه وعن الديمقراطية التي دونها لا يمكن أن يتحقق ذلك. والآن أنا معفي بتهمة التعبير عن مواقفي، لم أتخيل أن يحصل هذا.. محاسبتي على مواقفي عار كبير لا يمحوه إلا مزيد من النضال”.

إذ ذاك، توجّه الطبوبي إليه مناشدا إياه: “نلتمس منكم رفع إضراب الجوع”.

ليردّ الأخير: “بسبب استمرار الظلم المسلط علينا وعلى السلطة القضائية، سنستمرّ في هذه المعركة بكل الطرق. حتى الآن، نحن في إضراب جوع. سنفكّر في هذه الدعوة بجدّية وسنتدارس مع زملائنا ومع الأوساط القضائية. فقط يؤسفني أن يُطلب دائما من الضحية أن تتنازل”. قبل أن يصمت ليستعيد أنفاسه لثوانٍ قليلة عاد بها للقول بنبرة فيها كثير من التأثر وتؤشّر إلى الإجهاد نال من جسده بعد قرابة عشرة أيام من الإضراب عن الطعام: “السيد رئيس الجمهورية، لا حراك ولا كلمة ولا تفاعل ولا إشارة ولا حتى اعتراف بالخطأ… رئيس الجمهورية أخطأ خطأ كبيرا بإصدار المرسوم عدد 35 وأعتقد أن الحل المشرف له وللقضاء وللبلاد ولسمعتها هو التراجع عنه وإلغاؤه، وهذا لا ينقص من قدره شيئا … نحن سنواصل العمل من أجل إلغاء المرسوم عدد 35، هذا هو بيت القصيد “.

فيحرج قليلا ضيفه الذي بما له من خبرة في إدارة الجلسات يخفي كل موقف له مما سمع، ليتكلم عن احترام القضاء وحاجة البلاد لقضاء مستقلّ ولاتحاد شغل يدافع عن الدولة وكل مؤسساتها. ويطلب فيما يشبه إعلانا منه لنهاية الزيارة التقاط صورة جماعية للوفد والقضاة توثّق ما قال أنه لحظة تاريخية. هنا انتبه المرافق وقضاة وعدد من الضيوف المتابعين لغياب أعضاء تنسيقية القضاة[3] أي ممثلي هياكل القضاة، وتهامسوا فيما بينهم في الموضوع في جلسات  الهامش التي جمعتهم وكانت في أغلب وقتها منفصلة عن حديث الصالون وتتعلق بواقع سياسي يُجمع كل من حضر على كونه لا يطمئن.

لكن انطلاق الزيارة الثانية التي كانت تخصّ عمداء المحامين السابقين اجّل السؤال. فكما خططت لذلك بشرى بالحاج حميدة[4]، بمجرد نهاية زيارة وفد الاتحاد والمجتمع المدني حلّ بمقر النادي عمداء المحامين السابقين، بشير الصيد وعبد الرزاق الكيلاني وعامر المحرزي وشوقي الطبيب في زيارة مساندة لها ذات هدف التي سبقتها. لقد كان لقاؤهم خاليا من كلّ مظاهر الرسميات بالنظر للمعرفة السابقة والعلاقات الذاتيّة بين العديد من العمداء ومن كانوا في استقبالهم. وعليه، مضت الحوارات إلى تفاصيل الشخصي والمهني وكثير من استرجاع ذكريات الماضي بما فيه من خصومات قطاعية وتكاتف في محطات نضالية سابقة. وقد انتهى للقاء بكلمات موجزة توجّه بها العمداء للقضاة مساندة لنضالهم، مع دعوتهم لرفع الإضراب وصور التقطها القضاة لتوثق وحدة الأسرة القضائية التي شعروا بها في حضرة رموز المحاماة.

تاليا ومع مغادرة الضيوف، طُرح السّؤال حول سبب عدم حضور ممثلي بقية الهياكل القضائية وكان له أكثر من جواب. فقد تمسّك رئيس جمعية القضاة بكونه طلب منهم حضور زيارة وفد المجتمع المدني وهم لم يتحمّسوا لذلك. وسرعان ما تبين أن ثمّة سوء تفاهم، حيث أبدى رؤساء الهياكل الأخرى المشاركة في التنسيقية أنه لم يتم إعلامهم بموضوع الزيارة ولا بمن سيشارك فيها وأنهم يعتبرون ذلك خروجا عن التنسيق المتّفق عليه. وهنا أفسدت الأزمة ما كان يظنّ أنه سيكون فرحة بالنجاح في تنظيم الزيارتين.

تطويق الأزمة: روحية جديدة

في اليومين اللاحقين، كان النادي يعجّ بالقضاة جميعهم يتحدث عن نهاية مؤسفة لتنسيقيتهم. ودليلهم على ذلك أن اتّحاد القضاة الإداريين واتحاد قضاة محكمة المحاسبات ونقابة القضاة أصدروا صباح يوم  03/07/2022 بيانا خاصا بهم أعلنوا صلبه رفع الإضراب عن العمل. طيلة ذات المدة وفي سياق موازٍ، لم يكن معلوما للجميع،كانت اتصالات تجري بين رئيسة جمعية القاضيات سيدة القارشي وكل ممثلي الهياكل الأخرى هدفها تجاوز الإشكال. وكان من ثمار جهدها بيان صدر مساء يوم 03/07/2022 عن جمعيتها وجمعية القضاة وجمعية القضاة الشبان أعاد حرفيا ما ورد بالبيان الأول وكان دليلا على أنّ الخلاف تمّ طيّ صفحته وأنّ القضاة أصبحوا أكثر قدرة على إدارة التعددية وتجاوز ما قد يكون من سبب للخصومة بينهم بهدوء، وليستمر بعد ذلك إضراب الجوع وقد أصبح ساحة النضال الرئيسية لقضاة رفضوا الانصياع لإرادة الرئيس.


[1] نهاية سنة 1985 أي فترة تولي محمد مزالي خطة الوزارة الأولى جند  الطلبة المعارضين ووجهوا لثكنات الجنوب  الغربي التونسي في إطار عملية استصلاح منطقة رجيم معتوق.

[2]   في بيان صدر عنه بتاريخ  08/06/2022  أكد الاتحاد الأوروبي للنقابات، تضامنه الكامل القضاة التونسيين  في نضالهم “ضد التدخل الاستبدادي في صلاحياتهم وقمع استقلالية القضاء، إثر صدور المرسوم الرئاسي القاضي بعزل57 منهم “

[3] مجلس يضم رؤساء هياكل القضاة اي جمعية القضاة التونسين ونقابة القضاة التونسيين واتحاد قضاة محكمة المحاسبات واتحاد القضاة الاداريين وجمعية القاضيات التونسيات وجمعية القضاة الشبان – حول ملابسات انطلاق عمله  تراجع الحلقة الأولى من مذكرات مرافق

[4] بشرى بالحاج حميدة كانت من خططت لذلك وفق ما عرضناه في الحلقة الخامسة من هذه السلسلة: “قد ختمت رئيسة الجلسة الحوار بعرض مقترح لها يتعلّق بوفد ثان ٍيؤدّي زيارة للقضاة في مقرّ الإضراب عن الطعام ويتكون أساسا من العمداء السابقين للمحامين: “من المهمّ إبراز الموقف الحقيقيّ للمحاماة من هذه القضية الهامة. المحامون مع استقلالية القضاء وربما زيارة رمزية كالتي أقترحها تفيد في تسليط الضوء على الصوت الحقيقي للمحاماة  والذي يتمايز عن مواقف عميد المحامين الحالي إبراهيم بودربالة الداعمة للرئيس في كل قراراته”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني