مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024: المجهول عنوان المرحلة القادمة


2023-12-04    |   

مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024: المجهول عنوان المرحلة القادمة

 

انطلقت يوم 17 نوفمبر 2023 الجلسات العامة لمجلس نواب الشعب المُخصّصة للمصادقة على مشروع ميزانية الدولة ومشروع الميزان الاقتصادي ومشروع قانون المالية لسنة 2024. وأكّد رئيس الحكومة أحمد الحشاني في كلمته أمام المجلس، أن مضامين هذه المشاريع تترجم الاختيارات والتوجهات التي قرّرها رئيس الدولة قيس سعيّد، وهو ما ينسجم مع النظام السياسي الذي أرساه الرئيس بشكل أحادي وجعل نفسه فيه صاحب السلطة. يعني ذلك أننا بصدد تفكيك التصور الاقتصادي- الاجتماعي الفعلي للرئيس، بعيدا عن تكتيك الفصل المنهجي الواعي الذي تتوخّاه منظومة 25 جويلية بين الرئيس والجهاز التنفيذي لتحييد الأوّل عن أيّ مساءلة.

في استعراضه لمَلامح الميزانية اتّكأ رئيس الحكومة كسَابقيه على “التركة الثقيلة” والوضع الاقتصادي العالمي الصّعب. في المقابل شدّد على تفاؤله بـ”إقلاع اقتصادي” منشود لا نجد له أثرا ملموسا في النصوص المتعلقة بالميزانية على الرغم من التنصيص على اعتبار السنة القادمة سنة مِفصليّة لاستعادة “الاستقرار الاقتصادي”. وهنا لا تشرح السلطة التنفيذية مقوّمات الاستقرار الاقتصادي في ظلّ افتقار مشروع الميزانية لأهداف مضبوطة تتعلّق بالتخفيض في مستوى البطالة والتضخّم والمديونية العمومية.

نفقات من دون موارد

قدّرت ميزانية الدولة لسنة 2024، بـ 77868 مليون دينار[1] بزيادة قدرها 9.3% مقارنة بالميزانية المحينة في قانون المالية التعديلي للسنة الجارية. وتبلغ مداخيل الميزانية والتي تعتبر الموارد الذاتية للدولة 49160 مليون د. ما يمثل 63.1% من حجم الميزانية. في المقابل، ستبلغ نفقات الميزانية (مجمل نفقات الدولة باستثناء سداد الديون) 59805 م.د بعجز قدّر بـ 11515 مليون د، أي ما نسبته 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي. فيما سيبلغ العجز الإجمالي على مستوى موارد الدولة باحتساب نفقات خدمة الدين 28708 مليون د أي ما نسبته 36.9%. وبذلك ستحافظ ميزانية السنة القادمة تقريبا على مستوى العجز ذاته لسنة 2023، الذي ناهز 36.3%، بما يتجاوز بأكثر من أربع نقاط عجز سنة 2022. في هذه الحالة تبدو لغة الأرقام كفيلة بتصوير حالة الشلل التي يمرّ بها الاقتصاد الوطني والتي لا تقابلها أية رؤية مستقبلية لتخفيض تدريجيّ ملموس في عجز الميزانية الهيكلي خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار الخطاب الرسمي لمنظومة 25 جويلية القائم على إحداث “قطيعة” مع نهج العشرية السابقة وحصيلتها السلبية.

يبدو جليا أن العنوان الأبرز لمشروع الميزان الاقتصادي لسنة 2024 هو ملفّ المديونية، إذ من المتوقع أن يرتفع حجم دين الدولة في نهاية السنة القادمة مقارنةً بالسنة الحاليّة ليبلغ 139976 مليون د. (79.81% من الناتج المحلي الإجمالي) في إطار انتهاج نفس السياسة القائمة على الاقتراض لتمويل موارد الخزينة لسنة 2024 والمقدرة بـ 28708 مليون د. تتوزع بين 10645 مليون د. لتمويل عجز الميزانية و17863 مليون د. لتسديد أصل الدين الخارجي (9744 مليون د.) والدين الداخلي (8119 مليون د.). في هذا السياق، يتبيّن أن أغلبية العجز الجملي متأتٍ من الاقتراض المُجحف منذ سنة 2011 الذي أوصل الحكومات إلى الاقتراض على المدى القصير لخلاص ديون على المدى الطويل وبمعنى أدقّ الاقتراض بتكلفة أعلى لسداد ديون بتكلفة أقل.

وتؤكد وثيقة ميزانية الدولة للسنة القادمة أن الحكومة الحالية انخرطت في هذه الدائرة المولّدة للفقر وبشكل أكثر عبثيّة. فبعد أن وقع إعداد ميزانية 2023 على فرضية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي لم يبرم، تمّت بلورة ميزانية 2024 في جزء هامّ من مواردها على المجهول. فإلى جانب الالتجاء إلى السّوق الماليّة الداخليّة للحصول على قروض بجملة 11743 مليون د. سيتم الالتجاء إلى التداين الخارجي لتعبئة 16445 مليون د. منها 10307 مليون د. بعنوان “قروض أخرى” مصادرها غير معلومة. ويُلحظ هنا أنّه، لأول مرّة منذ 2010، لا تتضمّن ميزانية الدولة قروضا من السوق المالية العالمية بسبب تعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

في هذا السياق، يتّسم تعاطي منظومة 25 جويلية مع صندوق النقد الدولي “بالنفاق السياسي”، إذ يستعمل خطاب السيادة لتفسير عدم إمضاء الاتفاق، بما يتضمنه من إملاءات “تهدّد السلم الاجتماعي”، مع ترديد شعار “التعويل على الذات”، بما يفهم منه الاستغناء عن الصندوق. في حين أنّ المفاوضات مع صندوق النقد ما زالت جارية إلى حين التوصل إلى اتفاق، كما أكّدت عليه وزيرة المالية خلال جلسة استماع صلب لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب حول مشروع ميزانية الدولة بتاريخ 8 نوفمبر 2023.

يبدو إذًا أنّ الحكومة لا تزال تعوّل، لتعبئة موارد الميزانية المبنيّة للمجهول، على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي كفرضيّة أولى، من خلال إبرام القرض البالغ 1.9 مليار دولار لتتمكّن في مرحلة ثانية من تغطية بقية النقص عن طريق السوق المالية العالميّة. تتّضح معالم هذه الفرضية بقوّة من خلال محور “إصلاح الوظيفة العمومية” والذي تتقاطع مضامينه مع تصوّر الصندوق في إطار التحكم في كتلة الأجور -وهو ما سنبيّنه لاحقا- بالإضافة إلى أنه لا ينطوي على حرج اجتماعي كبير وشامل على غرار ملفّ دعم المواد الأساسية. تبرز بذلك ازدواجية التعاطي مع هذا الملف، الذي يسوّق له باعتباره انتصارا لرئيس الجمهورية في كلتا الحالتين: ففي حالة إبرام الاتفاق فقد نجح الرئيس في “فرض شروطه” على صندوق النقد وفي حالة فشل الاتفاق فقد حافظ الرئيس على السيادة الوطنية وعلى مبدأ التعويل على الذات.

ككلّ مرّة نجد أنفسنا مدفوعين إلى تفكيك خطابات الرئيس بحثًا عن فهمها، في ظلّ رفع شعارات من دون استعراض منهجيّ لكيفيّة تنفيذها، مثل ما هو الحال بالنسبة لشعار “الاعتماد على الذات” والذي يحيل إلى التساؤل حول المصادر الذاتيّة التي يعوّل عليها سعيّد لجمع التمويلات التي تمّ ضبطها في ميزانيّة الدولة.

يعتبر ملفّ الصلح الجزائي من أبرز طروحات الرئيس ويمثّل مسارا موازيا للمصالحة مع أصحاب الأعمال المتورّطين في الفساد. وفي هذا الصدد، أصدر المرسوم عدد 13 لسنة 2022 الذي يتعلّق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته. على إثره، تمّ تشكيل اللجنة الوطنية للصلح الجزائي. بيد أن الواقع أثبت فشل هذا المسار وعدم إلمام الرئيس بكامل حيثيّاته ما دفعه حاليا للعمل على تعديل المرسوم. في المحصّلة، لم تتضمّن موازنات السنة القادمة مداخيل ذاتية بعنوان الصلح الجزائي. ليتحوّل تركيز الرئيس على الأملاك المصادرة التي من المتوقّع أن تقفز مداخيلها للسنة القادمة إلى 520 مليون د. في حين أنها كانت تتراوح بين 40 مليون و50 مليون د. بين سنة 2021 وسنة 2023. ما يعكس وجود نيّة لتصفية هذا الملفّ سنة 2024 عبر التفريط في الأملاك المصادرة المتبقيّة أو ربّما أيضا مراجعة ما تم التفريط فيه لوجود “شبهات فساد” تحدّث عنها الرئيس. وهو ما قد يفّسر الإيقافات الأخيرة التي طالت مجموعة من أصحاب الأعمال أبرموا صفقات في الغرض (بغضّ النظر عن الاستهداف السياسي للمعارضين وعن سياسة الابتزاز لتمويل الصلح الجزائي). في هذا الإطار، يبدو حجم المدخول المتوقع من المصادرة أقصى ما يمكن بلوغه. وحتى في حالة صدقيّة التوقّعات، لا تمثّل مداخيل المصادرة سوى نسبة 0.7% من حجم الميزانية. فضلا عن أنّه، بالاستئناس بالتجارب السابقة، لا نعتقد أن الحكومة ستنجح في تصفية ملف الأملاك المصادرة في غضون سنة فقط: فإلى جانب تشعّباته البيروقراطية والمالية، تمّ طبعه بصبغة سياسيّة-انتخابية.

وبالعودة إلى مقولة “التعويل على الذات” وإذا استثنينا اللجوء إلى إمكانية التفويت في بعض المؤسسات العمومية والتي تمّ نفيها، لم يتبقّ لنا سوى فرضية الاعتماد على التمويل المباشر من قبل البنك المركزي لموارد الخزينة بعد مراجعة استقلاليّته. في هذا الإطار، اعتمدنا على مقترح القانون المتعلق بتنقيح القانون عدد 35 لسنة 2016 الذي يضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي والذي يتضمّن في فصله الثاني قيام البنك المركزي بتغطية العجز الموسمي لميزانية الدولة بسقف 20% من معدّل إيرادات الميزانية في السنوات الثلاث السابقة للقيام بعملية محاكاة لحجم التمويل الذي يمكن بلوغه. على هذا الأساس، أنتجتْ عملية المحاكاة أن حجم التمويل الأقصى للميزانية سيكون، في صورة المصادقة على مقترح القانون من دون تعديل السقف، في حدود 7023 مليون د[2] وهو ما يمكن أن يغطي نسبة 68% من موارد الميزانية مجهولة المصادر (10307 مليون د.) ليتم تغطية بقية العجز على الأغلب من السوق المالية الداخلية، في هذه الحالة سيؤثر هذا التوجه بدرجة كبيرة على تمويل الاقتصاد الحقيقي عبر خلق أزمة سيولة.

يتجلّى من خلال ذلك، أنّ الشاغل الرئيسي للحكومة خلال السنة القادمة سيكون البحث عن مصادر التمويل لميزانية عنوانها الأبرز مزيد تعميق أزمة المديونيّة العموميّة في مواجهة خيارين وهما صندوق النقد الدولي -السيناريو الأفضل بالنسبة للحكومة- والبنك المركزي إضافة إلى البنوك المحلية، وهو ما يسقط شعار التعويل على الذات المجعول للاستهلاك الداخلي.

منوال النمو لسنة 2024، مجرد عناوين فضفاضة

قام تقدير ميزانية الدولة على أساس فرضيّة تحقيق نسبة نموّ في حدود %2.1. وحسب نصّ الميزان الاقتصادي، استندت هذه الفرضية على تحسّن الإنتاج الفلاحي في المجالات الثلاثة المحدّدة للاقتصاد الفلاحي التونسي وهي ارتفاع إنتاج الحبوب بثلاثة أضعاف ليبلغ 15 مليون قنطار سنة 2024 مقابل 5.4 مليون قنطار للسنة الحالية إضافة إلى ارتفاع الإنتاج في قطاعي التمور وزيت الزيتون الموجّهين للتصدير ما سيفضي إلى تحقيق نسبة نمو قطاعية بـ 1.8%. في المقابل، تتوقّع الجهات الرسمية تواصل الجفاف ما يضع صدقيّة فرضيّاتها محلّ تشكيك. إلى جانب ذلك، افترضت الحكومة ارتفاع القيمة المضافة للقطاع الصناعي بنسبة 2.2% عائدة إلى عدّة عوامل، من أهمها تحسّن أداء الصناعات المعمليّة الموجّهة للتصدير وقطاع البناء والرفع من نسق إنتاج الفسفاط.

تعبّر التّوقّعات الكميّة الحكوميّة عن قدر من التفاؤل، ظهر أيضا في خطاب رئيس الحكومة أمام “البرلمان”. لكنّه يبدو “تفاؤلا طائشا” بالرجوع إلى قانون المالية التعديليّ لسنة 2023 الذي خفّض نسبة النمو إلى 0.9% بعد افتراض 1.8% في القانون الأصلي. وبرّرت الحكومة تراجع نسبة النموّ المتوقّعة إلى النصف بتواصل الجفاف والحرب الروسيّة- الأوكرانية -وكأنها ليست على علم مسبق بهما- في محاولة للتنصّل من المسؤولية وإلقائها على عوامل موضوعية.

إلاّ أنّ مضمون مشروع الميزان الاقتصادي يبيّن أنّ العامل المحدّد في حالة الركود التضخّمي (stagflation) لسنة 2023 يتمثّل في تقليص واردات الموادّ الأوليّة ونصف المصنعة بـ 6.4% الضّروريّة للنشاط الصناعي بالإضافة إلى تراجع توريد المواد الغذائية بـ 5.5% نتيجة الأثر المزدوج لتراجع الكميّات المورّدة وانخفاض مستوى الأسعار العالميّة خصوصا الحبوب والزيوت النباتيّة. يدحض ذلك حجة رئيس الجمهورية في تسويغ ندرة المواد الغذائية بالاحتكار بل ويؤكّد أكثر من ذلك أنّ تقليص التوريد في الموادّ الأساسيّة هو خيار السّلطة بهدف الحفاظ على بعض المؤشرات الاقتصاديّة (الميزان التجاري، احتياطي العملة الصعبة…) وهي رسائل موجّهة إلى صندوق النقد الدولي مقابل عدم إيفائها بالتزاماتها محليّا.

وقد نصّ الميزان الاقتصادي على أنّ رهان الحكومة للسنة القادمة يرتكز على تجاوز حالة الركود التضخمي. في هذا السياق، تم التنصيص على أنّ مقومات منوال النموّ السنوي تنبني على تعزيز الدور الاجتماعي للدولة واسترجاع طاقات الإنتاج في القطاعات الاستخراجية ودعم إنتاج الطاقات المتجددة وإدماج القطاع الموازي وتعزيز الاستثمار الخاص إلى جانب التسريع في المشاريع العمومية وأخيرا تحقيق الأمن الغذائي.

في المحصّلة، ما تمّ تسميته منوالا للنموّ هو عبارة عن جملة من العناوين الفضفاضة التي يتمّ تضمينها سنويا في النصوص المتعلقة بالميزان الاقتصادي وميزانية الدولة التي تحوّلت إلى وظيفة إداريّة محاسباتية ركيزتها الواضحة التحكّم في جملة من الموازنات الماليّة لخلاص الأجور والديون. يتجلّى ذلك في غياب المقاربة السياسية للأداء التنموي لمنظومة تدّعي القطع مع الماضي، وفي المقابل تنتهج نفس الخيارات التي تطبع الاقتصاد الوطني منذ بداية السبعينات التي أسّس لها رئيس الحكومة الهادي نويرة حين ذاك عبر “قانون “1972”[3]، القائمة على الأنشطة الإقتصادية الملوثة وذات القيمة المضافة المنخفضة والأجور الزهيدة والطاقة التشغيلية المحدودة على غرار قطاع النسيج والسياحة بالإضافة إلى تصدير بعض المنتوجات الفلاحية (تمور وزيت زيتون).

تلك هي ميّزات الاقتصاد التونسي الهش المعرّض بصفة دائمة للصّدمات الخارجية (حركة الأسعار في السوق العالمية) والذي أصبح يعاني أزمة تمويل. في المقابل يتحدّث رئيس الحكومة على خلق استقرار اقتصادي ونمو مستدام سنة 2024. فبالرجوع إلى حجم الميزانية المرتفع (77868 مليون د.)، يحيل المبلغ نظريا على ميزانية توسعيّة غير أنّ الواقع يثبت أنها ميزانية تقشفيّة تتوزّع بين نفقات التأجير 23711 مليون د. ونفقات التسيير والتدخلات 22234 مليون د. ونفقات تسديد أصل الديون 17863 مليون د.، حيث تشكّل في المجمل 82% من حجم الميزانية فيما لا تتعدّى نفقات الاستثمار العمومي 5274 مليون د. أو 6.8% من نفقات الدولة الجملية، تعكس تلك الأرقام سوء التصرّف في موارد الدولة ورهن المجتمع التونسي بأجياله الحالية والقادمة بسبب الافتقار لأيّ تصوّر تنموي بديل، وأكثر من ذلك غياب التناسق بين التنظيم الإداري المجالي الجديد ومضامين الميزان الاقتصادي الذي لا ينطوي على أي رؤية تنموية على أساس الأقاليم.

الإصلاحات الهيكلية حقّ أريد به باطل

رفعت حكومة الحشاني، كسابقاتها، لواء تنفيذ “البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية”. وبطبيعة الحال، مثّلت أبرز محاوره إصلاح الوظيفة العموميّة أو التخفيض في كتلة الأجور بمنطق صندوق النقد الدولي. سيتمّ تكريس ذلك عبر مواصلة تنفيذ حزمة من الإجراءات للتخفيض من عدد أعوان الوظيفة العمومية تقوم على مواصلة البرنامج الخصوصي للإحالة على التقاعد قبل السنّ القانونية وتفعيل الأمر المتعلق بالتنقل الوظيفي للأعوان العموميين لفائدة الوزارات والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية إلى جانب مواصلة التشجيع على الانتفاع بعطلة لبعث مؤسسة (وهي برامج ساهمت بالأخصّ في إفراغ الإدارة من أفضل كفاءاتها). برامج تُضاف إلى خيار تجميد الانتدابات (حصر الانتداب في الحاجيات المتأكدة وذات الأولوية القصوى) مع التخفيض التدريجي في عدد خريجي مدارس التكوين وعدم تعويض الشغورات والسعي إلى تغطية الحاجيات المتأكدة بإعادة توظيف الموارد البشرية المتوفرة.

تتوقّع الحكومة عبر ذلك التمشي التخفيض بقرابة نقطة في نسبة نفقات التأجير من الناتج المحلي الإجمالي التي ستنزل من 14.4% سنة 2023 إلى 13.5% سنة 2024. لكن يبدو ذلك غير كافٍ لاسترضاء صندوق النقد الدولي، ما قد يكون شجّع رئيس الدولة على ابتداع آلية موازية أطلق عليها “تطهير الإدارة” من الموظفين الذي “ولجوا إليها بطرق غير شرعية”. وقد ترجم هذا المسار عبر إصدار الأمر عدد 591 المتعلق بإجراء تدقيق شامل للانتدابات والإدماج[4] منذ 2011 إلى غاية 25 جويلية 2021. أعطى هذا الأمر شرعية بشكل غير مباشر لطبيعة الانتدابات قبل الثورة، ليبدو وكأنّ “تدليس الشهائد” وشراء الوظائف وما إلى ذلك من أوجه الفساد المفترضة وليدة الثورة وليست سابقة لها. ويتماشى ذلك مع تمثّل قيس سعيد لممارسة السلطة الذي يستلهم جزءا من خياراته من المنظومة السابقة على غرار برنامج الإصلاح الإداري لسنة 1993 ذي الطبيعة السياسية والذي حمل إسم برنامج تطهير الإدارة.

إنّ المشكل لا يكمن في مبدأ محاربة الفساد المهيكل في الدولة منذ عقود بل في التعاطي السياسي الأحادي مع هذا الملف والذي يعتبر إصلاح الإدارة أبرز عناوينه، فالأمر عدد 591 والإجراءات المضمّنة في الميزانية تصب في مواصلة انتهاج المقاربة الكميّة لصندوق النقد الدولي في علاقة بكتلة الأجور التي تعالج الأعراض وليس العلّة الأصليّة المتمثّلة في ضعف الناتج القومي الخام، وعليه على الدولة اعتماد التقشّف في مصاريفها.

هذا المنطق المحاسبيّ الذي تعتمده الحكومة في تسيير الدولة والقائم على فلسفة مواصلة الإيفاء بالتزاماتها المالية للخارج لتتمكّن من مواصلة الاقتراض بغية سدّ العجز الهيكلي سيضعها في تناقض مع أطروحتها في الميزان الاقتصادي، ومن بينها تكلفة برنامج إصلاح التعليم لأن التوجّه الحالي سيجعل منه وثيقة أدبيّة دعائيّة لا غير مثل ما هو الحال بالنسبة للكتاب الأبيض سنة 2016.

ربما تكون أوّل خطوات الإصلاح، هي تغيير المقاربة المعتمدة في إعداد مشاريع الميزان الاقتصادي وميزانيّة الدولة، باعتبارها وثائق سياسية في الأصل تترجم البرنامج الاقتصادي- السياسي للحاكم. فقد تحولت في السنوات الأخيرة إلى مجرد مسودّات نصوص تقنيّة تنبني على نسب نموّ مضخّمة وتوقعات خاطئة أدّت بنا إلى اللجوء السنوي إلى التصحيح عبر قوانين المالية التعديلية التي تحولت من الاستثناء إلى القاعدة. في ذات السياق، من شبه المؤكد أنّ السنة القادمة ستشهد قانون ماليّة تعديليا في ظل أزمة تمويل نفقات الدولة كما أنّها لن تكون سنة القطع مع الركود التضخّمي، خصوصًا وأنّ توقعات البنك الدولي تشير إلى أن معدل التضخّم للسنة القادمة سيكون في حدود 8%[5].

———————————————————————————————————

  1. جميع الأرقام متأتية من مشروع الميزان الاقتصادي لسنة 2024 والمشاريع السنوية للأداء لسنة 2024 والتقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024 (بإستثناء الأرقام المنصوص عليها في الهوامش).

  2. بلغت إيرادات الميزانية (المداخيل الجبائية) بعنوان 2021 و2022 و2023 على التوالي، 30405 م.د و35449 م.د و39488 م.د

    سقف التمويل = ((105342/3)*20%) /100

  3. القانون عدد 38 لسنة 1972 المتعلق بإرساء نظام خاص للصناعات الموجهة للتصدير وإعفاء الشركات المصدرة كليا من الضريبة.

  4.  الأمر عدد 591 لسنة 2023 والمؤرخ في 21 سبتمبر 2023 والمتعلّق بإجراء تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج بالوظيفة العمومية والهيئات والمؤسسات والمنشآت العمومية والشركات ذات المساهمة العمومية وسائر الهياكل العمومية الأخرى والمنجزة من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021.

  5. Bulletin de conjoncture économique : Migration dans un contexte économique complexe, Banque Mondiale, Automne 2023.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني