قوانين ماليّة بلا نفس إصلاحي: العقل البيروقراطي محافظ بطبعه


2021-10-13    |   

قوانين ماليّة بلا نفس إصلاحي: العقل البيروقراطي محافظ بطبعه

مرّ عقدٌ على اندلاع الثورة التي كشفت، بالإضافة إلى زيف ادّعاء “المعجزة الاقتصادية التونسية”، حجم التفاوت بين الفئات وبين الجهات. عقدٌ حمل معه تغييرات دستورية ومؤسّساتية وسياسية، لكنّه حافظ جوهرياً على المنظومة الجبائية الموروثة من نظام بن علي. إذ تضمّنت قوانين الماليّة، طيلة السنوات الفارطة، إجراءات وتنقيحات عديدة ساهمت في خلق حالة عدم استقرار تشريعي، لكنّها افتقرت إلى أيّ إصلاحات جذرية كما لم تقترن بأيّ توجّهات جديدة للسياسة الجبائية. يدعو هذا الجمود في الخيارات الجبائية الكبرى إلى التساؤل، خصوصاً أنّه يحصل بعد ثورة وضعت العدالة الاجتماعية على رأس شعاراتها، وفي ظلّ صعوبات اقتصادية كبيرة عادة ما تفرض على أصحاب القرار البحث عن حلول ابتكارية واستثنائية. ولعلّ أحد مفاتيح فهمه يكمن في طريقة صياغة قوانين الماليّة التي يغلب عليها في تونس البُعد البيروقراطي بدل الرؤى السياسية.

تمثّل قوانين الماليّة في المجتمعات الديمقراطيّة حدثاً سياسياً كبيراً، تسعى خلاله الأحزاب الحاكمة إلى تطبيق أهمّ وعودها الانتخابية، في حين تستغلّها المعارضة لانتقاد الخيارات الحكومية وإبراز تمايزها عنها، حتّى إنّ التصويت على قوانين الماليّة يُعتبر في الفقه الدستوري، أسوةً بمنح الثقة، معياراً يحدّد الانتماء إلى الأغلبيّة أو المعارضة. وتكون وزارة الماليّة في هذه الأنظمة أداةً يحرّكها العقل السياسي الحاكم لتطبيق برامجه، فيوظّف قدراتها التقنية وفق خياراته. أمّا في تونس، فقد تحوّلت وزارة الماليّة، نتيجة استقالة العقل السياسي من الشأن الاقتصادي بصفة عامّة والجبائي بالتحديد، إلى دور واضع السياسة الجبائية. فساهم تعاظُم دور الإدارة على حساب السياسة في تأبيد الخيارات نفسها، واختزال الجباية في دور تعبئة الموارد، وطغيان هاجس التقليص من العجز دون طرح أسئلة أعمق أو وضع أهداف أبعد.

 

وزارة الماليّة: الحزب المحافظ الذي لا يحتاج إلى انتخابات ليحكم

 صنّف عالم الاجتماع كارل مانهايم، في كتابه “الأيديولوجيا واليوتوبيا”[1] الصادر سنة 1929، خمسة نماذج مثالية عن التيّارات الاجتماعية والسياسية السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. تضمّ هذه التيّارات الفكر الشيوعي والاشتراكي، والفاشيّة، والفكر البرجوازي الديمقراطي الليبرالي، وكذلك “المذهب المحافظ البيروقراطي”.

يتّجه هذا النمط الفكري، حسب مانهايم، إلى “تحويل كلّ مشاكل السياسة إلى مشاكل إدارية”[2]. وهو يَنظُر إلى النظام الموجود بحكم القانون النافذ كأنّه النظام الطبيعي الذي لا بديل عنه، فلا يدرك أنّ أيّ نظام عقلاني ليس إلّا خياراً من بين أشكال عديدة للتوفيق بين القوى الاجتماعية المتصارعة[3]، وأنّه بالضرورة يخدم مصلحة طبقات اجتماعية على حساب أخرى. لذلك، لا تُكوّن العقليّة الإدارية إلاّ “مناهج فكريّة ساكنة مُغلَقة”، لا ترى التجديد في القانون إلّا “تحسيناً وإتقاناً يُضاف إلى المنهج الأصلي”.

ينطبق وصفُ مانهايم، الذي استند بشكل خاصّ إلى دراسة البيروقراطيّة الألمانية في تلك الفترة، بدرجة كبيرة على وزارة الماليّة في تونس. هذا الأخطبوط الضخم، الذي يصعب تعداد إداراته ومصالحه ومشمولاتها[4]، هو المركز الأهمّ لبلورة السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فوزارة الماليّة لا تحتكر صياغة مشاريع قوانين الماليّة ومشاريع النصوص الجبائية والجمركية فحسب، إنّما تتدخّل في جميع النصوص، تشريعية كانت أم ترتيبية، التي لديها تأثير على الميزانيّة، وبصفة عامّة “كلّ المسائل ذات الصبغة الاقتصادية أو الاجتماعية”[5]. يكتسب هذا الدور الاستشاري أهمّيّته من احتكار وزارة الماليّة كلّ ما يتعلّق بالميزانية، بالإضافة إلى كونها الهيكل العمومي الأكثر قدرة وتخصُّصاً في متابعة ودراسة وتقييم السياسات العمومية في مختلف القطاعات الاقتصادية. يكون رأي وزارة الماليّة، في مختلف المسائل والنصوص التي تُستشار في شأنها، في العادة حاسماً، بخاصّة في ظلّ صعوبات الماليّة العمومية. علاوة على ذلك، يُعيد أكثر من مصدر تَعطُّلَ صدور الكثير من النصوص التطبيقية إلى تصلّب وزارة الماليّة، تحديداً في المجالات التي تتطلّب تغييرات عميقة لا تستهوي العقل الإداري المحافظ، كاللامركزيّة.

تظهر سلطة وزارة الماليّة تحديداً عند صياغة قوانين الماليّة. فهذه الأخيرة هي الأداة الأهمّ في وضع السياسات الاقتصادية، سواء عبر الخيارات المتعلّقة بالميزانيّة وتوجيه المال العمومي، حيث يكون لوزارة الماليّة رأي حاسم وخطوط حمر[6]، أو عبر السياسة الجبائية التي تقترحها الإدارة العامّة للدراسات والتشريع الجبائي، وتترجمها في أحكام مشاريع قوانين الماليّة. وقد اتّسمت هذه السياسة طيلة السنوات الفارطة بدرجة عالية من المحافظة، لا تناسِب سياق التغيير السياسي ولا الأزمة الاقتصادية والمالية. فرغم تعدّد الإجراءات والتنقيحات، باسم شعارات “التبسيط” و”العدالة” و”الإنصاف”، لم يطرأ على المنظومة الجبائية أيّ تغيير مهمّ. هذا لا ينفي إقرار بعض الإصلاحات المحدودة، من بينها تغيير الشريحة الأولى لجدول الضريبة على الدخل من أجل إعفاء الفئات الأفقر[7]، ورفع السرّ البنكي في إطار المراقبة الجبائية، وتقليص مجال الانتفاع بالنظام التقديري، وكذلك إفراد القطاعات الأكثر ربحاً بالنسبة الأرفع من الضريبة على الشركات. لكنّ هذه التنقيحات وغيرها، سواء ما مرّ منها أو ما أسقطه البرلمان لسبب أو لآخر، ظلّت حبيسة أفق “تحسين المنهج الأصلي”، بتعبير مانهايم، ولم تسائل طريقة توزيع الثروة ولا حتّى سبل تشجيع النموّ الاقتصادي. إذ طغى، عند صياغة قوانين الماليّة، هاجس تعبئة المزيد من الموارد، بالطرق الأسهل، حتّى لو تطلّب الأمر الإمعان في استنزاف من يدفعون. لكنّ هذا الهاجس لم يدفع وزارة الماليّة مثلاً إلى تطوير إمكانيّاتها البشرية والتكنولوجية في مجال الرقابة والاستخلاص، بل واجهت مقترحات تعصير الإدارة الجبائية، مثلاً عبر توحيد مصالحها، مقاومة كبيرة من الإدارة نفسها[8].

 

ليس المقصود تحميل الإدارة كامل مسؤوليّة تَعطُّل الإصلاح أو وصمَ إطاراتها بتوجّه سياسي معيّن، ولا التشكيك في الكفاءات فيها أو اتّهامها بطموحات سياسية أو رغبة في ممارسة السلطة. إنّما المقصود هو وضع الأصبع على خلل بنيوي، يتمثّل في استقالة العقل السياسي من وظيفة وضع السياسة الجبائية، ممّا حوّلها إلى مسألة إدارية ومحاسبية. حتّى دور المجلس الوطني للجباية، وهو هيكل استشاري يضمّ ممثّلين عن وزارات وهياكل ومنظّمات عديدة[9]، يبقى هامشياً لا يمكنه تعويض غياب الإرادة السياسية.

 

سفينة بلا ربّان سياسي

 مرّ على وزارة الماليّة منذ الثورة 11 وزيراً ووزيرة، أي بمعدّل لا يكاد يتجاوز عشرة أشهر لكلّ وزير. لا يشجّع هذا التعاقب السريع للوزراء، وهو بالأساس نتيجة مباشِرة لعدم الاستقرار الحكومي، على الإصلاح، كما يعزّز سيطرة الإدارة على القرار. رغم ذلك، لم تتميّز الفترة الأكثر استقراراً، أي وزارة رضا شلغوم التي دامت أكثر من سنتين، هي الأخرى بأيّ نَفَس إصلاحي.

تبقى الملاحظة الأبرز، بالاطّلاع على قائمة الوزراء المتعاقبين، هي انعدام التجربة السياسية لدى معظمهم عند تولّيهم الوزارة. وحدهم رضا شلغوم والياس الفخفاخ والراحل سليم شاكر مثّلوا أحزاباً، بدون أن يعني ذلك بالضرورة امتلاك تجربة أو ثقافة سياسية. تولّى الأوّل وزارة الماليّة منذ آخر عهد نظام بن علي حتّى آخر جانفي 2011، وكان ينتمي إلى التجمّع الدستوري الديمقراطي بدون تحمُّل مسؤوليّات حزبية صلبه[10]. كان انتماؤه إلى الحزب الحاكم، على ما يبدو، وسيلة لتولّي مناصب عليا في الإدارة. عاد شلغوم إلى أروقة الحكم عبر قصر قرطاج، حين عيّنه الباجي قائد السبسي مستشاراً له، قبل أن يترأّس ديوان رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ثم يتولّى وزارة الماليّة في حكومته بصفته مستقلّاً. حرص رضا شلغوم، عبر مصادر مقرَّبة منه، على نفي خبر انضمامه إلى حزب نداء تونس، مشدِّداً على أنّ الصيغة التي يفضّلها هي “تقني نظام”.

أمّا الراحل سليم شاكر فتولّى وزارة الماليّة في حكومة الحبيب الصيد ممثّلاً حزب نداء تونس الذي شارك في صياغة برنامجه الاقتصادي والاجتماعي. وقد بدأت تجربته السياسية بعد الثورة، بتولّيه مناصب وزارية في الحكومات الانتقالية الأولى التي استنجدت بالعديد من “التكنوقراط”، من الداخل والخارج، الذين لم يتورّطوا مع النظام السابق.

إلياس الفخفاخ كذلك لم يكن ذا تجربة سياسية قبل الثورة، لكنّه انضمّ في الأشهر الأولى بعدها إلى التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحرّيّات، أحد أحزاب المعارضة القانونية لنظام بن علي. فكانت بضعة أشهر من العمل السياسي كافية ليكون أحد وزراء التكتّل في حكومة حمادي الجبالي، حيث تولّى في البداية حقيبة السياحة، في حين اختار التكتّل حسين الديماسي، “الكفاءة المستقلّة” لحقيبة الماليّة. وآلت هذه الحقيبة إلى الفخفاخ بعد سنة، بعد استقالة الديماسي وتولّي كاتب الدولة سليم بسباس، وكان هو الآخر مستقلّاً، الوزارة بالنيابة.

أمّا الوزراء الآخرون الذين تعاقبوا على حقيبة الماليّة فكانوا مستقلّين، أتوا إمّا من الإدارة، مثل لمياء الزريبي، وإمّا التعليم العالي، سليم بسباس، أو المنظّمات الدولية، حكيم بن حمّودة، وبخاصّة من القطاع البنكي والمالي، جلّول عيّاد والفاضل عبد الكافي والوزير الحالي علي الكعلي. وكان الكعلي قد ساهم في تأسيس حزب آفاق تونس سنة 2011، لكنّه فضّل بعد سنوات الابتعاد عن العمل الحزبي، ممّا ساعد في طرح اسمه في مفاوضات تشكيل الحكومات.

فالملاحَظ أنّ ظاهرة تولّي مستقلّين لوزارة الماليّة لا تقتصر على “حكومات التكنوقراط”، بل تنسحب أيضاً على الحكومات السياسية. قد تعود هذه الظاهرة إلى العمل بمبدأ تحييد الوزارات السيادية الذي اعتمده بعضها، إلّا أنّها تعكس انطباعاً عامّاً لدى الطبقة السياسية أنّ وزارة الماليّة هي وزارة تقنية تحتاج كفاءات مختصّة غير مسيّسة. ربّما ترجع أيضاً إلى تهرّب الأحزاب من المسؤوليّة عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو لافتقارها للقيادات القادرة على تسيير مثل هذه الوزارة ولبرامج ومقترحات في مجالات اختصاصها، ومنها الجباية.

في المقابل، يبدو أنّ تولّي الوزارة ساهم في خلق طموح سياسي لدى هذه الكفاءات المستقلّة، كما في حالة سليم بسباس الذي انضمّ إلى حركة النهضة، والفاضل عبد الكافي الذي ترأّس مؤخّراً حزب آفاق تونس، أو على الأقلّ في مواصلة الحضور في النقاش العامّ واقتراح البرامج والأفكار، كما دأب على فعله حكيم بن حمّودة، ومؤخّراً نزار يعيش.

 

اختزال الجباية في مقاربة محاسبية

لا يعني هذا التصنيف للوزراء المتعاقبين على حقيبة الماليّة أنّ المتحزّبين يحملون بطبعهم رؤى إصلاحية أو أنّ جميع الوزراء المستقلّين يفتقرون بالضرورة لها، لكنّه مؤشّر قويّ على النظرة السائدة لدى النخبة السياسية للسياسة الماليّة، وتحديداً للسياسة الجبائية، بوصفها مسألة تقنية إدارية لا تحتاج رؤيا سياسية.

تتجلّى المقاربة المحاسبية سنوياً عند مناقشة قوانين الماليّة. وقد اتّفق الجميع تقريباً، أطرافاً سياسية ومنظّمات وطنية وخبراء، على وصف آخرها بأنّه بلا روح ومجرّد كاريكاتير بائس للقوانين التي سبقته، والتي كانت محكومة، وإن بدرجات متفاوتة، بهاجس تعبئة الموارد بأسهل طريقة، لتقليص نسبة عجز الميزانية. فغالباً ما تفضّل وزارة الماليّة الإجراءات ذات المردود المالي المباشر التي لا تحتاج جهداً في استنباطها أو في تطبيقها، كالزيادة على الضريبة الدنيا المستوجبة، أو على نسب ومجال الخصم من المورد، أو نسب الأداء على القيمة المضافة ومعاليم الاستهلاك، بدون الاكتراث لانعكاساتها الأخرى أو التفكير في إصلاحات عميقة.

لا يعود البحث عن الحلول السهلة لتعبئة الموارد في أقصر إلى ضيق أفق العقل البيروقراطي فقط، إنّما إلى الصعوبات الكبيرة للماليّة العمومية أيضاً. يروي حكيم بن حمّودة، وزير الماليّة الأسبق، أنّ هاجس تسديد المستحقّات المتوجّبة على الدولة، في كلّ شهر، كان حقيقياً رغم الخطاب التطميني الذي كان هو نفسه يعتمده لأسباب مفهومة[11]. لكنّ هذا الهاجس، والخضوع لشروط المؤسّسات المانحة المتعلّقة بنسب العجز في الميزانيّة وكتلة الأجور، تحوّلا إلى مرض يعيق أيّ تفكير أو برنامج متوسّط أو طويل المدى، وبالتالي يمنع أيّ فرصة للخروج من هذا النفق المظلم. فهذه السياسات، التي قد تبدو ضرورية لوقف النزيف، هي، على العكس، تأبيد للأزمة التي لا يمكن أن تُحلَّ بإجراءات قصيرة المدى، وبدون رؤيا اقتصادية أو رسالة سياسية قوية في اتّجاه العدالة الاجتماعية.

يكمن الإشكال الأساسي في صياغة قوانين الماليّة، حسب النائب عن الكتلة الديمقراطية وعضو لجنة الماليّة هشام العجبوني، في “اقتصارها على تقييم المردوديّة الماليّة في الأمد القصير، بدون الاستناد إلى رؤيا اقتصادية”، وباستطاعتنا أن نضيف، ولا رؤيا سياسية أو اجتماعية. هكذا، تُختزَل الجباية، وهي من أهمّ وسائل الدولة لتطبيق سياساتها، بمجرّد أداة لتعبئة الموارد في أقصر وقت، وتتحوّل السياسة الضريبية من سلاح الدولة لإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية ودفع النموّ الاقتصادي إلى شأن محاسباتي وإداري، علماً أنّ الأمرَين لا يتعارضان بالضرورة.

للأسف، يستمر هذا الاختزال عند مناقشة قانون الماليّة داخل البرلمان. فرغم أنّ النوّاب لا يتردّدون في انتقاد المشروع المقدّم من الحكومة واقتراح تعديلات عليه يبقى هامش تدخّلهم مقيّداً بالقاعدة الدستورية التي تمنع عليهم المساس بالتوازنات العامّة، أي زيادة المصاريف أو تقليص الموارد. أمّا العائق الأكبر فهو احتكار وزارة الماليّة للمعلومات والقدرة على تقييم المردود المالي للإجراءات، الذي يتحوّل في أحيان كثيرة إلى “فيتو” تشريعي. لقد ساهم القانون الأساسي للميزانيّة الجديد في تقليص احتكار وزارة الماليّة للمعلومات عبر إلزامها إرفاق عدد من التقارير بمشروع قانون الماليّة (على سبيل المثال، تقارير حول المديونيّة والنفقات الجبائية ووضعيّة الشركات العمومية)[12]. لكن يبدو أنّ غالبيّة النواب والأحزاب لا تدرس هذه التقارير بما يكفي لتتسلّح بها في النقاش. وفي جميع الحالات، يصعب أن تأتي الإصلاحات الكبرى والجذرية من مبادرات تشريعية أو مقترحات تعديل من النواب، وإنّما تأتي من الجهاز التنفيذي عندما يقوده عقل سياسي.

يظهر ضعف العمق السياسي لنقاش السياسة الجبائية كذلك في التناول الإعلامي لقوانين الماليّة. إذ عادة ما يتركّز النقاش حول التوازنات الكبرى، ومواضيع الاقتراض والاستثمار والمنوال التنموي، في حين لا تحظى الجباية إلّا بهامش قليل منه. وكشف تقرير الهيئة العليا للاتّصال السمعي البصري مؤخّراً أنّ المسألة الجبائية لم تأخذ سوى 0.42% من الحيّز الزمني الذي خصّصته القناة الوطنية الأولى لمناقشة قانون الماليّة لسنة 2021، و1.7% على قناة التاسعة[13]. تكشف هذه الإحصائيّات ضعف إلمام الصحافيين والنخبة السياسية بالمسألة الجبائية الذين يهربون إلى مواضيع أخرى قد تبدو لهم أسهل أو يكتفون بالشعارات الكبرى بدون إعطائها بعداً عملياً. أمّا الخبراء الذين يمتلكون المعرفة بالشأن الجبائي فيقدّمون في معظم الأحيان نظرة تقنية لا ترى في الجباية كلّ ما تحتمله من أدوار، ولا ما تعبّر عنه من مصالح طبقات وفئات اجتماعية على حساب أخرى.

أدّت الجباية تاريخياً دوراً مباشِراً في نشأة الدولة الحديثة[14]. كما كان افتكاك القرار الجبائي من قبل البرلمان عاملاً حاسماً في نشأة الأنظمة الديمقراطية، فالمسألة الجبائية، رغم الإلمام التقني الذي تحتاجه اليوم، تبقى قضيّة سياسية بامتياز. وهي ليست مجرّد أرقام بل إنّها بمثابة العقد الاجتماعي الذي يحدّد واجباتنا وحقوقنا، وهي سلاح الدولة الأقوى للتأثير في الاقتصاد كما في مختلف الميادين. تعبّر كلّ منظومة جبائية بالضرورة عن توازنات معيّنة بين الفئات الاجتماعية، بما تحتمله من هيمنة وامتيازات للبعض وإثقال كاهل البعض الآخر، لكن لا تستطيع هذه التوازنات أن تستمرّ بدون إعادة النظر فيها أو طرحها على النقاش العامّ الديمقراطي. ليس اختزال المسألة الجبائية في تونس في مقاربة إدارية ومحاسبية إلّا أحد أعراض مرض طبقة سياسية ضعيفة، تفتقر للرؤى والحلول والإلمام بالواقع، استقالت من دورها الأساسي ومن جوهر العمل السياسي، فتركت العقل البيروقراطي يحكم مكانها، بنمطه وحدوده التي لا يُنتظَر منها سوى أن تؤبِّد الخيارات القديمة والنظام القائم.

 

 

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:

الجباية غير العادلة

 

 

 

 

[1] “الأيديولوجيا واليوتوبيا. مقدِّمة في سوسيولوجيا المعرفة”، كارل مانهايم، ترجمة د. محمّد رجا الديريني، شركة المكتبات الكويتية، 1980.

[2] كارل مانهايم، مذكور سابقاً، ص. 181.

[3] هذه الفكرة اختفت تماماً من الترجمة العربية للكتاب، للاطّلاع عليها انظر الترجمة الإنغليزية.

[4] انظر الأمر عدد 556 لسنة 1991 مؤرَّخ في23 أفريل 1991 يتعلّق بتنظيم وزارة الماليّة، كما نُقِّح بأوامر عديدة آخرها الأمر الحكومي عدد 491 لسنة 2019 المؤرَّخ في 10 جوان 2019.

[5] انظر الأمر عدد 316 لسنة 1975 مؤرَّخ في 30 ماي 1975 يتعلَّق بضبط مشمولات وزارة الماليّة.

[6] حكيم بن حمّودة، يوميّات وزير في المرحلة الانتقالية، ترجمة عبد العزيز الجربي، رضا بسباس ورضا بن سعيد، دار محمّد علي الحامي، 2016.

[7] وهو ما تمّ على مرحلتين، أوّلاً في 2013 في شكل إعفاء للأجراء الذين يقلّ أجرهم عن 5 آلاف دينار سنوياً، ثمّ بتغيير الشريحة الأولى لجدول نسب الضريبة على الدخل في 2017.

[8] حكيم بن حمّودة، مذكور سابقاً، ص. 261.

[9] نصّ عليه الفصل 4 من مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية، وينظّمه الأمر عدد 1250 لسنة 2001 مؤرَّخ في 28 ماي 2001 يتعلَّق بضبط تركيبة المجلس الوطني للجباية وطرق تسييره.

[10] محمد سميح الباجي عكاز، « “رضا شلغوم: رسكلة ”’تكنوقراطيي“ ‘ بن علي »”، محمّد سميح الباجي عكّاز، موقع نواة، 30 جوان 2017.

[11] حكيم بن حمّودة، مذكور سابقاً.

[12] « La réforme de la loi organique du budget : une opportunité pour rééquilibrer les rapports entre le parlement et le gouvernement », Policy Brief, Observatoire tunisien de l’économie, 2018.

[13]تقرير مسح حول التعاطي الإعلامي مع مشروعَيْ قانون الماليّة لسنة 2021 وقانون الماليّة التكميلي لسنة 2020“، الهيئة العليا للاتّصال السمعي البصري، 1 نوفمبر – 10 ديسمبر 2020.

[14] cf. « La guerre et la construction de l’Etat en tant que crime organisé », Charles Tilly, Politix, vol. 13, n°49, 2000.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني