صدر بتاريخ 20 مارس 2022، مرسوم الصلح الجزائي وتوظيف عائداته، بعد أشهر طوال لم ينفكّ الرئيس قيس سعيّد خلالها عن الحديث عن هذا المرسوم. لئن اتّضحت ملامح المرسوم منذ أيام قليلة فقط، فإنّ الرئيس دافع عن فلسفته منذ السنوات الأولى للثورة وذهب “ضحيّته”-وإن لم يكن بطريقة مباشرة أو معلنة-المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ.
اختيار عيد الاستقلال لإصدار هذا المرسوم ليس سوى تأكيد لتقديس الرئيس سعيّد للرمزيّة في اتخاذ إجراءاته “الإصلاحية”، على غرار رمزية تواريخ انطلاق الاستشارة الوطنية، الاستفتاء والانتخابات التشريعيّة المقبلة.
قبل الخوض في تفاصيل المرسوم والإشكاليات التي يطرحها، من الضروري التذكير مجددا بأنّ الصلح الجزائي آلية قديمة تتمحور حول مصالحة المتورطين في الجرائم الاقتصاديّة والماليّة والأعمال التي أنتجت ضررا ماديّا للدولة، تحت غطاء توظيف العائدات لفائدة المجموعة الوطنيّة ودفع التنمية المحليّة.
صلح… بأيّة حال عدت يا صلح؟
أثار مرسوم الصلح الجزائي جدلا بين من يعتبر أنّ المرسوم هو “عدالة انتقالية جديدة لكنها مشوهة منذ الولادة، خاصة أنها إلى ضمانات النسخة الأصلية”، وبين من اعتبر أنّ “هذا المرسوم لا يمتّ بأيّ صلة للعدالة الانتقالية التي يجب أن تقوم على المصارحة وكشف الحقيقة والمحاسبة وربّما حتى إعادة كتابة التاريخ وإنصاف الضحايا.” في حين أعلن سعيّد صراحة عبر مرسومه أنّ الصلح الجزائي هو تكريس ل”العدالة الجزائيّة التعويضيّة”.
يجدر في هذا الصدد التمييز بين العدالة الانتقالية باعتبارها “مسار(ا) متكامل(ا) من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقّق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان”، والعدالة التعويضيّة باعتبارها تهدف لجبر الضرر الناتج عن الجرائم تعويضاً عادلاً بما يتناسب مع حجم الضرر من دون اشتراط المحاسبة والملاحقة القضائية لمرتكبي الانتهاك. فهذه العدالة تقوم فقط على فكرة جبر الضرر بعد تحقيق الاعتراف بوقوع الانتهاكات وهي تختلف كذلك عن “العدالة التصالحية” باعتبارها عملية يشارك فيها الضحية والجاني معاً، وتقوم على مبدأ المصالحة والتصالح بينهما لأجل الوصول إلى “ناتج تصالحي” وتتمّ العملية بمساعدة من “ميسّر”، يتمثل دوره في أن يدير “بطريقة منصفة ونزيهة” العملية التصالحية، كما يمكن أن تتضمن العمليّة الوساطة والمصالحة، والتفاوض بين المحامين والقضاة والتشاور بشأن إصدار الأحكام.
يتعلّق الصلح الجزائي بوصفة تكريسا للعدالة الجزائيّة التعويضيّة ب “الجرائم الاقتصادية والمالية والأفعال والأعمال والممارسات التي ترتبت عنها منافع غير شرعية أو يمكن أن تترتب عنها منافع غير شرعية أو غير مشروعة والتي أنتجتْ ضررا ماليا للدولة والجماعات المحلية والمنشآت والمؤسسات والهيئات العمومية أو أيّ جهة أخرى، وإعادة توظيف عائدات الصلح الجزائي لفائدة المجموعة الوطنية على قاعدة العدل والإنصاف”.
كما يحدّد المرسوم مرماه ألا وهو “استبدال الدّعوى العموميّة أو ما ترتّب عنها من محاكمات أو عقوبات أو طلبات ناتجة عنها أو تمّ تقديمها أو كان من المفروض أن تقدّم في حقّ الدولة أو إحدى مؤسساتها أو أي جهة أخرى وذلك بدفع مبالغ ماليّة أو إنجاز مشاريع وطنيّة أو جهويّة أو محليّة بحسب الحاجة”.
ويشمل الصّلح الجزائيّ كلّ شخص ماديّ أو معنويّ صدرتْ في شأنه أحكام جزائية، أو كان محلّ محاكمة جزائية أو تتبعات قضائية أو إدارية أو قام بأعمال كان من الواجب أن تترتّب عنها جرائم اقتصادية ومالية. كما يشمل أيضا كل شخص ماديّ ومعنويّ لم تُستكمل في شأنه إجراءات مصادرة أمواله واسترجاعها من الخارج، بالإضافة إلى الذوات المادية والمعنوية التي استفادت من الأملاك المصادرة من دون القيمة الحقيقية لها بأيّ وجه كان. هذا وتنسحب أحكام المرسوم على الجرائم المُرتكبة المذكورة قبل سنة 2011 وإلى حدّ تاريخ نشر المرسوم بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
عمليّا، تتكفّل “اللجنة الوطنيّة للصلح الجزائي” والتي تُحدث “لدى رئاسة الجمهوريّة” بإبرام الصلح. وتجدر الإشارة إلى أن تركيبتها مختلطة. حيث يشكّل القضاة 40% منها في حين يستحوذ ممثلو الهياكل الإدارية والوزارية على البقيّة، كما تتمّ تسميتهم بمقتضى أمر رئاسي. وتتعهّد هذه اللجنة بطريقتيْن: إمّا عبر مطلب من قبل طالب الصلح أو محاميه وإمّا تلقائيّا. وللصلح صيغتان هما أداء المبلغ المستحقّ مع فائض 10% على كلّ سنة من تاريخ حصول الضرر أو المنفعة المحقّقة دون وجه حقّ أو مباشرة عن طريق إنجاز مشاريع تنمويّة وطنيّة، جهويّة أو محليّة على حسب الحاجة.
كما تشرف على متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح “لجنة متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات”، التي تُحدث لدى الوزارة المكلّفة بالاقتصاد، وتقوم أساسا بالترتيب التنازلي للمعنيّين بالصلح على أساس المبالغ المضمنة باتفاقيات الصلح وتحديد المشروع الذي على كلّ منهم تنفيذه بناء على ترتيب المناطق تنازليّا من حيث الفقر.
من جهة أخرى، تُحدث على مستوى كلّ ولاية “لجان جهويّة لمتابعة وتنسيق المشاريع” يرأسها الوالي، وتتولّى أساسا الربط مع المُتساكنين لتقديم مقترحات مشاريعهم ودراستها والبتّ فيها على ضوء التدقيق في مدى استجابتها لتطلّعات المُتساكنين وقيمتها المضافة وقابليتها للإنجاز وكلفتها. على أن يتمّ تسجيل المؤسسات التي تمّ إحداثها بفضل مداخيل الصلح الجزائي في سجلّ فرعي للسجلّ الوطني للمؤسسات يسمّى “السجل الفرعي للمؤسسات المحدثة في إطار تنمية المعتمديات الأكثر فقرا”.
رفع يد القضاء عن قضايا الفساد وبسط يد الرئيس
تضمّنت النسخة المعروضة على المجلس الأعلى للقضاء المنحلّ إحداث هيئة قضائية ملحقة بمحكمة الاستئناف تختصّ بإبرام الصلح الجزائي وهي “القطب القضائي للصلح الجزائي”. تتكوّن هذه المحكمة حصريّا من قضاة تقع تسميتهم من قبل رئيس الجمهورية. وقد عاب المجلس المنحلّ حينها في رأيه الاستشاري عدد 18 على المشروع إدخاله تعديلا جوهريا في المنظومة القضائية من خلال إحداث محكمة استثنائية لا تندرج ضمن الأصناف الموجودة، معتبرا أنّ مشروع المرسوم المعروض يُدخل كذلك تغييرا يتّصل بالتدخّل في المسارات الوظيفية للقضاة وتحديدا في تسميتهم أعضاء بالقطب القضائي للصلح الجزائي على غير الصيغ الدستورية والقانونية النافذة.
أمام الملاحظات المقدّمة، انتهى المشرّع الحالي إلى تعويض “القطب القضائي للصلح الجزائي” بلجنة مختلطة التركيبة تتضمن قضاة وممثلين عن الوزارات تدعى “اللجنة الوطنية للصلح الجزائي”. وهي لجنة مختلطة، يرأسها قضاة وذات أغلبية إداريّة من دون التخلّي عن إشراف رئاسة الجمهوريّة عليها. يلاحظ أنّ قيس سعيّد قد اختار خيارا وسطا بين اللجنة الإدارية ذات الأغلبيّة الساحقة “والمعيّنة بقرار من رئيس الحكومة بناء على اقتراح الهياكل المعنيّة” التي تقدّم بها الباجي قائد السبسي سنة 2015 لدى مبادرته بمشروع قانون المصالحة في المجاليْن الاقتصادي والمالي، وبين القطب القضائي المُنتقد الذي يعيّنه رئيس الجمهوريّة بناء على اقتراح المجلس الأعلى للقضاء والذي اقترحه سعيّد في النسخة المعروضة على المجلس آنذاك.
إلاّ أنّ كلّ الاختيارات على اختلافها تشترك في إشراف رئيس الجمهوريّة عليها، وإن اختلفتْ العبارات من “تحت اشراف” إلى “لدى رئاسة الجمهورية” مع الإبقاء على حقّ الرئيس في إعفاء أيّ عضو من أعضاء اللجنة من دون تحديد صور الإعفاء وأسبابه.
من حيث الصلاحيات، يُمكّن هذا المرسوم اللجنة من رفع يد القضاء عن ملفات الفساد المالي والاعتداء على المال العامّ وإن سبق التعهّد بها أو صدرت في شأنها أحكام أو تمّت مباشرة التتبّع والمحاكمة وتنفيذ العقاب. حيث يمكن للجنة التعهد بقضايا لا تزال على بساط النشر وإنهاء مفعول أحكام باتّة بمجرّد إبرام الصلح، وهو ما يمثّل ضربا لكلّ مبادئ إلزاميّة القرارات القضائيّة، واتّصال القضاء والتقادم.
ويمكن للجنة التعهّد بالملفّات بمقتضى مطلب من طالب الصلح أو بمقتضى التعهّد التلقائي. ويُقصد بالتعهد التلقائي أن تقرّر اللجنة الوطنية للصلح التعهّد بالملف، وتُعلم المعنيّ بالأمر بمقترح الصلح وتفتح له أجل شهر للقبول. وبمضيّ الأجل المذكور من دون جواب، يعتبر ذلك رفضا. أمّا في حال قبوله مسار الصلح، يكون عليه تقديم مطلب وتتفاوض اللجنة الوطنية للصلح الجزائي مع الطالب حول قيمة المبالغ المالية الواجب دفعها. وفي صورة حصول الاتفاق، يقع إبرام الصلح في حدود المبلغ المالي المستولى عليه أو قيمة المنفعة المتحصل عليها أو مقدار الضرر الذي طال المال العام مثلما تم تحديده من قبل اللجنة تضاف إليه نسبة 10% عن كل سنة من تاريخ حصول ذلك.
في الواقع، تعدّ آلية التعهّد التلقائي من قبل اللجنة الوطنية للصلح في ظلّ توسّع مجال تدخّلها، متناسقة مع خطاب سعيّد المشكّك في نزاهة واستقلاليّة القضاء التونسي من جهة، وخطرا جاثما على صدور المعنيين بقضايا الجرائم الاقتصاديّة والمالية الذي يمكن أن تُستعمل ضدّهم آلية التعهّد التلقائي وإن تعلّقت بهم أحكام باتّة أو إن كانوا بصدد تمضية العقوبة أو لم تشملهم تتبعات. فيكفي أن تفضي أعمال اللجنة إلى أنه كان من المفروض القيام بتتبعات ضدّهم في حقّ الدولة أو قاموا بجرائم “يمكن أن يترتّب عنها منافع” للتعهّد بملفاتهم تلقائيا. يفضي هذا التمشي إلى فتح باب تصفية الحسابات السياسية والوشاية والتزلّف…كما أن اللجنة تتمتع بسلطة تقديرية نراها مطلقة، يجابهها المعني بالأمر بخيار القبول بالصلح، دون تمكينه من طُرق للطعن.
يُضاف لما سبق أن المرسوم لا يحدّد مدّة عمل اللجنة الوطنيّة للصلح في حين يحدّد مدّة ستة أشهر قابلة للتجديد مرّة واحدة فيما يتعلّق بتكليف أعضائها. وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت مدّة العضويّة مساوية لمدّة عمل اللجنة وهو أمر مستبعد خصوصا وأنّ المرسوم يكلّف اللجنة بمتابعة تنفيذ الصّلح الجزائي إذا ما أفضى إلى إنجاز مشاريع، وهو ما يمكن أن يستغرق سنوات. كما يشمل نظر اللجنة الوطنيّة للصّلح كلّ الجرائم المرتكبة المذكورة قبل سنة 2011 وإلى حدود تاريخ نشر المرسوم بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وهو ما يجعل تحديد الفترة الزمنيّة المعهودة لها للنظر فيها مستحيل التحديد. كما يسند المرسوم صلاحيات مطلقة للجنة الصلح الجزائي في تحديد قيمة المبالغ التعويضيّة بناء على تقرير من لجنة خبراء، وغير ملزم لها بالتفاوض مع المعني بالصلح الذي يكون الوحيد المتمتّع بإمكانيّة التظلّم لدى اللجنة الوطنيّة للصلح من نتائج تقرير الخبراء.
في الواقع، لا يحمّل على عاتق اللجنة الوطنيّة للصلح مستوجبات شفافيّة العمل من حيث نشر اتفاقيات الصلح أو فتح إمكانية الطعن أمام الغير من قبيل الجمعيّات المختصّة في مجال مكافحة الفساد أو العدالة الانتقالية. بهذا المنظور، تكون العمليّة التصالحيّة “التعويضيّة”، وإن حملت شعار “إعادة دمج المصالح في الميدان الاقتصادي والاجتماعي على أساس مبادئ النزاهة والشفافية”، خالية تماما من أيّ آليات رقابة قضائيّة كانت أو مواطنيّة من قبل المجموعة الوطنيّة.
الإدارة تتحكّم في مسار الصلح الجزائي
توظّف عائدات الصلح الجزائي لتنمية المعتمديّات المُفقّرة بناء على مقترحات المتساكنين. حيث يشترط لقبول المشروع إمضاؤه من قبل 1000 متساكن، ويقدّم مرفقا بدراسة أوليّة توضّح كلفته وقابلية تنفيذه وطاقته التشغيليّة، إلى “اللجان الجهويّة لمتابعة تنسيق المشاريع”. وتُحدث هذه اللجان على مستوى الولاية ليترأسها الوالي فيما تتكوّن باقي تركيبتها من مُديري الإدارات الجهويّة. لئن كانت الفكرة في فلسفتها محمودة باعتبار أنّ المشاريع تنبع من إرادة -وخاصّة – من حاجيات المواطنين والمواطنات، إلاّ أنّ هذا التصوّر الجماعي المحلّي يبقى محتكّما لمسار إداريّ من شأنه إفراغه من محتواه.
في الواقع، الإرادة النابعة من الأسفل تبقى محكومة بالوقت الضيّق المحدّد حسب المرسوم. حيث يفترض تقديم المشروع ممضيا من 1000 ساكن في أجل شهر منذ الدعوة لتقديم المشاريع كما تظلّ خاضعة للسلطة التقديريّة للجنة الجهويّة المذكورة التي تبتّ في قبولها من عدمه على ضوء وضع التنمية المحليّة بالمعتمديّة المعنيّة مع الأخذ بعين الاعتبار المشاريع الموجودة بالجهة، ومدى استجابتها لتطلّعات المتساكنين ومتطلّبات التنمية بالمعتمدية وقيمتها المضافة ومدى قابليتها للإنجاز وكلفتها.
تجدر الإشارة الى أنّ المعايير التي يحدّدها المرسوم تتعلّق بالمشاريع المقدّمة على مستوى المعتمديّات في حين أنّ النصّ في فصله الثاني ينصّ على إمكانيّة “إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محليّة بحسب الحاجة”. فهل تخضع المشاريع الوطنية والجهوية لنفس المعايير والمسار وهل تتطلّب نفس عدد المواطنين المبادرين بها أم أنّها تحدد على مستوى اللجان الجهوية؟
إنّ الملفت للانتباه أنّ معيار “مدى استجابة المشروع لتطلّعات المتساكنين” يبقى مُبهما أمام عدم تقديم كيفيّة تثبّت اللجنة من هذا المعيار، كما يلوح متناقضا مع فكرة المبادرة المشتركة من قبل 1000 متساكن. من جهة أخرى، تبقى الموازنة بين توافق ارادة المتساكنين ومتطلّبات التنمية بالمعتمدية من أهمّ المخاطر التي من شأنها أن تفقد المشاريع المقدّمة من أيّ حظوظ في القبول. من جهة أخرى، تبقى إتاحة الفرصة أمام مقدمي المشاريع للدفاع عن مقترحهم رهينة إرادة الإدارة، حيث يُسند المرسوم إلى اللجنة القرار الفصل في إمكانية دعوتهم من عدمها.
متى انتهت اللجان الجهويّة إلى تحديد قائمة المشاريع المقبولة فإنّها توافي “لجنة متابعة تنفيذ اتفاقيات الصلح وإنجاز المشاريع بالجهات” المحدثة لدى الوزارة المكلّفة بالاقتصاد والتي يبقى بإمكانها المطالبة بمدّها بمعطيات وتوضيحات تكميليّة وإرجاع ملف المشروع إلى اللجنة الجهوية المعنية لإعادة التداول فيه وتدارك الإخلال أو النقص.
الصلح الجزائي…ربط ملتبس بالشركات الأهليّة
على خلاف مشروع المرسوم المعروض على المجلس الأعلى للقضاء الذي تمّ حلّه، والذي كان يعبّر صراحة على العلاقة بين الشركات الأهليّة والصلح الجزائي ويدمجها في نفس النصّ، قرّر سعيّد الفصل بين المرسومين واصدارهما في نفس اليوم، مُعتبرا أنّ هذه المراسيم تعدّ “خطوات تاريخيّة واستعادة لكرامة التونسيين” مُضيفا أنّها تعبّر عن إرادة الشعب التونسي و تندرج ضمن إطار بناء تونس الجديدة.
يشير المرسوم في فصل يتيم للشركات الأهليّة، حيث ينصّ فصله الثلاثون على أنّ 20% من العائدات تخصّص لفائدة الجماعات المحليّة بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محليّة جهويّة تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهليّة أو استثماريّة أو تجارية.
يثير الفصل المذكور لُبسا عميقا من حيث المصطلحات المقاصد، حيث يستعمل المرسوم عبارة “الجماعات المحليّة” والتي يعرّفها الباب السابع من الدستور ومجلّة الجماعات المحلّية بكونها البلديات والجهات والأقاليم، في حين لا يشير مرسوم الشركات الأهليّة بأي حال من الأحوال الى أي صنف من أصناف الجماعات المحليّة المذكورة. علاوة على ذلك، يشير مرسوم الشركات الأهليّة الى إحداث شركات محليّة على مستوى المعتمديات أو الولايات مع إدراج مصطلح “محليّة” للإشارة للمعتمديات. وهو ما يطرح التساؤل حول ما إذا كانت عبارة “الجماعات المحليّة” تسرّبت خطأ للمرسوم أم أنّه تمهيد لتغيير المصطلحات والخيارات التشريعية السابقة في علاقة بالجماعات المحليّة مستقبلا؟
لعلّ أسوأ ما نعيشه اليوم سواء كمواطنين ومواطنات أو كمتابعين للشأن القانوني والسياسي خصوصا، هو استفاقتنا كلّ يوم على ضوء نصوص، قد نختلف في قراءتها ووجاهتها، لكننا نجتمع في كونها مسقطة، مصاغة في غرف مظلمة وتستجيب فقط لإرادة واضعها. تصدر في الرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة ويجهل التونسيون لما صيغت وأي مشروع تخدم. الصلح الجزائي ليس سوى نصّ إضافي يؤكّد السعي المحموم للرئيس إلى تحقيق تصوّره للدولة التونسيّة، الذي ما انفكّ ينادي به منذ 2012 وإعادة تشكيل تاريخ لم يتمكّن من كتابته حينها.
لقراءة المقال باللغة الانكليزيّة