محامو تونس العاصمة في إضراب: هل تستعيد المحاماة دورها الحقوقي؟


2024-05-02    |   

محامو تونس العاصمة في إضراب: هل تستعيد المحاماة دورها الحقوقي؟

يخوض المحامون المنتمون إلى الفرع الجهوي للمحامين بتونس، الذي يضمّ لوحده أكثر من نصف جسم المحاماة في تونس (4758 من أصل 9075 محاميا)، إضرابًا حضوريًا في محاكم تونس الكبرى يوم الخميس 2 ماي 2024 ملحقًا بوقفة احتجاجية في قصر العدالة. ويأتي هذا الإضراب، وفق البيان الذي أصدره الفرع إثر جلسة طارئة عقدها بتاريخ 29 أفريل 2024، “احتجاجًا على التّضييقات التي يتعرّض لها لسان الدّفاع أثناء ممارسته حقّه الطبيعي في الدفاع عن الحقوق والحريات”. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقترن يوم الإضراب بتاريخ انعقاد جلسة دائرة الاتهام في ملفّ قضية “التآمر”، باعتبار أنّ التضييقات غير المسبوقة التي تتعرّض لها هيئة الدفاع عن السياسيّين المعتقلين في قضيّة التآمر، طيلة الأسابيع الأخيرة، كانت هي العنصر الدافع لاتخاذ قرار الإضراب.

ولكن الصورة لا تقتصر على ذلك. إذ ينضوي القرار، أيضًا، في سياق تأكيد انخراط هياكل المهنة في التصدّي للخروقات والانحرافات الإجرائية المسجّلة وآخرها تجاوز المدة القصوى للإيقاف التحفظي بحقّ المعارضين السياسيين الستة الموقوفين منذ ما يزيد عن 14 شهرًا، من بينهم المحاميين غازي الشواشي ورضا بالحاج. ويتقاطع الإضراب، في هذا الجانب، مع إضراب الجوع الذي يخوضه المعتقلون السياسيون الذين باتوا في وضع الاحتجاز القسري بعد عدم تنفيذ الإفراج الوجوبي عنهم طبق القانون. 

إضراب في مواجهة حصار لسان الدفاع

يشهد مسلسل التضييقات التي يواجهها المحامون النائبون في قضية “التآمر” تصعيدًا غير مسبوق خصوصا بعد تعجيل قاضي التحقيق بختم البحث رغم سابقية تعهّد محكمة التعقيب بالقضية إثر الطعن في قرار دائرة الاتهام برفض الإفراج بداية شهر أفريل،  في انحراف خطير بالإجراءات. وآخر أشكال التضييق هو امتناع الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس عن تسليم بطاقات الزيارة للمحامين بشكل طبيعي، وذلك بعدم منحها لجميع المحامين، وأيضًا لزيارة جميع المعتقلين، وذلك على خلاف ما هو معمول به.

وتتعلّل الوكالة العامة بالاكتظاظ في جناح الزيارة بسجن المرناقية، وهو الأمر المردود عليه حيث لم يسبق مطلقًا التعلّل بذلك لتقييد زيارة المحامين عمومًا أو في هذه القضية بالذات، على الأقلّ منذ نشرها في مكتب قاضي التحقيق. كما أنّ هذه العلّة لا يمكن أن تبرّر، بوجه عامّ، رفض تمكين المحامي من زيارة منوّبيه إنفاذًا لحقّ الدفاع. وقد شمل التضييق أيضًا حقّ الاطلاع على الملف وذلك بتعطيل تصويره لدى دائرة الاتهام لإعداد وسائل الدفاع. كما تتعمّد الوكالة العامة أن ينتظر المحامون في قضية “التآمر”، ممّن تمّ قبول تسليمهم بطاقات الزيارة، لوقت طويل من دون أي موجب قبل منحهم إياها وذلك على خلاف زملائهم في قضايا الحق العام، على نحو يؤشر عن نيّة استهداف وتنكيل ممنهجيْن. كما اقترن الامتناع عن تسليم بطاقات الزيارة، أيضًا، مع اتخاذ إدارة سجن المرناقية لتدابير تضييقيّة جديدة في الزيارة كفرض مقابلة السجين من طرف محامٍ وحيد على خلاف ما هو معمول به بإمكانية زيارة محاميين اثنين لنفس المتهّم في مكتب الزيارة. 

هذه التضييقات سُرعان ما دفعتْ الفرع الجهوي للمحامين للتدخّل من أجل فرض تطبيق القانون. إلاّ أنّ الوكالة العامّة واصلتْ في تعنّتها من دون أيّ وجه حقّ. يظهر إذًا أنّ الأدوات القضائيّة للسّلطة هي التي تستدعي الصّدام، على نحو يعزّز التقدير أنها تأتي تنفيذًا لتعليمات من السلطة السياسية عنوانها التنكيل بالمحامين في قضية “التآمر”. إذ سبق للسّلطة استهداف أعضاء هيئة الدفاع بملاحقات قضائية على خلفية تصريحات كشفتْ الخلفية السياسيّة للقضية وخواء مضامينها على نحو أحرج السلطة أمام الرأي العام. إحراج لا زالت السلطة تسعى لتفاديه من خلال تنصيص قاضي التحقيق في ختم البحث على سريان قرار منع التداول الإعلامي إلى غاية “تعهّد المحكمة في الأصل”. ورغم أنّ دائرة الاتهام هي محكمة تنظر في الأصل في إطار دورها الاستقرائيّ، لا تزال النيابة العامة بالقطب تسعى لفرض تأويل يفرض إبقاء القضية بعيدًا عن دائرة أضواء النقاش العمومي.

ولا يمكن قراءة التضييقات الجديدة ضدّ المحامين بمعزل عن كلمة رئيس الدولة قيس سعيّد، بمجلس الأمن القومي بتاريخ 15 أفريل 2024. فبعد أن حسم بالإدانة في حق المتهمين ودافع عن سلامة إجراءات القضية، ما يزيد في تأكيد دور ساكن قرطاج المباشر في فرض القرارات القضائية، صرّح سعيّد أنّ “التمطيط في إجراءات المحاكمة جعل الذين من وراء القضبان يتآمرون مرة أخرى”. وهو تصريح فُهم بأنّ المقصود منه محاورات المحامين مع المعتقلين في جناح الزيارة. في هذا الصدد، دعت هيئة الدفاع في بلاغ بتاريخ 20 أفريل 2024، هيئة المعطيات الشّخصيّة للقيام بزيارة عاجلة لسجن المرناقية للتثبّت من مدى مطابقة ظروف مقابلة المحامين لمنوّبيهم لمقتضيات قانون حماية المعطيات الشخصية ونظام السجون. كلّ هذه المؤشرات تؤيّد جدّية التقدير القائل بأنّ استهداف هيئة الدفاع في قضية “التآمر” جاء هذه المرّة بتوجيه رئاسي مباشر.

عميد المحامين ورئيس الفرع في الواجهة

حجم الانحرافات الخطيرة في ملفّ قضية “التآمر” دفع عميد المحامين حاتم مزيو لتقديم إعلام نيابة لدائرة الاتّهام في حقّ المحامين السبعة المشمولين بقرار ختم البحث، وهم كلّ من غازي الشواشي، رضا بالحاج، ومحمد لزهر العكرمي، والعياشي الهمامي، وبشرى بالحاج حميدة، ونورالدين البحيري وأحمد نجيب الشابي. كما قدّم العميد مع رئيس الفرع الجهوي للمحامين العروسي زقير مطلبًا مشتركًا للإفراج الوجوبي في حق كلّ من الشواشي ورضا بالحاج بعد استنفاذ المدة القصوى للإيقاف التحفظي.

انخراط المحاماة الرسمية في الدفاع عن المحامين المعنيين بالقضية ظهر متأخرًا وبعد تصاعد الانتقادات الموجّهة لهيئة المحامين على وجه الخصوص طيلة الأشهر الماضية. وكان أنصار “تحييد الهيئة” داخل جسم المحاماة يدفعون للنأي بالنفس من زاويتين: أولًا التمييز بين المحامين المحالين على خلفية أداء عملهم والآخرين المحالين على خلفية نشاطهم السياسي والحقوقي، تفاديا لتوظيف هياكل المحاماة في “معارك السياسة”، وثانيًا إبقاء الحسم حول خلفية القضية ومدى جديّة مضامينها لحكم القضاء، في تجاهل لواقع نسف استقلاليته ووضع يد السلطة التنفيذية على منافذه.

نجح هذا التيار داخل هيئة المحامين في إبطاء تفاعلها مع قضية “التآمر” العام الفارط، فلم تصدر بيانها على سبيل المثال إلاّ بعد شهر من إثارة التتبع متأخرة عن التفاعل الحيني للمنظمات الوطنية على غرار المنظمة الشغيلة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. كما ظلّت الهيئة مكتفية بالتعبير عن رفض خرق الإجراءات دون تأطير القضية في سياق استهداف المعارضة والحريات العامة. ولكن تطوّر موقف الهيئة تباعًا خاصة بعد تصاعد الملاحقات القضائية غير المسبوقة ضد المحامين على خلفية أعمالهم، مع انسداد العلاقة مع قنوات السلطة. وكان بيان 21 مارس 2024 بمثابة قطيعة عبر إثارة “تردّي الوضع الحقوقي” وتأكيد “التزام المحاماة بالدور الوطني للمحاماة التونسية وبرسالة الدفاع عن الحق والعدل والحرية وعلوية القانون”.

راهنًا، يتأسس التصدّر المزدوج للعميد ورئيس الفرع للواجهة عبر مباشرة الإجراءات باسمهما بمدخليْن اثنين على الأقلّ: زاوية الخروقات الإجرائية الفادحة باعتبار تعارضها المطلق مع القانون، وزاوية مساسها بالمحامين المتهمين وبالخصوص الموقوفين منهم. ولكنّ انخراط المحاماة الرسمية يؤشر، واقعًا وآثارًا، لتبنّ للقضية وذلك بوصفها محاكمة سياسية أثارتها السلطة ضد معارضين على خلفية مواقفهم وممارستهم حريات الاجتماع والتعبير. وهو ما تبيّن، بشكل واضح، بخواء قرار ختم البحث من قرائن الإدانة المزعومة واستناده على شهادتين محجوبتيْ الهوية لكيل التهم الخطيرة التي تصل عقوبتها للإعدام. ختمُ بحثٍ دفع حتى محامين اختاروا في البداية النأي بأنفسهم عن الجدل، لتأكيد ضعفه وتهافته، ليتحوّل القرار إلى مادة للتندّر في نقاشاتهم. إذ تأكّد أنّ قضية “التآمر” هي النموذج التطبيقي للمحاكمات السياسية بعد 25 جويلية الكاشفة لخيار السلطة في تقييد حرية معارضين ينتمون لمشارب فكرية وسياسية مختلفة وتكميم أفواههم عبر فرض إيداعهم في السجن، بتُهم خطيرة تصل عقوبتها الإعدام، وملفات فارغة وضعيفة الإخراج، وقضاء خاضع تحت الترهيب.

إضراب في سياق حالة احتجاجية

تشهد الحالة الاحتجاجيّة داخل جسم المحاماة في الفترة الأخيرة تصاعدًا. فقد صدرت عريضة بإمضاء أكثر من 500 محام، بينهم 6 عمداء سابقين، تطالب بالإفراج عن زميليْهما الشواشي وبالحاج. فيما أعلن العميد السابق شوقي الطبيب عن بدء اعتصام مفتوح بدار المحامي وإضراب عن الطعام، “أمام تواصل فتح الملفات القضائية الكيدية وتلفيق التهم ضده”. ولعلّ عنوان “الجوع ولا الخنوع” الذي اختاره الطبيب يذكّر، وإن لم يصرّح بذلك مباشرة، بإضراب الجوع الذي خاضه عدد من القضاة في صيف 2022 احتجاجا على مذبحة الإعفاءات، التي ساهمت بشكل كبير في إخضاع القضاء لتعليمات السلطة التنفيذية وتدهور الوضع الحقوقي. في هذا الزخم، يأتي إضراب محامي تونس العاصمة ضمن مشهدية استعادة هياكل المهنة زمام المبادرة للتصدّي للاستهداف الممنهج لمنظوريها. فبعد بيان الهيئة قبل شهر ونصف، تواصلت رسائل السلطة “المعادية”، من بينها إبعاد رئيسة المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية بتونس بعد الحكم بعدم سماع الدعوى في القضية التي رفعتها وزيرة العدل ضد منسق هيئة الدفاع في قضية “التآمر” عبد العزيز الصيد. تأكّد بذلك أنّ السلطة غير ساعية للعودة خطوة للوراء، ولم تكن التضييقات الأخيرة للمحامين في ملف “التآمر” إلاّ مواصلة في مسار معادي للسان الدفاع، الذي كان صوته عاليًا في كشف حقيقة المحاكمات السياسية ضد المعارضين ومعتقلي الرأي بوجه عامّ.

وضعت هذه الحالة الاحتجاجية الهياكل، عمادة وفرعًا، أمام اختبار الانتصار لضمانات الدفاع ومبادئ المحاماة خصوصا بعد استطالة فترة الحذر في العلاقة مع السلطة السياسية سواء رئيس الجمهورية أو وزيرة العدل. إذ أصبحت الهيئة، والعمادة تحديدًا، متحفّزة لإبعاد أي شبهة خذلان في وسط مهني يجدُ نفسه، في عديد المحطات، محلّ استهداف مركّز. ولا ريب أنّ استحقاق “الدفاع عن الدفاع” ليس بعيدًا عن مناخات التنافس التقليدي بين الهيئة وفرع تونس، خصوصًا قُبيل عام ونيف من مواعيد الجلسة العامة الانتخابية لهياكل المهنة.

في جانب آخر، دفع تردّي مستوى الخدمات في المرفق القضائي بتونس العاصمة رغم جلسات التنسيق التي عقدها الفرع مع رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية في تحفيز الحالة الاحتجاجية بين المحامين. وهو العنوان الثاني المؤسس لقرار الإضراب. تردي الخدمات كان قد دفع أيضًا لتصاعد الاحتقان في عديد الجهات، على نحو أدى، خلال الأسابيع الأخيرة، لإضراب المحامين في القصرين والمهدية.

إضراب 2 ماي بتونس العاصمة قد لا يكون إلا مبتدأ لسلسلة من تحركات احتجاجية للمحامين جهويًا ووطنيًا، وهو يحمل صبغة إنذارية، على نحو تأكيد فرع تونس استعداده لمقاطعة التساخير والإعانات العدلية والحضور لدى باحث البداية وإن لزم الأمر مقاطعة الدوائر الجنائية إلى نهاية العام القضائي. إنذار موجّه للسلطة السياسيّة لإيقاف استباحة لسان الدفاع، باعتبار أن التواصل مع الأدوات القضائية فيما مضى ظلّ قاصرًا دون صدّ الاستباحة، بما يؤكد الصورة الواضحة أصلا، وهي أنّ الاستهداف وتحريك الملفات يأتي من السلطة السياسية رأسًا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني