لم تشذّ ذكرى وفاة الرئيس بورقيبة الأخيرة على عادة السنوات الأخيرة. فقد استغلّها الرئيس قيس سعيّد، مجدّدا، ليطلق منها إعلانًا سياسيّا مهمّا. ففي تاريخ 6 أفريل 2021، أعلن سعيّد عن قرار رئاسي واضح بمنع إرساء المحكمة الدستوريّة، مما مهّد لتفجير البناء بأكمله في غضون السنة نفسها. وفي الذكرى الموالية، تمّ إعلان البدء في تنزيل مشروع البناء القاعدي عبر اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد. وقد حمل إعلان 6 أفريل 2023 مواقف لا تقلّ أهمّية: “تونس لن تقبل الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدّي إلى مزيد من التفقير”، في إشارة صريحة إلى الاتفاق المتعطّل مع صندوق النقد الدولي. وحين سألت الصحفيّة عن البدائل، كان جواب الرئيس الذي لا يحاور في العادة إلاّ نفسه: “نعوّل على أنفسنا”.
جاء الموقف الجديد الرئيس بعد تأجيل صندوق النقد الدولي في ديسمبر الماضي، اجتماع المجلس التنفيذي الذي كان مبرمجا للنظر في الاتفاق مع تونس، الذي أقرّه خبراء الصندوق في منتصف أكتوبر 2022. هذا القرض، الذي تبلغ قيمته 1.9 مليار دولار تُصرف على دفعات خلال أربع سنوات، جاء ليختم مسارًا تفاوضيّا بدأ مع حكومة هشام المشيشي في فيفري 2020، وواصلت فيه حكومة نجلاء بودن الخاضعة تماما، قانونيا وسياسيّا، لسلطة الرئيس سعيّد، منذ استلامها المهامّ في أكتوبر 2021 بعد انقلابه على دستور 2014. وهو حاضر بوضوح في مرسوم الماليّة لسنة 2023، الذي ختمه الرئيس سعيّد، ليس فقط كشرط ضروري لتعبئة الموارد من العملة الصعبة اللازمة لسدّ العجز الهيكلي في ميزان الدفوعات وتفادي سيناريو التخلّف عن السداد، ولكن أيضا من خلال الشروع في تطبيق شروطه المسبقة، بخصوص الرفع التدريجي من الدعم على المحروقات والمواد الأساسيّة.
وفي حين يشترط صندوق النقد الدولي التزاما صريحا من الرئيس بتنفيذ الإصلاحات، جاءت مواقف الرئيس المعلنة والمتواترة منذ أشهر، على نقيض ذلك. ومن أبرزها الآتية: (1) امتناعه عن ختم مشروع المرسوم الذي صادقت عليه الحكومة في 9 فيفري 2023 والذي يفتح باب التفويت في المنشآت العموميّة، (2) إقالته وزيرة الصناعة مباشرة بعد تصريح لها حول مضيّ الحكومة في برنامج رفع الدعم، و(3) تشديده على أنّه “ليس من حق أي جهة كانت في تونس أن تتصرف خلاف السياسة التي يحددها رئيس الجمهورية”، لتجعل فرضيّة إمضاء الاتفاق تتقلّص شيئا فشيئا. في الأثناء، تبذل حكومة اليمين المتطرف الإيطالية برئاسة جورجيا ميلوني جهودا كبيرة لإقناع شركائها الأوروبيين وصندوق النقد الدولي بالموافقة على القرض، تفاديا “للانهيار” وما سينتج عنه من موجات هجرة. هكذا تحوّلت تونس إلى مادّة على جدول أعمال اللقاءات الإقليميّة والدوليّة، من دون أن يكون لشعبها، الذي أصبح يكتشف أخبار بلاده ومواقفها ومصيره عبر وكالات الأنباء الإيطالية، صوتٌ يُسمع. تُوّجت الجهود الإيطالية بزيارة ثلاثية، جمعت رئيسة الوزراء الإيطالية برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته إلى تونس في 11 جوان، انتهت إلى “حزمة شراكة شاملة”، أبرز أعمدتها تتعلّق بالهجرة والمساعدة المالية الكلية “حال إنجاز الاتفاق”.
فماذا يريد الرئيس سعيّد فعلا؟ تطوّر الموقف وتناقضه في أحيان كثيرة مع الممارسة، قد يوحي بأنّ الرئيس لا يرفض مبدئيا برنامج “الإصلاحات”، بقدر ما يرفض شرط التزامه العلني بها، بما ينجرّ عنه من كلفة سياسيّة مباشرة لا يرغب في دفعها. ففي حين لا يبدو التعويل على مصادر تمويل خارجي بديلة، سواء من دول الجوار أو من الشرق البعيد، أمرًا واقعيّا وفي المتناول على المدى القصير، ربما يكون الرئيس يبحث عن اتفاق معدّل مع صندوق النقد الدولي، بشروط أخفّ، معوّلا في ذلك على خوف الأوروبيين من “جحافل المهاجرين”. ولكن هل لهذا التمشي حظوظ في النجاح؟ وهل هو يعبّر، كما يروّج له أنصار الرئيس، عن سلوك سياديّ من شأنه تعديل موازين القوى والتقليص من تبعيتنا؟ هل أصبحت الديمقراطيّة، التي اقترنت في تونس بتتالي الاتّفاقات مع صندوق النقد الدولي، مرادفًا للخنوع أمام الخارج وللتقشف المالي في الداخل، حتى جاء “الرجل القويّ” الماسك بكلّ السلطة كي يقف أخيرا في وجه الإملاءات وينتصر للسيادة وحقوق المجتمع؟ أم أنّ ما عطّلت التجربة الديمقراطية، بالرغم من قصورها عن تسييس المسألة الاقتصاديّة، تمريره من إصلاحات “موجعة”، يمرّ اليوم بقوّة الاستبداد وإغواء الشعارات الرنانة؟ أم أنّ مزمار الرئيس الحاكم، الذي لا يفهم لغة الأرقام والمتوّهم لبدائل لا أثر واقعيّ لها، سيقود وحده البلاد والعباد إلى الانهيار؟
تونس وصندوق النقد الدولي والديمقراطيّة: فخّ دوفيل؟
يكاد يتّفق الجميع أنّ “كعب أخيل” التجربة الديمقراطيّة في تونس كان المسألة الاقتصاديّة. فإذا لم تجد الديمقراطيّة شعبا يدافع عنها، فذلك يعود في جزء هامّ منه إلى عدم تحقيقها مكاسب مادّية لفئات اجتماعيّة يمكن أن تشعر بأنّها مستفيدة منها، واقترانها في المخيال العامّ بالعجز والفشل والأزمات. لكنّ المسؤوليّة السياسيّة للنّخب الحاكمة المتعاقبة طيلة عشريّة الانتقال، لا تنفي الدور المباشر الذي لعبه صندوق النقد الدولي في تحديد السياسات النقديّة والاقتصاديّة والماليّة[1]. فقد كانت الأجندة التشريعيّة في المجالات الاقتصاديّة محكومة بشكل صريح ومباشر بمشروطيّة القروض. وكان الهاجس الأكبر لقوانين الماليّة، هو احترام “معايير الأداء الكمّية” في الاتفاقات مع الصندوق، بما ضيّق بشكل كبير هامش السياسات العمومية، وفرض تقشّفا مستحيل التطبيق بعد ثورة حرّرت المطلبيّة الاجتماعيّة بشكل غير مسبوق، بما انعكس بشكل مباشر على وضعيّة المرافق العموميّة وعلى الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة للسكان.
مهّدت “شراكة دوفيل”، التي تشكّلت في ماي 2011 بين 10 مؤسسات ماليّة دولية ومجموعة الثماني إضافة إلى دول خليجيّة، بهدف تمويل المشاريع ودعم “الحوكمة الرشيدة” في الدول العربيّة التي تعرف انتقالا ديمقراطيّا، لضبط الانتقال ضمن حدود نموذج اقتصادي معيّن. لعب صندوق النقد الدولي دورا محوريّا في هذه “الشراكة”، أو “كارتيل دوفيل” كما يفضّل الباحث في المرصد التونسي للاقتصاد شفيق بن روين تسميتها. سهّلت الشراكة ذهاب تونس إلى صندوق النقد الدولي في 2013، من أجل “قرض استعداد ائتماني”. تكرّر بذلك سيناريو 1986، السنة التي تقسم التاريخ الاقتصادي التونسي إلى اثنين، وتختزل المرور من دولة تنمويّة إلى دولة مكبوحة بإشراف صندوق النقد الدولي. فقد مهّد “الاستعداد الائتماني”، مجدّدا، إلى اتفاق “تسهيل الصندوق الممدّد” (2016-2020)، الذي يتميّز بمشروطيّة صارمة. لكنّ بطء نسق “الإصلاحات” وعجز الحكومات على تطبيق الشروط المتفق عليها، أمام مقاومة الأجسام الوسيطة والشارع، أدّى إلى توقّف البرنامج في 2019 وعدم صرف أقساطه الأخيرة. في الأثناء، ساهم منع البنك المركزي من إقراض الدولة مباشرة منذ دخول القانون المنظم للبنك المركزي حيز النفاذ، إضافة إلى الترفيع المتواصل في نسبة الفائدة المديريّة كسبيل وحيد لكبح التضخّم، في جعل الاقتراض الداخلي مكلفًا جدّا، وبالتالي تفضيل التمويل الخارجي الذي عمّق شيئا فشيئا الحاجة إلى التمويل بالعملة الصعبة، في ظلّ انخرام ميزان الدفوعات. وقد كان للتعويم الجزئي للدينار بين 2016 و2018، بإيعاز من الصندوق[2]، أثر مباشر في ارتفاع نسبة التداين، التي تطوّرت من 46،5% في آخر 2013 إلى أكثر من 77% في آخر 2018[3]، فقد تضخّمت قيمة الديون بشكل سريع، من دون أن يحقّق التعويم أهدافه في تنشيط الصادرات والحدّ من العجز التجاري. يبقى أنّ تعويم الدينار، مثله مثل بقيّة الإجراءات، ظلّ أقلّ حدّة من “الإصلاحات” الشبيهة التي فرضها صندوق النقد الدولي في مصر السيسي، التي لم تستطع بالرغم من (أو ربما بسبب؟) ذلك، وبغضّ النظر عن كلّ محاولات التسويق للإنجازات الكبرى، الخروج من النفق. وهذا الفرق في حدّة الإجراءات يعود، حسب دراسة للباحثين حمزة المدب وعمرو عدلي، إلى المناخ الديمقراطي في تونس[4].
عمّقت جائحة كورونا منذ 2020 الأزمة في تونس كما في عدد هام من الدول متوسطة الدخل، التي لم تستطع الاستفادة من مبادرة تعليق خدمة الدين التي اقتصر مجالها كالعادة على الدول الأفقر. في المقابل، تحصّلت تونس على قرض جديد من الصندوق، وفق آليّة “أداة التمويل السريع”، قبل أن تبدأ منذ 2021 مفاوضات جديدة من أجل اتفاق “تسهيل الصندوق الممدد”، الذي أثمر في 15 أكتوبر الماضي اتفاقًا على مستوى الخبراء. لم يشذّ الاتفاق الأخير عن سابقيه. فعلى الرغم من المجهود الاتصالي، في البيان الصحفي، لإظهار البعد الاجتماعي للإصلاحات، بقيت الرهانات هي نفسها، وأهمها الضغط على كتلة الأجور في الوظيفة العمومية وإصلاح المنشآت العمومية بما يفتح الباب إلى التفويت فيها، وبالأخصّ، الإلغاء التدريجي لدعم المواد الأساسية والمحروقات، بعنوان “توجيهه لمستحقيه”. وقد بدأ مشروع رفع الدعم منذ سنوات، بتمويل من البنك الدولي عبر إقرار قانون “الأمان الاجتماعي” الذي يفترض أن يمرّ عبره الدعم المالي المباشر للعائلات الفقيرة، لكنّ تطبيقه تعطّل إلى غاية إعداد البنية التحتيّة اللازمة وأساسا قاعدة البيانات للعائلات المستحقّة.
موقف مؤسسات “بريتون وودز” من دعم المواد الأساسية والمحروقات لا ينطلق فقط من كلفته على الميزانيّة، وإنّما يستند بالأخصّ إلى إخلاله بقانون العرض والطلب وما يخلقه من “مؤثرات خارجية سلبية” (negative externalities)[5]. فلا يرى هذا الموقف الأورثودوكسي أنّ سياسة الأجور المنخفضة تجعل صندوق التعويض أساسيّا للقدرة الشرائيّة للغالبية الساحقة للتونسيين، ولا أنّ دعم الغذاء، بالمقارنة بالبرامج الاجتماعية، هو الأكثر إسهاما في التقليص من الفقر[6]، ولا أنّ حصر العائلات الفقيرة في اقتصاد جانب كبير منه غير منظّم يكاد يكون مستحيلا، ولا أنّ آثار تعويض دعم السلع بالتحويلات الماليّة المباشرة سيكون أقسى على عشرات آلاف النساء المعيلات لأسرهنّ. فرغم أنّ القراءة الخاطئة لصندوق النقد في الأزمة الآسيويّة في التسعينات، ثمّ بالأخصّ الأزمة المالية لسنة 2008، دفعت إلى تغيير ملحوظ على مستوى الخطاب والاتصال، إلاّ أنّ السياسات لم تتغيّر جوهريا، خصوصا في مجال الحماية الاجتماعيّة.
كان من أبرز شروط صندوق النقد الدولي، في بداية المفاوضات حول اتفاق تسهيل الصندوق الممدد سنة 2021، إقامة حوار حول الإصلاحات، واعتماد مقاربة تشاركيّة تضمن انخراط القوى الحيّة، وأساسا اتحاد الشغل. لكنّ هذا الشرط لم يعد مهمّا بعد 25 جويلية 2021. فقد انتقلنا من اشتراط التشاركيّة إلى اشتراط التزام رأس السلطة. إذ لم يكن اشتراط التشاركيّة نابعا من قناعة ديمقراطيّة راسخة، أو من حرص خاصّ على المقبولية الشعبيّة للإجراءات، ولكن فقط لضمان تنفيذها. احتكار كلّ السلطة بين يدي رئيس مطلق الصلاحيات لا يزعج إذًا بالمرّة صندوق النقد الدولي، المتعوّد على العمل مع الأنظمة الاستبداديّة. وهو ما يدفعه في العادة إلى التشدّد أكثر فأكثر في المشروطيّة، بما أنّ العواقب الاجتماعيّة أمام إنفاذ الإصلاحات أقلّ.
سعيّد ينقلب على مراسيمه
في أواخر ديسمبر 2021، خرجت وزيرة الماليّة سهام نمصيّة في ندوة صحفيّة، لتعلن للتونسيين محتوى “قانون المالية”، الذي صاغته إدارتها من دون أن يمرّ عبر أيّ تداول ديمقراطي علني، ليختمه الرئيس سعيّد، المستحوذ على كلّ السلطات، في شكل مرسوم. تعلّل الرئيس حينها “بالإرث الثقيل” و”الأوضاع المتراكمة”، ليبرّر المصادقة على المرسوم و”إكراهاته”، الذي ظلّ حبيس المقاربة المحاسباتيّة المحضة ولم يختلف في المضمون عن قوانين الماليّة السابقة. أعلنت الوزيرة حينها صراحة على أنّ هذا المرسوم هو مؤشّر “لانطلاق “برنامج الإصلاحات” و”بدء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”.
توقّعت نمصيّة حينها أنّ إمضاء الاتفاق وصرف القسط الأوّل سيكون في أفريل 2022، وأكدت أنّ ذلك شرط أساسي للإيفاء بالتعهدات الماليّة، بل رفضت باستماتة الإجابة عن سؤال “الخطة ب”. لم ترَ الحكومة ولا الرئيس الذي يكره “الغرف المظلمة” حاجة لنشر “برنامج الإصلاحات” الذي انطلق تطبيقه، والذي يمتدّ، كالاتّفاق اللاحق مع صندوق النقد الدولي، على أربع سنوات. لكنّ منظّمة “أنا يقظ” استطاعت التحصّل على الوثيقة “السريّة” ونشرها. نجد في هذه الوثيقة أنّ عقد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي شرط ليس فقط للخروج على الأسواق المالية الدوليّة، ولكن أيضا للحصول على التمويل متعدد الأطراف (الهيئات والصناديق الإقليمية والدولية)، والثنائيّة (قروض من دول أخرى بما فيها المملكة العربية السعودية) باستثناء الجزائر التي يرتبط تمويلها بتطوّر أسعار الموادّ النفط والغاز. كما نجد في “رهانات الأمد القصير” أنّ الرفع التدريجي لدعم الطاقة “شرط مسبق” لإمضاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو ما تمّ عبر خمس زيادات شهريّة تحت عنوان “التعديل الآلي للأسعار”، بين فيفري ونوفمبر 2022 ، ارتفع بموجبها سعر البنزين الخالي من الرصاص مثلا على كامل الفترة بأكثر من 20%. ورغم أنّ الأسعار العالميّة ارتفعت خلال أشهر الصيف، كان ملحوظا أنّ نسق الزيادة المتسارع توقّف تمامًا بين ماي وأوت، وهي فترة استفتاء سعيّد على دستوره.
في الاتجاه نفسه، صادقت الحكومة في سبتمبر 2022 على مجموعة مراسيم، ختمها الرئيس سعيّد بالتزامن مع حصول تونس على الاتفاق المبدئي على مستوى الخبراء. أهمّها المرسوم 68، بعنوان تحسين نجاعة إنجاز المشاريع العمومية والخاصّة، الذي ترجم مشروع الـ “42 إجراء لتنشيط الاقتصاد” الذي أعلنت عنه الحكومة في أفريل 2022. تسرّبت إلى هذا المرسوم إجراءات أخرى لم يسبق الإعلان عنها، من بينها إزالة العقبات أمام المستثمرين الأجانب لامتلاك عقارات سكنيّة تتجاوز قيمتها مبلغًا معيّنا، باسم “دعم الاستثمار في السكن والقطاع العقاري”، والسماح بملكيّة رأس المال الأجنبي للأراضي الفلاحيّة أيضا، عبر تغيير تعريف “الشركة التونسيّة”، بعد أن سقطت محاولات تمرير هذا الإجراء في البرلمان ثلاث مرّات زمن الانتقال الديمقراطي. وإن لم تظهر هذه الإجراءات بشكل صريح ضمن شروط صندوق النقد الدولي في “إعلانات النوايا” للفترة الماضية، إلاّ أنّها تنسجم تماما مع رؤيته وما دفع في اتجاهه في بلدان أخرى، وتتناقض بالأخصّ مع الخطاب السيادويّ للرئيس ومعجم “التحرير الوطني” الذي يحبّذه. كما طبّق الرئيس إحدى توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الصريحة منذ سنوات، والتي تعطّل إنفاذها في زمن الانتقال الديمقراطي، بإصداره المرسوم عدد 67 الذي فتح الباب لتحرير نِسب الفائدة[7]. حيث يرى الصندوق، دائما باسم قانون العرض والطلب، أنّ السقف التشريعي لنسب الفائدة هو الذي يحدّ من نفاذ المؤسسات الصغرى والمتوسّطة إلى التمويل، نتيجة منع البنوك من وضع نسبة فائدة عالية تجزي المخاطرة التي تمثّلها هذه القروض، ويقصي حلولا أخرى كنظام الكوتا أو إصلاحات جذرية للمنظومة البنكيّة.
بعد ذلك، صدر مرسوم الماليّة، للمرّة ثانية من دون أيّ تداول ديمقراطي، فمضى في تطبيق الاتفاق مع صندوق الدولي. إذ تراجعت ميزانية دعم الموادّ الأساسيّة بـ 33% مقارنة مع قانون المالية التعديلي لسنة 2022، بناء على “البرنامج الإصلاحي الشامل لمنظومة الدعم” بعنوان “توجيهه لمستحقيه”[8]. كما تقلّصت ميزانيّة دعم المحروقات بـ 25%، بالاعتماد على آلية التعديل الآلي للأسعار وذلك “إلى غاية بلوغ الأسعار الحقيقيّة”.
لم تكن هذه الخطوات كافية للوصول إلى موافقة المجلس التنفيذي، بعد اتفاق الخبراء بشهرين. فعلى الرغم من أنّ موافقة المجلس التنفيذي تتلو في الغالبيّة الساحقة من الحالات اتفاق الخبراء، فهي تشترط أيضا إرسال الدولة رسالة النوايا المتفق عليها، وكذلك، بالأخصّ في الوضعيّة التونسيّة، توفير مصادر تمويل إضافيّة تعزز حظوظ “نجاح البرنامج”، وربّما اتخاذ خطوات تنفيذا للشروط المسبقة، وعلى الأرجح الشروط التي تتمحور حول تنقيح القانون المنظم للمنشآت العمومية والمضيّ قدما في رفع الدعم، أقلّه على المحروقات. وإضافة إلى صعوبة توفير مصادر التمويل، لم تقع زيادات إضافية في أسعار المحروقات منذ نوفمبر الماضي، ولم يختم الرئيس مشروع المرسوم المنقح لقانون 1989 المتعلق بالمنشآت العمومية، الذي صادقت عليه الحكومة في فيفري الماضي. في الأثناء، تعدّدت منذ شهر نوفمبر تصريحاته المعارضة لشروط صندوق النقد، في البداية تلميحا[9]، وصولا إلى كلمته الصريحة في 6 أفريل 2023 في المنستير. بل أنّ رئاسة الجمهورية، التي لا تعترف في العادة بوسائل الإعلام، تدخّلت بشكل لافت لنفي الخبر الذي جاء على لسان وزير التجارة الأسبق محسن حسن، بأنّ الوفد التونسي في دافوس حمل معه لصندوق النقد الدولي رسالة النوايا ممضاة من الرئيس. لم تنفِ الرئاسة حينها إرسال رسالة النوايا، وإنّما فقط “توقيع الرئيس على أيّ وثيقة تتعلّق بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي”[10]. وكأنّ الرئيس، الذي يحتكر السلطة ويجسّد في خطابه الدولة والشعب، يصبح خارج السلطة حين يتعلّق الأمر بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
لماذا انتظر الرئيس إذًا انتهاء المفاوضات ليصدح بمعارضته الإملاءات؟ لا تبدو فرضيّة جهله بمضمون الإصلاحات وعدم متابعته لمسار التفاوض حتى منتصف أكتوبر[11] واردة. فقد كانت الشروط معلومة للجميع، وقد مضى بنفسه في تطبيق بعضها. ربما أراد سعيّد البقاء خارج الاتفاق، وتحميل الحكومة وحدها المسؤوليّة ليُقيلها إذا ما أشعل تطبيق “الإصلاحات” الاحتجاجات الإجتماعيّة، فجاء الرفض الصريح كردّة فعل على الضغط الممارس عليه بحثا عن “التزام صريح”. أو ربما ترتبط تحوّلات مواقفه بأجندته لاستكمال رسالته النبويّة، أي مشروع البناء القاعدي، حيث انتظر تمرير دستوره الفوقي ثمّ انتخاب برلمانه، وإحكام قبضته القمعيّة، كي يفتح هذه الجبهة بكلّ ما قد ينجرّ عنها من مخاطر على نظامه. في جميع الحالات، فإن تطور الأحداث كما بيناه هنا يوضح أن الرئيس تحرك بالدرجة الأولى على خلفية خوفه على صورته وعلى نظامه وعلى سلطته، أو كما يحبّذ هو أن يسميها، خوفه على “السلم الأهليّة”. بمعنى أن ما يقلق الرئيس ليس حسه الاجتماعي أو انتصاره للفقراء أو “الإصلاحات” وخطورة الإملاءات في حدّ ذاتها، إنما قبل كل شيء كلفتها السياسيّة على نظامه.
هل من بدائل في جعبة الرئيس؟
ما عدا شعار “التعويل عن أنفسنا”، لم يعطِ الرئيس بدائل حين صدح برفضه إملاءات صندوق النقد الدولي. فبعد أن انتظر سعيّد انتهاء مسار التفاوض كي يعلن رفضه لمخرجاتها، انتظر شهرين إضافيّين بعد خطاب 6 أفريل، ليستقبل مجموعة من الأساتذة المختصّين في الاقتصاد للنظر في “الإجراءات الممكن اتخاذها لتحقيق التوازنات المالية المنشودة على أساس العدل الاجتماعي”. لمّح البلاغ المصاحب للاجتماع مجدّدا إلى فكرة مراجعة اتفاقيات التجارة الحرّة والحدّ من الواردات، بعد مقدّمة العادة حول من “يعملون في الظلّ” خدمة لمن لا دأب لهم سوى “افتعال الأزمات وتكديس الثروات والتنكيل بالشعب في قوته وفي معاشه”. وفي حين ركّز خطاب الرئيس في الفيديو المنشور، على الترويج للشركات الأهلية كبديل اقتصادي[12]، انقضت المدّة الأصليّة للجنة الصلح الجزائي من دون أيّ نتائج إلى الآن. في المحصّلة، لا بدائل واضحة وعاجلة، وإصرار على بيع الأوهام.
في الأثناء، تبدو وضعيّة الماليّة العموميّة وميزان الدفوعات حرجة جدّا، حيث تبلغ خدمة الدين الخارجي فقط في 2023 أكثر من 8،9 مليار دينار، في ارتفاع بأكثر من 47% بالمقارنة مع السنة الماضية، وهو ما يعادل أكثر من 16% من نفقات الميزانيّة، ويقابل نفقات وزارات الصحّة والشؤون الاجتماعيّة والفلاحة مجتمعة[13]. كما لا ننسى أنّ جزءًا من خدمة الدين الداخلي، التي تبلغ هذه السنة 12،2 مليار دينار، هو في شكل قروض من البنوك المقيمة في تونس بالعملة الصعبة، وبالتالي أقرب في انعكاساتها وصعوبة سدادها إلى الدين الخارجي، وكلفتها قابلة للارتفاع بصفة كبيرة في صورة انخفاض قيمة الدينار. في المقابل، انخفضت احتياطيات العملة الصعبة لدى البنك المركزي إلى 92 يوم توريد فقط، أي بالكاد عتبة الثلاثة أشهر. فالإشكال ليس فقط في تمويل عجز الميزانية (7،5 مليار دينار)، وإنما بالأخصّ في الحاجة إلى تمويل بالعملة الصعبة لتفادي التخلّف عن السداد.
أمّا أبواب التمويل بالعملة الصعبة، فتكاد تمرّ جميعها عبر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ليس فقط للخروج إلى الأسواق المالية الدولية والتمويل متعدّد الأطراف، ولكن أيضا للحصول على قروض ثنائيّة. لا يتعلّق الأمر فقط بدول الشمال، وإنّما أيضا بدول الخليج، التي أصبحت لا تكتفي بالشروط السياسيّة، وإنما تشترط هي الأخرى “الإصلاحات” الاقتصاديّة قبل التمويل. وهو ما فعلته مثلا مع مصر، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية[14]. حتى الخبر الذي راج حول سعي جزائري لتنظيم مؤتمر دولي لحشد تمويلات لتونس تشارك فيه دول الخليج، فلا يبدو، على افتراض صحّته، أن حظوظ نجاحه كبيرة، فضلا عن أنّه لن يحلّ إشكال عدم استدامة الدين الخارجي، وإنما قد يؤجّل في أحسن الحالات موعد التخلّف عن السداد.
حتى فرضيّة الاتجاه نحو مجموعة البريكس، وبالأخصّ الصين، كبديل عن صندوق النقد الدولي، التي روّج لها أنصار الرئيس في الأشهر الماضية، فقد تأكّد تهافتها. فلئن كانت مجموعة البريكس ماضية في إرساء منظومة تمويل بديلة عن الصندوق لفائدة أعضائها، فإنّ تونس بعيدة جدّا، من حيث حجم اقتصادها وعلاقاتها، على فرضيّة الانضمام إلى هياكل المجموعة، وهو مسار يأخذ وقتا حتى للدول العربيّة التي باشرت فيه وتستوفي الحدّ الأدنى من الشروط، مثل المملكة العربية السعوديّة والإمارات العربية المتحدة والجزائر. أمّا فرضيّة القروض الثنائيّة من الصين، فلا تبدو هي الأخرى بديلا جدّيا. فعلى الرغم من لعب الصين في العشرية الأخيرة بشكل متصاعد دور “مقرض الفرصة الأخيرة” الذي يختصّ به في العادة صندوق النقد الدولي، فإنّ قروضها تتميّز بشروط مجحفة وتتوجّه بالأساس إلى الدائنين المعنيين بـ”مبادرة الحزام والطريق”، كما أثبتت ورقة عمل حديثة حول الموضوع[15]. وهو ما يفسّر تصريحات السفير الصيني في تونس، في 31 ماي الماضي، بأنّه “من الصعب أن تجد تونس جهة مقرضة تعوّض صندوق النقد الدولي”[16].
من جهته، خصّص المرصد التونسي للاقتصاد، الذي يدفع منذ سنوات في اتجاه الخروج من بوتقة صندوق النقد الدولي، ورقة مهمّة نُشرت في فيفري الماضي للبحث في فرص تنويع التمويل الخارجي. وتخلص الورقة إلى ضيق خيارات التمويل بالعملة الصعبة وصعوبة النفاذ إليها، نتيجة المنظومة الماليّة العالميّة والهرميّة التي تفرضها ومركزيّة الدور الموكول لصندوق النقد الدولي داخلها[17].
حتى إعادة التفاوض في الديون الموجودة من أجل إعادة هيكلتها ولم لا التقليص من حجمها، تمرّ هي الأخرى عبر اتفاق مسبق مع صندوق الدولي على “برنامج إصلاحات”. فهو شرط مسبق يضعه كارتيل الدول المقرضة (الغربيّة بالتحديد) المجتمعة في نادي باريس على الدول التي تصل إلى تخلّف وشيك عن السداد، قبل مناقشة ملفّها. إلاّ أنّ الاستعداد لهذه الفرضيّة، التي تصبح واردة أكثر فأكثر في ظلّ عدم استدامة الدين التونسي، يبدو ضعيفا للغاية من جانبنا، بين رئيس يكتفي بترديد شعار تحويل الديون إلى استثمارات، من دون الإلمام بمسار إعادة التفاوض وشروطه والإعداد له، وحكومة مصرّة على إنكار هذه الفرضيّة. فإذا سلّمنا بأن لا مفرّ من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، أليس من الأجدى أن يقترن ذلك بإعادة هيكلة للديون السياديّة، عبر إقرار فترات إمهال وتأجيل مواعيد السداد ومراجعة لأسعار الفائدة، بما يمنح هامشا للخروج من الحلقة المفرغة التي يمثّلها الاقتراض بكلفة أعلى فقط من أجل تسديد التعهدات القديمة؟
دور “شرطيّ الحدود” كورقة تفاوض؟
في غياب البدائل الاقتصاديّة، يبدو أنّ الرئيس يعوّل على ورقة الهجرة، وعلى الأولوية القصوى التي تبديها حكومة أقصى اليمين الإيطاليّة للموضوع. لا يحتاج الربط بين الملفّين الكثير من الاجتهاد. فالخطاب الرسمي الإيطالي واضح جدّا في هذا المجال: الانهيار الاقتصادي في تونس يعني “جحافل مهاجرين”. وتشير الأرقام إلى وصول 3432 تونسيّا إلى الشواطئ الإيطاليّة في الأشهر الخمسة الأولى من 2023، بزيادة تتجاوز 50% بالمقارنة مع 2022، أكثر من رُبعهم من القصّر، علما أن أكثر من 25 ألف وصلوا إلى إيطاليا انطلاقا من الشواطئ التونسيّة خلال الفترة ذاتها، حسب السلطات الإيطاليّة. في الأثناء، منعت السلطات التونسيّة في الفترة ذاتها، حسب أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 23 ألف مهاجرا غير نظاميّ من الوصول إلى إيطاليا أحيانا بأساليب مريبة. إذ تتعدّد الشهادات والفيديوهات حول التدخلات العنيفة للحرس البحري التونسي أثناء عمليات الاعتراض في البحر، التي تصل حسب بيان لجمعيات تونسية وأوروبية، حدّ الإغراق المتعمّد[18].
وتتوقع السلطات الإيطالية أرقاما أعلى للهجرة غير النظاميّة في الأسابيع والأشهر القادمة، نتيجة تحسّن الظروف المناخيّة في فصل الصيف، وتدهور الوضعيّة الإجتماعيّة في صورة حدوث انهيار اقتصادي. حتى التعاون الكامل للسلطات التونسية في مجال ترحيل المهاجرين، بنسق يصل إلى أربع رحلات جوّية أسبوعيّة، في ظروف مريبة وشبهات انتهاكات لاإنسانيّة خطيرة، لا يكفي لطمأنة الفاشيّة الجديدة في إيطاليا. إذ تسعى حكومة ميلوني إلى ترحيل غير التونسيين أيضا إلى تونس. في هذا الشأن، تكشف التنقيحات الأخيرة التي أقرّها في مرحلة أولى المجلس الأوروبي على اتفاقية دبلن بخصوص اللجوء عمّا سيكون، على الأرجح، مطلوبا من تونس. إذ تفتح التنقيحات المتوافق عليها باب ترحيل طالبي اللجوء المرفوضين إلى بلد العبور، حتى إذا لم تكن لهم روابط عائلية أو اقتصاديّة معه، عبر ترك هامش تأويل لكلّ دولة عضو لتكييف هذه الروابط. كما تقتضي إقامة مراكز تجميع لطالبي اللجوء في “الحدود الخارجيّة” للاتحاد الأوروبي، لتسهيل ترحيلهم. من جهة أخرى، يفتح تصنيف تونس من قبل الإيطاليين كـ “بلد آمن”، على الرغم من غياب الشروط الموضوعيّة لذلك، الباب لإرسال كلّ من يقع اعتراضهم في البحر إليها.
فالمطروح ليس أبدا “مقاربة جديدة” للهجرة، تأخذ بعين الاعتبار أسبابها العميقة، وهي الاختلال العميق في مستوى الرخاء بين ضفّتي المتوسّط وعلاقات الهيمنة والتبعيّة الاقتصاديّة. بالعكس، ما هو مطروح، هو المواصلة أكثر من أيّ وقت مضى في لعب دور “شرطيّ الحدود”، والاشتغال بالوكالة لدى الحكومات الأوروبية، لممارسة المهامّ اللاإنسانيّة لحسابها. حتى الترفيع قليلا في هذا “السعر”، ليبلغ 200 مليون يورو هذه السنة بعنوان دعم ضبط الحدود ومجهودات البحث والإنقاذ حسب الوعود الأخيرة، فلا يغيّر شيئا في طبيعة الدور ولا حتّى في اختلال ميزان الدفوعات في تونس. فنحن نفاوض من موقع ضعف، بهاجس يكاد يكون وحيدا، وهو الحفاظ على السلطة لاستكمال “الرسالة”. في مجال الهجرة، لا يواصل سعيّد فقط في لعب الدور الذي بدأه بن علي في سنوات الألفين، ومضت فيه الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، بل قد يضطرّ على الأرجح إلى تنازلات جديدة، تحوّل تونس ليس فقط إلى شرطيّ حدود، ولكن أيضا إلى مركز تجميع لمن تلفظهم حدود أوروبا الحصن.
هكذا نفهم “حزمة الشراكة الشاملة”، التي يمكن تلخيصها في معادلة “المساعدة الماليّة” مقابل “التعاون في مجال الهجرة”. ولكنّ المساعدة الماليّة مشروطة بـ”الاتفاق” مع صندوق النقد، وإن تفادى البلاغ المشترك وكلمة رئيسة المفوضية الأوروبية تسميته بصراحة. فالجهود الإيطالية تنصبّ في اتجاه إتمام الاتفاق وصرف الدفعة الأولى، من دون تشبّث صارم بالشروط المسبقة، ثمّ تطبيق المشروطيّة تدريجيّا في الأقساط الموالية. وقد يثمر الضغط الأوروبي نتيجة، إذ أن قرار صندوق النقد الدولي لا يرتبط فقط بالمعطيات “التقنيّة” وبالموضوع الاقتصادي، وإنما يلعب الجانب الجيوسياسي دورا مهمّا، خصوصا في مستوى المجلس التنفيذي، كما بيّنت ذلك دراسات عديدة[19]. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة التي لديها، واقعيا، حقّ النقض، نتيجة امتلاكها 16،5% من حصص التصويت، فإنّ الأوروبيّين يمتلكون مجتمعين تأثيرا أكبر، فضلا عن احتكارهم منصب المدير العامّ للصندوق. طبعا، هذا على افتراض اقتناعهم جميعا، وبالأخصّ فرنسا، بالطّرح الإيطالي.
إلاّ أنّ هذا السيناريو، الذي يبدو الأقرب، لا يعني بالضرورة إعادة النظر في مضمون الاتفاق، أي “الإصلاحات” المطلوبة من تونس. فذلك يحتاج مفاوضات جديدة، تأخذ أشهرا على الأقلّ. كما أنّ فكرة قرض من الصندوق من دون إملاءات شبه مستحيلة، فالمشروطيّة أساسيّة في دور الصندوق، وبدرجة أكبر في قروض “تسهيل الصندوق الممدد” كالبرنامج الحالي، وإن تباينت درجة صرامتها حسب الدول والمصالح الجيوستراتيجيّة للقوى المهيمنة. ما سيتغيّر على الأرجح لن يكون جوهر الاتفاق وطبيعة الإصلاحات، وإنما ربّما جدولتها الزمنية. طبعا، ستحاول السلطة، إذا ما تحقّق ذلك، التسويق له كإنجاز للرئيس سعيّد. لكنّ الشعارات والبروباغندا والأوهام لا تصنع رخاء الناس، وتبقى فترة صلوحيّتها محدودة، مهما طالت.
لم يقيّم الرئيس سعيّد، الممسك بكلّ السلطة منذ سنتين، الإصلاحات المنفذة بناء على “إملاءات” صندوق النقد الدولي. فضّل، بدل ذلك، إجراء تدقيق في الديون عساه يثبت أنّ “الأموال نُهبت ممن كان في الحُكم”، ثمّ منعَ نشر التقرير حين لم يعطه النتائج المأمولة. في ذلك مؤشر واضح عن مقاربة الرئيس للمسألة الاقتصاديّة عموما، وعن العقل الحاكم اليوم في تونس. وإذا كان الانتقال الديمقراطي قد دفع ثمن ضعف تسييس المسألة الاقتصاديّة، فإنّه في الآن ذانه سمح بتخفيف حدّة وسرعة الإجراءات. أمّا الانفراد بالحكم، فلا يمكن أن يقوّي موقف التفاوض، باحتكاره الفعل السياسي وتهميشه القوى الحيّة للمجتمع وإضعافه الجبهة الداخلية. أمّا الشعارات الجميلة والخطاب النقدي المفتقر لبدائل حقيقيّة، فنتيجته ليست فقط دسّ السمّ بالعسل، وإنّما أيضا، على المدى البعيد، نزع المصداقيّة عن مشاريع التغيير، وتكريس الفكرة (الخاطئة) بأن لا بديل على الدوكسا المهيمنة سوى الشعارات الرنانة والأوهام.
نشر هذا المقال في العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية-تونس.
لقراءة العدد كاملا اضغط هنا
[1] Colin Powers, Chronicles of a Death Foretold: Democracy and Dedevelopment in Tunisia, Noria Research, Rosa Luxembourg, April 2022.
[2] إيمان اللواتي، شفيق بن روين، صندوق النقد الدولي: تبعات تخفيض قيمة الدينار التونسي، المرصد التونسي للاقتصاد، مارس 2020.
[3] وزارة المالية، تقرير حول المديونيّة، مرفق بمشروع قانون المالية لسنة 2020، ص. 53.
[4] عمرو عدلي، حمزة المدب، “لماذا الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة أقل حَرَجَاً (أو خطورة) في تونس عنها في مصر”، مركز كارنجي، مارس 2017.
[5] IMF, Fuel and Food Price Subsidies – Issues and Reform Options, September 2008.
[6] إيمان الشريف (إشراف)، بلا غطاء.. دور صندوق النقد في تقليص الحماية الاجتماعية، دراسات حالة من تونس والأردن والمغرب، 2022، ص. 33 وما يليها.
[7] مهدي العش، مرسوم نِسب الفائدة المشطة: تحرير لسطوة البنوك ورضوخ لصندوق النقد الدولي، نُشر في موقع المفكرة القانونية، 3 نوفمبر 2011.
[8] وزارة المالية، تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2023، ملحق عدد 1 بـ”مشروع قانون المالية لسنة 2023″، ص. 38.
[9] لأكثر تفاصيل حول تلميحات الرئيس، أنظر طارق الكحلاوي، ارتباك العلاقة مع صندوق النقد والأفق الجيوسياسي لتونس، مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي، أفريل 2023، ص. 7.
[10] تصريح من “مصدر مأذون من رئاسة الجمهورية” لوكالة تونس افريقيا للأنباء، 24 جانفي 2023.
[11] أنظر مثلا طارق الكحلاوي، سبق ذكره، ص. 22.
[12] أنظر : خليل العربي، “الشركات الأهلية” أداة لصناعة الأوهام في الاقتصاد والسياسة، نُشر في موقع المفكرة القانونية، جوان 2023.
وياسين النابلي ومهدي العش، مرسوم الشركات الأهليّة: مشروع للعدالة أم الهيمنة؟، نُشر في موقع المفكرة القانونية، أفريل 2022.
[13] وزارة المالية، تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2023، سبق ذكره، ص. 144 وما بعدها.
[14] طارق الكحلاوي، سبق ذكره، ص. 5 وما يليها.
[15] Sebastian Horn, Bradley C. Parks, Carmen M. Reinhart, Christoph Trebesch, China as an international lender of last resort, Kiel working paper, March 2023.
[16] أنظر، سفير الصين: لا بديل لتونس عن صندوق النقد الدولي، موقع موزاييك اف ام، 31 ماي 2023.
[17] Chafik Ben Rouine, Sortir du FMI. Partie 1: Diversifier, Alternatives n°01, Observatoire tunisien de l’économie, février 2023.
[18] بيان ممضى من أكثر من 50 جمعية تونسية وأوروبية في 19 ديسمبر 2022 بعنوان :
Politiques meurtrières en Méditerranée : pour que cessent ces naufrages consciemment provoqués au large de la Tunisie
[19] أنظر مثلا:
Dreher, Axel, Jan-Egbert Sturm and James R. Vreeland. 2015. “Politics and IMF Conditionality.” Journal of Conflict Resolution 59(1):120–148.