السنة القضائية 2022-2023 تسدل ستارها في تونس (1): عام نكبة جديد في تاريخ القضاء


2023-08-15    |   

السنة القضائية 2022-2023 تسدل ستارها في تونس (1): عام نكبة جديد في تاريخ القضاء

تُسدل السنة القضائية 2022-2023[1] ستارها بعد عام استثنائي منطلقُه عدم إجراء الحركة السنويّة بما أنتج شغورات وتعطيل لترقيات ومزيد إثقال الآلة القضائية، ومنتهاه تعيين وزيرة العدل ليلى جفال بمذكرات عمل لقضاة في الخطط القضائية السامية ومواقع متقدمة للنيابة العمومية، وبينهما تم توظيف القضاء بشكل ممنهج في إثارة محاكمات ضد معارضين سياسيين وناشطين وصحفيين، على خلفية ممارستهم للحريات العامّة. هو عام استكمال هجمة السلطة السياسية على القضاء بعد إضعاف الضمانات القانونية لاستقلاليّته.

وهذه السنة القضائية هي الأولى التي اٌفتتحت بوجود المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي اُرسي على أنقاض المجلس الأعلى للقضاء، وهي كذلك الأولى في ولاية الهيئة الوطنية للمحامين بتونس التي جدّدت هياكلها الخريف المنقضي. ليحلّ بذلك سؤال التقييم لهذيْن الهيكليْن اللّذين يشرفان على شؤون القضاة والمحاماة، جناحا العدالة التي باتت، شيئًا فشيئًا، تحت نفوذ سلطة تنفيذية تزايدت سطوتها في أروقة المحاكم. وهذا ما سنفعله في هذا المقال المخصص لاستعادة معالم النكبة التي يشهدها القضاء على أن نتناول غدا حصيلة السنة الأولى من عهدة هيئة المحامين (المحرر).

شواهد النكبة القضائية

تتعدّد شواهد “النكبة” في، مستويات متعدّدة، في سياق تأكيد استهداف مقوّمات استقلالية القضاء، الذي كان قد تحوّل إلىوظيفةوليسسلطةفي دستور الرئيس. ويمكن حصر هذه الشواهد فيما يلي:

  • عدم إصدار الحركة القضائية: للمرة الأولى في تاريخ تونس، يمتنع رئيس الدولة عن إصدار الحركة المقترحة من المجلس الأعلى المؤقت للقضاء[2]. وما كان تمّ ذلك لولا السعي المستميت من السلطة السياسيّة لوضع اليد على التسميات والتعيينات خصوصا في الخطط القضائية السامية والمراكز المتقدّمة في النيابة العمومية. ويتعارض ذلك مع المرسوم عدد 11 الذي يلزم رئيس الدولة بإصدار الحركة في أجل 21 يومًا ما لم يمارس حق الاعتراض[3]. وخلّف هذا الاضطراب، في بداية السنة القضائية، حالة من الضبابية والغموض في الوسط القضائي، بما أنتجه من إرباك في الوضعية المهنية والأسرية للقضاة المباشرين. تباعًا، ومع الشغورات المسجّلة بسبب مجزرة الإعفاءات، تعمّقت معضلة البطء في العمل القضائي. ذلك أن الشغورات شملت على الأقل 7 وكالات جمهورية بتونس العاصمة وبالجهات فضلا عن قضاة التحقيق الذي تراجع عددهم مثلًا، بشكل ملاحظ، في القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، مقابل تكثيف الإحالات في القضايا السياسية على هذا القطب.
  • تواصل مظلمة القضاة المعفيين: استمرّت مظلمة القضاة المعفيين ولا سيما القضاة الذين استصدروا لفائدتهم قرارات من المحكمة الإدارية في توقيف التنفيذ (49 قاضيا). وقد بادر، في جانفي 2023، 37 قاضيا منهم إلى تقديم شكايات جزائيّة فردية ضد وزيرة العدل ليلى جانفي، في جانفي 2023، باعتبار أن تعطيل قرارات السلطة القضائية مخالفة للفصل 315 من المجلة الجزائية وشكل من أشكال الفساد (الفصل الثاني من قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين). ولمواجهة القطع التعسّفي للاسترزاق، تقدّم قضاة معفيون بمطالب للانتساب لمهنة المحاماة لم يتمّ بعد البتّ فيها من طرف مجلس الهيئة الوطنية للمحامين، الذي كوّن لجنة خاصّة لدراسة الملفات لم تنتهِ بعد من أعمالها.
  • قضايا مثارة بالجملة ضد قضاة: شهدت السنة القضائية 2022-2023 تواصل إثارة تتبّعات ضد القضاة المعفيين في سياق محاولة السلطة السياسية تبرير عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية. لا زالت هذه القضايا في مرحلة التحقيق سواء في محاكم الحق العام أو لدى القطبين القضائيين المتخصّصين (قطب مكافحة الإرهاب والقطب الاقتصادي والمالي). والملاحظ هو اختلاف تعاطي القضاة المباشرين لملفات زملائهم مع الدفع المبدئي وهو التمسّك بالحصانة القضائية، حيث أحال قضاة التحقيق في قطب مكافحة الإرهاب طلبات رفع الحصانة للمجلس المؤقت، فيما نقضت دائرة الاتهام بسليانة  قرار قاضي التحقيق بإيقاف النظر ريثما يتم البتّ في الحصانة القضائية، بعد استئنافه من النيابة العمومية. كما شملت حملة اعتقالات فيفري 2023 قاضيين معفيين أحدهما البشير العكرمي في قضايا مثارة تؤكد هيئة الدفاع عنه صبغتها الكيدية من جهة وتضمّنها إخلالات إجرائية جسيمة من جهة أخرى.
  • استشراء مناخ الترهيب بين القضاة: أدّى بذلك كلّ ما سبق، إلى استشراء مناخ الخوف والترهيب في صفوف القضاة المباشرين خاصة في السلسلة الجزائية من بطش السلطة السياسية، ليس فقط خشية إعفاء بأمر رئاسي أو تتبعات جزائية مثارة، ولكن أيضًا الإيقاف عن العمل عبر التفقدية العامة في وزارة العدل. إذ شهدت السنة القضائية حادثتيْن اثنتيْن من هذا النوع على الأقل: إيقاف قاضي تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب عن العمل في فيفري 2023، ثم إيقاف قاضي تحقيق آخر في المحكمة الابتدائية بسوسة عن العمل في جويلية 2023، وكلاهما على خلفية اتخاذ قرارات بشأن قضايا تحقيقية تشمل شخصيات عامة. ويُستذكر، في هذا السياق، التهديد الضمني لرئيس الدولة للقضاة في قضيةالتآمر، حين صرّح في 14 فيفري بأنّالذين تمّ إيقافهم إرهابيون“، “أثبت التاريخ قبل أن تثبت المحاكم أنّهم مجرمون، ثمّ في 22 فيفري أنّ “من يبرؤهم فهو شريك لهم”. لم يعد يواجه القضاة بذلك مجرّد ضغط تطبيق تعليمات بل أيضًا إكراه تهديدات واقعية تهدّد مسيرتهم المهنية.
  • تعامل غير حيادي للنيابة العمومية: شهدت هذه السنة، في الأثناء، تفاقم توجيه السلطة للنيابة العمومية في باب بنات (المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف تحديدًا) بما يعزّز واقع العلاقة العمودية من دون أيّ اعتبار لمبدأ استقلالية النيابة العمومية كجزء من استقلالية القضاء. وهو ما تبيّن تكثيف القضايا السياسية المثارة من النيابة العمومية أحيانًا بتعهيد مباشر من وزيرة العدل، كما في قضيّة “التآمر”. ويتأكّد الأداء “غير الحيادي” للنيابة، في المقابل، بعدم القيام بما يلزم من إجراءات للنظر في الشكايات المقدمّة ضد مسؤولين في السلطة أو مقرّبين منهم كعدم فتح بحث في شكايات القضاة المعفيين ضد وزيرة العدل أو في شكاية هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين في قضية “التآمر” ضد الوزيرة أيضًا بعد معاينة زور مادي في أوراق القضية. وتتعزّز الشبهات حول انحياز النيابة بعدم قيام الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف باتّخاذ الإجراءات اللازمة بخصوص شكايات بالجملة مقدّمة من جمعية القضاة التونسيين، واتّحاد الشغل، ونقيب الصحفيين التونسيين وغيرهم، ضدّ محامية مقرّبة من السلطة. ويؤشر “تحصين” هذه المحامية من التتبع الجزائي عن سقوط ادعاء السلطة حول مساواة الجميع أمام القانون.

المجلس الأعلى المؤقت للقضاء: شاهد زور أم مقاومة خفيّة؟

في سياق تغوّل السلطة التنفيذية على القضاء بالأدوات القانونية المستحدثة منها ولفائدتها وممارساتها واقعًا، غاب المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، طيلة السنة القضائية، عن أيّ نشاط علنيّ متعلّق باستقلال القضاء مستقيلًا، بالخصوص، عن مواجهة مناخ بثّ الرعب والترهيب في أوساط القضاة. فلم يعدْ مجلس القضاء الخيمة التي يستنجد بها القضاة لحمايتهم من بطش السلطة. مع التذكير، في هذا المضمار، أن المرسوم عدد 11 لسنة 2022 حصر دوره فيالإشراف على شؤون القضاءدونضمان حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية وهي الصيغة الواردة في قانون المجلس الأعلى للقضاء لعام 2016، وهو ما يشي بتصوّر السلطة للمجلس كهيكل تسييري مؤقّت لا أكثر.

ففي علاقة بالحركة القضائية السنوية، اكتفى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بالرضوخ للأمر الواقع بعد عدم إصدار رئيس الدولة لحركة القضاء العدلي في مخالفة منه للمرسوم عدد 11 الذي يمنحه أجلًا مقيّدًا لإصدار الأمر الرئاسي، رغم التبعات الخطيرة لتعطيل نشر الحركة على سير المرفق القضائي من جهة والمسار المهني للقضاة من جهة أخرى. كما استكان المجلس لخيار السلطة التنفيذية في عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، وهو ما تجلّى، ظاهرًا، بفتحه باب الترشحات لثلاث خطط قضائية سامية (المتفقد العام ورئيس محكمة الاستئناف بتونس والوكيل العام بها) في شهر أكتوبر 2022، والحال أنها غير شاغرة فيما لو تمّ تطبيق قرارات القضاء بإعادة القضاة المعفيين إليها.

مثّلت، في الأثناء، تعيينات وزيرة العدل في نهاية ماي 2023 بمقتضى مذكرات عمل في الخطط القضائية السامية ومواقع قضائية متقدّمة، محطّة في إمعان السلطة في تجاوز المجلس المؤقت، باعتبار أن هذه التعيينات تتعارض مع مقتضيات المرسوم عدد 11، وبالخصوص مع الخيار التشريعي في إدارة المسار المهني للقضاة بعد الثورة. التفاعل الطبيعي في سياق اختلاف مؤسساتي حول قراءة قانونية ما، في أبسط توصيف، كان يقتضي مبادرة المجلس الأعلى المؤقت للقضاء عبر الجلسة العامة أو مجلس القضاء العدلي المؤقت لإصدار بيان علني دفاعًا عن اختصاصاته. تشير الكواليس إلى تحفّظ رئيس المجلس على هذه التعيينات ولكن مع خيار تفادي تصعيد علني قد يُفهم أنه ليس موجّها ضد الوزيرة وحسب ولكن أيضًا ضد رئيس الدولة.

وفي خضم هذا السياق المتوتّر، يبدي البعض من المتابعين للشأن القضائي تفهمّا في تعاطي المجلس مع السلطة أخذًا بعين الاعتبار لواقع سطوة الرئيس في إدارة البلاد وإبعاده لأي هيكل مؤسساتي يظهر أنه متحفّظ على خياراته. يأتي الحديث، في هذا الجانب، عن مهادنة مفروضة تقوم على عدم الصدام مع السلطة السياسية من جهة أولى مع محاولة توظيف أي هامش ممكن للتصدّي لهجمتها من جهة ثانية. في هذا الجانب مثلًا، يأتي الحديث عن تعاطي المجلس في ملف طلبات رفع الحصانة عن عدد من القضاة المعفيين، المقدّمة من قضاة التحقيق المباشرين لملفات أثارتها السلطة ضدهم بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب. إذ يشي استجابة المجلس لطلبات هيئة الدفاع في تأخير النظر في طلبات رفع الحصانة، وإن كان ذلك تكريسًا لحق الدفاع، بدل الاستجابة الفورية لرفع الحصانة، عن سعي مبدئي في عدم الانخراط في مظلمة القضاة المعفيين الذي كان المجلس العدلي قد دمجهم بنفسه في المشروع الأول للحركة القضائية 2022-2023.

لاحقًا، لم تكن تعيينات الوزيرة في شهر ماي 2023 بمثابة وضع يد بشكل مباشر على القضاء فقط، بل أيضًا ضغطًا موجهًا على أعضاء المجلس المؤقت في سياق إعداده لمشروع الحركة القضائية للعام الجديد 2023-2024. هي مناكفة مستمرّة بين الوزيرة من جهة وما يبدو أغلبية أعضاء مجلس القضاء العدلي المؤقت من جهة أخرى. حرب صامتة من المنتظر أن يعكس مشروع الحركة القضائية المبرمجة مآلها.

ولا يُعلم إن كان سعيّد سيكون حريصًا، في الأثناء، على الدفع، خلال السنة القضائية الجديدة، لإعداد مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء طبق دستوره تعويضًا للمجلس المؤقت أم لا. وهو حرص سيتحدّد، مبدئيًا، بحسب رضاه على التركيبة الحالية للمجلس المؤقت التي لا تبدو، في علاقة بالقضاء العدلي، متناغمة معه بالشكل الذي يريده سعيّد دائمًا من مرؤوسيه.


[1] تنتهي السنة القضائية 2022-2023 رسميًا بتاريخ 15 سبتمبر 2023 طبق الفصل 38 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلّق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة. وعادة ما يحصل خلط بين تاريخ بداية العطلة القضائية (16 جويلية من كل عام) وبداية السنة القضائية (16 سبتمبر من كل عام).

[2] اقتصر رئيس الدولة على إصدار الأمر الرئاسي المتعلق بتسمية القضاة الجدد المتخرّجين من المعهد الأعلى للقضاء (أمر رئاسي عدد 714 لسنة 2022 صادر بتاريخ 23 سبتمبر 2023).

[3]  لرئيس الدولة حق الاعتراض في أجل 21 يوم من تاريخ إحالة الحركة القضائية عليه بناء على تقرير معلّل من رئيس الحكومة أو وزير العدل، وفي هذه الحالة، يجب على المجلس القضائي المختصّ النظر في موضوع الاعتراض في أجل 10 أيام.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني