المرسوم 54: سلاح السلطة للجم الألسنة المعارضة


2023-01-06    |   

المرسوم 54: سلاح السلطة للجم الألسنة المعارضة

اختتمت سنة 2022 بخبر إحالة المناضل الحقوقي ومنسّق هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين ورئيس الهيئة الوطنية للدفاع ‏عن الحريات والديمقراطية، المحامي العياشي الهمامي، على التحقيق على معنى الفصل 24 من المرسوم 54 لسنة 2022، بتهمة “استعمال شبكات وأنظمة اتصال لترويج ونشر إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام و نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته والمستهدف منه موظف عمومي”. حصلت الإحالة تبعا للخطاب الذي ألقاه الرئيس قيس سعيّد في 28 ديسمبر، بحضور رئيسة الحكومة ووزراء الدفاع والعدل والداخلية والقيادات الأمنية والعسكريّة، والذي اتهم فيه معارضيه بالتآمر والعمالة وتوعّدهم شرّ الوعيد. وقد بدأ التطبيق مباشرة في إثره بتتبعات جزائية ضدّ أحد أبرز الأصوات الحرّة في تونس، بطلب من وزيرة العدل ليلى جفال، ليمضي سعيّد ووزيرته خطوات جديدة في إحياء سنن دكتاتورية بن علي.

تأكدت بذلك المخاوف التي أثارها المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات بمجرّد صدوره، تزامنا مع المرسوم المنقح للقانون الانتخابي. مرسوم ارتأت السلطة القائمة أنّه ذو استعجالية قصوى جعلته يسبّق على مسائل حياتية للتونسيين والتونسيات على غرار معالجة القدرة الشرائية وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتخفيض من منسوب الاحتقان الاجتماعي. لم تنتظر سلطة المراسيم انتخاب برلمانها كي يتداول في فحواه ولم تسع حتّى لفتح نقاش مجتمعي حوله، خاصّة بالنظر لخطورته على حقوق المواطنين والمواطنات. حينها، برّرت الحكومة التداول فيه واستعجاله بهدف تعزيز ترقيم تونس دوليا في مجال الأمن السيبرني وتمكينها من الانضمام لاتفاقية بودابست. لكن، وعلى خلاف النوايا المعلنة من قبل الحكومة، تضمّن المرسوم قسما فرعيّا خطيرا تعلّق بالإشاعة والأخبار الزائفة، أثبت تطبيقه مخاوف المجتمعين السياسي والمدني اللذين اعتبراه سيفا مصلتا على رقاب معارضي السلطة. حيث تواترت الإحالات على التحقيق بتهمة تعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان”.

نقل احتجاجات، مقال صحفي أو موقف سياسي… جميعا في سلّة المرسوم 54

منذ دخول المرسوم 54 حيّز النفاذ، لم تتوانَ السلطة القائمة على اعتماده لترهيب الأصوات المناوئة لتوجّهات الحكومة أو رئيس الجمهورية. سواء تعلّق الأمر بنقل احتجاجات أو نشر مقال صحفي أو حتى تقديم قراءة قانونية أو سياسيّة، تسارع السلطة الحاليّة بذراع وزيرة العدل أساسا في استعمال الفصل 24 من المرسوم 54 ل”معاقبة” وتهديد كلّ من تساور له نفسه نقد ما يحدث في تونس.

في أكتوبر 2022، أي بعد شهر من إصدار المرسوم، تمّ إيقاف الطالب بهاء الدين حمادة بكلية العلوم القانونية والسياسية بسوسة على خلفيّة إنشائه لصفحة فايسبوك لنقل الاحتجاجات الواقعة بحيّ التضامن على معنى المرسوم 54. حيث وجّهت له تهمة “تعمّد استعمال الشبكات وأنظمة المعلومات والاتّصال لترويج، ونشر إشاعات كاذبة بهدف الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان”. عشرة أيام فقط، فصلت بين إيقاف الطالب بهاء الدين حمادة في سوسة، وتقديم شكاية من قبل وزيرة العدل ضدّ موقع بزنس نيوز مفادها “نشر أخبار كاذبة” و”نسبة أمور غير صحيحة لموظف عمومي” علاوة على الثلب والتعريض بالسيّدة رئيسة الحكومة، وذلك على خلفية نشر الموقع مقالاً يقيّم حصيلة نجلاء بودن الاقتصادية والاجتماعية إثر سنة من توليها سدّة رئاسة الحكومة.

يوم 30 ديسمبر 2022، أحيل المناضل الحقوقي ومنسق هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين ورئيس الهيئة الوطنية للدفاع ‏عن الحريات والديمقراطية العياشي الهمامي على التحقيق على معنى الفصل 24 من المرسوم المذكور بتهمة “استعمال شبكات وأنظمة اتصال لترويج ونشر إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام ونسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته والمستهدف منه موظف عمومي”. ويجابه المناضل عياشي الهمامي اليوم خطر عقوبة سجنيّة تصل إلى عشر سنوات سجن وخطيّة مالية بمائة ألف دينار، على خلفيّة تصريح في إذاعة شمس اف ام مفاده “الي عملو سعيّد في القضاء حتى في عهد البحيري ما صارش…إن الملفات مفبركة بالاضافة إلى أنّ هناك تنكيل بالقضاة …تقديم منح للقضاة المعفيين هو فساد مالي لرئيس الدولة”.

خمسة أيّام فقط بعد إحالة الهمامي على التحقيق، تمّ إيقاف حمزة العبيدي، وهو ناشط مدني من ولاية القصرين، ومقاضاته على خلفيّة تدوينة على موقع فايسبوك عبّر فيها عن رأيه إزاء الأوضاع التي تعيشها منطقته، تضمنت شعار ”إلى الثورة، إلى الشارع من جديد ثورة مستمرة”. أحيل حمزة العبيدي على القضاء بتهمة استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار، أو بيانات، أو إشاعات كاذبة على معنى الفصل 24 من المرسوم المتعلق بالجرائم الالكترونية. من حسن حظّ حمزة العبيدي أنّ القضاء قد حفظ التهمة في حقّه وأطلق سراحه إثر عرضه عليه بتاريخ 5 جانفي 2023. “حظّ” قد لا يحالف الجميع، خاصّة وأن المعارضين مدنيين كانوا أو سياسيين يجدون أنفسهم بين مطرقة التشريعات النافذة، بقوّة التدابير “الاستثنائيّة”، وسندان القضاء المرهّب منذ حادثة عزل 57 قاضيا من طرف سعيّد.

كلّ الإحالات السابقة واللاحقة على معنى الفصل 24 من المرسوم 54، نتيجة طبيعيّة للطابع المكثّف للفصل الذي تضمّن عديد الجرائم المنضوية تحت عبارات غامضة على غرار“أخبار” أو “بيانات” أو “إشاعات كاذبة”. كان من المنتظر أن تفتح هذه العبارات الفضفاضة باب التأويل على مصراعيه وتنفيذ أحكامه خاصّة في ظلّ تقاليد السلط العمومية في التوجّه نحو ضرب حقوق الإنسان بتعلّة تطبيق القانون. كان من المتوقّع كذلك أن يمهّد هذا الفصل من المرسوم الطريق لتكميم أفواه الصحفيين والنشطاء والمعارضين حيث زجّ بأحكام وجرائم واردة في قوانين أخرى، وخاصة في المجلة الجزائية ومرسوم الصحافة ومجلة الاتصالات، خصوصا إذا ما أدركنا أنّ هذا القسم الفرعيّ المتعلّق بالإشاعة والأخبار الزائفة بصمة واضحة للعقل التشريعي الحالي. إذ لم يتضمّنه المشروع السابق كما لا نجد له أثرًا في اتفاقية بودابست ولا حتى في الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات والتي انضمّت إليها تونس في سنة 2010. عمليّا، مثلت هذه الإضافة ضربا خطيرا لحريّة التعبير، المكسب الأبرز للثورة التونسية، حيث يعدّ الفصل 24 سيف دموقليس مصلتا على رقاب كلّ الأصوات المعارضة للسلطة الحالية.

سلطة لا تخاطب سوى بلغة القمع والوعيد

كلّ الأسماء المذكورة حالفها كذلك “حظّ” التغطية الاعلامية والمتابعة الحقوقيّة. لكنّ الواقع، أنّ العديد من الأسماء الأخرى قد غابت عنّا وتحاكم حتما بنفس المرسوم الجائر. لقد طرحنا بعد صدور المرسوم 54 العديد من الأسئلة الإنكارية: لماذا سرّع سعيّد في إصدار المرسوم؟ هل تصدق نوايا الحكومة المعلنة في تحسين الترتيب السيادي لتونس وانضمامها لاتفاقية بودابست أم ستعتمد هذا التشريع لإخراس أصوات المعارضين؟ لماذا غفلت السلطة عن تكريس الضمانات في جلّ الاجراءات المتخذة، في مخالفة صريحة للمعايير الدولية؟ ما الهدف من إضافة نصّ تشريعي الى ترسانة القوانين الموجودة في الغرض؟ لماذا تمّ إقحام الفصل 24 والمتعلق ببث الشائعات في المرسوم على خلاف المتعارف عليه دوليا؟ لماذا لجأت السلطة للمواربة في تمرير المرسوم من دون انتظار تركيز برلمانها والحال أنّ هذا التشريع بصيغه المختلفة، على مرّ سنوات، قد واجه رفضا متواصلا من الساحة الحقوقيّة؟ هل أخذت السلطة الديكتاتوريات “العريقة” أسوة لها في تقنين الجرائم الإلكترونية لتكميم الأفواه؟

لم يعد لكلّ الأسئلة السابقة معنى اليوم. فسياسة الدولة واضحة والمقصود من التجريم، وخاصة المتعلق بالفصل 24 لا لبس فيه. لا يتسع صدر سلطة سعيّد للنقاش السياسي المستفيض البعيد عن التخوين والتجريم. كلّ من صدح بخلاف قول السلطة يجد نفسه تحت طائلة المرسوم 54 وخصوصا الفصل 24 منه. لعلّ السؤال الأوجه في ذهن السلطة الحالية هو: لما المواجهة السياسية ومقارعة الحجّة بالحجّة ان كان بالامكان لجم ألسنة المعارضين وتكميم أفواههم؟ لما نتحمّل عبء تبرير خرق الدستور والمعاهدات الدولية وتبرير الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ما دام بالإمكان ترهيب الأصوات المعارضة عبر تشريعات سالبة للحرّية وقضاء التعليمات؟

ليس المرسوم 54 المطيّة الوحيدة لسلطة ما بعد 25 جويلية 2021 لملاحقة معارضيها. فقد تمّت إحالة غازي الشواشي، الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي، على التحقيق مع توجيه تهمة نسبة أمور غير قانونية لموظّف عمومي (الفصل 128 من المجلة الجزائية)، وذلك بشكاية من وزيرة العدل، على خلفيّة تصريح إذاعي قال خلاله أنّ “رئيسة الحكومة قد قدّمت استقالتها”. تتبعات جزائيّة أخرى عديدة طالت قيادات من المعارضة على أسس قانونيّة مختلفة، لم تخلُ من رائحة الضغوط السياسيّة واجتمع معظمها على اعتماد وزيرة العدل على الفصل 23 من مجلّة الاجراءات الجزائية والذي يخوّلها تبليغ الجرائم التي يحصل لها العلم بها إلى الوكيل العام للجمهورية والإذن له بإجراء التتبعات.

حريّاتنا بين أيديكم: أي دور للقضاء تحت طائلة الترهيب؟

اليوم وأكثر من أي وقت مضى وخاصّة أمام أكثر النصوص القانونية سلبا للحريّات نعود لمغزى المطالبة بسلطة قضائية مستقلّة. فلا ديمقراطية من دون قضاء مستقلّ وناجز وعادل ومنتصب كحامٍ للحقوق والحريّات في مواجهة السلطة السياسيّة، مهما كان اسمها. في هذا الصدد استنكرت جمعية القضاة التونسيين احالة الأستاذ العياشي الهمامي على التحقيق طبق مقتضيات المرسوم عدد 54 لسنة 2022 معتبرة أن هذا النصّ يخرق كل معايير حرية التعبير والرأي طبق المواثيق الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية ويشكّل تراجعا خطيرا على مكسب حرية التعبير، مؤكّدة على أن هذا التتبع الغرض منه التستر على المعلومة والخروقات الحاصلة في ملفات القضاة المعفيين وترهيب كل من يكشف جانبا من الحقائق للرأي العام حول هذا الملف. في مواجهة المرسوم 54 ومع تفاقم استعمال السلطة له وشطط العقوبات السالبة للحريّة المكرّسة صلبه، يبدو أمل المحافظة على حريّات النشطاء والسياسيين رهينا بشجاعة القضاة من جهة واستماتة لسان الدفاع في الذود عن الحريات من جهة أخرى. إلاّ أنّ هذا الأمل يتضاءل في ظلّ جو الترهيب والضغوطات السياسية التي يرزح تحتها القضاء مؤخرا مما يستوجب من القضاة، أكثر من أيّ وقت مضى، التمسك باستقلاليتهم وحيادهم وتحمّل مسؤولياتهم، حماية للحريات والحقوق من أيّ ظلم وحيف، ويستوجب منّا جميعا الوعي بأنّ استقلال القضاء ليس حقّا للقضاة، بقدر ما هو ضمانة لكلّ المتقاضين، خصوصا حين يشتدّ التوجّه القمعي للسلطة السياسيّة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، مرسوم ، حرية التعبير ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني