يواصل القضاة من مختلف المحاكم والأسلاك إضرابهم للأسبوع الرابع على التوالي، أسابيع قليلة قبل موعد الاستفتاء. هذا الإضراب الذي تقوده تنسيقية الهياكل القضائية جاء رفضا لما سُمّي بمذبحة القضاة التي ارتكبها قيس سعيّد. فقد قام هذا الأخير، يوم 01 جوان 2022، بعزل 57 قاضيا وقاضية من مختلف الرتب بعد أن استولى على هذه الصلاحية المُوكلة حصرا للمجلس الأعلى للقضاء المؤقت الذي عيّنه بنفسه بعد حلّ المجلس الشرعي. مظلمة لا يعرف معظم ضحاياها المآخذ المعزوة لهم في غياب أيّ ملفّات تأديبية لهم في التفقدية أو في المجلس الأعلى للقضاء المُنصّب. بينما يوجّه من قدّموا شهاداتهم أصابع الاتهام نحو وزارة الداخلية أساسا وأصحاب النفوذ في منظومة الحكم الحالية أيضا.
تدخّل الأمن في عمل القضاة ليس بسابقة، ولكنه حتما يشكّل عبر هذه الخطوة قلبا كليّا لموازين القوى والشروط الموضوعية لإقامة العدالة وحماية الحقوق. فمن كان من المفروض أن يُراقب من قبل القضاء ويحتكم لقراراته أصبح اليوم ليس فقط فوق قرارات القضاة بل هو أيضا من يقرّر عزلهم. هذه المذبحة، تطرح تساؤلات عديدة حول حجم نفوذ وزارة الداخليّة وتأثيرها على مركز القرار في قرطاج، في سبيل استعادة هيمنتها المطلقة على إدارة الشأن العام والسياسي منه بالخصوص والذي سُلب منها خلال الأيّام الأولى التي تلت الثورة.
57 قاضيا “يُذبحون” بجرّة قلم
نظّمت تنسيقيّة الهياكل القضائية يوم 18 جوان 2022 جلسة عامة للتباحث في أشكال الاحتجاج التي يجب اتخاذها تبعا لقرار العزل غير القانوني الذي اتّخذه سعيّد وعدم تراجع هذا الأخير عنه بعد أسبوعين من تعليق العمل في كافة المحاكم. أسفرت الجلسة العامة، التي تمّ “تأمين” مقرّ انعقادها عبر تواجد سيارة الشرطة على عين المكان، بإقرار مواصلة الإضراب واعلان ثلاثة قضاة معزولين دخولهم في إضراب جوع وتنظيم تجمّع عام يوم 23 جوان تحت عنوان “يوم غضب“. الأشكال النضالية التّي تمّ تبنيها، تهدف للمطالبة أساسا بإلغاء المرسوم الذي أقرّ من خلاله سعيّد عزل القضاة والكفّ عن المسّ باستقلالية السلطة القضائية. فقد قرّر سعيّد إعفاء القضاة متجاهلا المجلس الأعلى للقضاء المنصّب أصلا من قبله. فقام بتنقيح المرسوم المنظّم لأعمال هذا المجلس وأسند لنفسه صلاحيّة العزل التي كانت اختصاصا حصريّا له. لقد ارتأى الاستحواذ على سلطة عزل القضاة من دون المرور بالإجراءات القانونية المعمول بها والمنصوص عليها في المعاهدات الدولية ومن دون الاحتكام للمسارات التأديبية التي تضطلع بها تفقديّة وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء حصرا. وعليه، غيّر النصّ القانوني ونشر قائمة إسميّة بالقضاة الذين اختار عزلهم وحصّن قراره بعدم إمكانية الطعن فيه لدى المحكمة الادارية إلا بعد ثبوت براءة المعنيّين من التتبعات الجزائيّة، التي أعلن إطلاقها ضدّهم عبر ذات المرسوم، بحكم باتّ، أي بعد سنوات طويلة.
عزل القضاة خُطّ بجرّة قلم من دون تقديم تُهم مباشرة ضدّهم ومن دون محاكمة أو مواجهة أو حتى تمتيعهم بحق الدفاع وقرينة البراءة بالإضافة إلى حرمانهم من حقّ الطعن في القرار. ففيما يخصّ 45 قاضيا عدليّا من مجموع القضاة المعزولين، لم يتمّ تقديم أي ملفّات تأديبية في حقّهم، إن كان لدى التفقّدية (التابعة لوزارة العدل) أو المجلس الأعلى للقضاء. ومن ضمن القضاة العدليين العشرة المشمولين بمسارات تأديبيّة، ثلاثة قضاة وقع إيقافهم عن العمل فعليّا بقرار من المجلس الأعلى للقضاء الذي وقع حلّه من قبل سعيّد. هي تاليا عقوبة قرّرها الحاكم بأمره من دون محاكمة أو حتى ملفّات. انطلاقا من هذه المعطيات، يثور بصورة ملحة التساؤل عن أسباب العزل من جهة والمعلومات التي استند عليها القرار ومصدرها من جهة أخرى. فقد تضمّن المرسوم أنّه يتمّ إتخاذ قرار العزل بناء “على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة” من دون توضيح هوية هذه الجهات.
أعوان البوليس يعزلون القضاة
تأتي الإجابة على السؤال السابق من قبل القضاة المعزولين أنفسهم، والذين قدّموا شهاداتهم فيما يخصّ الدوافع المحتملة وراء قرار عزلهم. فقد رجّح القاضي عبد الكريم العلوي (وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بقفصة) أسباب عزله لخلافات مع الأجهزة الأمنية في الجهة على خلفية عدم استجابته لطلبات أذون التفتيش التي تقدّموا بها. وقد أفاد أنّ الأجهزة الأمنية في قفصة تريد أن تُمارس ما تسمّيه مداهمات (أي التفتيش) من دون احترام الضمانات القانونية، مؤكّدا أنّ تفتيش محلات السكنى يخضع لشروط قانونية وليس للأهواء الشخصية. إنّ تمسّك القضاة من النيابة العمومية بسلطتهم التقديرية وبدورهم كحماة للحقوق والحريات قد أدّى للتصادم مع أعوان الداخلية الذين كانوا يطالبون بسلطة مطلقة تنتهك حريات الأفراد مع رفضهم الخضوع للرقابة القضائية. وهو ما أكّده أيضا القاضي رمزي بحريّة (مساعد وكيل الجمهورية بالمهدية)، الذي صرّح بأنّه سبق لأعوان الأمن أن طلبوا منه إذنا “بالمداهمة” من دون تقديم أي معلومة عن أسباب الطلب أو أسماء الأشخاص المعنيين أو أي حجّة لهذا الإذن. عزل القضاة على خلفية رفضهم لطلبات أعوان الشرطة ليس من قبيل التخمين. فقد أكّده سعيّد نفسه خلال الإعلان عن قرار الإعفاء. فأفاد هذا الأخير صراحة بأنه تمّ إعفاء عدة قضاة بدعوى تعطيل عمليات مداهمة وتفتيش و”التصدي” لتحريّات أمنية.
لم يقتصر الصّدام بين أعوان الدّاخلية والقضاة على مستوى أذون الإيقاف والتفتيش فقط. فقد أفاد العديد من القضاة بأنّ تقارير أمنية تقف وراء قرار عزلهم. إذ صرّح أنس الحمادي (رئيس جمعية القضاة التونسيين) خلال لقاء إذاعي بأنّ “رئيس الجمهورية يستقوي على السلطة القضائية بآلة وزارة الداخلية” مؤكّدا بأنه وقع التنصّت على القضاة من دون احترام الآليّات القانونية ومن دون أذون قضائية ومن ثمّ تمّ اعداد وشايات وتقارير أمنية ضدّهم.
إنّ ملاحقة القضاة وعزلهم على خلفية تقارير أمنية تمّ تأكيده في أكثر من حالة. فعلى سبيل المثال، أفاد سامي بن هويدي (وكيل الجمهورية بزغوان)، أنّ محكمة زغوان تتصدّر محاكم الجمهورية على مستوى فتح أبحاث بدعوى تجاوز السلطة، وهو ما لم تستسغْه الأجهزة الأمنية في الجهة. نتيجة لذلك، تمّ سماع العديد من القضاة العاملين في هذه المحكمة لدى التفقدية على إثر تقديم عدّة تقارير أمنيّة كيديّة ضدهم. وأضاف بن هويدي أنّه أذن بفتح بحث تحقيقي ضدّ من كتب هذه التقارير، لتتوصّل الأبحاث إلى المسؤول عن ذلك. حيث تبيّن أنّه عميد في الحرس الوطني في حالة فرار، وموضوع عدّة قضايا لدى هذه المحكمة بتهم مختلفة على غرار التعذيب وتجاوز السلطة والتشهير والتدليس.
إنّ محاولة إخضاع القضاة لسلطة الداخلية لم تتوقّف على مستوى تقديم تقارير أمنية ضدّهم فقط، بل تمادتْ إلى حدّ التدخّل في أعمال القضاة ومراقبتها من قبل الوزارة ومن على رأسها. فقد أفاد الصادق حشيشة، وهو قاضي تحقيق أول بالمحكمة الابتدائية بسوسة، أنّه تمّ سماعه بالتفقدية وإخضاعه للأبحاث بمقتضى بطاقة أمنية حرّرها وزير الداخلية. هذا الأخير وجّه هذه البطاقة متدخّلا في كيفيّة إدارته لملفّ قضائي معروض على أنظاره، منتقدا أعمال التحقيق (السماعات، التساخير والمكافحة) ومن ثمّ طالب بالتسريع في فصل الملف. هذا التدخّل السافر في السلطة القضائية وأعمالها يحيل إلى نتيجتين حتميّتين. تتعلّق الأولى بالمسّ بشروط وأسس المحاكمة العادلة، فمن كان طرفا في القضية أصبح يناقش أعمال القاضي عبر إخضاعه لمسارات تأديبية. وأمّا الثانية، فتتعلّق باستحواذ وزارة الداخلية على سلطة مراقبة أعمال القضاة وهو ما لا يدخل حتما ضمن صلاحياتها.
عزل القضاة: تأسيس جديد أم ترميم لمنظومة الاستبداد؟
لم تقتصر مذبحة القضاة على عزل القضاة بطريقة تعسفيّة فقط، بل تتمثّل خطورتها أيضا في التشهير بالقضاة واتهامهم بالفساد وحتى الإرهاب. فخلال إعلانه عن قرار العزل، اتّهم سعيّد القضاة ب 10 تهم متعلقّة بجرائم إرهابية وبتهديد الأمن العام. فاعتبرهم متسترين على إرهابيين وذلك بتعطيل الفصل في 6268 ملف يتعلّق بقضايا ارهاب مفيدا بأنه تمّ الإبقاء على إرهابيين في حالة سراح. إنّ تقديم هذا الكمّ من التهم الثقيلة من دون الإشارة للقضاة المعنيين بها ومن دون تقديمهم للعدالة أو إثارة الاجراءات القضائية ضدّهم، يفيد في قراءة أولى بأنّ الهدف المباشر من ذكرها هو التشهير بالقضاة وشيطنتهم لدى الرأي العام.
جاء ردّ القضاة العاملين في القطب القضائي لمكافحة الارهاب والذين تمّ إعفاؤهم، ليقدّم صورة أخرى مغايرة لما يسوّق له سعيّد ووزارة الداخلية. فقد صرّح قيس الصباحي (مساعد أول بالقطب القضائي لمكافحة الارهاب)، أنّه تمّ العمل على آلاف المحاضر المذكورة من قبل سعيّد، واتّضح بأنها محاضر “فارغة” وهزيلة ولا يمكن إذا أن تشكّل نواة لملفات قضائية يمكن الاعتماد عليها لمزيد التحقيق أو القيام بالايقافات. ما وصفه قيس الصباحي بالمحاضر “الفضيحة” تمّ تأكيده من قبل القاضي رمزي بحريّة الذي أفاد بأنه “ليس كل من يعتبره أعوان الأمن إرهابيا هو كذلك بالفعل”. كما أضاف بحريّة خلال تقديمه لشهادته أنّه لا يمكن الاستجابة لكلّ الأذون المقدّمة من قبل الشرطة العدلية في المادّة الإرهابية في غياب الشروط التي يضبطها القانون. ليتساءل قائلا: “لو كنّا استجبنا لأذون الإيقافات المقدّمة ب 35000 محضر متعلّق بالجرائم الإرهابية، فمن سيبقى خارج السجن في تونس؟” كما أكّد أنه يتمّ إعداد آلاف المحاضر يوميّا، وهي ليست بالضرورة مبنيّة على براهين أو حجج أو وقائع. بل تكون في أغلب الأحيان وشايات كيديّة وعلى القضاة أن يعتمدوا على سلطتهم التقديرية لتحديد الإجراءات التي يجب اتّخاذها.
إنّ التلويح المتكرّر بالجريمة الإرهابية وتهديد الأمن العام وتعميم توجيهها واستعمالها كسلاح ضدّ الخصوم السياسيّين، بدأ يأخذ منحًى تصاعديا منذ سنة 2015. فقد استغلّت وزارة الداخلية الأحداث الإرهابية التي استهدفت أعوانها خصوصا، والجوّ العام المتضامن مع الضحايا لتوسيع نفوذها وتبرير انتهاكاتها للحقوق والحريات تحت شعار الحرب ضدّ الإرهاب. فحرمت المواطنين من حرية التنقل من دون إذن قضائي، وضيّقت على حريّة التظاهر والتجمهر، ومارست الإيقافات الاعتباطية وعسكرة الشوارع. ممّا أدّى مباشرة إلى “تخمة قضائية” فيما يخصّ عدد الملّفات الارهابية التّي كان على القضاة أن يتعاملوا معها. كما تدخّلت النقابات الأمنية لتتّهم القضاة بالتخاذل عبر تكرار مقولتهم: “يقوم الأمن بإيقاف المجرمين ويقوم القضاة بإطلاق سراحهم”. ما يلفت الانتباه حقّا في فيديو إعلان عزل القضاة، هو تبنّي سعيّد نفسه لهذه المقولة، وما كانت التهم المقدمة إلا تجسيدا لهذه السردية العقيمة. فقد أسند سعيّد لنفسه صلاحيّة قاضي القضاة والمراقب لأعمالهم. فقضى بكلّ ثقة بأنّ الأشخاص موضوع الأبحاث مذنبون وثبّت عليهم التهمة الإرهابية رغم أنّ الأعمال التحقيقية لم تنتهِ بعد. بل ونصّب نفسه كمراقب لأعمال القضاة واعتبرهم متواطئين لأنهم تمسّكوا باحترام الشروط القانونية وتصدّوا لتجاوزات أعوان الداخلية.
إنّ التلويح المتكرّر بالتهم الإرهابية ضدّ المعارضين والمقاومين لمحاولات التفرّد بالسلطة يذكّرنا بسياسة منظومة الاستبداد السابقة التي تمّ ممارستها منذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي. فقد تمّت حينها محاصرة ومحاكمة معارضين ونشطاء حقوقيين عبر اتّهامهم بالإرهاب. كان استغلال “الحرب على الإرهاب” سياسة ممنهجة لتجريم كل معارضة وانتهاك الحقوق والحريات وإسكات الفضاء العام، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ممارسات تستنسخها السلطة اليوم في اجترار لصور لم تسقط بعد من ذاكرة عشرات الضحايا الذين لم يمضِ سوى سنوات قليلة على انعتاقهم من سطوة جلاّديهم. نقاط الالتقاء مع السياسة الممنهجة التي اعتمدتها منظومة الاستبداد لا تقف عند حدود الآليات المعتمدة لتصفية كلّ مقاومة. وإنّما تكمن أيضا في نوعية الخصوم الذين اختار سعيّد إبعادهم. فعلى سبيل المثال، ينتمي 52% من القضاة العدليين المعزولين إلى جهازيْ النيابة العمومية والتحقيق (19 قاضٍ من النيابة العمومية و10 قضاة تحقيق). وإذا أضفنا المعطيات المذكورة لما صرّح به سعيّد ليلة 25 جويلية، حين كشف عن نيّته ترأس النيابة العمومية، نفهم أنّ هذا الأخير قام بعزل القضاة الذين لم يخضعوا لأوامره أو لتدخلات وزارة الداخلية. ويكون العزل بذلك الوسيلة التي لجأ إليها لتعبيد طريق أعوان البوليس وإطلاق يد الداخلية عبر إزاحة المقاومين من القضاة وترهيب البقيّة.
إنّ عزم سعيّد ومن خلفه الداخلية على تطويع القضاء وإخضاعه، لا يهدف إلاّ لترميم منظومة الاستبداد. فلا يمكن لهذه الأخيرة أن تنتصب إلاّ إذا توفّر عاملين إثنين: جهاز بوليسي قمعي وذراع قضائي موالٍ للسلطة. فأما بالنسبة للعامل الأول، فيجب التذكير، أنه في غياب أي إصلاح يذكر للمنظومة الأمنية، ثبّت هذا الجهاز نفوذه واستعداده متى تمّ احتياجه، وما أحداث جانفي 2021 إلا مثال واضح على ذلك. وأما بالنسبة للعامل الثاني، فقد أصبح توفيره صعبا نظرا للاستقلالية والضمانات (وإن كانت ضعيفة) التي اكتسبها القضاة غداة الثورة وهو ما يفسّر طبعا الهجمة التي شنّها سعيّد والداخلية ضدّ القضاة. إنّ ما تمّ تحقيقه من إصلاحات، على قلّتها، وظرفيّتها بالنسبة للسلطة القضائية كانت الدافع الأهمّ للمقاومة التي يبديها القضاة خلال الأسابيع الفارطة. فما كان من رفض وإضراب، ما هو إلاّ دفاع عن مكتسبات كان للثورة الفضل في تحقيقها بينما يواصل سعيّد دكّها وتدميرها بدعوى الثأر للمظلومين ودفعا نحو التأسيس الجديد. وهو بذلك يتجاهل قاعدة بسيطة سنّها التاريخ، تفيد بأنّ التدخّل في عمل القضاة يوسّع دائرة الظلم والقهر وبأنّ يد الداخلية إذا ما أطُلقت لا تطال إلاّ المهمّشين والمستضعفين.