رغم انقضاء خمسة أشهر من بدء السنة القضائية 2022-2023، لم تصدر الحركة القضائية للقضاء العدلي بعد في تونس. وعدا عن أن هذا التأخّر يشذّ عن العُرف المنتظم منذ سنة 1967 والذي يتمثّل في إصدار حركة قضائية سنويّة خلال العطلة القضائية الصيفية،[1] فإنه يعطل إمكانية ترشيد سير المرفق القضائي من خلال سدّ الشغورات وتلبية حاجات المحاكم وضمان تعيين القاضي المناسب في المكان المناسب ويمس بحقوق القضاة في الترقية والنقل فضلا عن أنه يعكس اتجاها في مفاقمة التدخل السياسيّ في التعيينات القضائية. وهي مسائل يجدر التوقّف عندها.
وقبل المضي في ذلك، يجدر لفت النظر إلى أمرين:
أولا، أن المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المنشئ للمجلس المؤقت للقضاء عدّل القواعد المعمول بها لوضع الحركة القضائية. فوفق هذا المرسوم، يتولّى المجلس القضائي إعداد مشروع الحركة القضائية السنويّة ويكون لرئيس الجمهورية[2] أجل 21 يوما بعد إحالتها إليه ليمضيها[3] ما لم يقرر خلال تلك المدة “الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل وفي هذه الحالة على المجلس إعادة النظر في موضوع الاعتراض باستبدال التسمية أو التعيين أو الترقية أو النقلة في أجل عشرة (10) أيام من تاريخ توصله..”[4]. ويستخلص من هذا أن إعداد الحركة القضائية لم يعد شأنا يتولى مجلس القضاء المعني وحده إنجازه، بل بات يخضع لمسار تشاركي يؤدي فيه رئيس الجمهورية دور صاحب القرار.
ثانيا، رغم أن المجلس المؤقت للقضائي العدلي (المختص) أعدّ مشروع الحركة القضائية وأبلغها للرئيس قيس سعيّد، فإن هذا الأخير اكتفى بأن أصدر بتاريخ 20-09-2022 جزءا منها، وهو الجزء المتصل بتسميّة الملحقين القضائيين من خريجي المعهد الأعلى للقضاء[5]. وهو بذلك رفض إصدار الأجزاء الأخرى من المشروع من دون الالتزام بالآليّة المحدّدة في المرسوم الصادر عنه وفق ما نبيّنه تفصيليّا في هذا المقال.
التجاذب القضائي السياسي حول إدماج القضاة المعفيين
أول أسباب التجاذب بشأن مشروع الحركة القضائية اتصل بوضعية القضاة المعفيين من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد وفيما إذا كان يتوجب دمجهم فيها وبخاصة بعدما قررت المحكمة الإدارية إيقاف تنفيذ أوامر إعفاء 47 منهم بتاريخ 10/8/2022 أم إخراجهم منها عملا بهذه الأوامر. وفي حين تمسّك المجلس المؤقت للقضاء العدلي بداية برفض فتح الشغورات في الخطط القضائية السامية التي شملتها، فإنه عمد إلى دمج القضاة الذين صدرت قرارات بإيقاف تنفيذ أوامر عزلهم لصالحهم ضمن مشروعه للحركة للسنة القضائية 2022-2023[6].
واللافت أن المجلس ذهب في هذا الخصوص في اتجاه مناقض لموقف وزارة العدل التي كانت رفضت السماح للقضاة المعفيين بمعاودة مباشرة عملهم، وإن حاول التخفيف من الممانعة السياسية من خلال نقل هؤلاء وسحب خطط منهم وصولا إلى فتح باب الترشحات للسامية منها بتاريخ 06-10-2022[7].
وإذ فرض تناقض المواقف بين المجلس والوزارة انتظار ما سيقرّر رئيس الجمهورية، فإنّ هذا الأخير لم يجدْ حرجا في كشف رفضه لتنفيذ القرارات القضائية والذي يستشفّ بوضوح من البلاغ الذي نشر عقب لقائه وزيرة العدل بتاريخ 21-09-2022 بصفحة الرئاسة للتواصل الاجتماعي فايسبوك، بما يخالف خطابه الدائم حول أهمية الاحتكام للقضاء العادل وحربه المعلنة في مكافحة الفساد. وليس أدلّ على ذلك أنّ التشريع القائم يعدّ عرقلة تنفيذ القرارات القضائية مخالفة جزائية[8] ويصنفه في خانة الفساد[9].
ولا يعلم هنا لغياب المعطى الرسمي إن كان المجلس قد أذعن لإرادته تلك بإخراج القضاة المعفيين من مشروع الحركة أم أنه تمسك بموقفه في دمجهم فيها. وفيما يعطي المرسوم المنظم للحركة القضائية وفق ما أشرنا إليه سلطة القرار لرئيس الجمهورية، فإنه يجدر من حيث المبدأ أن يمارس الرئيس هذه السلطة بصورة معللة وبالتالي قانونية، لا أن يمارسها لخرق نفاذ القرارات القضائية أو من باب أولى لإرغام المجلس على الاشتراك معه في خرقها.
الحركة كأداة للاستيلاء على مراكز قضائية
إلا أن التدقيق في المواقف التي ما تزال غير واضحة يظهر أن الاختلاف حول الحركة القضائية لا يقتصر على إدماج القضاة المعفيين أو إخراجهم، إنما هو ينسحب على تسميات وتعيينات في مراكز قضائية قد تثير حساسية سياسية معينة. وما يؤكد ذلك هو ما ورد بصفحة رئاسة الجمهورية بتاريخ 02-01-2023 من كون اللقاء الذي جمع الرئيس برئيس المجلس المؤقت للقضاء منصف الكشو “تمّ خلاله النظر في حركة القضاة التي تأخرت لعدة أسباب ليس أقلها حرص كل الجهات على تحديد معايير موحدة لاستقلال الوظيفة القضائية”. ويشي هذا الموقف بأنّ ثمة نقاشا بين المجلس والرئيس ليس فقط بشأن الإعفاءات إنما أيضا بشأن الخطط القضائية وشروط إسنادها. وهو ما يؤيد ما تم تداوله من حديث عن اعتراض رئاسي على عدد من التسميات ويوحي بأنّ من كتب مرسوم المجلس تاركا بداية للمجلس مسؤولية إعداد مشروع الحركة وضبط شروط ترتيبها عاد لاحقا ليطلب له موقعا في ذلك غير مكتف بالاعتراض. وهذا يؤول حتما للحديث عن شبهة محاولة فرض انسجام بين السلطة السياسية ومن يضطلعون بخطط قضائية سامية.
خلاصة
في المحصلة ورغم الغياب شبه التام للمعطى الموثوق الذي يمكن أن يستند له لفهم كامل للظاهرة غير المسبوقة، فإن تأخّر صدور الحركة يؤشر إلى أمرين: أولهما، وجود مقاومة داخل مجلس القضاة العدلي في رفض الإذعان لرغبات سعيّد في ملف المعفيين وبشكل أعمّ في ملف التعيينات. وثانيهما، تريّث هذا الأخير في فرض حركة بقرار منفرد منه تحسّبا لمزيد من الاتهامات الموجهة إليه بوضع اليد على القضاء والتدخل في شؤونه، وهي اتهامات باتت تؤثر على صورته في الداخل بدليل تعدد المواقف التي تنتقده لأجلها من الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية كما في الخارج والتي من آخرها تقرير منظمة هيومن رايت واتش لسنة 2023 الذي صدر بتاريخ 12-01-2023 وقيّم سلبيا امتناعه عن تنفيذ قرارات القضاء الإداري فيما يتعلق بالقضاة المعفيين وحله مجلس القضاء والتدخل في القضاء[10]. ولربّما يجد هذا التريّث ما يبرّره أيضا في انشغاله بالانتخابات النيابية وعدم رغبته في خوض معارك شاقة على جبهتين تزداد صعوبات كلا منهما، وبخاصة في ظل العزوف القياسي للناخبين في المشاركة في الدور الأول من هذه الانتخابات.
[1]كان الفصل 14 القانون عدد 29 لسنة 1967 مؤرخ في 14 جويلية 1967 والذي يتعلق بنظام القضاة والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة من نظم دورية الحركة القضائية للقضاء العدلي وقد نص على كون المجلس الأعلى للقضاء ينظر كل سنة وقبل بداية العطلة القضائية كل سنة في نقلة القضاة وذات الأحكام كرسها الفصل 47 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 مؤِرخ في 28 أفريل 2016 والذي يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء والذي اقتضى ” يعلن المجلس الأعلى للقضاء عن الحركة القضائية مرة واحدة في السنة في أجل أقصاه موفي جويلية من كل سنة ويمكن للمجلس عند الاقتضاء إجراء حركة استثنائية خلال السنة القضائية.” ووفق هذه الأحكام القانونية التزمت المجالس القضائية بدورية الحركة القضائية للقضاء العدلي السنوية وهي وان لم تتمكن من اجرائها قبل بداية العطلة القضائية فإنها التزمت باصدارها قبل نهاية العطلة القضائية لتمكين القضاة المشمولين بها من ترتيب أوضاعهم الاسرية من سكن وتعليم أبناء وغير ذلك قبل مباشرة عملهم.
[2]· ينص الفصل 18 من المرسوم على أنه “ يتولى كل مجلس من المجالس الثلاثة إعداد الحركة القضائية العدلية والإدارية والمالية ويحيلها إثر ذلك إلى رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي يتولى بدوره إحالتها إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز عشرة (10) أيام “.
[3] المصطلح المستعمل في نص المرسوم
[4] أحكام الفصل 19 .
[5] أمر رئاسي عدد 714 لسنة 2022 نشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 23-09-2022
[6] من بين 49 قاضيا الذين صدرت لفائدتهم قرارات إيقاف تنفيذ 47 من القضاء العدلي و 2 من القضاء الإداري وفي خصوص القضاة الإداريين يلاحظ أن المحكمة الإدارية التي يعودون لها بالنظر والتي أنصفتهم قضائيا لم تنفذ أحكامها ولا يعلم حتى الآن سبب ذلك .
[7] بتاريخ 06-10-2022 فتح المجلس باب الترشحات لخطط وكيل عام لدى محكمة الاستئناف بتونس ، رئيس أول لمحكمة الاستئناف بتونس ، متفقد عام لوزارة العدل وهي خطط شملت الإعفاءات المضطلعين بها
[8] ينص الفصل 315 من المجلة الجزائية على أنه ” يعاقب بالسجن مدة خمسة عشر يوما و بخطية قدرها أربعة دنانير وثمانمائة مليم :
أولا: الأشخاص الذين لا يمتثلون لما أمرت به القوانين والقرارات الصادرة ممن له النظر
[9]يعرف الفصل الثاني من القانـون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 مؤرخ في 7 مارس 2017 يتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين الفساد بكونه” كل تصرف مخالف للقانون والتراتيب الجاري بها العمل يضر أو من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة، وسوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية ويشمل جرائم الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص والاستيلاء على الأموال العمومية أو سوء التصرف فيها أو تبديدها واستغلال النفوذ وتجاوز السلطة أو سوء استعمالها، وجميع حالات الإثراء غير المشروع وخيانة الأمانة وسوء استخدام أموال الذوات المعنوية وغسل الأموال وتضارب المصالح واستغلال المعلومة الممتازة والتهرب الجبائي وتعطيل قرارات السلطة القضائية وكل الأفعال التي تهدد الصحة العامة أو السلامة أو البيئة.”
[10]ورد في التقرير فيما تعلق بالقضاء في 12 فبراير -شباط حل سعيد مجلس القضاء في خطوة خطوة قوّضت استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية. كان هذا المجلس أعلى هيئة قضائية في البلاد، ومهمته الإشراف على تعيين القضاة وتأديبهم وترقيتهم. استبدله الرئيس سعيّد بهيئة وقتية عيّن هو جزء من أعضائها، ومنح لنفسه سلطة التدخل في تعيين القضاة ووكلاء الجمهورية وفي مساراتهم المهنية وإقالتهم دخل القضاة التونسيون في اضراب لمدة أربعة أسابيع رفضا للمرسوم الذي حلّ المجلس الأعلى للقضاء حرم الدستور الجديد، الذي دخل حيز النفاذ في أغسطس/آب، القضاة من حق الإضراب10 أغسطس -آب ، علّقت المحكمة الإدارية بتونس العاصمة قرار الرئيس بشأن 49 من أصل 57 قاضيا، وأمرت بإعادتهم الى مناصبهم لم تنفذ السلطات هذا القرار بعد .