لا تزال محنة القضاء التونسي، الذي وضعت السلطة التنفيذية يدها على مفاصله ونسفت ضمانات استقلاليته، مستمرّة في نسق تصاعدي بيد وزيرة العدل ليلى جفّال وتحت رعاية رئيس الدولة قيس سعيّد. آخر مظاهر “التصعيد” ما كشفته جمعية القضاة التونسيين، في بيانها بتاريخ 15 جانفي 2024، عن إصدار وزيرة العدل قرارات جديدة بإيقاف قضاة عن العمل وتنحية رؤساء محاكم وتعيين غيرهم، فضلا عن توظيف آلية تمديد سنّ الإحالة على التقاعد، بهدف ترسيخ بسط نفوذها على المحاكم. الشيء الذي لا يزيد فقط في تثبيت مشهد هشاشة القضاء وانهياره كسلطة مستقلّة قانونًا وواقعًا، بل ينبئ أيضا بمزيد توظيفه في التتبعات القضائية ضدّ معارضي السلطة والفاعلين في المشهد العامّ، وفرض قراراتها ومآلاتها.
وضع اليد على القضاء: آليّات متعدّدة لهدف واحد
تفيد معلومات متداولة في الوسط القضائي تواصل مسلسل إصدار وزيرة العدل لقرارات بإيقاف عدد من القضاة عن العمل مؤخرًا، من بينهم قضاة في النيابة العمومية والتحقيق والمجلس، وبالأخصّ في القطب الاقتصادي والمالي وقطب مكافحة الإرهاب. وقد أكّدت جمعية القضاة عدم وجود مؤاخذات تأديبية ضدهم أو توجيه تُهم جزائية عليهم. فيما تُواصل وزارة العدل فرض التعتيم في مشهد إداراتها الفعلية للمسارات المهنية والتأديبيّة للقضاة، بما يزيد في إشاعة مناخ الغموض وعدم الشفافية. وقد ترافقت بعض قرارات الإيقاف عن العمل بقطع الأجر بما يزيد في فرض الهشاشة المعيشية في الوسط القضائي، بعد مظلمة 1 جوان 2022 التي أدت لإعفاء 57 قاضيًا استصدر 49 منهم قرارات قضائية بتوقيف التنفيذ ظلّت حبرًا على ورق بقرار سياسي.
قرارات الإيقاف عن العمل المستجدّة تشي باعتبارها أداة لمعاقبة القضاة التي لم تُرضِ قراراتهم السلطة السياسية في ملفّات معيّنة. وهي تهدف أيضًا لترهيب بقية القضاة من تبعات عدم الانصياع لما تريده السلطة. وقد ثبت توظيف الوزيرة لهذه الآلية فيما سبق لإيقاف قاض بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب على خلفية قراره بإبقاء نقابي في حالة سراح. وتستندُ وزيرة العدل لإصدار قراراتها على قانون 1967 المنسوخ بتشريعات متتابعة بعد 2011 وهي التشريعات التي أسّست لتحييد السلطة السياسية عن سلطة القرار فيما يتعلق بالمسارات المهنية والتأديبيّة للقضاة [1].
كما استندتْ الوزيرة على القانون ذاته لإصدار موجة مذكرات جديدة تضمّنت تنحية رؤساء محاكم وتعيين آخرين مع ما يشوب ذلك من نقل تعسفية، بحسب ما ذكرته الجمعية، وهو ما سمح لها ببسط نفوذها أكثر فأكثر على المحاكم. هي حركة قضائية جزئية بحكم الواقع وبمثابة جولة جديدة بعد الحركة السنوية الأخيرة (2023/2024) التي سطرتها الوزيرة ومعاونوها، الصيف الفارط، في “الغرف المظلمة” في مبنى الوزارة في شارع باب بنات بالعاصمة. وهي الحركة التي كانت قد ثبّتت مذكرات سابقة للوزيرة شملت تعيينات بالخصوص في الخطط القضائية السامية. تحوّلت المذكرات بذلك إلى أداة فاعلة للسلطة التنفيذية لبسط نفوذها على مفاصل المحاكم عبر توزيع قضاة الموالاة في المواقع المفصلية في السلسلة الجزائية خصوصًا على مستوى النيابة والتحقيق.
ولا يقف “انخراط” وزيرة العدل في تطويع القضاء عند هذا الحدّ وهي التي لا تفوّت أي فرصة للغرض. فقد أشارت جمعية القضاة أيضا إلى توظيف الوزيرة لآلية التمديد في سنّ الإحالة على التقاعد[2] لمزيد التحكّم في المشهد القضائي، عبر منح التمديد للموالين أو المطلوب موالاتهم ونزعه عن المغضوب عليهم، وذلك في غياب معيار موضوعي وشفاف. وطالما كانت هذه الآلية، في سنوات بناء القضاء المستقل، موضع رفض من تيار استقلال القضاء باعتبارها مدخلاً للفساد القضائي.
المجلس الأعلى المؤقت: هيكل معدوم مع سابقية القصد
هجمة الوزيرة على ضمانات استقلالية القضاء وإمعانها في فرض قضاء السلطة، تتواصل مجددًا على مرأى ومسمع المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الذي تحوّل عمليًا إلى مؤسسة معدومة بقرار الوزيرة نفسها. على وجه الخصوص، مجلس القضاء العدلي، المكوّن من 7 قضاة، كان قد فقد نصابه القانوني بعد إبعاد قاضييْن بالصفة بمقتضى الحركة السنوية (وكيل الدولة العام ورئيس المحكمة العقارية) وإحالة القاضيين المتبقيين بالصفة على التقاعد (رئيس محكمة التعقيب ومدير المصالح العدلية). أصبح بذلك المجلس معطّبًا غير قادر على الانعقاد بصفة قانونية. وكانت الوزيرة قد افتكّت اختصاصات المجلس وشاغبتهُ علنًا، سواء عبر مذكرات العمل أو بمناسبة إعداد الحركة القضائية. والآن وبعد الإجهاز عليه، ها هي تسعى لتبرير اليدِ الطولى للسلطة التنفيذية باعتبار أنّ الطبيعة تأبى الشغور. وهو شغور دبّر بليل، وإن كان المجلس، بتركيبته المكتملة فيما سبق، اختار عدم التصدّي بشكل علني لهجمات الرئيس ووزيرته على القضاء وإن لم يسعَ للانخراط فيها. انحناء للعاصفة أم مقاومة صامتة؟ يختلف التقدير داخل تيار الاستقلال ذاته.
من هنا تظهر خطورة ما حصل من إعدام للمجلس المؤقت. فرغم علاّته الأصليّة، وهي بالأخصّ تركيبته غير الضامنة لاستقلال القضاء وسياق وضعه حيث جاء على أنقاض حلّ المجلس الشرعي والمنتخب، مكّن وجود المجلس المؤقّت من تأمين حدّ أدنى من التشاركية مع السلطة السياسية في إدارة المسار المهني والتأديبي للقضاة. ورغم أنّه لم يتصدَّ مباشرة لاستهداف السلطة السياسية للقضاء، إلاّ أنّه ساهم على الأقلّ في إبطاء سرعة جموحها. تغييب مجلس القضاء لن يزيد إذًا إلاّ في إضعاف الضمانات الهشّة للقضاة في المرسوم عدد 11 ومن ذلك على سبيل الذكر عدم إمكانية البتّ في مطالب التظلم إثر الحركة القضائية السنوية[3]. بما يعني، عمليًا، استحالة صدور الحركة الاعتراضية هذه السنة.
في الأثناء، يظلّ السؤال مطروحا حول ما إذا كانت السلطة السياسيّة ستعملُ على إحياء مجلس القضاء العدلي المؤقت أم لا. وهو ما يفترض إصدار تعيينات في الخطط القضائية السامية الشاغرة المعنية بالعضوية، وعددها أربعة. فالتعيين، حسب المرسوم عدد 11، يبدأ بترشيح من المجلس ذاته لرئيس الدولة، إلاّ أنّ عدم قدرة المجلس على الانعقاد بعد مسار إعدامه، يجعل رئيس الدولة وحده صاحب المبادرة. تبقى بذلك الخيارات الممكنة إمّا استدامة شلّ المجلس المؤقت إلى غاية تنصيب المجلس الدائم والذي لا يبدو من أولويات السلطة في الوقت الراهن، أو إعادة إحيائه بتعيين قضاة موالين في الخطط القضائيّة الأربع السامية، ليجلسوا بالصفة في المجلس المؤقت. وإذ يُضاف إليهم القضاة الثلاثة المتقاعدون والمعينون من رئيس الدولة، يصبح المجلس بذلك خليّة لقضاة السلطة من دون أي صوت ناشز، ولو كان أقلّيّا.
السلطة التنفيذية تحكم وتسود
خلال مناقشة مشروع قانون الصلح الجزائي في لجنة التشريع العام، وفي سياق تبرير إبدال وكيل الدولة العام بوزيرة العدل لإسناد شهادات في التنفيذ الجزئي للصلح الوقتي، أرجع ممثل وزارة العدل هذا التغيير، أساسًا، إلى أنّ “وزير العدل هو رئيس النيابة العمومية على مستوى كامل الجمهورية التونسية”[4]. وهو ما سبق ونصّت عليه وثيقة شرح الأسباب المرفقة بالمشروع، والتي أكّدت أنّ الوزير وباعتباره رئيس النيابة يختص بإصدار “توجيهات إلى قلم الادّعاء العام لترتيب آثار الصلح”[5].
اعتبار الوزيرة رئيسة للنيابة العمومية يكثّف حقيقة الخيار السياسي بعد 25 جويلية 2021 في افتكاك السلطة التنفيذية لموقع النيابة العمومية. وكان رئيس الدولة سمّى نفسه رئيسًا للنيابة ضمن قرارات التدابير الاستثنائية وقتها، وهو ما تصدّى له حينها مجلس القضاء الشرعي، باعتبار أن النيابة هي جزء من السلطة القضائية وهي تبعا لذلك مستقلّة عن السلطة التنفيذية. هذا الخيار التأسيسي في دستور 2014، وهو ضمانة لإنفاذ مفاعيل الاستقلالية، دفع حينها لاقتراح إلغاء الفصل 23 في مشروع مراجعة مجلّة الإجراءات الجزائية، وهو الفصل الذي يؤسس بالخصوص لطلب وزير العدل من وكيل الدولة العام إجراء تتبعات قضائية. وهو ذات الفصل الذي جيّرته وزيرة العدل بشكل ممنهج وغير مسبوق بعد 25 جويلية بطلب تطبيقه بغية إثارة الدعوى ضد شخصيات عامة، قبل تراجع الحاجة إليه بعد تأمين وضع يدها على النيابة العمومية التي باتت الخاضعة في موقع المرؤوس أمام “الرئيسة” وزيرة العدل.
تبعا لما تقدّم، لا يزال مسار اختطاف السلطة التنفيذية للقضاء مستمرّا بنسق تصاعدي، فلم يكن تمويت مجلس القضاء المؤقت بإرادة الرئيس ووزيرته إلاّ فصلا جديدا منه. هو إبعاد لمؤسسة وضعها هذا المسار ذاته بُغية رفع أي مطبّات ولو شكلية، ضمن خيار علني بإخضاع القضاء لساكن قرطاج. هكذا أصبحت السلطة السياسية تحكمُ وتسودُ في ردهات المحاكم وتخيّم عصاها على الوجدان المسلوب للقضاة. فيزداد القضاء بذلك علّة وتنعدم ضمانات المحاكمة العادلة، ويصبح كلّ من يعارض السلطة السياسيّة القائمة عرضة للظلم والتعسّف.
[1] انطلاقًا من القانون الأساسي عدد 13 لسنة 2013 المؤرح في 2 ماي 2013 المتعلق بإحداث هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي وثم القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 المحدث للمجلس الأعلى للقضاء.
[2] إثر تعديل القانون عدد 12 لسنة 1985 المتعلق بنظام التقاعد بواسطة المرسوم عدد 21 لسنة 2021 المتعلق بقانون المالية لسنة 2022.
[3] الفصل 22 من المرسوم عدد 11 “يرفع التظلم من قرارات الترقية والنقلة والتسمية بالخطط الوظيفية والإعفاء منها إلى كل مجلس مؤقت للقضاء في أجل أقصاه سبعة (7) أيام من تاريخ نشر الأمر الرئاسي المتعلق بها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. يبت كل مجلس مؤقت للقضاء في مطالب التظلم في أجل أقصاه شهر واحد من تاريخ تقديم المطلب”.
[4] تقرير لجنة التشريع حول مشروع قانون يتعلق بتنقيح المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022 المتعلق بالصلح الجزائي، موقع مجلس نواب الشعب، ص 24.
[5] في ذات السياق، ولدى استقبال رئيس الدولة لوزيرة العدل يوم 4 جانفي الحالي، أورد البلاغ الرئاسي أن سعيّد “أمرها” بإثارة تتبعات قضائية “ضد كل من أدى لتخريب المؤسسات”. صيغة تشي باعتبار الوزيرة رئيسة للنيابة، الأمر الذي يتعارض مع مقتضيات استقلال القضاء.