مساء يوم 30-08-2023، صدرت بالرائد الرسمي للبلاد التونسية وفي عدد خاص منه حركة تنقلات القضاة العدليين للسنة القضائية 2023-2024. وتعدّ هذه الحركة الأولى التي يتمّ إعدادها في ظلّ تفرّد الرئيس قيس سعيد بالسلطة السياسية ووفق الأحكام القانونية والدستورية التي صاغها اعتبارا لما تمّ من حجب لهذا الموعد الدوري في السنة القضائية السابقة.
وقد شملت هذه الحركة 1088 قاضيا توزعوا بين 425 من قضاة الرتبة الثالثة و332 من قضاة الرتبة الثانية و331 من قضاة الرتبة الأولى. وهي باعتبار هذا المعيار الكمي أكبر الحركات القضائية التي عرفها القضاء العدلي إذ مسّت أكثر من 40% من القضاة المباشرين.
ويهمّ المفكرة القانونية في إطار دراستها لهذا الحدث الذي تقدّر أنه سيكون له تأثير على رسم المشهد القضائي التونسي مستقبلا، أن تبدي جملةً من الملاحظات من شأنها أن تساعد المهتمّين بكشف بعض خلفيّاته وما يكون له من آثار على القضاء خلال المرحلة المقبلة.
1- حركة لم يُعلنْها مجلس القضاء
بخلاف ما كان يعمل به في فترة الانتقال الديمقراطي (فترتيْ عمل الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي والمجلس الأعلى للقضاء) حيث كان يعلن عن الحركة فور مصادقة هذين الجهازين عليها، لم يعلنْ هذه المرة عن الحركة إلا بعد ختمها من رئيس الجمهورية ومن خلال نشرها في الجريدة الرسمية. وهذا الفرق الإجرائي على بساطته يعبّر بشكل بليغ جدّا عن التحول الحاصل. ففيما كان الإجراء في صيغته السابقة يدلّ على الاستقلالية الوظيفية لمجالس القضاء التي كان لها الكلمة الفصل في كل ما تعلق بالمسار المهني للقضاة، يؤشر الإجراء الراهن إلى أنّ رئيس الجمهورية هو من بات يتحكّم قانونا في تنقّلات القضاة، بنتيجة الصلاحيات التي أسندها لذاته في الاعتراض على مشاريع الحركة التي يعدّها المجلس المؤقت للقضاء.
علاوة على ذلك، نلحظ أن نصّ الحركة القضائية لم يتضمّن أيّ إشارة لاطلاع رئيس الجمهورية على رأي المجلس فيما يشبه التهميش لدوره في إعدادها وبما يطرح السؤال حول ما إذا كان فعلا قد التزم بالإجراءات التي ضبطتها النصوص التي صدرت عنه في المجال.
2-حركة غابت عنها الشفافية
حسب المرسوم المنظّم لعمل المجلس المؤقّت للقضاء[1] والذي صاغه الرئيس سعيد بإرادته المنفردة، يعدّ المجلس مشروع الحركة القضائية ويحيله لرئيسه الذي يوجهه في أجل 10 أيام لرئيس الجمهورية والذي له في أجل 21 يوما الاعتراض على ما يرى من تسميات ونقل وترقيات وإرجاع مشروعها للمجلس. وعلى هذا الأخير في أجل لا يتجاوز العشرة أيام استبدال من تمّ الاعتراض عليهم بغيرهم.
ولو حاولنا السؤال عن مدى احترام هذه الإجراءات في مسار إعداد الحركة القضائية، يتعذّر علينا الوصول لأي جواب لغياب المعطيّات الضرورية لذلك. وما يزيد التساؤلات في هذا المضمار هو ما تمّ تداوله إعلاميا في خصوص رد الرئيس لمشروع الحركة أكثر من مرة وامتناعه عن إصدارها في السنة الماضية وانفراد المدونين والصفحات التي توصف بالمساندة للرئيس بتسريبات الحركة قبل صدورها ودقة المعلومات التي وردت عنها. ومن شأن كل هذه المعطيات أن تؤشر إلى أنّ مسار إعداد الحركة لم يتوافق بالكامل مع إجراءاتها وهو أمر يبدو أنه لم يلقَ معارضة وازنة من المجلس بدليل تثبيت مذكرات عمل وزيرة العدل.
3-تثبيت مذكرات عمل وزيرة العدل
أصدرت وزيرة العدل في تاريخ 29-05-2023 عشر مذكّرات عمل عيّنت بموجبها قضاة في خطط قضائيّة. وقد استندتْ في ذلك لأحكام الفصل 14 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المتعلّق حسب تسميّته “بالقضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة”. وينصّ هذا الفصل على أنّه “ينظر المجلس الأعلـى للقضـاء فـي نقلـة القضـاة الجالسـين قبـل بدايـة العطلـة القضائية من كلّ سنة قضائية، ولوزير العدل خلال السنة القضائية أن يأذن بنقلة قاضٍ لمصـلحة العمـل ويعـرض الأمر على المجلـس الأعلـى للقضـاء فـي أول اجتمـاع لـه”.
وبدتْ في حينِها خطوتُها تلك رغم امتثال المعنيين بها لها وتنفيذهم لمقتضياتها موضوع منازعة في شرعيتها، بالنظر إلى النصوص القانونية الصادرة في فترة الانتقال الديمقراطي وفي ظلّ نظام 25 جويلية والتي أدت إلى تعديل آلية اتخاذ القرارات المتصلة بالمسارات المهنية للقضاة (القانون الأساسي المُحدث للهيئة الوقتية للقضاء العدلي ومن بعده القانون الأساسي المحدث للمجلس الأعلى للقضاء وصولا إلى المرسوم المحدث للمجلس المؤقت للقضاء). وما زاد من عدم شرعية هذه التعيينات هو أنها تمّت من دون فتح باب التناظر بين القضاة في ما تعلّق بها. وبفعل ما عُرف عن أعضاء المجلس من حسّ محافظ، لم يكن يتوقع منهم المنازعة في شرعية مذكرات الوزيرة إنما أمل البعض أن تشكل الحركة القضائية السنوية وبدفع من القضاة السامين (الذين عبروا في الآونة الأخيرة عن مقاومة مؤسساتية للمقررات السلطوية) مناسبة لمراجعة تلك المذكرات بإعلان الشغورات في المناصب التي شملتها. وفيما يصعب معرفة إذا كان المجلس واجه المنحى السلطوي في هذا المضمار في ظلّ غياب الشفافية في إجراءات اعداد الحركة، من الثابت أنّ الحركة ثبتت المذكرات وأعطتها شرعية فعلية بما زاد في تهميش دور مجلس القضاء المؤقت الذي يبدو ان حملة تطهيره قد انطلقت.
4-تغيير تركيبة مجلس القضاء بصمت
لم يسند الرئيس قيس سعيد للمجلس المؤقت للقضاء صلاحيات واسعة وفرض لذاته مداخل متعددة للتدخل في عمله زيادة على اختصاصه في تعيين أعضائه من دون رقيب عليه في ذلك. لم يحل ذلك دون حصول مواجهة لنزوعه نحو التفرد في إدارة ملف القضاء من المجلس المعين منه، وقد قاد القضاة المعينون بالصفة (وعددهم 4) عموما هذه المواجهة. وكان من أبرز تجلياتها، التسليم بأنّ القضاة المعفيين الذي صدرت لفائدتهم قرارات إيقاف التنفيذ عن القضاء الإداري يتمتعون بحصانتهم القضائية، رغم رفض وزارة العدل ورئاسة الجمهورية الالتزام بهذه القرارات.
ويلحظ في هذا الإطار أن الحركة القضائية شملت قاضييْن من بين الأربعة أعضاء للمجلس العدلي المعيّنين بالصفة وهما وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب فتحي عروم الذي عيّن رئيسا أول لمحكمة استئناف بنزرت وأحمد الحافي الرئيس الأول للمحكمة العقارية الذي عيّن رئيس دائرة بالتعقيب. وتبعا لذلك، يفقد القاضيان المذكوران بداية من تاريخ 16-09-2023 صفتهما بالمجلس. ولا يعلم هنا إن كان إعفاء هذين القاضيين الساميين من خطّتيهما حصل تبعا لطلبهما عملا باعتبارات خاصة بهما أو بنتيجة ضغوط تعرّضا لها أم ن رئيس الجمهورية هو من قرر ذلك. ولكن المؤكد أن تقهقر ترتيبهما في هرمية المشهد القضائي سابقة لم يشهدها القضاء العدلي سابقا وأنها سابقة تسمح للرئيس سعيّد إحكام سطوته على عضوية المجلس ومقرراته. وما سيزيد من هيمنته على المجلس هو أن عضوا ثالثا من الأعضاء المعينين بالصفة في المجلس (وهو مدير المصالح العدلية القاضي عماد الدرويش) سيُحال على التقاعد خلال السنة القضائية القادمة مما سيشكل مناسبة جديدة لرئيس الجمهورية لتعيين خلفه.
5- تعيينات بالجملة
أدّت الحركة لتغييرات على مستوى رؤساء أول لمحاكم استئناف والوكلاء العامّين لذات المحاكم بلغتْ نسبتها 56%. كما كانت مناسبة لتعيينات تعلّقت بنصف وكلاء الجمهورية لدى المحاكم الابتدائية (14 وكيلا) و33% من رؤساء المحاكم الابتدائية (9 رؤساء محاكم). وتعلقت أغلب التغييرات المسجلة بمحاكم العاصمة والمدن الكبرى. كما شملت عددا كبيرا من قضاة التحقيق ورؤساء دوائر الاتهام ورؤساء الدوائر الجنائية.
تبدو الحركة القضائية من هذه الزاوية أهم مما سبقها من تحركات وهي لا تتماثل إلا مع أول الحركات القضائية التي أجريت بعد الثورة. وهذا المعطى إنما يؤكد أنها تهدف إلى صناعة قضاء جديد يلائم مقتضيات المرحلة كما يتصورها رئيس الجمهورية الذي أكد في أكثر من خطاب على فكرة انخراط القضاة في مشروعه الذي يبدو أن من شروط نجاحه أيضا استبعاد القضاة المعارضين.
6- النقل العقابية المقنعة
في سابقة قد تكون فريدة من نوعها، دستر رئيس الجمهورية في دستور 2022 مبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه وحدّد شروط ما يلحق به من استثناء أي بالنقلة لمصلحة العمل.
وفي أول مناسبة لتطبيق هذا المبدأ، نلاحظ أن النقلة لمصلحة العمل شملت حسبما ورد بنص الحركة 27 قاضيا من الرتبة الثالثة و40 من الرتبة الثانية و6 من الرتبة الأولى. فيما يكون مؤكدا أن عدد من تمّت نقلتهم من دون رضاهم من دون ذكر أنهم نقلوا لمصلحة العمل أكبر من هذا العدد بكثير.
ويبدو هنا الخرق الإجرائي للدستور (النقل لمصلحة العمل دون الإعلان عن ذلك) كما لو كان الشجرة التي قد تحجب عنا الغابة. فالنُّقل التي وُصفت بكونها تمّ اللجوء إليها لمصلحة العمل كانت في جانب كبير منها نُقلا عقابية مقنّعة شملت قضاة لهم نشاط صلب جمعية القضاة وفي إطار الحراك القضائي المدافع عن استقلالية القضاء، من أبرزهم روضة قرافي الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة وقضاة آخرون تمسكوا باستقلاليتهم في ملفات تعهدوا بها أو بمناسبة إدارتهم لمحاكم كانوا يشرفون عليها. ويعدّ هذا التطور تطورا خطيرا يمسّ باستقلالية القضاء ويفرض أجواء من التخويف والترهيب على القضاة الذين خيّرتهم أول حركات الرئيس بين الولاء والعقاب.
الخلاصة
تشكّل الحركة القضائية كما فصلنا خصائصها أعلاه مكسبا جديدا يتحقّق لنظام الرئيس سعيد وتراجعا مهما عن مكتسبات سابقة كانت قد تحققت للقضاء. وما يضاعف من مشاعر القلق هو ضعف الاهتمام المجتمعي بها وبدلالاتها تلك رغم ما ينتظر من انعكاسات خطيرة على صعيد الحريات الفردية والعامة.
نشر هذا المقال في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس.
لقراءة العدد كاملا، إضغطوا هنا
[1] مـرســوم عدد 11 لسنة 2022 مؤرّخ في 12 فيفري 2022 يتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء