ملفّ القضاة المعفيين: بعد الانفراج بوادر أزمة جديدة


2022-08-16    |   

ملفّ القضاة المعفيين: بعد الانفراج بوادر أزمة جديدة
وزيرة العدل التونسيّة ليلى جفّال. المصدر: موقع وزارة العدل

ظنّ القضاة عموماً ومعهم جانب واسع من الرأي العام أن إصدار الرئيس الأول للمحكمة الإدارية يومي 09 و18 اوت 2022 قرارات إيقاف تنفيذ أوامر إعفاء الرئيس قيس سعيد ل49 من زملائهم[1] سيكون المخرج المؤسساتي من الأزمة الحاصلة بنتيجتها. لكن سرعان ما أبدتْ السلطة السياسية أو على الأقلّ وزيرة العدل ليلى جفّال مواقف أنذرتْ برفض التنفيذ وبالتالي بصناعة أزمة جديدة.

فمساء يوم الأحد 14-08-2022، نشرتْ وزيرة العدل ليلى جفال بالصفحة الرسمية لوزارتها بياناً مقتضباً جاء فيه “تُعلم وزارة العدل أنه عملا بأحكام المرسوم عدد 35 لسنة 2022 المؤرخ في 01 جوان 2022، بأن القضاة المشمولين بالإعفاء هم محل إجراءات تتبعات جزائية.”[2] ويؤشّر هذا البيان الذي ورد يوم عطلة نهاية الأسبوع إلى توجه النيّة لدى الجهات الرسمية لرفض تنفيذ القرارات القضائية رغم أنها باتّة – مبرمة – وتنفّذ حسب صريح نص القانون فوراً. وتأكدت هذه النيّة بعدما طلبتْ الوزيرة جفّال من المصالح الإدارية للوزارة تغيير أقفال أبواب مكاتب القضاة المعفيين ومنع الدخول لها.

وتبدو هذه التطورات مهمة لكونها ترسم تصوّرا لعلاقة الدولة بالقانون في أزمة القضاة قد يتعداها لغيرها من الملفات وتنبئ بتطورات محتملة للمواجهة بين القضاة والسلطة السياسية.

الدولة المارقة على قوانينها

بتاريخ 21-06-2022، لما سئل الرئيس سعيد عن ملف القضاة المعفيين، أجاب بأنّه عليهم الالتجاء للمحكمة الإداريّة. وقد اعتبر حينها المُتابعون ومنهم أنصاره أن حديثه ذاك فيه اعتراف منه بحقّهم في التقاضي علاوة على كونه يتضمن تعهدا منه باحترام ما ينتهي له التحكيم القضائي بينه وبينهم.

تاليا ولما أنصفت رئاسة المحكمة الإدارية المعفيين وبيّنت في تعليل قضائها أن القرارات التي اتخذت في حقهم لم تقدّم الجهة الإدارية ما يبرّرها، ساد خطاب يؤكد أن السلطة ستذعن لها رغم ما تسبّبه لها من إحراج وما كشفتْ عنه من ارتجال. وهي تقديرات فنّدتها الوزيرة جفّال التي أكدت مجدّدا وخلافا لما يروّج بشأن احتمال إقالتها، أنها لا زالت نافذة وأن النفوذ يعني أن تكون فوق القانون.

عدم تنفيذ القرارات القضائية: المبرّرات الواهية والدلالات الواضحة

أمهلتْ المحكمة الإدارية الوزيرة جفّال شهرين كاملين للإدلاء بالملفات التي تمّ الاستناد لها في اتخاذ قرارات الإعفاءات. ولكن الأخيرة فشلتْ في تنفيذ الأحكام التحضيرية تلك واكتفتْ بنقاشات شكلية نفتْ فيها صفة التداعي.وقد استندتْ الجهة القضائية لصمتها حيث وجب الجواب لتعلّل قرارها بداية من يوم 09-08-2022 بإيقاف تنفيذ أوامرالإعفاء .

بعد ثلاثة أيام وتحديداً في مساء يوم 11-08-2022، وجّهتْ الوزيرة 27 ملفا للنيابة العمومية تعلّقتْ بذات القضاة لتصدر بعد ذلك بيانها الذي حاولت أن تبرز فيه أنها تنفّذ القانون فكان على نقيض ذلك مؤشرا على خرق غير مسبوق للقوانين وقيم دولة القانون تعتزم إتيانه.

دولة ترفض أن تنفّذ أحكام القضاء بالصوت العالي: ممارسة تخالف الشعارات

خلال فترة الجمهورية الأولى، كانت وزارتا الدفاع والداخلية تتمسكان برفض تنفيذ الأحكام التي تصدر عن المحكمة الإدارية في مادة إلغاء مقررات مجالس التأديب وتبرر موقفها ذاك باعتبارات أمنية وبأن لمن تضرّر منه اللجوء للقضاء الإداري في مادة التعويض. وكانت الحجة التي تقدم لا تقنع رجال القانون والمدافعين عن قيمة دولة المؤسسات.

تاليا وبعد الثورة تطور الالتزام بتنفيذ الاحكام الإدارية. ولم يكن يتم التخلّف عن ذلك إلا في الحالات التي تثير فيها الجهة المطلوب منها ذلك مسألة استحالة التنفيذ والتي تتمثل أساسا في تغير الحالة الواقعية بشكل أدى لتعلق حق الغير بالحق محل المنازعة.

ويستفاد من هذا أن احْترام الأحكام القضائية الإدارية فيما سبق من تاريخ المحكمة الإدارية التونسية وإن لم يكن بالوجه المطلوب، فإنه لم يصلْ حدّ الخروج الكامل عنه وكان في كثير من الأحيان ظاهرة معلومة حدودها .

وعليه، يؤشّر توجّه وزيرة العدل لتعطيل تنفيذ القرارات القضائية المتعلقة بالمعفيين إلى تطوّر كبير في تمرّد الدولة على قيم دولة القانون يناقض ما يعلنه الرئيس قيس سعيد من مشروع له يسميه مجتمع القانون ويقول أنه يعني أن يطبّق القانون على الجميع في إطار قضاء عادل[3]. كما ينذر خلع المكاتب وتغيير الأقفال وتنصيب حرّاس على أبوابها[4] بأن البديل المقترح سيكون القوة بمفهومها المادي.

أي موقف للقضاة والمجتمع المدني والسياسي من التطور الحاصل؟

مساء يوم 15-08-2022 ، أصدرت تنسيقية الهياكل القضائية والتي تضمّ مختلف جمعيات القضاة ونقاباتهم بيانا استغرب موقف وزارة العدل ودعا رئيس الجمهورية لاتخاذ موقف واضح ينتصر للحق. ونقدر أن هذا الموقف مهمّ لاعتبارين أولهما أنه تم في اطار التنسيقية التي قادت تحركات القضاة سابقا بما يؤكد عزم القضاة على التصدّي للتجاوز إن تمّ وثانيهما أنه ينقل السؤال في الموضوع إلى رئيس الجمهورية الذي بات مطالباً باتخاذ موقف واضح والابتعاد عن استعمال مظلّة الوزيرة رفعا للحرج عنه.

ويؤمل في ذات السياق أن يتبين مختلف الفاعلين خطورة ما يلوح من توجه نحو صناعة الدولة التي تتمرد على القانون فترفض تنفيذ الأحكام النافذة وتستند فقط للقوة التي تمثلت في واقعة الحال في خلع الأبواب وتغيير أقفالها لتفرض إرادتها على الجميع وأن يكون موقفهم في الموضوع منتصرا لفكرة مجتمع القانون التي تحدث عنها الرئيس سعيد من دون أن يلتزم بها.


[1]  صدر يوم 09-08-2022 54 قرار   منها 48 بالاستجابة للطلب . صدر يوم 10-08-2022  قرار بالاستجابة للطلب  لازال ملف لم ينظر فيه بعد  . يكون بالتالي اجمالي الطعون 57 ( خلافا لما ورد ببيان المحكمة الإدارية سابقا  )

[2]   الأخطاء اللغوية وردت في البيان الذي تم نسخه بشكل حرفي

[3]  كلمة الرئيس سعيد بتاريخ 03-08-2022

[4]  بتاريخ 15-08-2022 وجهت الوزيرة للوكلاء العامين ووكلاء الجمهورية مراسلة تطالبهم بتغيير اقفال أبواب القضاة المعفيين  و نصب حراسة عليها لمنع الدخول لها

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم إدارية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني