الانتقال الطاقي في تونس (1): القاطِرة التي تجرّها أوروبا


2024-05-07    |   

الانتقال الطاقي في تونس (1): القاطِرة التي تجرّها أوروبا

صادَقَ مجلس نواب الشعب، في 30 جانفي 2024، على مشروع قانون يتعلّق بالموافقة على اتفاقية قرض من البنك الدولي للإنشاء والتعمير للشركة التونسية للكهرباء والغاز. وسيُخصّص هذا القرض – 247 مليون أورو- للمساهمة في تمويل مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا وتطوير منظومة الطاقات المتجددة. ويُنتظَر أن يُصادق في الأسابيع القادمة على اتفاقيتين إضافيتين ضمن نفس المشروع: قرض بقيمة 45 مليون أورو من قبل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، و35 مليون أورو من قبل المؤسسة الألمانية للقروض من أجل إعادة الإعمار.  

كما تحصّلَت تونس على قرض قيمته 50 مليون أورو من قبل الحكومة الإيطالية، تمّ الإعلان عنه خلال زيارة رئيسة مجلس الوزراء الإيطالي جورجيا ميلوني إلى تونس في أفريل الفائت. وسيُضخّ هذا القرض في ميزانية الدولة ويُخصص لدعم قطاع الطاقة في تونس. 

وافتتح المجمع الفرنسي العمومي المختص في الطاقات المتجددة EDF ERN، في فيفري 2024، شركة فرعية في تونس سيتركّز نشاطها حول تركيز مولدات فولطاضوئية مُخصصة للاستهلاك الذاتي في المباني السكنية والمهنية.  

وكانت هيئة الاستثمار التونسية أعلنتْ، في مارس الفائت، أنّ قيمة الاستثمارات في قطاع الطاقات المتجددة (طاقة شمسية وطاقة الرياح) بلغت 273،9 مليون دينار خلال الشهرين الأولين من سنة 2024، علما أنّ إجمالي قيمة الاستثمار في نفس القطاع خلال سنة 2023 بأكملها لم يتجاوز 144 مليون دينار.  

هذا مقتطف من الأخبار المتعلقة بقطاع الطاقة -خاصة المتجددة- خلال الثلث الأول من سنة 2024، وهي تؤكد أن خطوات “الانتقال الطاقي” الذي تُحضّر له البلاد منذ سنوات طويلة تتسارع بشكل كبير.  وفي الواقع لا يتعلّق الأمر بوعي مفاجئ بالتغيرات المناخية وآثار الاحتباس الحراري، أو مجرد التزام بتعهدات الدولة التونسية في مسائل تخفيض انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة والتخلي تدريجيا عن الوقود الأحفوري، بل هناك ضغوطات أكثر قوة واستعجالية.  

في سنة 2023، قُدّرَت قيمة العجز في الميزان التجاري الطاقي بحوالي 8،9 مليار دينار. وبلغت نسبة التبعية الطاقية للخارج  52 في المئة، ولولا الإتاوة التي تُحصّلها الدولة من أنبوب الغاز الجزائري العابر للأراضي التونسية في اتجاه إيطاليا لبلغت نسبة العجز 62%. وإذا ما استمرّ الأمر على هذه الحال، فمن المتوقع أن تتجاوز الـ90% قبل سنة 2040. كابوس حقيقي قد يتسبب في اختلال هائل للتوازنات المالية الهشة جدا لتونس. الانتقال الطاقي ليس ترفًا، بل ضرورة حيوية لتقليص فاتورة التوريد، بل وقد يُمثل بوابة جديدة لجلب العملة الصعبة حسب الرؤية الحكومية السائدة حاليا في إدارة الملف.  

ولا يرتبط تسارع الأمور في الفترة الأخيرة بأولويات واحتياجات تونس فقط، بل يتجاوزها ليتقاطَع مع احتياجات وأولويات الضفة الأخرى من المتوسط: أوروبا. هذه الأخيرة تُسابق الزمن منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية لتعويض النقص الحاصل في الإمدادات الطاقيّة الروسيّة قبل الاستغناء عنها تماما. دول شمال أفريقيا إحدى أهم البدائل لضمان المستقبل الطاقي لأوروبا، وهذه رؤية لم تُولَد في السنتين الأخيرتين، بل منذ عقدين أو أكثر. 

إمكانيات كبيرة وخبرات قديمة 

يَبلغ معدل ساعات الشمس المشرقة في تونس حوالي 3000 ساعة/ في السنة: ما بين 3200 و3400 ساعة/ في السنة في ولايات الجنوب، وما بين 2500 و3000 ساعة/ في السنة في شمال تونس. وتتراوَح نسبة الإشعاع الشمسي من 1800 كيلوواط / ساعة / في المتر مربع / في السنة في الشمال، إلى 2600 كيلوواط/ ساعة / متر مربع/ في السنة في الجنوب.  هذه الوفرة من الشمس تُتِيح للبلاد إمكانيات محترمة جدا لإنتاج الكهرباء المولّدة من الطاقة الشمسيّة، وتقدّر الوكالة الدولية للطاقات المتجدّدة الكميات التي يمكن إنتاجها بـ1.450 كيلوواط في الساعة لكل كيلوواط في الذروة (kwc) في المنطقة الشمالية الغربية، و1.830 كيلوواط في الساعة/ لكل كيلوواط في الذروة في أقصى الجنوب الشرقي.[1]  

أما بالنسبة لطاقة الرياح، فتُقدّر القدرة الخام على توليد الكهرباء بحوالي 10000 ميغاواط سنويا. أما المساحة التي يمكن نظريا تركيز توربينات الرياح فيها، فتمتدّ على حوالي 18 ألف كيلومتر مربع، مع تفاوتات هامة حسب المناطق -ما بين 2000 و10000 ميغاواط- وهناك تركّز أكبر في المناطق الشمالية الشرقية من البلاد. [2] 

هناك أيضا إمكانية استغلال السدود في توليد الطاقة الكهرومائية، لكنّها ضعيفة جدّا ومُرشّحة للتضاؤل أكثر، خاصة مع استنزاف الثروات المائية وتتالي مواسم الجفاف، وتُقدّر حاليا بحوالي 62 ميغاواط سنويا (في أفضل الأحوال). 

لم يبدأ اهتمام الدولة التونسية بالطاقات المتجددة والبديلة في السنوات الأخيرة، ولم ينبع في الأصل من حرص على البيئة. مثلا، بدأت تونس في استعمال الطاقة الكهرومائية منذ أواخر خمسينيات القرن الفائت. واعتمدت في أواسط الثمانينيات استراتيجية وطنية للنجاعة الطاقية وأحدثت في سنة 1985 “الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة”. وجاءت هذه السياسة تفاعلا مع بداية تراجع مردودية حقول النفط والغاز الكبرى في البلاد والخوف من الوصول إلى مرحلة العجز الطاقي.  

شرعت تونس في استكشاف إمكانيات طاقة الرياح منذ سنة 1982، عندما قامتْ بتركيب توربينات رياح بقدرة 1.5 و4 كيلوواط واستخدمتْها لتحلية وضخّ المياه. ثم تطوّرَت التجربة تدريجيا حتى تمّ تركيز أول محطّة طاقة رياح بقدرة 10 ميغاواط مزودة بتوربينات رياح ذات طاقة عالية في “الهوارية” بولاية نابل سنة 2000، وأوّل مزرعة رياح في سيدي داود في سنة 2009 بإجمالي طاقة تصل إلى 55 ميغاواط وطاقة سنوية منتجة 150 جيغاواط/ ساعة/ في السنة، ومزرعة رياح ثانية سنة 2012 في منطقتي “متلين وكشابطة” (ولاية بنزرت) بقوة 97 ميغاواط و93 ميغاواط. ويبلغ إجمالي الطاقة التي تُنتجها محطات الرياح في تونس خلال السنوات الأخيرة حوالي 750 جيغاواط ساعة/ في السنة.[3]  

في الثمانينيات أيضا انطلقت مشاريع دعم تجهيز المساكن بتجهيزات تسخين المياه بالطاقة الشمسية، وتمّ الاعتماد في البداية على الجهود المحلية في تصنيع السخانات الشمسية عبر الشركة العمومية SEREPT ENERGIE NOUVELLE قبل فتح السوق أمام الخواص بالشراكة مع الشركة التونسية للكهرباء والغاز “الستاغ”، وبلغت المساحة المغطاة فعليا 900000 متر مربّعا في نهاية سنة 2019. [4]  

لكن وعلى الرغم من الإمكانيات الواعدة والخبرات المتراكمة فإن نسبة الكهرباء المولّدة من الطاقات المتجددة لم تتجاوز 2،5% في سنة 2023، وهي نسبة بعيدة جدا عن الـ 12% والـ30% التي حددتها الدولة كأهداف يجب تحقيقها تباعا في 2020 و2030.    

الملامح العامة لمشروع الانتقال الطاقي في تونس 

في  2013 نُظِّمَ “حوار وطني حول الطاقة”، كان الخطوة الأولى في إعداد استراتيجية وطنية للانتقال الطاقيّ تمّ الإعلان عنها في جوان 2014 ووُضِعَ لها هدفان رئيسيان: تسريع إجراءات النجاعة الطاقية والتطوير واسع النطاق للطاقات المتجدّدة. وفي سياق إنجاز هذين الهدفين، تم إصدار القانون الجديد المتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة (القانون عدد 12 لسنة 2015)، وإحداث صندوق الانتقال الطاقي، بالإضافة إلى  تحيين المخطّط الشمسي التونسي في سنة 2015، وذلك بهدف الحدّ من استهلاك الطاقة بنسبة 30% في سنة 2030 مقارنة بالسنة المرجعية 2010، واستبدال 30% من الكهرباء المنتجة في نفس الأفق بمصادر الطاقات المتجددة، ونشر الإعلان السنوي المتعلق بالبرنامج الوطني للطاقات المتجددة للفترة 2017-2020 والذي يهدف إلى تركيز 1000 ميغاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح منها حوالي الثلثين عن طريق القطاع الخاص. 

في 2019، انطلق “حوار وطني” ثان حول الطاقة وتمّ تحيين الاستراتيجية الطاقية الوطنية في سنة 2021. لكن على الرغم من كل هذه اللقاءات والمخطّطات، لم تتقدم الأمور كثيرا. كما أن الكثير من المعطيات الطاقية والسياسية -محليا ودوليا- تغيّرت منذ 2013. لذا شرعت الدولة منذ سنة 2022 بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في صياغة نسخة جديدة صدرت في أفريل 2023 تحت عنوان “الاستراتيجية الطاقيّة لتونس في أفق سنة 2035″.  نصَّت الاستراتيجية الجديدة على التخفيض من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون إلى 46% في قطاع الطاقة، إضافة إلى إنتاج 35 % من الكهرباء بالاعتماد على  الطاقات المتجددة ( أي ما يناهز 8350 ميغاواط) وإدماجها في المزيج الطاقي وتقليص الكثافة الطاقية “Intensité Énergétique” بنسبة 3،6% سنويا، أي ما يقارب 30% عند نهاية سنة 2035، وكذلك الشروع في إنتاج الهيدروجين الأخضر في أفق سنة 2030. وقد حدّدَت الاستراتيجية مرحلتين رئيسيتين لتحقيق الأهداف المرسومة: وضع الإصلاحات الضرورية خاصة التشريعية والمؤسساتية وذلك من 2023 إلى 2025، ثم ضمان استقرار القطاع والانطلاق في المشاريع المُهَيكلة في أفق سنة 2026 لتنتهي سنة 2030.  

في شهر ماي 2018، تم إطلاق أول طلب عروض لاستثمارات في مجال تركيز منشآت إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجدّدةـ (نظام امتيازات الاستغلال لإنتاج 500 ميغاواط من الطاقة الشمسية الفولطاضوئية في مواقع تحددها الدولة، ونظام امتيازات لإنتاج 500 ميغاواط من طاقة الرياح منها 300 ميغاواط في مواقع تحددها الدولة والبقية في مواقع يختارها المستثمرون). وقد أعلنَت نتائج مناقصات الطاقة الشمسية في ديسمبر 2019 في حين لم يتم بعد اختيار العروض الفائزة بمناقصات طاقة الرياح.  وفي ديسمبر 2022، تمّ إطلاق طلب عروض ثانٍ: 800 ميغاواط من الطاقة الشمسية الفولطاضوئية و600 ميغاواط من طاقة الرياح في مواقع يختارها المستثمرون، ومحطتان فولطاضوئيتان  في مواقع تحددها الدولة (قابس وسيدي بوزيد). 

كما أعلنت الشركة الوطنية للكهرباء والغاز “ستاغ” عن مشروع محطة تحويل الطاقة عبر الضّخ على واد المالح بمدينة طبرقة، ويُنتظر أن ينطلق نشاطها في سنة 2029 وأن تنتج ما بين 400 و600 ميغاواط من الكهرباء سنويا اعتمادا على الطاقة الكهرمائية.  

الإفراط في “التعاون الدولي”  

من النادر جدا أن نجد وثيقة حكومية تونسية عن الطاقات المتجددة والطاقة عموما (تقارير، استراتيجيات، دراسات تقنية) دون أن نجد على غلافها وفي صفحاتها الأولى أسماء وشعارات كيانات ومنظمات أجنبية موّلَت كليا أو جزئيا إعداد هذه الوثائق، وأبرزها الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ والوكالة الفرنسية للتنمية AFD والبنك الدوليّ والاتحاد الأوروبي.  

حتى في مسالك التعليم العالي والتكوين المهني ذات العلاقة بالطاقات المتجددة، نجد حضورا متناميا للمشاريع المموّلة من قبل جهات غربية رسمية وخاصة. في 2016 مثلا تمّ افتتاح “مركز متكامل للتدريب على الطاقة الشمسية” بمدينة “دوز” (ولاية قبلي) بتمويل من قبل الوكالة الألمانية للتعاون الدولي والوكالة البريطانية للتنمية الدولية. وفي نفس السنة، أعلنت وزارة التشغيل والتكوين المهني في تونس عن عقد شراكة مع المؤسسة الفرنسية المختصة في الطاقة “شنايدر الكتريك” ووزارة التربية الفرنسية لبعث “منصّة نموذجيّة للنجاعة الطاقيّة”، وتمّ الاتفاق في مارس 2019  على إنشاء مركز نموذجي للتكوين المهني في مجال الطاقة يخصص أحد فروعه للطاقات المتجددة. في جويلية 2023 وخلال اجتماع وزير التعليم العالي بسفير إيطاليا في تونس ناقشَ الطرفان فكرة تطوير مركز امتياز في مجال الطاقات المتجددة يكون مقره في الجنوب التونسي ويسهم في تكوين التقنيين والمهندسين الذين سيعملون في مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا. كما أعلن الوزير، في ديسمبر من نفس السنة، إن الوزارة تحصّلت على هبة تقدّر بمليون دولار من البنك الدولي ستذهب لإعداد دراسة جدوى إحداث مركز مندمج للطاقات المتجددة في ولاية تطاوين من أجل تكوين طلبة في جميع مراحل التكوين المهني والتطبيقي والهندسي لإنتاج الكهرباء من الطاقات البديلة. وهذا غيض من فيض.  

حتى على مستوى الاستثمارات وإنجاز مشاريع إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقات المتجددة، نجد هيمنة أجنبية جليّة. ولعلّ أبرز مثال على ذلك نتائج الدفعة الأولى من المناقصات التي أطلقتها الدولة لتركيز محطات فولطا ضوئية، والتي فازت بها كلها شركات أجنبيّة. أغلب الشركات التونسية العاملة بشكل أساسي أو جزئي في مجال الطاقات البديلة تختص في بيع وتركيب وصيانة ألواح الطاقة الشمسية وتصنيع بعض المكونات الثانوية المستعملة في صنع توربينات الرياح وغيرها. وهذا يجعل منافستها للشركات الأجنبية أمرا جدّ صعب، وأقصى ما يمكن أن تظفر به عُقود مقاولة سَانِدة في مشاريع تنفذها شركات عالمية، أو إنجاز محطات صغيرة بطاقة إنتاجية محدودة جدا.  

ولا يختلف الأمر كثيرا عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الكبرى مثل “الجسر الطاقي” بين تونس وإيطاليا الذي سينجز ويموّل مناصفة بين الدولة التونسية، عبر الشركة التونسية للكهرباء والغاز “ستاغ”، والدولة الإيطالية، ممثلة في شركة “تيرنا”.  نصيب تونس من تكلفة المشروع بداية بدراسة الجدوى والآثار المحتملة ووصولا إلى الانجاز ممول بالكامل من الخارج: هبات وقروض طويلة المدى.  

لقراءة الجزء الثاني من المقال


[1]معطيات الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة: https://www.anme.tn/fr/content/solaire-photovoltaique  

[2]معطيات الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة: https://www.anme.tn/sites/default/files/potentiel_eolien_en_tunisie.pdf 

[3] المصدر السابق

[4]معطيات الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة:  https://www.anme.tn/fr/content/solaire-residentiel

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني