يوم نصّب الرئيس قيس سعيد مجلسه المؤقت للقضاء، سارعت المفكرة القانونية إلى التنبيه لما يمثّله في قواعد تسييره وتركيبته وصلاحياته من تراجع على ما سبق وتحقق للقضاء التونسي من مكتسبات. ولمّا انطلق ذاك المجلس في عمله، تأكدت مخاوفها بدليل ما بات يعانيه القضاة من هشاشة مهنية من مظاهرها ما تمّ وسطهم من إعفاءات. وما يهم المفكرة اليوم هو أن تنبّه لكون ما كان من تراجع قد يعقبه تراجع أكبر جرّاء تطوّر جديد يتمثّل في تفكك هذا المجلس. وفي إطار عملية الرصد تلك، تقدم المفكرة لقرائها سلسلة مقالات حول هذه التطورات، في سياق سعيها إلى توثيق تاريخ القضاء التونسي وهو جهد التزمتْ به منذ بداية عملها (المحرر).
بتاريخ 07-02-2022 ، نَصَّبَ الرئيس قيس سعيد المجلس المؤقت للقضاء معتبرا قيامه بذلك حدثا تاريخيا “بكل المقاييس لكونه يحقّق الاستقلال الفعليّ للقضاء”. لم يكن في تلك اللحظة خافيا أن المقصود من الاستقلالية يفيد نقيض ذلك لكون النص الذي نظم عمل تلك المؤسسة أعطى دورا كبيرا لمن كتبه في إدارة القضاء بما يشكل ضمانة لاستتباعِه له وليس لاستقلاليته.
سنة ونصف بعد ذلك وتحديدا بتاريخ 19-09-2023، ينعقد ذلك المجلس في مكوّنه الأساسي أي مجلس القضاء العدلي للنظر في ملفات رفع حصانة عن عدد من القضاة المعفيين التي يتعهّد بها فلا يحضر من أعضائه السبعة إلا عضو واحد. وإذ عاين تعذّر توفر نصاب انعقاده، أعلم المحامين الحاضرين أنّه يتعذّر عليه اتّخاذ أيّ قرار في الملفّات لعدم توفّر النصاب القانونيّ.
مشهد تكرر يوم 26-09-2023، متى حضر محامو رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي وقد استعدّوا للدفاع عنه في ملاحقة تأديبية يتعرض لها على خلفية نشاطه النقابي. فلم يجدوا من أعضاء المجلس إلا ذات العضو المعيّن بالصفة وإلى جانبه عضو آخر من المتقاعدين وليتمّ إعلامهم بانعدام أيّ إمكانية لانعقاد المجلس لغياب نصاب انعقاده.
وبالتدقيق في تركيبة المجلس، نتبيّن أسباب تعطّله. فمن جهة أولى، فقد اثنان من أعضائه (وهما وكيل الدولة العام فتحي عروم ورئيس المحكمة العقارية أحمد الحافي) عضويتهما في المجلس نتيجة فقدان خطّتيهما بموجب الحركة القضائية للقضاء العدلي للسنة القضائية 2023-2024، من دون تعيين بديل لهما في هاتين الخطتين. ومن جهة ثانية، تقدم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيس مجلس القضاء المؤقت حكميا منصف الكشو بطلب إنهاء التمديد في مدة عمله بعد التقاعد. كما امتنع وكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية عماد الدرويش عن طلب تمديد مدة عمله بعد التقاعد الذي دنا أجله. يضاف إلى ذلك ما يتمّ تداوله في الوسط القضائي من أخبار شبه مؤكّدة عن إعلان قاضية متقاعدة من أعضاء ذات المجلس نيّتها طلب إنهاء مهامها.
ويكشف التدقيق في واقع المجلس الآني أنّ عدد أعضائه العاملين سينحصر في قاضيين متقاعدين، وعلى الأكثر بثلاثة قضاة متقاعدين في صورة عدم تجسيد القاضية المتقاعدة لتنحّيها. وفي الحالتين، لن يكون بإمكانه أن يعقد جلساته بفعل تقاعد رئيسه الذي له وحده صلاحية دعوته للانعقاد ولغياب النصاب القانوني الأدنى لصحة جلساتِه طالما أنّ عدد أعضائه هو 7 قانونا وليس لهم أن يجتمعوا إلا بحضور أربعة منهم على الأقل.
يطرح هذا الفراغ المركّب السؤال فيما إذا كان ناتجا عن عوارض طبيعية أو أنه إعادة ترتيب مخطط له للمشهد القضائي.
صناعة الفراغ: كيف تمّت؟
للوهلة الأولى، يبدو السؤال عن صناعة الفراغ غير ذي موضوع لما يظهر من تمايز بين أسبابه تجيز القول أنه ورد نتيجة التقاء عوامل لا علاقة بينها غير صدفة تزامنها. ولكن التمحيص في النظر يكشف لنا رابطا بينها على اختلافها يتمثل في كونها جميعا حوادث غير منتظرة أو يصعب اعتبارها مألوفة. وهي ملاحظة تستحقّ التوقّف عندها، لكونها وإن لم تكن كافية لإقامة الدليل الحاسم على كون الفراغ نتيجة عمل مدبّر، إلا أنها ترجّحه.
أول هذه العوامل غير المألوفة، الحطّ من الخطة القضائية لاثنين من أعضاء المجلس، وهي واقعة هجينة. وهذا ما نستشفّه من تقاليد القضاء العدلي التونسي والتي لا تقبل بفكرة أن يفقد القضاة السامون خططهم بغير التقاعد أو الوفاة. فبمراجعة تاريخ التعيينات القضائية، يثبت أنه لم يسجل مثل ذلك الحدث إلا مرة واحدة موفى سنة 1980 متى جرَّد الوزير الأول حينها محمد مزالي القاضي إبراهيم عبد الباقي من خطة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب مع إبقائه مستشارا في ذات المحكمة على خلفية دور لعبه في إصدار حكم يخالف تعليماته في نزاع مدني [1]. وقد سبّب ذلك في حينها غضبا قضائيا انتهى بجلسة عامة للقضاة في قصر العدالة يوم 10-02-1981 صدر عقبها عن هيكلهم “جمعية القضاة الشبان” بيان وجه لرئيس الجمهورية ووزيره الأول كان من أهم ما ورد فيه: “نستنكر إعفاء السيد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب من مهامه بمناسبة ممارسته لصلاحياته القانونية في خصوص قضية مدنية منشورة لديه ونعتبر أن ذلك مسّا باستقلالية القضاء ونيلا من كرامة كل قاض” [2]. وعليه، يعتبر الحطّ من خطة قاضيين ساميين أمرا غير مألوف لم يحصل إلا مرة واحدة في زمن الاستبداد وتمّ الاعتراض عليه بشكل واسع. وهو زيادة على ذلك مستغرب لكونه تمّ بواسطة حركة قضائية يفترض نظريا أنّ القاضيين الساميين شاركا من ضمن المجلس في إعداد مشروعها. ومن هنا، يثور التساؤل مجددا فيما إذا كان المجلس هو الذي أعدّ فعلا الحركة القضائية التي صدرت ومسّت تركيبته أم أنه استُعمل كواجهة لحركة تمّت صياغتها من دون علمه وكانت مما استعمل في تفكيكه الناعم.
ومن العوامل المستغربة أيضا، هو تراجع الرئيس الأول عن طلب التمتع بتمديد مدة عمله بعد تقاعده والاستجابة له خلافا للقانون عدد 37 لسنة 2019 الذي ينص على أن ممارسة اختيار التمديد بعد سن التقاعد لفترة ما يكون نهائيا لا يمكن التراجع عنه. أما تذرعه بالحالة الصحية، فيبدو غير مؤيد لما عرف عمّن صدر عنه من نشاط مهني وأكاديمي.
الأمر نفسه ينطبق على عزوف مدير المصالح العدلية عن طلب التمديد له، خصوصا لمن يعرف المعني ومدى ارتباطه بعمله ولما يعرف عن إقبال القضاة شأنهم في ذلك شأن باقي الإطارات على طلب تمديد مدة عملهم بعد التقاعد لحدّها الأقصى.
وعليه، يظهر كأنما المجلس وقع تفكيكه بصورة مركبة، بفعل حركة قضائية يرجّح أنه كان للسلطة السياسية دور أساسي فيها، ولكن أيضا بفعل ظروف عمل غير مألوفة يرجح أن تكون دفعتْ عضويْن من المجلس منهما رئيسه إلى إنهاء وجودهما فيه تبعا لإنهاء عملهما القضائي بصورة تامّة. أيا تكن الأسباب، يتبدّى أن التجربة التي صاغها الرئيس قيس سعيّد واصفا إياها بالحدث التاريخي، انتهت في سنتها الأولى إلى فراغ مؤسسّاتي يحتمل أن يكون شارك في صنعه. لكن يبقى أنّ فهم ما وصلنا إليه يبقى منقوصا ما لم نستعِد سياق عمل المجلس وظروفه خلال سنته الأولى تلك. وهذا ما سنفعله في الجزء الثاني من هذا المقال.
[1] تراجع في خصوص هذه الوقائع الشهادة التي تقدم بها المحامي بشير خنتوش في حوار صحفي معه نشرته صحيفة التونسية بتاريخ 09-08-2014 تحت عنوان ” المحامي البشير الخنتوش ل «التونسية»:وسيلة لم تحبّ بورقيبة… وحيلة من بن علي وراء فرار مزالي “ والذي قال فيه ” كنا كمحامين بمجلس هيئتنا قد تصدينا لموقف مزالي في ضرب استقلال القضاء واتخاذه لقرارين مشينين لا ينساهما القضاة أبدا والمحامون طبعا…..فالقرار الأسود الأول الذي حرص عليه مزالي والحاصل في آخر عام 1980 كان إعفاء المرحوم الأستاذ ابراهيم عبد الباقي من منصبه كرئيس أول لمحكمة التعقيب، بسبب قضية مدنية مالية هامة منشورة لدى محكمة التعقيب تخصّ أحد أقارب الوزير الأول مثلما أكّده رئيس محكمة التعقيب نفسه في رسالة موجهة منه للرئيس بورقيبة. وأثار هذا العزل التعسفي المفاجئ غضب القضاة وجاء ردّ فعل جمعية القضاة الشبان عنيفا بمستوى صدمة القرار الغريب المفاجئ بعزل أسمى قاض في هرم السلطة القضائية، وأصدرت جمعية القضاة الشبان بيانا شديد اللهجة إثر اجتماع عام للقضاة انعقد يوم 10 جانفي 1981 ووجهوا ذلك البيان إلى كلّ من بورقيبة رئيس الدولة ومحمد مزالي، الوزير الأول ومَحمد شاكر، وزير العدل، وجاء في تلك اللاّئحة في مطلع لائحة القضاة : « نستنكر إعفاء السيد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب من مهامه بمناسبة ممارسته لصلاحياته القانونية في خصوص قضية مدنية منشورة لديه ونعتبر أن في ذلك مسّا باستقلال القضاء ونيلا من كرامة كل قاض….». و أن عزل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب لم يكن ليحصل لولا حرص الوزير الأول محمد مزالي الشديد على ذلك لعلاقة العزل بقضية منشورة لدى محكمة التعقيب تخص أحد أقارب الوزير الأول وقد ذكره بالإسم الرئيس الأول المُقال برسالته الموجهة إلى رئيس الدولة بورقيبة الذي صادف أن قابلته في تلك الفترة وصارحته بغضب القضاة من عزل أسمى زميل لهم في هرم القضاء دون معرفة السبب، خاصة أنّ ذلك العزل وقع بعد بضعة أشهر فقط من تعيينه في ذلك المنصب القضائي الهام الذي يعتبر قمة هرم السلطة القضائية، سمّي في 01/05/1980 وعزل في آخر ديسمبر 1980 أي لم يبق في ذلك المنصب سوى ثمانية أشهر وهو أمر غير معتاد أبدا بالنسبة لذلك المنصب الذي يستوجب الاستقرار لسلامة عمل الجهاز القضائي وحسن سير القضاء، وأكّد لي الرئيس بورقيبة أنّ ذلك العزل كان باقتراح وإلحاح من الوزير الأول محمد مزالي الذي قدم له أي لرئيس الدولة تقريرا سلبيا عن أداء القاضي السامي على خلفية القضية المدنية الخاصة بمصالح ابن خال الوزير الأول محمد مزالي والتي كانت منشورة لدى محكمة التعقيب أي من أنظار الرئيس الأول الذي عزل بعد النظر فيها وما ساد ذلك من ملابسات وخفايا وخلفيات، علما أن الرئيس الأول لمحكمة التعقيب لم يرتكب أي خطإ قضائي بل طبق القانون تطبيقا سليما مما اعتبره محمد مزالي إضرارا بالمصلحة المالية لأحد أقاربه بالرغم من صحة تطبيق القانون.