مذبحة قضاة تونس: فتك بأصول التشريع وصناعة لهشاشة القضاء


2022-06-02    |   

مذبحة قضاة تونس: فتك بأصول التشريع وصناعة لهشاشة القضاء
سعيّد ويبدو وراءه ميزان العدل

مساء يوم 01-06-2022، وبمناسبة إشرافه على مجلس الوزراء، تحدّث الرئيس التونسي قيس سعيّد في كلمة موجهة للرأي العام عما قال إنه تقصير من مجلس القضاء في تطهير القضاء رغم توالي تحذيراته له. كما أعلن عن اتّخاذه قرارا سينفّذه بعد المصادقة عليه من مجلس الوزراء والمتعلق بتنقيحه لمرسومه لمجلس القضاء المؤقت بما يمكّنه من صلاحية إعفاء القضاة وعن إصداره لقائمة في إعفاء قضاة تورطوا وفقا له بفساد مالي وأخلاقي أو بإصدار قرارات قضائية تخدم الإرهاب. بعد ساعات من ذلك، وفي آخر الليل، صدر في عدد خاص من الجريدة الرسمية التونسية مرسوم تعديل مرسوم مجلس القضاء وقائمة تضمّ 57 قاضيا قرر حاكم تونس إعفاءهم من دون أي محاكمة، وهما نصّان يستحقان الوقوف عندهما لأهميتهما في رسم ملامح القضاء الذي يريده الرئيس ويسعى لفرضه.

الرئيس يعدّل مرسومه: كأن كلّ السلطة لا تكفي

بتاريخ 12-02-2022، وبموجب المرسوم عدد 11 لسنة 2022، ألغى الرئيس سعيّد القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 وحلّ المجلس الأعلى للقضاء المنبثق عنه ليستبدله بآخر مؤقّت يضبط تركيبته واختصاصاته. وقد برّر خطوته تلك بتفشّي الظلم والحاجة لإرساء العدل الذي من شروطه تطهير القضاء  وفي رسمه لمجلس قضائه ذاك، غيّر الرئيس تركيبة مجلس القضاء بصورة تؤدي إلى إحكام هيمنته عليه. وزاد على ذلك بأن بحث عن صناعة هشاشة القضاة من خلال فتح الباب أمام عزل القضاة من دون مؤاخذة تأديبية. وهذا ما نستشفه من الفصل 20 منه الذي جاء فيه حرفيا أنه “لرئيس الجمهورية الحق في طلب إعفاء كلّ قاض يخلّ بواجباته المهنية”. وعليه، فرض المرسوم على مجلس القضاء الذي يطلب الرئيس إعفاءه أن يوقف القاضي المعني به “فورا عن العمل” وأن “يبتّ فيه في أجل شهر”، وعلى أن يكون للرئيس حق اتخاذ قرار الإعفاء منفردا في صورة عدم التزام المجلس بذاك الأجل.

تاليا وبعد مدة تقلّ عن خمسة أشهر من تاريخ إنشاء مجلس قضاء جديد وفقا لتصوره، عاد سعيّد ليعدّل الفصل 20 من مرسومه لتكون صياغته الجديدة: “لرئيس الجمهورية في صورة التأكّد أو المساس بالأمن العام أو المصلحة العليا للبلاد وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخولة إصدار أمر يقضي بإعفاء كل قاضٍ تعلق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره. وتثار دعوى عمومية ضدّ كل قاض يتم اعفاؤه على معنى هذا الفصل. لا يمكن الطعن في الأمر الرئاسي بإعفاء قاضٍ إلا بعد صدور حكم جزائي بات في الأفعال المنسوبة له”.

وفي محاولة لفهم دواعي تنقيح مرسوم مجلس القضاء، يمكن أن نسوق الملاحظات التالية:

ملاحظة أولى: استبعاد مجالس القضاء من مسار الإعفاء

في النسخة الاصلية من مرسوم مجلس القضاء المؤقت، كانت للرئيس صلاحيتان أولهما أنه الجهة التي يحق لها طلب إعفاء قضاة من مجلس القضاء المؤقت وثانيهما أنه صاحب سلطة حلول في اتخاذ قرار الاعفاء متى رفض المجلس الذكور طلبه او تأخر البتّ فيه. وفي حين لم يسجّل تقدّم الرئيس بأي طلب إعفاء لمجلس القضاء المؤقت، جاء تنقيح المرسوم لينزع صلاحية الإعفاء من مجلس القضاء وليسند للرئيس صلاحية غير مقيدة في المجال، على أن يمارسها تبعا لتقرير يصله من الجهات المخولة أي من كل المصادر التي يمكنه استيقاء المعلومة منها وفي مقدمتها الجهة الأمنية.

ويبدو مبرر تجاهل مجلس القضاء فيما تعلق بالإعفاءات ما يشاع من رفض مبدئي لقضاة داخله لفكرة الإعفاءات حين تمّ نقاشها معهم. وعليه، يكون تنقيح الرئيس للمرسوم بمثابة مناورة تشريعية جنّبته إحراجا كان سيتعرض لها فيما لو انتهى مجلس القضاء المؤقت (المعين منه) إلى رفض طلبات الإعفاء المقدمة منه.

الملاحظة الثانية: حيلة قانونية لحرمان القضاة المعفيين من حقّ التقاضي

ليس خافيا على الرئيس سعيّد فقد المحكمة الإدارية الرافض لاستعمال الإعفاء وسيلة للتلاعب بإجراءات مؤاخذة القضاة. وعليه، وفي مسعى منه لتجنّب صدور قرارات قضائية بإبطال أو إيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء، ضمّن سعيّد مرسومه حيلة قانونية قوامها أن كلّ قرار إعفاء يستتبعه إثارة دعوى جزائية وأن الطعن فيه لا يكون إلا بعد صدور حكم قضائي باتّ. ومن خلال ذلك، رشح المرسوم عن ثلاث مخالفات كبرى:

  1. اعتدى على صلاحية القضاء الإداري كجهة رقابة على مشروعية القرارات الإدارية، بحيث قيّدها بشرط لم يقرّه قبل ذلك أي تشريع ولا يلائم أصول القضاء الإداري المتعارف عليها بتونس وخارجها.
  2. حرم من شملهم الإعفاء من حق الطعن بقرارات الإعفاء الصادرة ضدهم، من خلال فرض انتظار آجال يفترض أن تكون مطولة (صدور أحكام قضائية باتة في القضايا الجزائية التي أوجب المرسوم مباشرتها ضدهم)،
  3. ألزم النيابة العموميّة بإثارة دعاوى جزائية في حقّ من تمّ إعفاؤهم من دون اعتبار لوجود سبب قانونيّ يبرّر ذلك، طالما أن العديد من الإخلالات المهنية التي قد تكون قرارات الإعفاء استندتْ إليها لا تشكل جرائم جزائية. كما فرض على النيابة العامة ضمنا ممارسة الدعوى الجزائية لحين صدور حكم باتّ.

ويكون بذلك الرئيس في مرسومه الذي صاغه وفق مصالحه وفي سياق يفرضه فعليا حاكما بأمره قد عمق من هشاشة القضاء ومسّ بأمانهم القانوني الذي كانت ممارسة الحق في التقاضي الإداري من أهمّ دعائمه.

الملاحظة الثالثة: سهولة التشريع

بقطع النظر عن موضوع المرسوم التعديلي، فإن النظر في كيفية إعلانه وصياغة نصه وأسلوب عرضه على مجلس الوزراء كلها أمور تبيّن أن الرئيس سعيد بات يعتقد أن القانون (ولا حتى القانون الذي وضعه بنفسه) لا يعيق بأي حال من الأحوال تحقيق ما يريده طالما أن له بارادته المنفردة وفي كل حين تعديله لينسجم مع رغباته، ومنها سعيه لإعفاء قضاة.

الملاحظة الرابعة: الإعفاء رسالة لغير المعفيين

فيما يبدو سعيا منه لاستمالة الرأي العام، استعرض سعيّد مطوّلا في كلمته أمام وزرائه ما يُنسب لمن أعفاهم، فتعرّض لقضايا فساد مالي وإثراء غير مشروع فضلا عن حديثه عن قضايا خيانات زوجية. وفي حين ضمّت القائمة قضاة يخضعُون فعليا لتتبعات قضائية في جرائم فساد (ومنهم قاضية مودعة منذ ما يقارب السنة بالسجن في هذا الإطار)، تمّ وضع هذه الأسماء في الواجهة للإيجاء بأن كل القضاة الواردة أسماؤهم في القائمة مشتبه بهم بجرائم مماثلة. وما يثير شكوكا جدية حول الخلفية السياسية للإعفاءات وإرادة إخضاع القضاء لسلطة الحكم، هو أن القائمة شملت جميع رموز النيابات العمومية في محاكم العاصمة والتي كانت فيما هو معلوم رفضتْ تدخّل السلطة في القضاء أو أن يتم تسخيرها في حروبها على معارضيها.

ونقدر هنا أن تمادي الرئيس في استضعاف القضاة خطوة سياسية هامة قد تمهّد لما يطلبه من صناعة لعقيدة قضائية جديدة تلائم مشروعه السياسي الذي دعا أكثر من مرة من سماهم القضاة الشرفاء للانخراط فيه بما يبرر الخشية على ما تبقى من حقوق وحريات.

لقراءة المقال باللغة الانكليزيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، قضاء ، تونس ، المرصد القضائي ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، محاكم إدارية ، محاكم جزائية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، مرسوم ، استقلال القضاء



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني