حضر القضاء بكثافة في الكلمة التي ألقاها الرئيس التونسي قيس سعيّد بتاريخ 25 جولية وأعلن بمناسبتها قراره تجميع كلّ السلط في يده بتجميد المجلس النيابي وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه. وكان ما قال أنه بطء فصل في ملفّات قضايا الفساد وتلاعب بها من أبرز الحجج التي برّرت تجميعه للسّلط. وكانت رئاسته للنيابة العامة ضمانة القطع مع ذلك، فيما بدا رفع الحصانة البرلمانية عن كلّ نوّاب الشعب الذي وعد به مقدمة لمحاكمات وازنة تثار بإرادة رئاسية وتشمل من يسميهم فاسدين منهم وتكون عماد الحركة التصحيحية التي أعلنها.
خطوة الرئيس، احتفى بها الشارع وعدد كبير من الناشطين، بحيث اعتبرها السبيل لحماية تونس من الانهيار السياسي والاقتصادي. بالمقابل، رفضتْها شخصيّات سياسيّة وازنة عُرفت بمعارضتها للاستبداد ونضالها ضده انطلاقا من خشيتها من جمع كل السلط وضمنا السلطة القضائية بيد شخص واحد. وفي حين تمسكت الرئاسة بكل مقرراتها، فإنها حذفت بالمقابل التنصيص على رئاسة النيابة في البلاغ الذي نشر لاحقا في صفحتها الرسمية.
وإذ بدا القضاء تبعا لهذا التراجع سلطة عصِيّة على الاستحواذ عليها، فإنّه سرعان ما تلبّدت هذه الصورة ببلاغات النيابة العامة بشأن تتبعات تطال سياسيين وبالأخصّ نوابا في قضايا فساد. وقد زاد تلبّدها صدور مقررات إدارية في حقّ القضاة.
النيابات العامّة تتباهى بمكافحة الفساد
بتاريخ 28-07-2021، أدلى الناطق الرسميّ باسم النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس محسن الدالي بتصريحات إعلامية غايتها التعريف بالإجراءات القضائية التي اتخذت في ملفات فساد تتهم فيها شخصيات نافذة. ومن هذه الملفات، البحث التحقيقيّ الذي تمّ فتحه منتصف شهر جويلية ضدّ حزبيْ حركة النهضة وقلب تونس وقوائم عيش تونسي الانتخابية من أجل إبرام عقود ضغط وتلقّي تمويل خارجي خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2019. ومنها أيضا البحث الجاري في شبهات الفساد التي طالت التسيير الإداري والمالي لهيئة مكافحة الفساد وهيئة الحقيقة والكرامة. تاليا وبتاريخ 29-07-2021، كشف حبيب الطرخاني الناطق باسم الوكالة العامة لدى محكمة الاستئناف بتونس عن اتخاذ قرارات تتيح تتبّع محامين بعضهم أعضاء في مجلس نواب الشعب، على خلفية تهم فساد تلاحقهم وتعلقت بفترة عضويتهم في هيئات مستقلة أو تقلدهم مسؤوليات عامة. لاحقا وبتاريخ 02-08-2021، عاد الدالي ليقول أنه “في الأيام القليلة القادمة ستُثار ملفّات من الحجم الكبير وأنّ عدداً من النواب تتعلق بهم قضايا خيانة مؤتمن وتحيّل وتبييض أموال، “وليتحدث عن “تورط أكثر من 30 نائبا في قضايا شيكات دون رصيد منهم 26 عينت قضاياهم ليوم 26-11-2021”.
اعتبر من تحمّسوا لمقررات 25/07 تلك البيانات عنوان نجاح لما باتوا يسمّونه الحركة التصحيحية في حربها على الفساد ومن باكورات ثمارها. وكان عنوانها في تصورهم التحاق القضاء بالرئيس وانخراطه في مشروعه. في الجانب الآخر من المشهد، تمسّك جانب من المتابعين في تغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي بأنّ أغلب القضايا التي كشف عنها أثيرت تتبعاته وأجريت أبحاثه قبل ذلك التاريخ وفي ظلّ ما صنعت الثورة من استقلالية للقضاء. وهنا وبعيدا عن البحث في نوايا النيابات العمومية التي لم تصدر يوما بلاغات تباهٍ مماثلة، فإنّ الزّخم الذي يرافق الأبحاث الجارية قد يكون مُفيدا لتحقيق العدالة لما فيه من تحييد لمراكز نفوذ وإسقاط للحصانات الفعلية والقانونية، بقدر ما قد يكون مؤشّرا إلى انزلاق القضاء لخانة التوظيف السياسي. ويبدو في هذا الإطار موقف المحاكم من رفع الحصانة القضائية لنواب الشعب بأمر رئاسيّ مشكوك في شرعيّته من المسائل التفصيليّة المهمّة.
القضاء تحت سطوة الإجراءات الاستثنائية: مؤشرات مقلقة
في ليلة 25-07، تداول النّاشطون على مواقع التّواصل الاجتماعي فيديو لنقابي أمني يعمل بمطار تونس قرطاج يعلن التّأييد للرئيس في إجراءاته ويُطالبه بتحديد قوائم الممنوعين من السفر ليقوم وزملاؤه بالواجب حيالهم. لاحقاً، تمّ تداول أخبار مفادها أن السلطة السياسية قرّرت فرض إجراء مراجعة أمنية قبل السماح بالسفر لخارج تونس كلما تعلّق الأمر بسياسي أو رجل أعمال أو مسؤول حكومي حالي أو سابق أو مسؤول رياضي أو محامٍ أو قاضٍ. لاحقا كشفت شهادات قضاة قصدوا المعابر الحدودية بغاية السفر أن عموم القضاة مشمولون فعلا بإجراء الاستشارة قبل الإذن لهم بمغادرة البلاد المصطلح على تسميته بالS17 وأن هناك منهم من صدرت في حقه أوامر من جهات إدارية بمنع سفره دون أن يكون هناك تفسير لذلك وأن عددا ممّن شملهم هذا الإجراء عُرف عنهم الانشغال بالشأن القضائي في الفضاء العام.
وفي ذات السياق وبتاريخ 30-07-2021، وُضع القاضي بشير العكرمي تحت الإقامة الجبريّة لمدّة أربعين يوما. كما أُخضع من بعده القاضي الطيب راشد لذات الإجراء. وتعكس هذه التطورات التي مسّت مجتمع القضاة توجّها من الرئيس للاستحواز على صلاحية فعلية في تأديب القضاة واتخاذ إجراءات ضدهم، مستغلا في ذلك ضعف أداء مجلس القضاء. وهنا، وجُب التنبه إلى أن ما قد يبدو للبعض محاربة للفساد قد يخفي ترهيبا للقضاء ومحاولة لتوظيفه باستعمال آليات السلطة المطلقة.
ترهيب القضاة: سلطة الرئيس تتمدّد دون قيد
تمسّك سعيد قبل انتخابه رئيسا للجمهورية بمعارضة إنفاذ الأمر عدد 50 لسنة 1978 (الناظم لإعلان حالة الطوارئ) لما فيه من تضييق للحريات ولأنه يمنح صلاحيات لوزير الداخلية تخرق الدستور. لاحقا وبعد توليه مقاليد الحكم، التزم بتمديد تلك الحالة دون التفات منه لسابق موقفه لينتهي بعد 25/07 إلى أن يدعو صراحة من كلفه بتسيير وزارة الداخلية لاستعمال ما له من صلاحيات بمقتضى بذلك الأمر ومنها الوضع تحت الإقامة الجبرية. وقد استند هذا الأخير إليها ليقرر تحجير السفر عن القاضيين العكرمي وراشد وليقرر دون اعتماد أي سند قانوني وفي خرق كامل لأحكام القانون التونسي أن يحجر السفر على عدد غير معلوم حتى الآن من القضاة.
كان واضحا هنا أن مختلف التدابير الاستثنائية التي تم اتخذت في حق قضاة مباشرين استعملت في سياق تأديبي أي كوسائل احترازية تنذر بتوجه من السلطة لمؤاخذتهم. ويتعارض هنا ما يبدو من تدخل تنفيذي في ملف تأديب القضاة مع ما هو منصوص عليه بالدستور من كون تأديبهم صلاحية يستقلّ بها مجلس القضاء. ويدفعنا هذا للتعبير عن خشية مشروعة من تحوّل ما يبدو في ظاهره التزاما بمحاربة الفساد بآليات قانونية وقضائية إلى أدوات إرهاب للقضاء بغاية صناعة استتباعه ومعها التأسيس للاستبداد. وهو الموقف الذي تمسّكت به جمعية القضاة التونسيين في مراسلتها التي وجهتها للمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 04-08-2021 والتي اعتبرت صلبها أنّ “تطبيق إجراءات حالة الطوارئ على القضاة فيه تجاوز لصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء الضامن لموجبات استقلالهم والقائم بمسؤولية محاسبتهم” وأن “من شأنه أن يشيع أجواء الخوف والترهيب في صفوف كل أعضاء السلطة القضائية بما يؤثر سلبا على استقلالهم وحيادهم في حماية الحقوق والحريات في ظل سريان التدابير الاستثنائية.. “.