قرار ثالث لمحكمة العدل: تجويع غزّة يقسم القضاة حول الأمر بوقف العدوان الإسرائيلي


2024-04-03    |   

قرار ثالث لمحكمة العدل: تجويع غزّة يقسم القضاة حول الأمر بوقف العدوان الإسرائيلي
المصدر: الموقع الالكتروني لمحكمة العدل الدولية www.icj-cij.org

لا تكلّ بريتوريا من الاستمرار في ملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ولا تملّ من وضع المحكمة أمام مسؤولياتها في وضع حدٍّ لإسرائيل التي تنوّع محفظة ارتكاباتها بحق الفلسطينيين في غزّة بحيث لا تدع سلاحًا صامتًا أو صاخبًا يفلت منها دون أن تستخدمه في سبيل تحقيق مآربها الإباديّة بحقّهم، وآخر هذه الأسلحة قتلهم بواسطة التجويع. في مواجهة هذا السلوك الإسرائيلي البربريّ، استطاعتْ جنوب أفريقيا استصدار قرار جديد من محكمة العدل الدولية في 28 آذار 2024، يتضمّن أوامر إلى إسرائيل باتخاذ تدابير إضافية، ويوثّق الارتكابات الإبادية الإسرائيلية الأخيرة بحق الفلسطينيين في غزة. ورغم عدم موافقة المحكمة على طلب جنوب أفريقيا بإلزام إسرائيل وقف عملياتها العسكرية في غزّة، أظهرت تعليقات القضاة على القرار انقسامهم حول هذه المسألة للمرّة الأولى. فماذا في هذا الفصل الجديد من فصول أوّل محاكمة دولية لإسرائيل لمخالفتها اتفاقية الإبادة الجماعية؟

تحرّك لمنع المجاعة

مع استمرار المقتلة، واتخاذها أشكالًا إضافيّة أكثر وحشية، تقدّمت جنوب أفريقيا في 6 آذار 2024 بطلب أوامر إضافيّة إلى محكمة العدل الدولية، قالت فيها أنّها تجد نفسها مجبرةً على العودة إلى المحكمة في ضوء الوقائع والظروف المستجدّة في غزة، وتحديدًا حالة التجويع الآخذة بالتوسّع. وكان سبق لجنوب أفريقيا أن تقدّمت بطلب أوامر إضافية سابقًا إبّان تحضير إسرائيل للهجوم على رفح، فما كان من المحكمة إلّا أن أكّدت أنّ أوامرها المدرجة في قرارها الأول تنطبق على رفح باعتبارها جزءًا من قطاع غزة وعلى إسرائيل التقيّد بها، من دون أن تصدر أوامر جديدة.

هذه المرّة طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة أن تصدر أوامر جديدة وتعدّل وتوضّح أوامرها السابقة، فتأمر صراحة بوقف العمليات العسكريّة ورفع الحصار عن غزة وضمان وصول الغذاء والماء والطاقة والمأوى والملبس ومتطلبات النظافة والمساعدة الطبيّة، بعد أن اكتفت المحكمة في قرارها الأول بإلزام إسرائيل إتاحة وصول الخدمات الأساسية الملحّة والمساعدات الإنسانية. كما طلبت إصدار أمر إلى جميع أطراف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية الامتناع عن أي عمل عسكري أو غيره من شأنه أن يمسّ بحقّ الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة والأعمال المحظورة الأخرى.

ولم تكتفِ جنوب أفريقيا لإثبات الوضع المأساوي في غزة بالاستعانة بتقارير الأجهزة والأشخاص التابعين للأمم المتحدة والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام، بل استشهدت بقراريْ المحكمة السابقين في الدعوى نفسها، اللذين تضمّنا تأكيدًا على خطورة الوضع واقتراب المجاعة. وقالت جنوب أفريقيا أنّ 15 طفلًا  في غزة على الأقل توفّوا بسبب الجوع في الأسبوع الذي سبق تقديم طلبها، معتبرةً أنّ هذه الوفيات من صنع الإنسان ومتوقّعة وقابلة للردع كما قالت الأونروا في إحدى تغريداتها. واعتبرت جنوب أفريقيا أن الموت بسبب الجوع هو نتيجة مباشرة لأفعال إسرائيل المتعمّدة المتمثلة بانتهاك اتفاقية الإبادة وقرار المحكمة الأوّل ومحاولاتها المتعمّدة لتعطيل عمل الأونروا، ومنع وصول المساعدات الإنسانية التي تستعملها ك “ورقة مساومة في المفاوضات” من خلال إيجاد بيئة معادية للوكالات الأممية وغير صالحة لعملها، نقلاً عن بيان مفوّض الأمم المتحدّة لحقوق الإنسان.

استندت جنوب أفريقيا على عدد من السوابق القضائية التي عدّلت فيها المحكمة أوامرها بالتدابير الاحترازية مثل قضيتيْ كوستاريكا ضد نيكاراغوا (قرار بالتدابير المؤقتة الإضافية في 22/11/2013) والبوسنة والهرسك ضد يوغوسلافيا (قرار بالتدابير المؤقتة الإضافية في 13/9/1993). ولفتتْ إلى أنّ هناك مسؤولية على المحكمة في اتخاذ تدابير إضافية لتفادي مزيد من الخسائر البشرية والمادية والأضرار غير القابلة للإصلاح قبل البتّ بالدعوى، مشيرة إلى أن إسرائيل قتلت 4548 فلسطينيًا منذ إصدار المحكمة قرارها الأول إلى حين تقديم الطلب، في حين تحاصر 1.4 مليون منهم في مدينة رفح التي تنوي مهاجمتها. وأكّدت أن إسرائيل لم تغيّر سلوكها الإجرامي عملاً بأوامر المحكمة بل استمرت في استهداف المدارس والمساجد والمحال التجارية ومناطق وقرى بأكملها، بل إنها ضاعفت من أهدافها وأفعالها الإبادية.

اللافت في طلبات جنوب أفريقيا الجديدة أنّها لم تكتفِ بطلب توجيه أوامر إلى إسرائيل فحسب، بل كذلك إلى جميع الدول الموقعة على اتفاقية الإبادة، باعتبار أن القضية ترتّب التزامات تجاه الجميع (erga omnes)، بحكم طبيعتها المتعلّقة بحقوق تتجاوز الحقوق والالتزامات الفردية للدول المتقاضية، كما تتجاوز الموازنة بين حقوق والتزامات الأطراف ضمن حيّز مغلق من المصالح الذاتيّة لكل دولة على حدة والتي لا علاقة لها بالهواجس العالمية للإنسانية ككل. فالحالات التي تنطوي على ادّعاءات معقولة بالإبادة الجماعية بحكم طبيعتها تفرض نهجًا يتجاوز بمفاعيله الدول المتنازعة ليتعدّاها إلى مجمل الدول الأطراف في الاتفاقية. ويُسجّل في هذا الصدد أن نيكاراغوا كانت قد قدّمت دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضدّ ألمانيا لاشتراكها في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين من خلال دعم إسرائيل بالمساعدات العسكرية طالبة اتخاذ تدابير مؤقتة بوقف هذا الدعم. بالإضافة إلى ذلك، تنظر المحاكم في هولندا والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا والدنمارك بدعاوى تطلب وقف تصدير أسلحة وقطع غيار عسكرية لإسرائيل كونها تستخدمها في ارتكاب أعمال إبادة جماعيّة وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، مما قد يعرّض هذه الدول لتهمة الاشتراك في الإبادة.

وختمتْ جنوب أفريقيا طلبها بالتعبير عن خشيتها من أن يكون هذا الطلب هو الفرصة الأخيرة لكي تحمي الفلسطينيين في غزة الذين يموتون بالفعل من الجوع وهم على “خطوة واحدة” من المجاعة.

إنكار إسرائيلي

كعادتها، استخدمت إسرائيل في ردّها على الطلبات في 15/3/2024، اللغة التي طالما اعتمدتها للهجوم على جنوب أفريقيا، إذ وصفتْ طلباتها الجديدة بالشائنة والعدوانية وغير الأخلاقية مضيفة أنها تتعسّف في استغلال المحكمة واتّفاقية الإبادة. وبعدما ذكرت إسرائيل بقرار المحكمة الأول لجهة دعوتها إلى الإفراج عن المحتجزين لدى حماس، صرّحت بأنّ عدم استخدام جنوب أفريقيا نفوذها لدى حليفتها حماس لهذه الغاية  يوضح الكثير عن الدوافع وراء تصرّفاتها وطبيعة اهتمامها المزعوم بحياة الإنسان. واعتبرت إسرائيل أن هناك خسائر مأساوية ومؤلمة بحق المدنيين لكنها نتيجة أليمة لحرب المدن التي لم بدأتها إسرائيل ولا تريدها. كما اتّهمت حماس بأنّ استراتيجيتها تقوم على زيادة الضرر على المدنيين إلى حده الأقصى، في حين تبذل إسرائيل جهودًا كبيرة لتخفيف معاناتهم على حد قولها.

وواصلت إسرائيل اتهامها لجنوب أفريقيا بتحريف الواقع، نافية ارتكابها المجازر واستهداف المدنيين وتجويع الفلسطينيين عمدًا أو استخدام المساعدات الإنسانية كورقة في المفاوضات. كما أنكرت مسؤوليتها عن “مجزرة الطحين” التي اتهمتها جنوب أفريقيا بارتكابها، واعتبرت أن عددًا من الإصابات والوفيات وقعت نتيجة التدافع، وأن هناك آلية تقصّي حقائق وتقييم تابعة للأركان العامة الإسرائيلية تقوم بالتدقيق في الأحداث. ورغم إقرارها بوجود تحدٍّ جدّي بشأن الأمن الغذائي في غزة، خصوصًا في شمالها، إلا أن إسرائيل تبذل جهودا واسعة لمواجة هذا التحدي وتوفير المساعدة الإنسانية للمدنيين، الأمر الذي يدحض أي ادعاء بوجود  نوايا إبادية لديها أو محاولة لتجويع السكّان. كما ألقت اللوم على حماس متهمة إياها بالسيطرة على المساعدات الإنسانية وحرف وجهتها عن المدنيين بالإضافة إلى نهب المساعدات من الشاحنات والمخازن بواسطة عصابات. وزعمت بأنّ المساعدات المنزلة جوًّا قد ازدادت في الآونة الأخيرة وبأنّها تسهلّ دخول المساعدات الغذائية والطبية والفيول عبر البرّ أيضًا. ورغم العدد الكبير من التقارير الصادرة عن الهيئات الأممية التي تؤكّد حجب إسرائيل لدخول المساعدات، إلا أن الأخيرة ادّعت بأنها تساعد هذه الهيئات وتسهل عملياتها من أجل إيصال المساعدات إلى غزة.

أما بخصوص تعطيل عمل الأونروا، فقد استعاد فريق الدفاع الإسرائيلي السردية الإسرائيلية التي تتذرّع بوجود أدلة على اشتراك موظّفي الوكالة بعملية 7 أكتوبر، وبأن الآلاف منهم على صلة بحماس وجماعات إرهابية أخرى على حد تعبيره، وأنّ حماس تستخدم مرافق الوكالة لغايات عسكريّة ولتغطية الأنفاق ومخازن السلاح، وتستخدم مواردها لغاياتها الخاصة وتحجبها عن المدنيين. وللمفارقة، استعانتْ إسرائيل لإثبات ذلك ببيانات أجهزة تابعة للجيش الإسرائيلي، ومرافعات فريق دفاعها السابقة في الدعوى، في حين أنها اعتبرت أن المستندات الصادرة عن الهيئات الأممية المقدمة من جنوب أفريقيا تفتقر إلى الأدلة الكافية والمصداقية. وأنكرت توفّر ظروف جديدة تُبرّر إصدار أوامر إضافية، معتبرة أنّ جنوب أفريقيا لم تقدّم الأدلة التي تثبت ضرورة اتخاذها. بالإضافة إلى ذلك، اعتبرت أنّه لا صلاحية للمحكمة بإصدار أوامر احترازية ترتّب التزامات قانونية على الدول التي ليست طرفًا في الدعوى، وإن كانت طرفًا في اتفاقية الإبادة.

وردًّا على طلب وقف العمليات العسكرية، اعتبرت إسرائيل أنّ هكذا أمر يتناقض بشكل صارخ مع حقّها بالدفاع عن نفسها، ومن شأنه أن يؤدّي إلى إلحاق ضرر بها لا يمكن إصلاحه، وأنّه لا سلطة للمحكمة على الأطراف المسلّحة من غير الدول، وبالتالي أي قرار من هذا القبيل سينسحب على إسرائيل وحدها دون حماس. ثم ختمت الرد بتعبيرها عن تعاطفها مع الصعوبات التي رتّبها الوضع على المدنيين في غزة وأنها ستواصل القيام بكل ما يمكنها أن تقوم به لتخفيفها وتأمل بمستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، طالبة رد طلبات جنوب أفريقيا.

قرار المحكمة: المجاعة أصبحت حقيقة

أصدرت المحكمة في 28/3/2024 قرارًا بموافقة 15 قاضٍ من 16، بفرض تدابير إضافية على إسرائيل، بعد أن لحظت “أنّ الفلسطينيين في غزة لم يعودوا يواجهون خطر المجاعة فحسب، كما هو مذكور في الأمر الصادر في 26 كانون الثاني 2024، بل إن المجاعة تحصل بالفعل، حيث توفي ما لا يقل عن 31 شخصًا من بينهم 27 طفلاً بسبب الجوع وسوء التغذية والجفاف بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”. وبعد التأكيد على أوامرها السابقة، قرّرت المحكمة إلزام إسرائيل بـالآتي:

(1) اتّخاذ جميع الإجراءات الضرورية والفعّالة لضمان (ensure) توفير الخدمات الأساسية الملحّة والمساعدات الإنسانيّة لكامل قطاع غزّة من دون تأخير وبالتعاون مع الأمم المتحدة (فيما اكتفت سابقًا بإلزام إسرائيل بـ “إتاحة” (enable) وصول المساعدات)، مع تشديدها على ضرورة فتح المعابر البرّية لأطول مدّة ممكنة،

(2) الضمان الفوري لعدم ارتكاب جيشها أيّ أفعال تنتهك حقوق الفلسطينيين بصفتهم مجموعة يتوجّب حمايتها من الإبادة، بما فيها منع وصول المساعدات،

(3) تقديم تقرير إلى المحكمة حول التزامها بهذه التدابير خلال شهر من إصدارها.

اعتبرت المحكمة أن الواقع في غزّة قد شهد تطوّرات تتيح استصدار أوامر جديدة، مشيرةً إلى عدد من التقارير الصادرة عن هيئات أممية ومنظمات دولية. ومن التقارير التي استندت إليها، تقرير محدث بتاريخ 18/3/2024 حول انعدام الأمن الغذائي في غزة صادر عن المبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الذي حذر من خطر حدوث مجاعة بحلول نهاية أيار 2024 في حال عدم وقف الأعمال العدائية بشكل فوري وتمكين وصول المساعدات الإنسانية، خصوصًا إلى شمال القطاع. كما استندتْ إلى تقرير اليونيسف في 15/3/2024 الذي أفاد بأن 31% من الأطفال دون السنتيْن في شمال غزة يعانون من سوء التغذية الحادّ، وحذّر من أن سوء التغذيّة ينتشر بسرعة بين الأطفال ويصل إلى مستويات مدمرة وغير مسبوقة بسبب آثار الحرب والقيود المستمرة على وصول المساعدات.

أما في ما يتعلّق بالتدابير التي طلبتها جنوب أفريقيا تجاه الدول أو الجهات غير الأطراف في الدعوى الحالية، فقد رفضتها المحكمة باعتبار أنّ المادة 59 من نظامها الأساسي لا تجعل من أحكامها ملزمة إلا تجاه أطراف الدعوى، وبالتالي، لا تكون أوامرها ملزمة تجاه دول ثالثة أو كيانات أخرى.

ورغم إشارتها إلى قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2728 الصادر في 25/3/2024 الذي طلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار من جميع الأطراف خلال شهر رمضان، وأخذها العلم بموقف مقدّمي المساعدات في غزّة بأنّه لا يمكن معالجة الوضع الإنساني المأساوي إلّا بإنهاء العمليات العسكرية (الفقرتين 36 و37)، إلّا أنّها لم تستجب لطلب جنوب أفريقيا بذلك. وفيما كانت رفضت ذلك في قرارها الأوّل ضمنا من دون أي تبرير، فإنها برّرت رفضها هذه المرّة بعدم صلاحيّتها لإصدار أوامر بحقّ طرف غير ممثل في الدعوى (حماس) استناداً للمادة 59 من نظامها الأساسي.

ويجدر التذكير هنا أن جنوب أفريقيا كانت قد استعادت في طلبها الأخير سابقة الإبادة الجماعية في البوسنة، حيث رفضت المحكمة في 27/7/1993 أن تأمر صربيا بوقف العمليات العسكرية. وفي غضون عامين، تم ذبح ما يقرب 7336 بوسنيًا في ما يُسمّى “المنطقة الآمنة” في سريبرينيتسا، وهو الأمر الذي قررت المحكمة بأثر رجعيّ أنّه كان من أعمال الإبادة الجماعية. تأتي هذه الاستعادة للماضي في ظلّ إعلان مجموعة من الناجين من الإبادة الجماعية البوسنية عن تقديمهم رسالة إلى محكمة العدل الدولية لاتخاذ تدابير مؤقتة في دعوى جنوب أفريقيا كي لا يتكرّر خطأها في قضية الإبادة البوسنية، والتي تستخدمها إسرائيل كحجة باعتبارها سابقة من المحكمة في رفض هذه التدابير.

آراء القضاة: انقسام حول وقف العمليات العسكرية

وعليه، للمرّة الأولى منذ بداية القضية، برز النقاش بين قضاة المحكمة حول مسألة أمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية، إذ عارض 6 من أصل 15 قاضِ بشكل صريح في إعلاناتهم المستقلّة قرار المحكمة بعدم إصدار أمر بذلك.  ففي بيان المشترك عبّر أربعة قضاة هم هيو (الصين) وبرانت (البرازيل) وروبليدو (المكسيك) وتلادي (جنوب أفريقيا) عن خيبة أملهم من عدم إصدار المحكمة أمرًا صريحاً بوقف العمليات العسكرية، مع تأكيدهم على أنّ إسرائيل تبقى سلطة احتلال في غزة وليست دولة منخرطة في حرب مع كيان خارجي. واعتبروا أنّ وقف العمليات العسكرية، بما فيها العملية العسكرية المقررة في رفح، في ظل هذه الظروف، هو أمر لا غنى عنه لأي تنفيذ ذي جدوى للتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة سابقاً، معتبرين أنّه كان على المحكمة  أن تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية بطريقة تمكنها من تنفيذ التزاماتها بشكل كامل .

 وفي الاتجاه نفسه اعتبر القاضي يوسف (الصومال) في بيان مستقل أنّ لا معنى للحجة القائلة بأنّه لا ينبغي إلزام الدولة التي تتصارع مع منظمة (ليست دولة) بوقف عملياتها العسكرية ما لم يتمّ نزع سلاح المنظمة، كونها تتعارض مع موجب منع الإبادة الجماعية، وهو من أهداف الاتفاقية التي تمّ اعتمادها بشكل واضح لغرض إنساني وحضاري بحت. واعتبر القاضي يوسف أن أمر المحكمة إسرائيل بأن تضمن بصورة فورية أن لا ترتكب قواتها أعمال الإبادة الجماعية، يعدّ بمثابة أمر بإنهاء أية عمليات عسكرية قد تساهم في هذه الأعمال. كما أضاف أنّه على ضوء الوضع الإنساني الكارثي وتزايد مستويات المرض والمجاعة بين السكان في غزة، فإن الطريقة الوحيدة الفعالة التي يمكن لإسرائيل من خلالها الامتثال لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة هي بتعليق عملياتها العسكرية.

وعلى نفس الخط، أعلنت القاضية تشارلزوورث (أستراليا) في بيان مستقل أنّه كان يجب على المحكمة أمر إسرائيل صراحةً بوقف العمليات العسكرية لأنّها الطريقة الوحيدة لضمان وصول المساعدات. وبالرغم من إقرارها أن لا صلاحية للمحكمة بإصدار أوامر موجهة إلى كيانات غير ملتزمة بنظامها الأساسي، إلّا أن لها الصلاحية في توجيه أوامر لأطراف النزاع المعروض عليها، وبالتالي فإنّه بإمكان المحكمة إصدار أمر لكل من إسرائيل وجنوب أفريقيا باتخاذ جميع التدابير المعقولة في حدود سلطتهما للتوصّل إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار لأسباب إنسانية، ومو ما من شأنه أن يساهم في الحفاظ على الحقوق المتنازع عليها بينهما. 

أما رئيس المحكمة القاضي نوّاف سلام (لبنان)، فلم يتطرق في بيانه المستقل إلى صلاحية المحكمة بإصدار أمر بوقف العمليات العسكرية، إلا أنّه اعتبر أنّ الأوامر الجديدة الصادرة عن المحكمة لا يمكن أن تأخذ مفاعيلها بشكل كامل من دون وقف فوري لإطلاق النار في شهر رمضان وفقًا لقرار مجلس الأمن الأخير.

وفي رأي تقنيّ من الناحية القانونية، لم يتطرق القاضي نولتي (ألمانيا) في بيانه المستقل إلى مسألة وقف العمليات العسكرية، لكنّه أعرب عن تردّده فيما إذا كان الوضع الحالي للفلسطينيين في قطاع غزة يشكل بالفعل تغييراً في الوضع من شأنه أن يبرر تعديل المحكمة لتدابيرها المؤقتة. ورغم إقراره بمأساوية الوضع في غزة وتدهوره، إلا أنه وجد أن هذا التردّي لم يكن ليحصل لو تم تنفيذ أوامر المحكمة في قرارها الأول، وبالتالي لم يكن هناك داعٍ لتعديلها طالما أنّها لم تُنفذ. وأشار إلى أن أوامر المحكمة الجديدة تبدو كأنها تكرار للأوامر السابقة بدلاً من فرض تدابير إضافية مُبرَّرة بتغيّر الوضع، معتبرًا أن هذه السابقة تؤشّر على تخفيض المحكمة للحد الأدنى المطلوب لتعديل أو إضافة أو اتخاذ تدبير مؤقتة.

ويُسجّل أنّ نائبة رئيس المحكمة القاضية سابوتندي (أوغندا) قد صوّتت لصالح الأوامر الجديدة التي أصدرتْها المحكمة بعد أن سبق وعارضت أوامرها السابقة، في حين بقي القاضي الإسرائيلي باراك وحيدًا في فريق المعارضين حيث انفرد بالتصويت ضدّها، معتبرًا في رأيه المعارض أنّ الحرب على غزة هي حرب استقلال ثانية لإسرائيل.

وفي هذا الإطار، من اللافت أن إعلان المحكمة انحصار صلاحيتها على أطراف الدعوى حصرًا لم يمنعها من دعوتها المتكررة لحماس في قراريها الأول والثالث إلى إطلاق سراح الرهائن، في حين أنّها لم توجّه مثل هذه الدعوة بوقف العمليات العسكريّة سواءً لإسرائيل، أو لإسرائيل وحماس معًا.

ومن اللافت أيضًا، أنّ الدعوى بفصلها هذا خلت من أي إشارة إلى التقرير الذي قدّمته إسرائيل إلى المحكمة بتاريخ 26/02/2024 حول مدى التزامها بالتدابير المؤقتة المحددة في قرارها الأول، فلم تتناوله جنوب أفريقيا أو إسرائيل أو المحكمة أو القضاة في آرائهم المستقلة، علمًا أنّ المحكمة أعلنت عن سرّيّته في السابق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، محكمة العدل الدولية ، جريمة الإبادة الجماعية ، الحق في الغذاء



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني