شذا حنايشة توثّق الحياة في معرض صور “جنين الأرض غير المحروقة”


2024-04-17    |   

شذا حنايشة توثّق الحياة في معرض صور “جنين الأرض غير المحروقة”
أمّ تحمل جثمان ابنها الشهيد في مخيّم جنين

تغمرك المشاعر الخام غير المفلترة الملتقطة في كلّ إطار في معرض صور الصحافيّة الفلسطينية شذا حنايشة بعنوان “جنين، الأرض غير المحروقة”، وهو معرض يوثّق يوميّات الفلسطينيين على أرض مخيّم جنين مسلّحين بإرادة المقاومة، تحت عنف الاحتلال وجرائمه.

يكمن جوهر المعرض في تصويره للحياة الفلسطينيّة في جنين تحت الاحتلال. والصور الفوتوغرافية هي بمثابة نوافذ شقّتها حنايشة لتطلّ على عالم غالبًا ما لا يراه كثيرون. وهي تؤرّخ لحظات تتراوح بين الاستشهاد والجنازات إلى الضحكات غير المنتظرة والصداقة الحميمة التي لا يهزّها حتى الموت، فيمسح صديق الدم عن وجه صديقه الشهيد خلال تشييعه، فيما يظلّل آخر وجه شهيد بقبعة تحميه من شمس فلسطين الحارقة صيفًا. لقطات ترصد استمرارية الحياة المعقّدة في ظلّ الاحتلال. ومن خلال عدسة حنايشة، المصوّرة الصحافية ابنة قرية قباطية في الضفة الغربية المحتلة، يقف الزوّار وجهًا لوجه مع حقائق استهداف الفرق الطبيّة والصحافية، وقتل الأطفال، واقتحام المستشفيات في مخيّم جنين. 

أحد المواضيع الرئيسية للمعرض الذي يستمرّ في دار النمر في بيروت لغاية 25 أيار 2024، هو العقاب الجماعي الذي يواجهه الفلسطينيون، كما يتّضح من صور المنازل المهدّمة والبنية التحتية المدمّرة، وعمليات ترويع المدنيّين وقتلهم، والاعتقالات العشوائيّة من دون تهم أو محاكمات. ولكلّ وجه حكايته هنا، ولكلّ حجر مدمَّر قصّته.

وتشكّل الفلسطينيات ركنًا أساسيًّا من الحكاية. من أمّ تحمل ثقل نعش ابنها الشهيد وفي يدها أنبوب مصل خلعته على عجل، إلى جدة تظهر عليها ندوب العدوان، عيناها مفجوعتان باستشهاد حفيدتها وفي تكتيفة يديها عناد في وجه الاحتلال. تجسّد هؤلاء النسوة روح القوّة والتحدّي ضدّ الظلم. قصصهنّ، المحفورة على نسيج الصور، تتحدث كثيرًا عن مرونة الروح الإنسانية ومواجهتها العدوان.

ولعلّ الغياب المتعمّد للتواريخ عن هذه الصور شهادة على أهميّتها الخالدة. الهدف، بحسب ما تشرح حنايشة لـ “المفكرّة القانونيّة”، ليس التقاط لحظات معزولة، بل تأريخ الحياة تحت الاحتلال، وهو واقع يستمر بغض النظر عن الدلالات الزمنية. وإن كان عنف الاحتلال قد تصاعد منذ 7 أكتوبر فإنّ الصور هذه لا تخبرنا عن سياق مستجدّ في الضفّة الغربيّة في ظلّ حرب الإبادة الجماعيّة على غزة، بل هي مرآة تعكس الاحتلال العتيق والمستمرّ، والنضال المتصاعد تحت وطأة العنف الهمجي المتفاقم، من أجل الكرامة والحرية.

زاوية في معرض جنين، الأرض غير المحروقة للصحافيّة الفلسطينيّة شذا حنايشة

مخيّم جنين: احتلال وحياة ومقاومة

يرتبط مخيّم جنين بالأصل في الذاكرة الفلسطينيّة بقصص البطولة، وهو شاهد على أعتى المعارك في وجه الاحتلال الإسرائيلي. يعود تاريخ جنين في مقاومة الاحتلال إلى الثورة الكبرى والإضراب الكبير عام 1936، وحتى انتفاضة الأقصى 2000 – 2005 التي قاد فيها أهل المخيّم وأبناؤه النضال في وجه إسرائيل مرات عدة. لكن تاريخ 1 نيسان 2002 كان مفصليًّا في جنين. ترسم الروايات الموثقة عن مجزرة جنين، بين 1 و11 نيسان، صورة قاتمة للفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في المخيّم الواقع شمال الضفة المحتلة. وكان المخيّم حينها على موعد مع “معركة جنين الكبرى” مع المحتل، واجهها الإسرائيليون بحملة تدمير ممنهجة باستخدام الأسلحة الثقيلة. شهد المخيّم تدميرًا واسعًا، وسوّيت أحياء منه بالأرض، واكتملت فصول المجزرة يومها في 4 نيسان بإغلاق مستشفى جنين وإيقاف عمل جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. وحتى يوم 11 نيسان، كان قد استشهد وجرح مئات من سكان المخيم، وتُرِك آلاف المدنيين في ظروف مزرية وسط الركام والفوضى، في ظلّ منع المساعدات عنهم وحظر الخدمات الطبيّة. 

وفي المرحلة التي تلت انتفاضة الأقصى، طبّق الاحتلال سياسة تسهيلات اقتصادية كأداة سيطرة استعمارية، من أجل استقرار أمنيّ لصالحه. وجنين بالفعل مقصد تجاري واقتصادي، المدينة والريف فيها، وهو ما نراه في وثيقة مؤتمر هرتسليا عام 2009 التي صوّرت جنين كحالة نجاح للاحتلال، ومبتغاه فيها أن تؤدي مجزرة مهولة، وقيود اقتصادية مخففة، إلى ردع الفلسطينيين عن المقاومة. ردّ الفلسطينيون في جنين بتصعيد المقاومة في المخيّم، وسط احتضان شعبي متصاعد لها في المدينة والريف، وعادت القيود الاقتصادية، والحصار، ثم الاقتحامات، والمعارك الدمويّة، والقتل الذي لا يميّز بين مقاوم وأعزل، والاعتقالات التي تشمل النساء والأطفال.

تقول الصحافيّة شذا حنايشة إنّ من يقاومون في جنين هم ممّن ولدوا بعد 2002، وحملوا روايات أهلهم المكثّفة منذ النكبة حتى هذه اللحظة. وتوضح لـ “المفكرة”: “بدأت عملي في المخيّم مع تبلور حالة المقاومة فيه عام 2021، حينها عدت إلى المخيم بعد أن غبت عنه لسنوات، ووجدت من كانوا أطفالًا وقد أصبحوا شبابًا يتحدّون الاحتلال وينغّصون عليه احتلاله”. وتحكي شذا عن تضارب مشاعرها في التعامل مع شباب كانت تلاعبهم أطفالًا قبل سنوات، واليوم تتعامل معهم كموضوع لمادتها الصحافية، توثّق تصدّيهم للاقتحامات، وعملياتهم ضدّ الحواجز.

وتحضر في المعرض صور الشهداء، “ملامحهم جميلة، شخصياتهم حلوة وأذكياء”، تقول شذا، وتتابع: “صاروا مقاومين بناء على تجربة علّمتهم أن يقاوموا، ولو كانوا في بيئة غير محتلة، كان ليكون لهم مسارات أخرى”. 

العقاب الجماعيّ سياسة الاحتلال الموثقة

وفي المعرض أيضًا، صور العقاب الجماعيّ الممارس على الفلسطينيّين جميعهم في جنين: هنا بيت هُدم لأنّ الاحتلال أراد أن يشقّ طريقًا لجرّافاته، وهناك بنى تحتيّة خُرِّبت لا لشيء، “إلّا لقتل روح الصمود لدى أهل المخيّم”. 

وشذا تقول إنّها توثق في صورها حياة يومية تشمل فعل مقاومة في كلّ بعد من أبعادها، لأنّ الاحتلال يطبّق العقاب الجماعي على الفلسطينيّين في كلّ جانب من جوانب حياتهم: “هي مقاومة تتجسّد بمتطوّع يصلح أنابيب المياه التي قطّعها الاحتلال، وشاب يرفع الردم من الشوارع التي جرّفتها الآليّات، وهي مقاومة في مواقف السيّدات وفي ضحكات الأطفال، وحتى المزحات التي يرميها الفلسطينيّون فوق الخراب، لأنّ وجود الفلسطينيّ بحد ذاته هو فعل مقاومة”. 

والعقاب الجماعي هي الكلمة المفتاح لتفسير كلّ هذا الألم البادي في صور أهل المخيّم وعلى وجوههم، والعقاب الجماعي قد يأتي لأنّ مقاومًا خرج من قرية ما، فيدخل الاحتلال القرية، يطلق النار عشوائيًا، يدمر البيوت، ويجرّف الشوارع، لكنّه في كثير من الأحيان، يكون عقابًا جماعيًا للفلسطينيّين مردّه مجرّد وجودهم ومجرّد ممارستهم حياتهم اليوميّة، وفقًا لمشاهدات حنايشة وصورها التوثيقيّة. تروي الصحافيّة الميدانيّة أنه في جنين، تنشط الحركة الاقتصاديّة في الأسواق قبل الأعياد، وهذه السنة، وفيما كان توافد الناس إلى السوق في ذروته، اقتحم الاحتلال المدينة، ورهّب الناس، ودمّر شارع السوق. “هل تنجح سياسة العقاب الجماعي؟ نسأل شذا لتجيب: “لا”، وهل تتوقّف سياسة العقاب الجماعي؟ وتجيب أيضًا بـ “لا” أخرى، “لأنّ معاناة الفلسطينيّ هي هدف بحدّ ذاته”، لتخّلص إلى القول: “الإسرائيليّ ينفّذ حربًا صامتة من دون تغطية إعلاميّة في الضفّة، وهذا المعرض هو معرض الأشخاص الفلسطينيّين الموثّقة حياتهم هنا، لتُحكى قصصهم، ولتُروى روايتهم، وهذه هي ذروة العمل الصحافي”.

جدّة فلسطينيّة في معرض جنين، الأرض غير المحروقة

طارق: طفولة تكبر أمام أعيننا في 5 أيّام 

نده طارق (9 سنوات) على شذا: “صوّريني حد قبر أخوي”، بينما كانت تلتقط له صورة مع صديق له يلاعبان حمارة ويدوران فيها أزقة المخيم. وطارق طفل بعينين كبيرتين وملامح سمراء لطيفة، استشهد أخوه أمجد الفايد على يد قنّاص إسرائيليّ في أيّار 2022 فجعل أهله قبره مزارًا ووضعوا له صورة عملاقة. التقطت شذا، المصوّرة الصحافيّة المرتبطة بالأطفال بشكل خاص، الصورة التي أرادها طارق، حيث أرادها، وغادرت. 

بعد 5 أيّام بالتمام، مرّت شذا بالمقبرة في طريقها إلى مهمّة صحافيّة، حينما لمحت طارق، بملامح تغيّرت وتبدّلت، وبعيون كأنّها كبرت 20 عامًا، بل خمسين “كانت ملامح كهل لا طفل، اقتربت منه، وسألته: مالك يا طارق؟ ليجيب: بفكّر بهمومي”، وهو جالس فوق قبر زميله في المدرسة لطفي حويطي، طفل آخر، قتله الاحتلال في اقتحامه الأخير قبل ليلة، بتاريخ 9 تشرين الثاني 2023.

تقول شذا: “شاهدت كيف تُقتل الطفولة، وأيّ هموم يمكن لابن 9 سنوات أن يحملها؟”، وتضيف محدّقة في عيون طارق: “شهدت كصحافيّة كيف يجعل الاحتلال الأطفال كبارًا، والتقط صورة جديدة لطارق”. وصورتا طارق في المعرض، جنبًا إلى جنب مع 47 صورة أخرى، و47 قصّة أخرى.

وتوثّق شذا استهداف الفرق الصحافيّة المستمرّ، وفي معرضها صورة لتخريب الاحتلال الإسرائيليّ نصب تذكاريّ للشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي اغتالها الاحتلال بالقرب منها، وكانت شذا الشاهدة الأولى على استشهادها تحت شجرة عند مدخل مخيّم جنين. وكان يوم 11 أيار 2022 يومًا قاسيًا على شذا، حينما خطف قناص إسرائيليّ حياة شيرين واستمرّ بإطلاق الرصاص نحوها، رصاص نجت منه الصحافيّة الشابّة، لكنّه زرع في قلبها خوفًا وإصرارًا، كما تخبرنا: “خوف طبيعيّ لا يغادر قلبي، وإصرار كبير يحمل صداه في اسم المعرض الذي نحن فيه اليوم: جنين، الأرض غير المحروقة، الأرض التي ترفض الحرق، والمصرّة على الحياة”.

صورة الصحافيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة بعد أن دمّر الاحتلال الإسرائيليّ نصبًا تذكاريًّا في موقع اغتي
رصاصة على مخدّة بعد أن اغتال الاحتلال جريحًا على سريره في مستشفى ابن سينا
انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني