إسرائيل تمثل أمام محكمة لاهاي: هل تنجح مساعي جنوب أفريقيا في وقف الإبادة؟


2024-01-10    |   

إسرائيل تمثل أمام محكمة لاهاي: هل تنجح مساعي جنوب أفريقيا في وقف الإبادة؟
المصدر: wikimedia Commons

تشخص الأنظار غدا وبعد غد إلى قصر السلام في لاهاي في هولندا، حيث تشهد محكمة العدل الدولية جلسات علنية في الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في 29/12/2023 بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزّة. وخُصّصت هذه الجلسات للاستماع إلى المرافعات الشفهية لجنوب أفريقيا (يوم الخميس 11 كانون الثاني) وإسرائيل (يوم الجمعة 12 كانون الثاني)، وذلك بعد أن أعلنت إسرائيل عن استعدادها للمثول أمام المحكمة “لتبديد فرية الدم السخيفة التي قامت بها جنوب أفريقيا”[1] على حدّ تعبير أحد الناطقين بإسمها. ومن المتوّقع أن تتخذ المحكمة قراراً بشأن طلبات جنوب أفريقيا باتخاذ قرار مؤقت بوقف إطلاق النار خلال فترة قصيرة بعد هذه الجلسات، ما قد يشكّل أوّل قرار دولي ملزم لإسرائيل بوقف إطلاق النار.

تتعلّق الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا  ضد إسرائيل بانتهاكات الأخيرة لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة) في حربها على قطاع غزة. وهي تهدف إلى إدانة إسرائيل بموجب المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة التي تنصّ على معاقبة ليس الإبادة الجماعية فحسب، بل ايضاً محاولة ارتكابها، والاشتراك فيها، والتآمر على ارتكابها والتحريض المباشر والعلني على ارتكابها. كما طلبت أفريقيا الجنوبية في دعواها اتخاذ تدابير مؤقتة أهمها وقف الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة بشكل فوريّّ، و إلزام إسرائيل بأن تضمن أن لا توجّه قواتها العسكرية النظامية وغير النظامية لارتكاب أي من أعمال الإبادة، واتخاذ إجراءات لمعاقبة مرتكبيها، وإلزامها بحفظ الأدلة المتعلقة بالقضية وعدم التصرف بما يمنع أو يقيد بأيّ شكل من الأشكال الوصول إلى قطاع غزة من قبل بعثات تقصّي الحقائق واللجان الدولية وهيئات أخرى. وقد استندت أفريقيا الجنوبية في كل ذلك إلى قرارات المحكمة السابقة في قضايا غامبيا ضد ميانمار والبوسنة ضد صربيا وأوكرانيا ضد روسيا. ومن اللافت أنّ جنوب أفريقيا ذكّرت في دعواها بأنّ الإبادة الجماعية هو مصطلح ابتكره رافائيل ليمكين في أحد مؤلفاته، وهو المحامي البولندي اليهودي الذي ابتدع هذا المصطلح في العام 1944 لتوصيف السياسات النازية الدموية ضد اليهود في أوروبا في حينها وكان له إسهام كبير في إقرار اتفاقية الإبادة. أمّا اليوم، فقد بات هذا الوصف يُستخدم لوصف أفعال الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.

وتأتي هذه الدعوى التي تعتبر الأولى من نوعها ضدّ دولة إسرائيل، بالتزامن مع حراك قضائيّ دوليّ نشطٍ أمام المحكمة الجنائية الدولية من خلال تقديم شكاوى ضدّ الأشخاص المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وخرق القانون الدولي الإنساني في الحرب على غزة، آخرها تقدّم بها 100 محامٍ من تشيلي. وتكتسب الدعوى أهمية معنويّة ورمزيّة لكون المدّعية (دولة جنوب أفريقيا) قد عانت لعقود من نظام الأبارتايد الذي كان حليفًا لإسرائيل التي ظلّت محافظة على أفضل العلاقات معه ورفضت مقاطعته بل طبقته في سياساتها ضدّ الفلسطينيين. وعلى العكس مما يُنتظر من المحكمة الجنائية الدولية التي لم يبدر من المدعي العام لديها كريم خان ما يدفع إلى التفاؤل في محاسبة المرتكبين أو في وقف الإبادة الجماعية، يأمل البعض من محكمة العدل الدولية أن تتّخذ تدابير سريعة وحاسمة من شأنها أن تدفع باتّجاه وقف إطلاق النار ووقف الأعمال العسكرية في غزّة، خصوصًا مع تلقّي خطوة جنوب أفريقيا دعمًا من عدد من الدول (مثل تركيا وبوليفيا وماليزيا وفنزويلا والمالديف) وأكثر من 100 منظمة حقوقية حول العالم، فضلاً عن إمكانية انضمام دول أخرى إلى الدعوى بوجه إسرائيل.

وقبل التطرّق إلى فعالية هذه الدعوى ومآلاتها المحتملة، نبدي ملاحظتيْن تمهيديّتين بشأن تكوين المحكمة والفرق القانونية الماثلة أمامها.

فعلى صعيد تكوين المحكمة، يلحظ أنها تتألّف من 15 قاضيًا وقاضية من بينهم القاضي اللبناني نوّاف سلام وقضاة آخرين من جنسيات مختلفة (روسيا وسلوفاكيا وفرنسا والمغرب والصومال والصّين وأوغندا والهند وجامايكا واليابان وألمانيا وأوستراليا والبرازيل) وأن القاضية الأميركية جوان إي دونوجو تتولى حاليا رئاستها. يشار إلى أنّ هؤلاء القضاة لا يتم تعيينهم من قبل حكومات بلادهم بل يتمّ انتخابهم من قبل الدول الممثلّة في الجمعية العامّة (193 دولة) ومجلس الأمن (15 دولة) للأمم المتحدّة. وينضمّ إلى قضاة المحكمة بحسب المادة 31 من نظام المحكمة قاضيان منتدبان تختار كلًّا منهما الدولتان المتنازعتان. وقد عينت جنوب أفريقيا القاضي ديكجانج موسينيكي وهو النائب السابق لرئيس المحكمة العليا في جنوب أفريقيا، في حين عيّنت إسرائيل القاضي اهارون باراك وهو الرئيس السابق للمحكمة العليا في إسرائيل. وقد سبق لهذا الأخير أثناء تولّيه لمنصبه في المحكمة العليا أن ساهم في تشريع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة في العام 1967 وفي الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين، وسبق له أن خالف الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الآيل إلى عدم قانونية الجدار العازل الإسرائيلي،  كما صرّح مؤخّرًا أن إسرائيل لم تخرق القانون الدولي الإنساني في حربها القائمة على قطاع غزة.

أما على صعيد تكون الفرق القانونية، فقد تألف فريق الادعاء لأفريقيا الجنوبية من مجموعة واسعة من المحامين والأكاديميين، أبرزهم البروفسور الجنوب أفريقي جون دوغارد الذي سبق تعيينه مقررًا خاصاً للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة فلسطين (2001-2008) وهو عضو مجلس أمناء “القانون من أجل فلسطين” منذ العام 2020. كما يضمّ فريق الإدّعاء محامين وناشطين آخرين من جنوب أفريقيا هم عديلة هاسيم وتيمبيكا نغكوكايتوبي وماكس دو بليسيس وتشيديسو راموغال وسارة بوديفين جونز وليراتو زيكالالا، ويشاركهم من خارج جنوب أفريقيا فوغان لوي (بريطاني) وبلين ني غرالايغ (إيرلندية). بالمقابل يرأس فريق الدفاع الإسرائيلي المؤلف من 4 محامين البروفسير البريطاني مالكوم شو، الذي سبق أن مثّل عددًا من الدول أمام محكمة العدل الدولية، بينهم الإمارات العربية المتحدة وصربيا وأذربيجان وأوكرانيا، ويعمل كأستاذ زائر في الجامعة العبرية في القدس، وسبق له تقديم المساعدة والاستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية.

ما هي الأمور التي ينتظر مناقشتها في جلسات الاستماع وعلى مدار الدعوى؟

أبرز الأمور التي ينتظر مناقشتها خلال جلسات الاستماع التي تنعقد غدا وبعد غد ومن ثم على مدار الدعوى، الأمور الآتية:

  • صفة جنوب أفريقيا في تقديم الدعوى:

اعتبرت دولة جنوب أفريقيا في هذه الدعوى أنّ التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة هي التزامات إزاء الجميع (أي المجتمع الدولي)، مما يمنحها الصفة بمقاضاة إسرائيل أو ما يُعرف بالصفة Erga Omnes، مستندةً إلى السابقة القانونية التي أقرّتها المحكمة في قضية غامبيا ضدّ ميانمار في العام 2022 حيث اعترفت بصفة التقاضي للدول الأطراف في اتفاقية الإبادة حتى لو لم تكن متضررّة بشكل مباشر من أعمال الإبادة. كما اعتبرت أنّها، كما العديد من دول أخرى، قد أبلغت إسرائيل مخاوفها من فشل هذه الأخيرة في وقف ارتكاب الإبادة الجماعية في غزّة ومنعها وقمعها. وهو ما رفضته إسرائيل مما يؤكّد وجود خلاف بين الدولتين حول تطبيق اتفاقية الإبادة.

  • اختصاص محكمة العدل الدولية:

فيما يتعلّق باختصاص محكمة العدل الدولة، استندت الدعوى إلى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة التي تُتيح لأي دولة من الأطراف الموّقعة أن تطلب من المحكمة النظر في مسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية، والمادة الثامنة التي تولي المحكمة حق اتخاذ ما تراه مناسبًا من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة التي تنصّ على اختصاص المحكمة في جميع القضايا التي يحيلها الأطراف إليها والمسائل المنصوص عليها بشكل خاص في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات والاتفاقيات النافذة.

  • العناصر المادية لجريمة الإبادة الجماعية:

وضعت الدعوى العدوان الأخير على قطاع غزة في سياقه التاريخيّ الذي أسهبت في شرحه مبيّنة الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل طوال العقود الماضية، ومنها احتلال قطاع غزة ومن ثم محاصرته وبناء المستوطنات في الضفّة الغربية واعتقال الفلسطينيين وفرض نظام أبارتايد على الفلسطينيين منذ أكثر من 75 سنة.

وبحسب الدعوى، فإن الأفعال التي ارتكبتها إسرائيل تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، وبخاصة في ظل ثبوت توفر النية بتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية. كما تشير إلى أن سلوك إسرائيل “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها”  يشكل انتهاكاً لالتزاماتِها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. وذكرت أيضًا أنّ إسرائيل، “ومنذ 7 أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية”. كما لفتت إلى أن إسرائيل “تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة”.

وتوزِّع الدعوى، الارتكابات الإسرائيلية المستمرّة التي تقع في إطار الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حربها القائمة على غزة، وفق التصنيف التالي الذي يتطابق مع الأفعال المادية الواردة في تعريف جريمة الإبادة:

(1) قتل الفلسطينيين في قطاع غزة — بما في ذلك الأطفال الفلسطينيين — بأعداد كبيرة تجاوزت 21,110 أكثر من ثلثيهم من النساء والأطفال؛

(2) التسبّب في إلحاق أذى جسدي ونفسي جادّ بالفلسطينيين في قطاع غزة بحيث أصيب أكثر من 55,243 بجروح معظمهم من النساء والأطفال،

بالإضافة إلى فرض ظروف حياتيّة تهدف إلى تدميرهم كمجموعة. وتشمل هذه الظروف:

(3) الطرد من المنازل وتهجير جماعيّ، بالتزامن مع تدمير واسع النطاق للمنازل والمناطق السكنية، حيث بات 1.9 مليون فلسطينيّ من غزّة أي 85% من سكّان القطاع خارج منازلهم؛

(4) الحرمان من الوصول إلى الطعام والماء الكافيين، من خلال الاستهداف المتعمّد للمخابز ومنشآت المياه؛

(5) الحرمان من الوصول إلى الرعاية الطبية الكافية من خلال التدمير المتعمّد لأكثر من 61 مستشفى ومركزا طبّيا في القطاع، بحيث بات بالكاد يعمل في القطاع 13 من أصل 36 مستشفى و18 من أصل 72 مركز صحّي؛

(6) الحرمان من الوصول إلى المأوى والملابس والنظافة والصرف الصحّي الكافيين من خلال تهجير الفلسطينيين إلى الخيم والمدارس وتدمير شبكات الصرف الصّحيّ؛

(7) تدمير الحياة الفلسطينيّة في قطاع غزة من خلال الاستهداف المتعمّد للبنية التحتية وشبكات الكهرباء ومراكز العبادة والمواقع التراثية والعيادات الصحية والمدارس والجامعات والمجمعات السكنية والأحياء التي دُمّر بعضها بشكل كامل؛ 

(8) فرض تدابير تهدف إلى منع ولادة الفلسطينيين من خلال قتل النساء الحوامل والأطفال الخُدّج والأطفال حديثي الولادة وتدمير مراكز الرعاية الصحية.

وقد تضمّنت الدعوى عشرات الأدّلّة والشواهد على ارتكاب إسرائيل كلّا من الجرائم المذكورة، مستندة بشكل أساسي إلى تقارير منظمات الأمم المتحدّة ووكالاتها، كما إلى تقارير صحافية.

واستنادًا إلى هذه الوقائع، اعتبرت جنوب أفريقيا أنّ عناصر جريمة الإبادة الجماعية باتتْ مكتملة في توصيف الأفعال الإسرائيلية، وذلك بناءً على المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي تعرّف الإبادة الجماعية على أنّها:

“أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: ( أ ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. ( ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. ( د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.”

  • النيّة في ارتكاب الإبادة

من المعلوم أنّ صعوبة وصف أعمال جرمية ما بجريمة الإبادة، مقارنة مع غيرها من الجرائم الدولية، تكمن في إثبات وجود نيّة خاصّة بالإبادة أي بتدمير شعب أو جزء منه. إلّا أنّ الدعوى التي احتوتْ على 574 مرجعًا لتأييد مضمونها من الناحية الواقعية والقانونية، تناولت في التفاصيل النّيّة الواضحة للمسؤولين الإسرائيليين في ارتكاب الإبادة الجماعية. وقد استشهدت لإثبات ذلك بعشرات التصريحات والبيانات لمسؤولين وجهات رسمية إسرائيلية يستشف منها وجود نية واضحة في إبادة الفلسطينيين في غزة.

ومن أبرزها، ما جاء في إحدى الرسائل التي وزّعها مكتب نتنياهو مخاطبًا الجنود: “اذكر ما فعله بك عماليق” باستعادة القصة التوراتية عن العماليق الذين يمثلون ذروة  الشر في التقاليد اليهودية، حيث جاء في الآية الثالثة من الفصل 15 من كتاب صموئيل: “والآن اذهب واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعفوا عنهم. بل اقتلوا على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”. وكذلك ما صرّح به نتنياهو عشية عيد الميلاد: “نحن نواجه وحوشًا، وحوشًا قتلت الأطفال أمام آبائهم… إن هذه ليست معركة فقط بين إسرائيل وهؤلاء البربريين، إنها معركة بين الحضارة والبربرية.”

بالإضافة إلى ذلك، استشهدت الدعوى بتصريحات أخرى، كتصريح الرئيس الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: “إن الأمة بأكملها هي المسؤولة. ليس صحيحاً هذا الخطاب حول المدنيين غير المدركين أو غير المشاركين. هذا غير صحيح على الإطلاق”، وتصريح وزير الدفاع حول قتال الحيوانات البشرية، بالإضافة  إلى عشرات التصريحات لوزراء في الحكومة الإسرائيلية وقادة الجيش والشواهد الأخرى التي تؤكّد وجود نيّة لدى إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية، والتي من الصعوبة إحصاؤها لعددها الهائل منذ 7 أكتوبر حتى اليوم. وهو الأمر الذي تحاول منظمة “القانون لأجل فلسطين” توثيقه من خلال إنشاء قاعدة بيانات تضمّنت حتى الآن أكثر من 500 حالة للتحريض الإسرائيلي على الإبادة الجماعية يتم تحديثها باستمرار.

هذه التصريحات من قبل صناع القرار والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين تشير بحسب الدعوى إلى النية الواضحة لتدمير الفلسطينيين في غزة كجماعة، كما تشكل تحريضًا واضحًا وعلنيًّا ومباشرًا على الإبادة، بحيث يستنتج بوضوح من عمليات الجيش الإسرائيلي على الأرض وما نتج عنها من عدد هائل للضحايا وحجم كبير من التدمير والخراب، أنّ تلك البيانات والتوجيهات الرامية إلى الإبادة يتمّ تنفيذها ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

كما ستدور نقاشات حكما على مدى ملاءمة اتخاذ قرارات مؤقتة من قبل المحكمة وماهيتها.

ومن المتوقع أن يستخدم الاحتلال في مداخلاته بشأن كل من هذه المسائل حجّة “معاداة السامية” في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه. كما من المتوقّع أن يعمد الاحتلال مجددا إلى شيطنة أعمال حماس وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى في إطار عملية طوافان الأقصى في 7 أكتوبر وأن يعمد إلى توصيفها على أنها أعمال إبادة بحقّ الشعب الإسرائيلي تمهيدا لتوصيف حربه الإبادية ضد غزة على أنها مجرد دفاع عن النفس.

ماذا ننتظر من المحكمة؟

أبدت إسرائيل انزعاجًا كبيرًا من الدعوى الجنوب الأفريقية، وظهر امتعاضها من خلال تصريحات مسؤوليها، أبرزهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي صرّح تعليقًا على الدعوى بأنّه: “سنواصل حربنا الدفاعية التي لا مثيل لعدلها وأخلاقيتها” معتبرًا أن ما قامت به جنوب أفريقيا هو “هراءٌ وكذب”. في حين اتّهمت الخارجية الإسرائيلية جنوب أفريقيا بأنّها “تتعاون مع منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير دولة إسرائيل”، قبل أن تعود إسرائيل لتستدرك موقفها وتؤكّد على مثولها أمام المحكمة.

هذا القلق الإسرائيلي الذي عبّرت عنه الصحافة الإسرائيلية أيضًا، ينجم عن الدور الأساسي الذي من الممكن أن تلعبه المحكمة في وقف الجنون الإسرائيلي، من خلال اتخاذ قرارات سريعة واحترازية قد يكون لها تداعيات ومفاعيل تساهم بشكل مباشر في وقف إطلاق في غزة.

وعلى الرغم من أن القرار النهائي في الدعوى يتطلّب صدوره سنوات تتخللها إجراءات مطوّلة، إلّا أنّه جرت العادة أن تُتّخذ التدابير المؤقتة – وهي سبل الانتصاف الاحترازية الممنوحة في ظل ظروف خاصة بينما تستمر إجراءات المحكمة بالسير إلى المرحلة التالية – خلال أسابيع نظرًا لطابعها المستعجل. فقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن نظرت في ثلاث قضايا متعلقة باتفاقية الإبادة وأخذت فيها تدابير مؤقتة بشكل سريع قبل البتّ في الدعاوى. ففي قضية البوسنة والهرسك ضدّ صربيا في العام 1993، اتخذت المحكمة تدابيرها المؤقتة بعد 19 يومًا من تقديم الدعوى. وفي قضية غامبيا ضد ميانمار في العام 2020 اتخذت المحكمة تدابيرها المؤقتة بعد 73 يومًا بالإجماع. ولم يتطلّب الأمر أكثر من 17 يومًا لإصدار قرار بالتدابير المؤقتة في ادّعاء أوكرانيا (و32 دولة أخرى) ضدّ روسيا (علماً أن القاضيين الصيني والروسي فقط عارضا القرار). أما في قضية كندا وهولندا ضد سوريا بشأن الانتهاكات المزعومة لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، فصدر قرار المحكمة بشأن التدابير المؤقتة بعد أكثر من 5 أشهر من تقديم الدعوى، ولكن بعد ما يزيد قليلاً عن شهر واحد من جلسات الاستماع العام (أيضًا عارض القرار القاضيان الصيني والروسي فقط).

وعليه، من المتوّقع أنّ تقرر المحكمة، بعد جلستيْ الاستماع المقررتين في 11 و12 كانون الثاني، ما إذا كانت ستفرض تدابير مؤقتة على إسرائيل، وأن تحسم في قرارها مسألة الصفة والاختصاص. ويعبّر البعض عن تفاؤلهم بأنّ معطيات القضية لا تدع مجالاً للشك في اختصاص المحكمة وفي وجوب اتخاذها القرارات المؤقتة خلال حوالي أسبوع. ويكفي أن تكون الإدعاءات فيما يتعلق بانتهاكات الالتزامات بموجب القضية “معقولة” لكي تتجاوب المحكمة مع الطلبات الجنوب أفريقية، أي يكفي أن يكون هنالك احتمال بارتكاب إسرائيل لأعمال إبادة أو محاولة لارتكابها.

إلا أنّ القرارات المؤقتة التي بالإمكان أن تتخذها المحكمة، لا تنحصر بوقف العمليات العسكرية أو وقف إطلاق النار، فالمحكمة ليست ملزمة بالموافقة على جميع ما طلبته جنوب أفريقيا، إذ يمكن أن يتضمّن القرار حفظ الأدلة والسماح للبعثات الدولية بتقصّي الحقائق ومعاقبة وحظر التصريحات والأوامر الداعية إلى الإبادة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الكافية إلى قطاع غزة، وتقييد أو تعديل العمليات العسكرية بما يمنع ارتكاب الأفعال الإباديّة. كما قد تصدر المحكمة قرارًا يقتصر على وجوب امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة، كما حدث في قضية غامبيا ضدّ ميانمار، على عكس القرار المؤقت الذي صدر في قضية أوكرانيا ضد روسيا الذي قضى بوقف الأعمال العسكريّة الروسيّة فورًا.

وبعد مرحلة القرارات المؤقتة، تنتقل المحكمة إلى عقد جلسات محاكمة علنية بشأن النزاع قبل أن تصدر قرارها النهائي في ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، بيد أن الوصول إلى قرار النهائي يتطلّب أشهرا طويلة. فمثلاً في قضية غامبيا ضد ميانمار أصدرت المحكمة حكمها النهائي بعد 30 شهرا تقريبًا من طلب غامبيا الأول باتخاذ تدابير مؤقتة.

 المفاعيل التنفيذية لقرارات المحكمة

على الرغم من كون قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة، إلّا أنّ العائق الأكبر في حال تجاوب المحكمة مع طلبات جنوب أفريقيا هو غياب الذراع التنفيذية لتنفيذ قراراتها جبريًّا ، حيث يبقى على عاتق مجلس الأمن اتخاذ الإجراءات المتناسبة مع مضمونها من خلال الأدوات التي يمتلكها والتي تتيح له معاقبة الدول من خلال فرض العقوبات وحظر الأسلحة واستخدام القوة. كما يبقى للجمعية العامة للأمم المتحدة في حال عدم امتثال إسرائيل لقرار المحكمة، أن تمنعها من المشاركة في أنشطة الأمم المتحدة والأجهزة التابعة لها كما حصل في السابق مع نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا.

ولكن ما يجب الالتفات إليه في هذا الصدد، هو أنّ أي قرار من المحكمة ضدّ إسرائيل، قد يقوّض قدرة حلفائها على منع وقف إطلاق النار وعلى الاستمرار في دعمها مادّيًّا وعسكريًّا، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية التي دأبت على استخدم حق النقض في مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات وقف إطلاق النار، لأنّ ذلك قد يعرّض هذه الدول وقادتها إلى قرارات قضائية دولية ووطنية مماثلة تدينها بالمشاركة والتواطؤ والتآمر في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وبالتالي خرقها لالتزاماتها بموجب إتفاقية الإبادة. وقد شهدت الولايات المتحدة مؤخّرًا دعاوى قضائية محلية إحداها تتهم الرئيس بايدن بالتواطؤ في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

هل تهدّد الضغوطات حياد المحكمة؟

من المتوّقع أن تتعرّض المحكمة وقضاتها لضغوطات في إطار هذه الدعوى، أقلها اتهام بعض أعضائها بمواقف معادية للسامية، على غرار ما حصل سابقا مع القاضية فاتو بنسودا، المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية، التي اتهمتها إسرائيل بأنها معادية للسامية بعد إعلان اختصاص المحكمة للنظر بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين المحتلة، كما تعرّضت لعقوبات أميركية خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب، قبل أن ترفعها إدارة بايدن في العام 2021 مع تأكيدها على مواصلة معارضتها لرغبة المحكمة بالتحقيق في قضايا على صلة بأفغانستان أو إسرائيل. وبالفعل فقد بدأت إسرائيل حملةً ديبلوماسيّةً واسعة تقودها وزارة الخارجية الإسرائيلية من خلال سفاراتها للضغط على الديبلوماسيين والسياسيين في الدول المضيفة لإصدار بيانات ضدّ دعوى جنوب أفريقيا، بالتزامن مع الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة الأميركية من الدعوى، حيث وصفها أحد المسؤولين البارزين في الإدارة الأميركية أنّها “عديمة الجدوى وتؤدّي إلى نتائج عكسية ولا أساس واقعي لها على الإطلاق”.


[1] تُستخدم عبارة “فرية الدم” للدلالة على الكذبة المعادية للسامية التي تتهم اليهود باختطاف وقتل أطفال مسيحيين لاستخدام دمائهم في طقوسهم الدينية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، قرارات قضائية ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني