قراءة في قرارات وآراء قضاة محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية


2024-01-30    |   

قراءة في قرارات وآراء قضاة محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية
صورة من الجلسة العلنية لمحكمة العدل الدولية التي اعلنت فيها قرارها في دعوى الابادة الجماعية ضد اسرائيل

في 26 يناير/ كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص طلب جنوب افريقيا حول فرض تدابير مؤقتة في القضية التي أقامتها ضد إسرائيل استنادا للمادة التّاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، قضت فيه أن ظاهر الأمور يُبيّن وجود مخاطر ممكنة أن الحرب على قطاع غزة تنتهك هذه الاتفاقية لتخلص إلى فرض تدابير مؤقتة على إسرائيل تمثلت بالآتية:

1- تلتزم دولة إسرائيل، وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة، باتخاذ جميع التدابير في إمكانها لمنع ارتكاب جميع الأعمال المشمولة في نطاق المادة الثانية من هذه الاتفاقية، وخاصةً: (أ) قتل أفراد المجموعة؛ (ب) تسبب أفراد المجموعة في إصابات جسيمة أو نفسية؛ (ج) إلحاق ظروف الحياة المستهدفة بالقضاء على المجموعة جزئيًا أو كليًا بشكل متعمد؛ و (د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات ضمن المجموعة؛

 2- يجب على دولة إسرائيل ضمان، فورًا، عدم ارتكاب أي أعمال وصفت في الفقرة 1 أعلاه من قبل قواتها المسلحة؛

3- يجب على دولة إسرائيل اتخاذ جميع التدابير في إمكانها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جريمة الإبادة فيما يتعلق بأفراد المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة؛

 4- يجب على دولة إسرائيل اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية الملحة والمساعدة الإنسانية للتصدي للظروف الصعبة التي يواجها الفلسطينيون في قطاع غزة؛

5- يجب على دولة إسرائيل اتخاذ تدابير فعّالة لمنع تدمير الأدلة وضمان الحفاظ عليها فيما يتعلق بالاتهامات المتعلقة بأعمال داخل نطاق المادة الثانية والمادة الثالثة من اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة ضد أفراد المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة؛

6- يجب على دولة إسرائيل تقديم تقرير إلى المحكمة حول جميع التدابير المتخذة لتفعيل هذا القرار خلال شهر واحد اعتبارًا من تاريخ صدور هذا القرار.

ومع ذلك، لم تقر المحكمة بأمر وقف فوري لإطلاق النار في غزة كما كان يأمل الكثيرون. رافق القرار وثائق مختلفة صادرة عن خمسة قضاة تتمثل بكونها آراء مخالفة أو إعلانات أو تصريحات وآراء مستقلة، تلقي الضوء على حيثيات القرار ونقاط القوة والضعف في القضية بشكل عام، الأمر الذي يعطينا فهما أعمق للمجريات التي سبقت صدور القرار من المحكمة. وفيما يلي عرض لأبرز النقاط التي في وردت في هذه الوثائق.

أولا: قرار المخالفة للقاضية الأوغندية سيبوتندي (Judge Julia Sebutinde)

فاجأت القاضية سيبوتندي الجميع باعتراضها على التدابير التي قضت بها المحكمة كافة، وهو الامر الذي لم يقم به القاضي الإسرائيلي بحيث اعترض على أربعة تدابير من أصل ستة فقط.

وفي رأيها المخالف الذي دوّنته على إحدى عشر صفحة ويتكون من 35 فقرة، توضح سيبوتندي أن المحكمة غير مختصة بهذا النزاع، كون النزاع بين “الشعب الفلسطيني” ودولة إسرائيل هو نزاع سياسي وليس قانونيا وبالتالي الطريق الأمثل لحل هذا النزاع هو من خلال الوسائل الدبلوماسية والمفاوضات، وتنفيذ جميع القرارات ذات الصلة من مجلس الأمن بنية حسنة من قبل جميع الأطراف المعنية، حتى يتم الوصول إلى حلّ دائم يمكّن الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي من العيش بسلام. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن مسألة التفرقة بين النزاعات السياسية والقانونية تناولها الفقه، الذي يؤيد أن النزاعات القانونية هي الوحيدة التي يمكن أن تعرض على القضاء الدولي، لكن هذه التفرقة تأخذ بعين الاعتبار إذا كان هذا النزاع بين دولتين سلميا لا يمسّ الدول الأخرى، ولا توجد حقوق ملزمة للمجتمع الدولي ككل معرضة للانتهاك (Egra Omnes). وبالتالي هذا الرأي يتعارض مع ما استقرّ عليه اجتهاد محكمة العدل الدولية.

أما النقطة الثانية التي وردت في هذا الرأي المخالف، هي عدم وجود النيّة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. فقد أشارت القاضية سيبوتندي أنها ليست مقتنعة بأن جميع المعايير المطلوبة لتطبيق التدابير المؤقتة قد تم استيفاؤها في القضية الحالية. على وجه الخصوص، لم تظهر جنوب أفريقيا، أن الأفعال التي ارتكبتها إسرائيل، تمت بالنية الإبادية الضرورية، وعلى إثر ذلك، لا تدخل هذه الادعاءات في إطار اتفاقية منع الإبادة، وبالتالي فإن الحقوق المنوي حمايتها بسبب احتماليّة وقوعها تقع خارج نطاق اتفاقية الإبادة. وتضيف سيبوتندي بأن ما يميّز جريمة الإبادة عن الانتهاكات الجسيمة الأخرى للقانون الدولي لحقوق الإنسان هو وجود “نية تدمير، كلياً أو جزئياً، مجموعة وطنية، أو عرقية أو عرقية أو دينية…”. وبناءً على ذلك، يمكن أن تكون الأفعال التي اشتكت منها جنوب أفريقيا تشكّل ببساطة انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وليست إبادة.

إثارة موضوع وجود النية أو القصد الخاصّ لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في هذه المرحلة مستغرب وسابق لأوانه، وهو أمر لا يتمّ حسمه اعتمادا على لائحة الدعوى الأولية بل يحتاج إلى سنوات طويلة من الدراسة والتحرّي والمرافعات والأدلة والشهود، وفق ما تؤكده القرارات السابقة للمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. كما أن الهدف من التدابير المؤقتة الحفاظ على الحقوق المحمية وتجنب الأذى الشديد الذي لا يمكن تداركه الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني في غزة. معيار المقبولية في هذه المرحلة من الدعوى هو إثبات أن ظاهر الأمور يشير إلى احتمالية وقوع جريمة الإبادة وليس إثبات كافة أركانها بشكل أكيد.

ثانيا: الإعلان المقدم من القاضية الصينية شوية (Judge Xue Hanqin)

في هذا الإعلان الذي يقع على صفحتين ويتكون من 5 فقرات، تمّ التأكيد أن لجنوب أفريقيا الحق في رفع دعوى ضد إسرائيل بسبب انتهاكها لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. وشرحت القاضية شوية بايجاز موقفها من هذه المرحلة من المحاكمة بقولها أنّ الأمم المتحدة أبقتْ القضية الفلسطينية على جدول أعمالها منذ بداية نشأتها، ولا يزال الشعب الفلسطيني غير قادر على ممارسة حقّه في تقرير مصيره بسبب الاحتلال الإسرائيلي. وفي الرأي الاستشاري بشأن الجدار العازل، استشهدت المحكمة بقرار الجمعية رقم 57/107 الذي جاء فيه أن الأمم المتحدة تتحمّل مسؤولية دائمة تجاه فلسطين إلى أن يتم حلّ هذه القضية وفقا للشرعية الدولية. كما جاء في القرار … ويجب على الأمم المتحدة، بما في ذلك جهازها القضائي، حماية الشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي، خاصة من الإبادة الجماعية.

وأضافتْ القاضية شوية، أنه سبق لمحكمة العدل الدولية أن رفضتْ اتّخاذ الإجراءات القانونية التي طلبتها أثيوبيا وليبيريا ضد جنوب أفريقيا لخرقها التزاماتها باعتبارها سلطة الانتداب في جنوب غرب أفريقيا منذ أكثر من ستين عاما، وقد أدى هذا الحرمان من العدالة إلى استياء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتشويه سمعة المحكمة. لكن الاجتهاد القانوني تطوّر في قضية (Barcelona Traction) عندما أقرّت المحكمة بأن لجميع الدول مصلحة قانونية في حماية بعض الالتزامات القانونية المستحقة للمجتمع الدولي نظرا لأهميتها (Erga Omnes). وأردفت القاضية شوية أنه في ظلّ هذه التطوّرات، لدى المجتمع الدولي مصلحة مشتركة لتوفير الحماية لمجموعات معينة مثل الشعب الفلسطيني، وأن هذه القضية تؤسّس لحق دولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية وفقا لمبدأ الحجية في مواجهة الدول الأطراف (Erga Omnes Parts) لمساءلة دولة طرف دولة أخرى بشأن انتهاك التزاماتها بموجب هذه  الاتفاقية.

إعلان القاضية شوية يتناقض تماما مع الرأي المخالف الذي أدلت به القاضية الأوغندية التي تمسّكت بعدم الاختصاص، فهي تنظر لهذه القضية باعتبارها من التطورات الإيجابية في القانون الدولي لتعزيز العدالة وإعادة الثقة بمحكمة العدل الدولية.

ثالثا: الإعلان المقدّم من القاضي الألماني نولت (Judge Georg Nolte)

قدم القاضي نولت إعلانه الذي يقع على 5 صفحات ويتكوّن من 17 فقرة، أوضح من خلاله أن المحكمة تلعب دورًا محدودًا في الإجراءات الحالية. كما أكّد أن جنوب افريقيا قدمت طلبها ضدّ إسرائيل استنادًا إلى اتفاقية الإبادة الجماعية فقط. وهذا يعني أن القضية تتعلق بانتهاكات مزعومة لاتفاقية الإبادة الجماعية من قبل إسرائيل لتلك الاتفاقية فقط. وبالتالي، لا تتعلق القضية بانتهاكات محتملة لقواعد أخرى من قوانين القانون الدولي، مثل جرائم الحرب، ولا تتعلق بانتهاكات محتملة لاتفاقية الإبادة الجماعية من قبل أشخاص مرتبطين بحماس. وعلى الرغم من أن هذه القيود على اختصاص المحكمة قد تكون غير مرضية، إلا أن المحكمة ملزمة باحترامها. كما يؤكد نولت أن الأشخاص المرتبطين بحماس يظلون مسؤولين عن أي أفعال إبادة جماعية قد يكونون ارتكبوها أيضًا، وتبقى إسرائيل والأشخاص المرتبطون بحماس مسؤولين قانونيًا عن أيّ انتهاكات محتملة من جانبهم لقواعد أخرى للقانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني. ويمكن تحديد مثل هذه المسؤولية من خلال إجراءات قانونية أخرى.

وأكد القاضي نولت على أنه لا يُطلب من المحكمة تقييم صحّة مزاعم جنوب أفريقيا بشأن الإبادة في هذه المرحلة. يمكن للمحكمة أن تصدر تدابير مؤقتة لحماية الحقوق المعرضة للانتهاك والواردة في الاتفاقية قبل اتخاذ قرار بشأن جوانب القضية المختلفة. ولا تحتاج المحكمة في الوقت الحالي إلى التعامل مع قضايا مثيرة للجدل مثل الدفاع عن النفس أو تقرير المصير. يجب على المحكمة أن تتذكر أن اتفاقية الإبادة لا تنظّم النزاعات المسلّحة، حتى إذا كانت تشمل استخدام مفرط للقوة وخسائر كبيرة في الأرواح.

ويضيف نولت أنه لا يعتقد أن جنوب أفريقيا قد قدمت دليل على أن إسرائيل تقوم بعمليات عسكرية إبادية. الأدلة التي قدمتها جنوب أفريقيا حول العملية العسكرية الإسرائيلية تختلف بشكل كبير عن تقارير بعثة الأمم المتحدة للتحقيق في “عملية التطهير” في ميانمار في 2016 و 2017، والتي أدّت إلى قرار المحكمة في قضية غامبيا ضد ميانمار في العام 2020. إلا أنه وعلى الرغم من أنه لا يعتقد أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تستند إلى نية إبادية، إلا أنّه دعم تدابير المحكمة المؤقّتة بناءً على ادّعاء جنوب أفريقيا بأنّ التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون، بما في ذلك الشخصيات العسكرية، تشكّل خطرًا حقيقيًا على حقوق الفلسطينيين بموجب اتفاقية الإبادة. وأنهى قوله بأنّه يرى أنّ التدابير التي قضتْ بها المحكمة تستجيب لبعض المخاطر على حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة التي تحميها اتفاقية منع الإبادة كما أنها تذكّر إسرائيل بالتزاماتها في إطار اتفاقية منع الإبادة الجماعية.

رابعا: الإعلان المقدم من قبل القاضي الهندي بهاندري (Judge Dalveer Bhandari)

تقدم القاضي بهاندري بإعلان يقع على صفحتين ويتكون من إحدى عشرة فقرة، وقد أشار فيه إلى أنه يوافق على قرار المحكمة، ويرغب بإضافة مجموعة من الاستنتاجات، وهي أن الطلب الحالي يتعلّق فقط باتفاقية الإبادة، إلا أن هناك قوانين أخرى تنطبق على هذا النزاع، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي. كما أكد أنّ المحكمة تقرر فقط بشأن طلب جنوب أفريقيا المحدّد لتدابير مؤقتة. والمحكمة هنا تطبق اختبارات وعتبات قانونية مختلفة لغايات اتخاذ مثل هذا القرار، منها مراعاة الحقوق المطالب بحمايتها، والأدلة الأولية المقدمة، والدمار وفقدان الأرواح الواسع في غزة، وهي بطبيعة الحال غير كافية للإدانة.  ففي هذه المرحلة، لم يتم النقاش الكامل في القضية، ولا يتوفر للمحكمة أي سجل واقعي يقارب الاكتمال. لهذه الأسباب يظهر بوضوح أن المحكمة ليست، ولا يمكن أن تكون، مُقرّة لمطالب جنوب أفريقيا الفعلية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة. كل ما تقوم به المحكمة في هذه المرحلة هو إصدار قرار بشأن طلب جنوب أفريقيا لتحديد تدابير وقائية، وهو طلب منفصل أمام المحكمة.

ويشدد القاضي بهاندري على أنه في مرحلة التدابير المؤقتة، لا تحتاج المحكمة إلى تقديم قرار بشأن ما إذا كانت هناك نيّة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة، وإنما تقرر فقط ما إذا كانت هناك احتمالية أن تكون الحقوق التي تحميها الاتّفاقية معرّضة للانتهاك، ويبدو هذا واضحا من الطابع الشامل للحملة العسكرية في غزة وفقدان الأرواح، والإصابات، والدمار، والاحتياجات الإنسانية التي تبعتها منذ أكتوبر 2023 لدعم استنتاج قابلية التصديق بأن الحقوق الواردة في المادة 2 من الاتفاقية تتعرض للانتهاك، مع التأكيد على أن المعايير القانونية المطبقة في هذه الحالة بسيطة وقوامها أن الادّعاء بالتعرض لهذه الحقوق قابل للحدوث أو ممكنا، بخلاف الحال عند اثبات ارتكاب هذه الجريمة فعلا. وفي نهاية الإعلان، أكد بهاندري أن الأدلة المتوفرة وظروف القضية في الوقت الحالي تبرر فرض التدابير المؤقتة، وطالب بشكل منفرد  جميع المشاركين في النزاع وقف القتال والعمليات فورًا، وأن يتم إطلاق سراح جميع الرهائن الباقين الذين تم اختطافهم في 7 أكتوبر 2023 من دون قيد أو شرط فورًا.

وقد بدا إعلان بهنادري هنا متوافقا في عمقه مع إعلان القاضي الألماني نولت، لجهة التشديد على أن معايير الإثبات المطلوبة للحكم بالتدابير المؤقتة اقل بكثير من المعايير المطلوبة لإثبات وجود انتهاك فعليّ لاتفاقية منع جريمة الإبادة.  لكنه يختلف معه لجهة أنه يمكن للمحكمة أن تطبّق قواعد أخرى للقانون الدولي وليس الاعتماد فقط على اتفاقية منع الإبادة مثل الاتفاقيات الأخرى المصادق عليها من قبل طرفي النزاع اعتمادا على القواعد لتفسير المعاهدات، أبرزها اتفاقيات جنيف لسنة 1949. وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن بهاندري هو الوحيد من بين القضاة الذي طالب بوقف إطلاق النار ،وهو الطلب الأول الذي كان ضمن لائحة جنوب أفريقيا، لكنه لم يُبين السبب في هذا الطلب ولا بيّن لماذا لم تتبنّاه المحكمة. يبدو أن حجم الكارثة وعدد الضحايا كان الدافع وراء ذلك وأنه لم يتمكّن من إقناع بقية القضاة بهذا الموقف.

خامسا: الرأي المستقلّ للقاضي الإسرائيلي باراك (Ad-hoc Judge Ahron Barak)

قدم القاضي باراك رأيه المستقلّ في هذا الطلب وهو يقع على 10 صفحات ويتكوّن من 49 فقرة، وقد صوّت ضدّ 4 تدابير مؤقّتة حكمت فيها المحكمة وهي اتخاذ إسرائيل جميع التدابير التي في وسعها لمنع جريمة الإبادة الجماعيّة وضمان عدم قيام الجيش الإسرائيليّ بأيّة أعمال تشكل جريمة الإبادة الجماعية واتّخاذ تدابير لمنع تدمير غزة والحفاظ على الأدلة وقيام إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة خلال شهر بالإجراءات المتّخذة لتنفيذ التدابير المؤقتة. بالمقابل وافق على التدبيرين 3 و4 وهما اتخاذ جميع التدابير في إمكانها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جريمة الإبادة واتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية الملحة والمساعدة الإنسانية للتصدي للظروف الصعبة التي يواجها الفلسطينيون في قطاع غزة. وقد اختار هذه التدابير بعناية؛ فهي تجعله يظهر مظهر القاضي المحايد، كما أنها تطلب من دولة الاحتلال القيام بأعمال مستقبلية يمكن الوفاء بها شكليا، ورفض التدابير التي قد يستنتج منها أنه تم ارتكاب أفعال تندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية في الفترة الماضية. 

الفقرات من 1- 14 عبارة عن عموميات يشرح فيها بارك أن إسرائيل دولة ديمقراطية تحترم قواعد القانون الدولي، ثم بعد ذلك حاول تفنيد اختصاص المحكمة للنظر في هذه القضية معتمدا على مجموعة من الدفوع، أبرزها:

1- لم تكن جنوب افريقيا حسنة النية عندما تقدّمت بهذا الطلب للمحكمة، فبعد أن قدمت مذكرة دبلوماسية إلى إسرائيل في 21 ديسمبر 2023، بشأن الوضع في غزة، ردّت إسرائيل بعرض للمشاركة في مشاورات في أقرب فرصة ممكنة. عوضًا عن قبول هذا العرض، الذي كان يمكن أن يؤدّي إلى محادثات دبلوماسية مثمرة، قررت جنوب أفريقيا تقديم دعوى قضائية ضدّ إسرائيل أمام هذه المحكمة. من المؤسف أن محاولة إسرائيل لفتح حوار تمّ استقبالها بتقديم طلب قضائي. وحاول باراك من خلال هذا الدفع أن يقول أنه لا يوجد نزاع بين إسرائيل وجنوب أفريقيا بحسب ما تتطلبه المادة 9 من اتفاقية منع الإبادة كونه لم يكن هناك تبادل في وجهات النظر المختلفة بين الطرفين، بخاصة وأنه سبق لمحكمة العدل الدولية أن عرّفت النزاع بأنه خلاف حول مسألة قانونية أو واقعية يتمثل في تناقض أو تعارض أو تضادّ أو تضارب في الآراء القانونية[1].

2- قدمت جنوب أفريقيا دعوى أمام المحكمة استناداً إلى اتفاقية الإبادة، حيث توفر المادة التاسعة منها للمحكمة الولاية للنظر في النزاعات المتعلقة بـ “تفسير، تطبيق أو الوفاء” بتلك الاتفاقية، “بما في ذلك تلك المتعلقة بالمسؤولية الدولية عن جريمة الإبادة”. ولكن ذلك لا يعني أن اتفاقية الإبادة توفر الإطار القانوني المناسب للوضع الحالي في غزة.

3- لا توجد أدلة مقبولة لتوفّر القصد الخاص لارتكاب جريمة الإبادة، بل اعتمدت على تقارير وتصريحات لمسؤولين في منظمة الأمم المتحدة مثل المقررين الخواص، أمين عام الأمم المتحدة ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية والأرقام المتعلقة بالوفيات والإصابات والأضرار. هذه التقارير تصف حالة إنسانية مأساوية التي هي نتيجة نزاع مسلح، لكن لا توجد إشارة إلى الإبادة الجماعية، كما أن المحكمة ليست على علم بالظروف التي صاحبتْ إصدار هذه التقارير والتصريحات أو المعلومات التي تمّ الاعتماد عليها والغاية من إصدارها.

4- من المفاجئ أن المحكمة اطّلعت على بيانات إسرائيل التي تشرح الخطوات التي اتّخذتها لتخفيف الظروف التي يواجهها السكاّن في غزة، جنبًا إلى جنب مع بيان النائب العام الذي أعلن التحقيق في أيّ دعاوى لإلحاق ضرر متعمّد بالمدنيين، ولكن بعد ذلك فشلت تمامًا في استخلاص استنتاجات من هذه البيانات عند فحص وجود النية لارتكاب جريمة الإبادة. ومن المفاجئ أكثر أنّ المحكمة لم تعتبر أيّا من هذه الإجراءات والبيانات كافية لاستبعاد وجود نية ممكنة لارتكاب جريمة الإبادة.

وفي النهاية أشار بارك، أنه قام بتأييد قرار الأغلبية في اتخاذ دولة إسرائيل جميع التدابير التي في وسعها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني لجريمة الإبادة واتخاذ دولة إسرائيل إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها، بالرغم من عدم اقتناعه بوجود جريمة الإبادة، لكنه قام بذلك بسبب معتقداته الإنسانية وللتخفيف من آثار النزاع المسلّح. وختم بتأكيده أنه رغم تعيينه من قبل إسرائيل كقاض ad hoc  في هذه القضية، إلا أنه لا يعدّ وكيلًا لها وأن بوصلته هي البحث عن الأخلاق والحقيقة والعدالة.

رأي بارك يتقاطع لحد كبير مع دفاع إسرائيل أمام المحكمة، الذي لم يؤثر على قرار المحكمة بإصدار التدابير المؤقتة. كما أن النقاط التي قام بتقديمها تهدف إلى نفي وجود النية لارتكاب جريمة الإبادة، وهو أمر ما زال من المبكر البحث فيه من قبل المحكمة؛ إذ اعتمدت المحكمة على ظاهر الأمور من دون الدخول في التفاصيل.

أما فيما يتعلق بسوء النية لدى جنوب أفريقيا الذي اثاره بارك، فقد أجابت المحكمة على هذه النقطة بقولها أن النفي المتكرر لدولة إسرائيل بأنها لا ترتكب جريمة الإبادة كفيل بحدوث نزاع بينها وبين جنوب أفريقيا التي أعلنت في اكثر من مناسبة بأن الأفعال التي تقوم بها إسرائيل ترقى لجريمة الإبادة الجماعية، وأن ما ورد في المذكرة الدبلوماسية بتاريخ 21 ديسمبر هو تكرار لمطالبات سابقة.


[1] The Gambia v. Myanmar, Provisional Measures, Order of 23 January 2020, p. 13, para. 27, citing Land and Maritime Boundary between Cameroon and Nigeria (Cameroon v. Nigeria), Preliminary Objections, Judgment, I.C.J. Reports 1998, p. 315, para. 89

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، قرارات قضائية ، فئات مهمشة ، مقالات ، فلسطين ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني