112 يومًا احتاجتها القوى الرافضة للإبادة الحاصلة في غزة لكي تنتزع اعترافًا قضائيًّا دوليًا خجولًا بحقيقة الإبادة الجماعية التي يتعرّض إليها الشعب الفلسطينيّ، ولكي تتّجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى المجرم الذي ما فتئ يرتدي ثوب الضحية الدائمة ويُتقن أداء دورها على المسارح الدولية. هذا الاعتراف الذي تأخّر، ليس فقط منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بل منذ نكبة 1948، لم يكن ليصدر لولا مبادرة جنوب أفريقيا التي أخذت على عاتقها مهمّة مقارعة آخر أنظمة الاستعمار الاستيطاني في العالم وبظهره منظومة الشمال السياسي، مستخدمةً أدواتها والقيم التي تدّعي حمايتها ورعايتها.
فبشبه إجماعٍ (15 من أصل 17 قاضيًا) أصدرت محكمة العدل الدولية في 26/1/2024 قرارًا أوّليًّا بالتدابير المؤقتة في الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل والمتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة) في قطاع غزة. وقررت المحكمة قبول الدعوى معلنةً اختصاصها المبدئيّ للنظر فيها كون الأدلة المقدّمة كافية للقول بوجود مخالفة محتملة لاتفاقية الإبادة. كما أمرت إسرائيل باتخاذ كلّ التدابير في إطار سلطتها لمنع ارتكاب الأعمال المحظورة بموجب البند الثاني من اتفاقية الإبادة، ومنها القتل، فيما يتعلّق بالفلسطينيين في غزة وتقديم تقرير للمحكمة بشأنها بعد شهر، بالإضافة إلى أربعة أوامر أُخرى سنشير إليها لاحقًا. تباينت الآراء حول القرار، بين من وجده انتصارًا للفلسطينيين وهزيمةً ساحقةً لإسرائيل نظرًا لرفض جميع طلباتها، ومن أصابته خيبة الأمل نظرًا لعدم استجابة المحكمة لأحد الطلبات الذي قدّمتها جنوب أفريقيا بالوقف الفوري للأعمال العسكرية في غزة، فاعتبره تمديدًا للإبادة الحاصلة بحقّ الفلسطينيين. غير أنّ هذا القرار التاريخيّ يبقى الأوّل من نوعه الصادر عن محكمة دوّلية ضدّ الكيان الإسرائيليّ والذي يعلن عن انطلاق محاكمته بشبهة الإبادة وبداية للقطع مع إفلاته من العقاب عن جرائمه بحقّ الفلسطينيين. وقد سارع رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو لرفض القرار واعتباره مخزيًا، معلنًا مواصلة إسرائيل “الدفاع عن نفسها”، وهي إحدى الحجج التي استخدمها فريق الدفاع الإسرائيلي في المحكمة، ولم تحُل دون إعلان الأخيرة وجود خطر إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة.
وللوقوف على أهميّة هذا القرار، نعرض أهم حيثيّاته والنتائج التي توصّل إليها، قبل البحث في فعاليته ومفاعيله المرتقبة.
قبول دعوى جنوب أفريقيا
بدأت المحكمة بالتذكير بما أسمتْه “السياق المباشر” للدعوى أي عملية 7 أكتوبر والعملية العسكرية الإسرائيلية التي تلتها والتي أدّتْ إلى وقوع عدد هائل من الضحايا بين المدنيين وتدمير هائل للبنى التحتية المدنية وتهجير معظم سكّان غزّة. وأوضحت أنّها على علم بـ “التراجيديا الإنسانية” التي تشهدها المنطقة، وأنّه تمّت معالجة النزاع بموجب قرارات الهيئة العامّة (التي طالبت بوقف إطلاق النار) ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فيما أنّ هذه الدعوى محصورة في إطار اتفاقية الإبادة.
قبل النظر في أساس الدعوى، أي إصدار قرار نهائي في ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة وهو الأمر الذي قد يستغرق سنوات، وفي مرحلة اتخاذ القرار بشأن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا، نظرت المحكمة في ما إذا كانت مختصّة ظاهريًّا أي بشكل أوّليّ (prima facie) للنظر في الدعوى ولاتخاذ أوامر بشأن التدابير المطلوبة.
بناءً على ذلك، تشترط المحكمة عملًا باجتهاداتها السابقة (خصوصًا قضيّتي غامبيا ضدّ ميانمار والبوسنة ضدّ صربيا) وجود نزاع بين طرفي الدعوى حول تطبيق أو تفسير اتفاقية الإبادة لكي تعلن اختصاصها الظاهر. فعرضت في قرارها البيانات الرسمية لجنوب أفريقيا التي اعتبرت فيها أنّ إسرائيل تنتهك الاتفاقية، ومن ضمنها تصريحات مندوب جنوب أفريقيا لدى الأمم المتحدة في جلسة لجمعيتها العامة في 12/12/2023 بحضور مندوب إسرائيل، بالإضافة إلى مذكرة مقدّمة إلى سفارة إسرائيل لديها. في المقابل، أشارت إلى إنكار إسرائيل تهمة الإبادة بواسطة وزارة خارجيتها. وفيما كانت إسرائيل قد اعتبرت أنّ جنوب أفريقيا قرّرت بشكل أحادي وجود خلاف بينهما وأنّها لم تمنحْها الوقت الكافي للجواب، اعتبرت المحكمة أنّ هناك نزاعًا إيجابيًا بين الطرفين حول تفسير الاتفاقية وتطبيقها. وبالتالي، رفضت المحكمة طلب إسرائيل ردّ الدعوى وأعلنت اختصاصها ظاهريًّا للنظر في الدعوى في مرحلة التدابير الاحترازية.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل لم تناقش في صفة جنوب أفريقيا بالادعاء في هذه المرحلة، إلّا أنّ المحكمة أوضحت أنّ جميع الدول الموقعة على اتفاقية الإبادة لديها مصلحة مشتركة في وقف الإبادة الجماعية ومنعها والمعاقبة عليها، من خلال التزامهم في تحقيق الموجبات المنصوص عليها في الاتفاقية. كما أنّه يمكن لأي من الدول الأطراف أن تباشر بالإجراءات أمام المحكمة بخصوص فشل إحدى الدول بالامتثال لأحكام الاتفاقية وإن لم تكن متضرّرة بشكل مباشر منها. وعلى هذا الأساس، استنتجت المحكمة، ظاهريًّا، أنّ جنوب أفريقيا تحوز الصفة لمنازعة إسرائيل أمامها، وهو ما يتماشى مع اجتهادها السابق في قضية غامبيا ضد ميانمار.
ثبوت احتمالية الإبادة بحقّ الفلسطينيين
قالتْ المحكمة إنّ صلاحيّتها في إصدار أوامر بالتدابير المؤقتة تشترط أن تكون الحقوق التي تطالب جنوب أفريقيا بحمايتها هي “معقولة” أو “محتملة” على الأقل (plausible) وأن يكون هناك صلة بينها وبين التدابير المؤقتة المطلوبة، بمعنى آخر أن تكون الأدلة المقدّمة إليها كافية للقول بوجود مخالفة محتملة لحقوق الفلسطينيين بموجب اتفاقية الإبادة. وفيما أدلتْ إسرائيل بأنّ اتفاقية الإبادة لا تنطبق في إطار حربها على غزّة التي تخضع للقانون الدولي الإنساني، رفضت المحكمة ذلك وسلّمت بوجود احتمال بمخالفة إسرائيل لاتفاقية الإبادة. فأشارتْ المحكمة إلى أنّ العملية العسكرية التي بدأتها إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول 2023 أدّت إلى عدد كبير من الضحايا تجاوز 25,700 فلسطينيًا، وإلى تدمير أكثر من 360,000 وحدة سكنية، بالإضافة إلى تدمير البنى التحتية وحرمان الوصول إلى الماء والدواء والطاقة والكهرباء والرعاية الصحية وتهجير الأغلبية العظمى من سكان القطاع حيث قارب عدد المهجّرين 1.7 مليونًا.
ولإثبات هذه الوقائع، استعانت المحكمة ببيانات عدد من الأجهزة والأشخاص التابعين للأمم المتحدة. فاستشهدت بالبيان الصحافي لمارتن غريفيثس، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في تاريخ 5/1/2024، الذي تناول فيه الكارثة الصحية والأوضاع الإنسانية في غزة وحذّر من خطر المجاعة الذي يحدق بسكّانها، واصفًا غزّة بأنّها “أصبحت مكانًا للموت واليأس”. كما اقتبست عن تقرير منظمة الصحة العالمية في تاريخ 21/12/2023 الذي تناول أزمة الجوع التي تطال 93% من سكان القطاع. بالإضافة إلى ذلك، استندت المحكمة إلى تقارير أخرى بينها ما صدر عن المفوض العام للأونروا فيليبي لازاريني في تاريخ 13/1/2024 حيث اعتبر أنّ الأزمة في غزة تتفاقم بسبب “اللغة اللاإنسانية”. وقد جاء استنادها لمواقف الأونروا على نحو يعزز شرعية ومصداقية هذه الوكالة الأممية في مواجهة حرب إسرائيل ضدّها، والتي تشكّل جزءًا من حربها على الفلسطينيين نظرًا إلى دورها الأساسي في تقديم الدعم والخدمات الأساسية للفلسطينيين.
كذلك استندت المحكمة إلى البيان الصحافي الصادر عن 37 مقررًا خاصًا وخبراء مستقلين وأعضاء في فرق العمل التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تاريخ 16/11/2023 والذي حذّر من خطاب الإبادة الجماعية والمجرِّد للإنسانية بحقّ الفلسطنيين الصادر عن كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
كما استعادت المحكمة هذه التصريحات التي تشير إلى نيّة الإبادة والتي أصبحت اليوم موثّقة في مستند قضائي دولي. ومن ضمن هذه التصريحات، تصريح وزير الدفاع يوآف غالانت في 9 تشرين الأول 2023 الذي قال فيه بأنّهم يقاتلون “حيوانات بشرية” وبأنّهم سيدمّرون كل شيء. كذلك تصريح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرزوغ في 12 تشرين الأول 2023: “الأمة كاملة تتحمّل المسؤولية، وليس صحيحًا القول إنّ المدنيين في غزة غير ضالعين في الأمر”. وقد سارع الأخير بعد صدور قرار المحكمة إلى اتهامها باجتزاء التصريح بهدف دعم ادعاء قانوني لا أساس له من الصحة. كذلك أشارت المحكمة إلى تغريدة وزير الطاقة والبنية التحتية في إسرائيل، يسرائيل كاتس على منصّة “إكس” بأنّ “على جميع المدنيين في غزة مغادرتها فورًا. سنفوز. لن يحصلوا على نقطة ماء أو بطارية واحدة قبل مغادرتهم العالم”.
بناء على ذلك، اعتبرت المحكمة أنّ هذه الوقائع كافية للاستنتاج بأنّ بعض الحقوق التي تسعى جنوب أفريقيا حمايتها على الأقل، هي حقوق محتملة بموجب اتفاقية الإبادة، وأنّ للفلسطينيين في غزة الحق في الحماية من أعمال الإبادة، وبأنّ بعض التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا على الأقل، تهدف إلى حماية هذه الحقوق.
ثبوت حالة العجلة لمنع الضرر غير القابل للإصلاح
اعتبرت المحكمة أنّه بحسب المادة 41 من نظامها، يُشترط لاتخاذها أوامر بالتدابير الاحترازية وجود ضرر غير قابل للإصلاح بالحقوق المطلوب حمايتها، وأن يكون هناك حالة عجلة وضرورة لمنع هذه الأضرار قبل إصدار حكمها النهائي في القضية.
ولذلك، قضت المحكمة بأنّ الفلسطينيين في غزة لهم الحق في الحماية من أفعال الإبادة، وبأنّهم مجموعة شديدة الضعف، تعرّضت منذ 7 تشرين الأول 2023 إلى القتل وتدمير بنيتهم التحتية والتهجير، وبأنّ الخطر مستمرّ بحقّهم، مستدلّة على ذلك بتصريح نتنياهو حول استمرار الحرب لأشهر طويلة إضافية. كما استندت إلى رسالة الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن في تاريخ 6/12/2023 التي قال فيها إنّ “النظام الصحي في غزة ينهار” وإنّ “لا مكان آمنًا في غزة”، كذلك بيان المفوض العام للأونروا في 17/1/2024 بعد زيارته الرابعة للقطاع منذ بدء الحرب الذي وصف فيه حالة اليأس والمعاناة في غزة، بالإضافة إلى تقديرات منظمة الصحة العالمية حول الارتفاع المتوقّع لمعدّلات الوفاة لدى الأطفال حديثي الولادة بسبب نقص الرعاية الصحية.
بناء على ذلك، استنتجت المحكمة أنّ الوضع الإنساني الكارثي في القطاع معرّض للتدهور بشكل خطير قبل أن تصدر المحكمة قرارها النهائي، مما يقتضي معه إصدار أوامر بالتدابير المؤقتة.
التدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة
بالنتيجة، أصدرت المحكمة أوامر مشابهة لتلك التي أصدرتها في قضية غامبيا ضد ميانمار (2020)، وأمرت إسرائيل باتخاذ التدابير المؤقتة التالية:
1. اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع أفعال الإبادة الجماعية الواردة في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية وهي: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
2. اتخاذ إجراءات فورية لضمان عدم ارتكاب قواتها العسكرية أي من أفعال الإبادة الجماعية.
3. منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
4. اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية الملحّة وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل عاجل للتصدّي للظروف السّيئة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة.
5. اتخاذ تدابير فعّالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بادعاءات أفعال تندرج ضمن مفهوم المادة الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية.
6. تقديم تقرير إلى المحكمة حول جميع التدابير التي تم اتخاذها لتنفيذ هذا القرار في غضون شهر واحد من صدوره.
وافق 15 قاضيًا من قضاة المحكمة على جميع التدابير المفروضة على إسرائيل، في حين عارضها القاضي الإضافي الإسرائيلي أهارون باراك باستثناء التدبيرين 3 و4، بينما عارضتها جميعها القاضية الأوغندية سيبوتندي التي اعتبرت أنّ النزاع بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل تاريخي وسياسي بشكل أساسي، وهو الأمر المستغرب خصوصًا أنّ محكمة العدل الدولية هي محكمة لحلّ الخلافات بين الدول، وعادة ما تتخذ الخلافات بين الدول المتنازعة طابعًا سياسيًّا. وهذا ما لا يتعارض مع وظيفة المحكمة في تحقيق العدالة الدولية. وسوف نخصص مقالة منفصلة لمناقشة آراء القضاة المستقلّة.
قرارٌ ضمنيٌّ بوقف إطلاق النار؟
بالرغم من تسليمها بخطر الإبادة الواقع على الفلسطينيين في قطاع غزة، إلّا أنّ المحكمة لم تستجب إلى الطلب الأوّل الذي قدّمته جنوب أفريقيا إليها وهو إصدار أمر بإلزام إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في القطاع ولم تبرر ذلك في قرارها.
ولكن، عند التدقيق في التدابير التي فرضتها المحكمة، يظهر بداية أنّها أمرت إسرائيل بوقف القتل والأعمال الإبادية الأخرى (كإلحاق الأذى بالأشخاص وتدمير البنى التحتية والحصار ومنع المساعدات الإنسانية)، ما يتضمّن حكمًا وقفًا لعملياتها العسكرية. كما يظهر أنّ إمكانية التزام إسرائيل بتنفيذ معظم هذه التدابير يشترط وقف عملياتها العسكرية. وما يعزز ذلك هو اقتباس المحكمة عن الأمين العام للأمم المتحدة قوله بأنّ تقديم المساعدات الإنسانية غير ممكن مع استمرار القصف والقتل، فكيف يمكن أن تدخل المساعدات الإنسانية وأن تتوقّف الأعمال الإبادية بدون وقف إطلاق النار؟
وهذا ما عبّر عنه البعض الذين اعتبروا أنّ قرار المحكمة ذهب إلى ما هو أبعد من وقف إطلاق النار، وأنّه تضمّن قرارًا ضمنيًّا بذلك. وبتعليقها على القرار بالأوامر قالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور: “من أجل تنفيذ الأمر، يجب أن يكون هناك وقف إطلاق نار. بدون ذلك لا يمكن للأمر أن يعمل فعليًّا”. وضمن الوجهة نفسها، اعتبرت مؤسسات حقوق الإٍنسان الفلسطينية، “الحق” و”الميزان” و”المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان” أنّ هذا القرار يحمل مطالبة ضمنية بوقف إطلاق النار، حيث لا يمكن تنفيذه من دون وقف كامل للأعمال العدائية. بينما رأت جهات أخرى أنّ إسرائيل قد تستغلّ عدم صدور أمر صريح بوقف إطلاق النار للتصرّف كما تشاء.
وفيما كانت المحكمة قد أصدرت أمرًا بوقف العمليات العسكرية في القضية التي رفعتها أوكرانيا ضدّ روسيا (2022)، قد يعود امتناعها عن ذلك في قضية غزّة إلى الاختلاف في الإشكاليات القانونية التي طرحتها القضيتان لجهة أطراف النزاع وطبيعة الخلاف. بداية، ينحصر اختصاص المحكمة بالنظر في النزاعات بين الدول كما هي الحال بين روسيا وأوكرانيا. أمّا في الحالة الراهنة، فلا يمكن للمحكمة أن تأمر بوقف العمليات العسكرية من طرف واحد (إسرائيل) في حين أنّ الطرف الثاني في النزاع المسلّح (حماس) ليس دولة ولا يمكن للمحكمة إلزامه بأوامرها. وهذا ما يفسّر إدراج المحكمة توصية بإطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزّة من دون أن تصدر أمرًا بذلك. ومن جهة ثانية، لم تدع أوكرانيا بأنّ روسيا ترتكب إبادة جماعية بحقّ الأوكرانيين (كما هي الحال بالنسبة للفلسطينيين وللروهينغا في قضية غامبيا ضدّ ميانمار)، بل أنّ روسيا بررت عمليتها العسكرية ضدّ أوكرانيا تحت ذريعة أنّها ترتكب الإبادة بحقّ الروس في أوكرانيا، وعلى هذا الأساس رفضت المحكمة ذرائع روسيا وأمرتها بوقف العمليات العسكرية.
ومن المهم الإشارة هنا، إلى أنّ نظام قواعد المحكمة ينصّ في المادة 75 منه على أنّ رفض الطلب باتخاذ تدابير مؤقتة لا يمنع الجهة التي قدمته من تقديم طلب جديد في الحالة نفسها بناء على وقائع جديدة. وهذا ما يفتح الباب أمام جنوب أفريقيا لإعادة طلب أمر إسرائيل بوقف العمليات العسكرية في حال لم تلتزم بالتدابير التي فرضتها المحكمة، أو في حال توافر وقائع جديدة في القضية، وهو ما توافر فعلًا من خلال تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي تعليقًا على قرار المحكمة بأنّ إسرائيل مستمرّة في حربها في غزة.
ما حضر في الدعوى، وغاب عن القرار
في دفاعه أمام المحكمة، استرسل الفريق الإسرائيليّ في تبرير عملياته العسكريّة على غزة بحجة الدفاع عن النفس سنداً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدّة. وفيما كان منتظرًا من المحكمة أن تدحض هذه الذريعة، خصوصًا أنّ غزة تعتبر في مفهوم القانون الدولي أرضًا محتلّة، ولا يمكن لإسرائيل التذرّع بالدفاع عن النفس بوجه تهديد قادم من الأراضي المحتلة، وفقًا للرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة في العام 2004 الذي أعلنت فيه عن عدم قانونية جدار الفصل الذي تقيمه إسرائيل في الضفة الغربية. إلّا أنّ المحكمة تجاهلت ذلك وقرّرت المضي بالدعوى في هذه المرحلة دون الخوض في النقاش حول قانونية العملية العسكرية أو الاحتلال.
النقطة الأخرى التي شغلت حيّزًا كبيرًا من مرافعات فريق الدفاع الإسرائيلي، كانت مسألة النيّة، حيث اعتبرت إسرائيل أنّ لا نيّة لديها في ارتكاب إبادة، وأنّه يقتضي لإصدار المحكمة قرارًا بالتدابير في هذه المرحلة أن تتحرّى عن النية الإسرائيلية، إلّا أنّ المحكمة لم تناقش هذه المسألة، مكتفيةً بأخذ العلم بتصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي رشحت عنها نيّة الإبادة. واتخذت قرارها بصرف النظر عن ذلك، على أنّه من المتوقّع أن تناقشها أثناء بحثها في أساس الدعوى في المرحلة اللاحقة.
بالإضافة إلى ذلك، تجاهلت المحكمة طلب جنوب أفريقيا إلزام إسرائيل بالسماح لبعثات تقصّي الحقائق واللجان التابعة للأمم المتحدة بالدخول إلى غزة، فلم نجد أي تدبير بهذا الشأن في قرارها، على الرغم من أنّ لإسرائيل تاريخ حافل في تعطيل التحقيقات الأممية في جرائمها من خلال منع وصول هذه اللجان. إلّا أنّ المحكمة استجابت لطلب جنوب أفريقيا بإلزام إسرائيل بتقديم تقارير دورية حول التزامها بتنفيذ التدابير المقررة، ففرضت المحكمة على إسرائيل تقديم تقريرها الأوّل بعد شهر من صدور القرار، وهو ما سيضع أعمال إسرائيل في غزّة تحت مجهر المحكمة طيلة فترة النظر في الدعوى، وقد يشكّل وسيلة لطلب إصدار أوامر إضافية بحقّها.
هذا مع الإشارة إلى أن المحكمة بحسب قواعدها غير ملزمة بالاستجابة إلى الصيغة التي جاءت فيها الطلبات من الجهة المدعية، إذ يمكن الأخذ بها جزئيًا، ويمكن أيضًا أن تتخذ تدابير أخرى تجدها ضرورية ولم تُطلب. وبما أنّ المحكمة ناقشت مسألة تهجير سكّان غزّة في قرارها، ألم يمكن بإمكانها أن تأمر إسرائيل باتخاذ التدابير اللازمة للسماح بعودة المهجرين إلى مناطقهم؟
ماذا بعد القرار؟
بعيدًا عن الخوض في ثنائيّة الانتصارات والهزائم، لا شكّ أنّ هذا القرار يشكّل محطّة تاريخية في الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، ليس لأنه الأول من نوعه بحق الكيان الإسرائيلي فحسب، بل كونه جاء بعد عقودٍ من ترويج إسرائيل لنفسها على أنّها ضحيّة وبأنّها تمتلك الجيش الأكثر أخلاقية في العالم وبعد نجاحها في تخويف من يجرؤ على انتقادها بـ “بُعبُع” معاداة السامية، الأمر الذي ساهم بشكلٍ كبير في إفلاتها المتكرّر من العقاب. كما أنّه يربط مفهوم “الإبادة” باسرائيل كمرتكبة محتملة لها وليس فقط كضحية لها كما كانت الحال عليه لغاية صدور هذا القرار.
وعلى الرغم من أنّ الشعب الفلسطينيّ، وتحديدًا أهالي قطاع غزة الذين لم تتوقّف أعمال الإبادة بحقّهم حتى اليوم، كانوا يتطلّعون إلى قرار أوسع ضدّ إسرائيل بوقف الأعمال العسكرية، ورغم أنّ إسرائيل لم تلتزم يومًا بالقرارات الدولية سواءً كانت ملزمةً أم لا، وهي أعلنت استمرارها في حرب الإبادة على غزة، إلّا أنّه قد يّشكل أداةً قانونية هامّة في نضال الشعب الفلسطينيّ والمتضامنين معه ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ في ميادين عدّة، أبرزها:
– مجلس الأمن:
على الرغم من كون قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة بموجب مـيثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة، إلا أنّ غياب ذراع تنفيذيّة لها يُبقي أمر إنفاذها على مجلس الأمن الذي يبقى عليه تقرير إنفاذها بواسطة أدواته الزجرية كفرض العقوبات واستخدام القوة. وسينعقد المجلس مساء الأربعاء في 31/1/2024 بطلب من الجزائر بغية إعطاء قوة إلزامية لقرار محكمة العدل الدولية في ما يخص الإجراءات المؤقتة المفروضة على الاحتلال الإسرائيلي، حسبما قالت الخارجية الجزائرية.
– الجمعية العامة للأمم المتحدة:
في حال امتناع مجلس الأمن عن اتخاذ تدابير لإنفاذ قرار المحكمة (كاستخدام الولايات المتحدّة الأميركية لحق النقض الفيتو)، يكون بوسع الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 (د-5) “متحدون من أجل السلام”، اتخاذ تدابير بحقّ إسرائيل كمنعها من المشاركة في أنشطة الأمم المتحدة، كما سبق أن حصل مع نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا.
– ملاحقة الدول والجهات الداعمة لإسرائيل بتهمة المشاركة في جريمة الإبادة:
من المعروف أنّ اتفاقية الإبادة لا تعاقب على فعل ارتكاب الإبادة فحسب، بل على التواطؤ والمشاركة والتآمر على ارتكابها، ما يجعل أية دولة تعرقل إنفاذ هذا القرار في موقع اتهام بالمشاركة والتواطؤ في ارتكاب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني. وقد يتّخذ ذلك أشكالًا عديدة مثل استخدام الفيتو لعرقلة تنفيذ مجلس الأمن لوقف إطلاق النار أو تقييد العمليات العسكرية، أو الدعم العسكريّ والمالي لإسرائيل. وهو ما قد يعرّض دول مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميركية وقادتها للملاحقة القضائية الدولية والوطنية، وقد بدأت بالفعل جلسات محاكمة الرئيس الأميركي جو بايدن ووزيري الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن أمام محكمة فيدرالية في كاليفورنيا بتهمة التواطؤ في جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة في الدعوى التي أقامها مركز الحقوق الدستورية بالولايات المتحدة وعدداً من الفلسطينيين والمنظمات الحقوقية.
وهنا أيضًا يقتضي البحث في مدى إمكانية ملاحقة الشركات والمؤسسات الداعمة للكيان الصهيونيّ وسرديّاته، وخصوصًا المؤسّسات الإعلامية الكبرى ومنصّات التواصل الاجتماعي التي ساهمت بشكل أو بآخر في الإبادة من خلال التضليل الذي تمارسه من جهة والقمع الذي تفرضه من جهة أخرى.
– تعزيز موقف حركة التضامن مع فلسطين حول العالم:
يمنح قرار المحكمة شرعية دولية للخطاب العام الذي يصف الحرب على غزّة بالإبادة المحتملة. وقد يكون القرار بوصفه صكًّا قانونيًا دوليًا، أداة فعالةً في مواجهة التدابير التي فرضتها الدول، بخاصة الغربية منها مثل فرنسا وألمانيا، والجامعات، لقمع حركة التضامن مع فلسطين وتقييدها ومنعها من استخدام مفهوم “الإبادة” لوصف أعمال إسرائيل في غزّة. كما يمكن استخدامه من قبل حركة المقاطعة باعتبار أن الصهيونية ليست حركة عنصرية فحسب، بل حركة إبادة جماعية.
– المحكمة الجنائية الدولية:
هذا القرار يُشكّل مضبطة اتهام بحق المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية كريم خان الذي بات واضحًا أنّه، في أحسن الأحوال، تقاعس عن أداء دوره في وقف الإبادة وإنذار المسؤولين الإسرائيليين الذين يسرحون ويمرحون مرتكبين أفظع الجرائم بحقّ الفلسطينيين. وبالإضافة إلى تبرير الشك في نزاهة خان، يفرض عليه القرار بأن يشمل تحقيقه المفتوح بشأن فلسطين جرائم الإبادة، إلى جانب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية.
في الخلاصة، من الواضح أن تنفيذ قرار المحكمة يتطلب جهودًا سياسية وشعبية لمواجهة ما أصبح يسمّى بـ “محور الإبادة”. إذ لا يُتوقّع من الدولة التي قال ممثلها السابق لدى الأمم المتحدة أبا إيبان (وهو – للمفارقة – من أصول جنوب أفريقيّة): “القانون الدولي هو القانون الذي لا يطيعه الأشرار ولا يفرضه الأبرار”[1] أن تنصاع اليوم إلى حكم القانون.
[1] Law Among Nations: An Introduction to Public International Law, Gerhard von Glahn, University of Minnesota – Duluth; James Larry Taulbee, Emory University.) page 5