“تطهير الإدارة”: توظيف الفساد لترسيخ الاستبداد


2024-04-19    |   

“تطهير الإدارة”: توظيف الفساد لترسيخ الاستبداد
رسم عثمان سلمي

منذ صيف 2023، أصبح شعار “تطهير الإدارة” عنصرا قارّا في الخطاب الرئاسيّ. وضَع الرئيس قيس سعيّد المسألة على رأس سلّم أولويات حكومة الحشاني، فجاءت الترجمة القانونية في بداية الخريف، عبر الأمر عدد 591 لسنة 2023 المتعلّق بإجراء “تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج بكلّ الهياكل العموميّة من 14 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021”. نظريا، يتعلّق التدقيق بالتثبّت من مدى احترام الشروط القانونية في عمليات الإدماج والانتداب، وبالأخصّ شرط الشهادة العلمية، بعد أن تلقّف الرئيس حديث أحد “الخبراء الاقتصاديّين” المتكرّر عن حصول “120 ألف انتداب بشهائد مزوّرة”، من دون أن يستند الرقم إلى أيّ مصدر رسمي أو دراسة جدّية. لم تقدّم، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، لجنة القيادة تقريرها الختامي إلى الرئيس، على الرغم من انتهاء الآجال الموضوعة لها بعد تمديدها استثنائيا بشهريْن بأمرٍ رئاسي (20 فيفري للجان التدقيق، مع شهر إضافي للجنة القيادة لتقديم التقرير الختامي). لكنّ ذلك لم يمنع سعيّد، في الأثناء، من الترويج لما “كشفتْ عنه” بعض أعمال التدقيق في بعض المؤسسات، خدمة لسرديّته السياسيّة. كما ترافَقَ ذلك مع تواتر الزيارات الفجائية للرئيس إلى مقرات إدارات أو مؤسّسات عمومية، أو مواقع لمشاريع أو مخازن تابعة لها، ليُحاسب المسؤولين أمام الملأ على تقصيرهم المفترض، من دون أيّ إمكانية لهم للدفاع عن أنفسهم، في فيديوهات مطوّلة تبثّ على صفحات رئاسة الجمهورية والتلفزة “الوطنية”.

يبدو إذًا أنّ الأهداف السياسيّة من وراء هذا المشروع لا تتعلّق أساسًا بالسيطرة على جهاز الدولة كما في تجارب مقارنة، بقدر ما تتمثّل في استهلاكها السياسي السابق واللاحق في سنة مصيريّة لاستمرار النظام، تسمح له بتغطية وتبرير عجزه عن الاستجابة لأبسط حاجيّات الناس وعن إحداث أيّ تغيير إيجابي في أوضاعهم، وتوجيه رسائل مختلفة إلى الفئات التي التقتْ مصالحها وهواجسها وانتظاراتها مع 25 جويلية 2021، ثمّ بدأت مساندتها تتفكّك تدريجيّا. كلّ هذه الاعتبارات تجعل “تطهير الإدارة” مثالا مهمّا يمكن من خلاله ليس فقط قراءة استراتيجيات “الحرب” المزعومة على الفساد وأساليب توظيفها لترسيخ الاستبداد الناشئ، وإنّما أيضا محاولة فهم خصائص حُكم فرديّ يقوم على سرديّة المؤامرة، ويسعى في الوقت ذاته لاحتكار السلطة والانفصال عن الدولة.

السيطرة على جهاز الدولة: الهاجس الغائب الحاضر

ليس مصطلح “التطهير” غريبًا عن وضعيات الانتقال السياسي من نظام إلى آخر. إذ يعني في العادة “إقصاء طاقم عمل سياسي متورّط مع النظام السابق”. سواء مع ظهور المصطلح في السنوات الأولى للثورة الفرنسية، أو في التجارب التاريخية الأخرى كألمانيا ما بعد النازية، وفرنسا بعد فيشي، وسياسة اجتثاث البعث في العراق، ومؤخرا في مصر بعد انقلاب السيسي. ولطالما كان الهدف الأساسي منه إقصاءً جماعيّا للون سياسي من جهاز الإدارة، واستبدال النخبة الإدارية للدولة بنخبة جديدة، لضمان ولائها[1]. لم يحصل، إبان ثورة 2011، تطهير سياسيّ للنخبة الإدارية التي قام عليها النظام القديم، على الرغم من تكرّر حالات طرد “شعبيّ” لمسؤولين في إدارات ومؤسسات عمومية، ومن خيار الإقصاء السياسي لقيادات التجمّع المنحلّ في الانتخابات التأسيسيّة[2].

أمّا مشروع “تطهير الإدارة” في جمهوريّة الفرد، فلم يحمِلْ عنوانا سياسيّا أو حزبيّا مباشرا، باستثناء مجاله الزمني المحدّد بعشريّة الانتقال الديمقراطي، أي الفترة الفاصلة بين رحيل بن علي وانقلاب سعيّد. فعلى الرغم من تزامنِه مع سياق تصفية سياسيّة للمعارضات على اختلاف مشاربها، مع تركيز خاصّ على حركة النهضة التي يقبع العشرات من قياديّيها في السجون بتهمٍ مختلفة، لم يُدرج “الانتماء” السياسي كمعيار، بل كان عنوان “التطهير” هو “الفساد” في الانتدابات، أي عدم احترامها للشروط القانونيّة. لم يمنَع ذلك الرئيس، على مستوى الخطاب، من إسباغ الطابع السياسيّ على شبهات الانتداب غير القانوني، وربطها بأجندات الأحزاب الحاكمة للتمكّن من الدولة. ولكنّ النتيجة العملية لعمليات التدقيق، المعهودة إلى مراقبي ومُتفقّدي الدولة، يصعب أن تَخرج عن المعايير القانونيّة الموضوعة لتتحوّل إلى “مكارثيّة” تلاحق الموظّفين بناءً على قناعاتِهم السياسيّة. كما أنّ عدم قانونيّة عمليات الإدماج والانتداب تستهدف بالأخصّ الرّتب السفلى في السلّم الوظيفي، بما يضعف كثيرا فرضيّة توظيفه لاستبدال النخبة الإدارية الموجودة بغاية إحكام السيطرة على جهاز الدولة، مثلما حصل في تجارب “تراجع ديمقراطي” مقارنة[3].

قد يُفسَّرُ ذلك بعجز النظام الجديد عن إنتاج نُخبه الحاكمة، في ظلّ افتقاره لجهاز حزبي أو خزّان يمكن استغلاله في التعيينات، والبارانويا المهيمنة التي تُعطّل لأشهر سدّ الشغورات في الخطط المهمّة. لكنّ هاجس استبدال القيادة الإداريّة بأخرى “مضمونة الولاء” ليس غائبا عن نظام سعيّد، بل يظهر في أدوات قانونيّة أخرى، أبرزها الأمر عدد 592 لسنة 2023 الذي صدر بالتزامن مع أمر التدقيق في الانتدابات الذي سبق وأن علّقنا عليه، والذي نقّح الأمر المتعلّق بضبط نظام إسناد الخطط الوظيفية بالإدارة المركزية والإعفاء منها، بإلغائه أحكام الفصل التاسع التي كانت توفّر حماية إجرائيّة دنيا لأصحاب الخطط المركزيّة في الوزارات، بما يُتيح إعفاءهم من خططهم من دون أيّ حاجة إلى أيّ تبرير أو مواجهة.

عدم قانونيّة عمليات الإدماج والانتداب تستهدف بالأخصّ الرتب الأسفل في السلّم الوظيفي

الانتقال الديمقراطي مرادفا للفساد

أوّل الأهداف السياسيّة من مشروع التدقيق في الانتدابات، هو مزيد وصم فترة الانتقال الديمقراطي بالفساد، ومزيد شيطنة النخب السياسيّة التي شاركتْ فيها، وترسيخ سرديّة الرئيس سعيّد حول تقاسم الغنيمة وإفراغ خزائن الدولة وتوزيع الامتيازات. يظهر ذلك بالخصوص في تحديد المجال الزمني المعني بالتدقيق بعشرية الانتقال الديمقراطي، وكأنّ الانتدابات غير القانونيّة وشبهات تزوير الشهادات لم تكن تحصل قبل رحيل بن علي، وانتهت في 25 جويلية 2021. وهي مقاربة تتناقض مع الخيار الذي تمّ اعتماده في القانون المنظّم للعدالة الانتقالية، والذي شمل الانتهاكات بين جويلية 1955 إلى غاية صدور القانون (ديسمبر 2013)، ما سَمحَ بتناول أحداث الرشّ بسليانة في 2012 مثلا. بل وتتناقض مع المجال الزمني لمرسوم الصّلح الجزائيّ، الذي يشمل الجرائم المرتكبة قبل 2011، وصولا إلى تاريخ نشر المرسوم في مارس 2022. لا يبدو إذًا تحديد المدّة مبرّرا بهاجس تخفيف عبء التدقيق على اللجان، بقدر ما يعكس رغبةً في مزيد تكريس الربط بين الانتقال الديمقراطي والفساد، وتحميل الحكومات المتعاقبة خلالها مسؤوليّة الصعوبات الاقتصاديّة الحاليّة بسبب “الترِكة” الموروثة، ومن أثقل عناصرها الانتدابات في الوظيفة العمومية وكلفتها على التوازنات الماليّة للدولة. هو المنطق ذاته الذي دفَعَ سعيّد في 2022 إلى طلب التدقيق في القروض والهبات المتحصّل عليها منذ 2011، والتي لم تُنشر نتائجها لأنّها أفضت على الرغم مما رصدته من إخلالات[4]، إلى إسقاط سرديّته حول اختلاس الأموال، وأظهرت تواصل الإخلالات الهيكليّة ذاتها بعد انفراده بالسلطة.

يبقَى أنّ الانتدابات غير القانونيّة وتزوير الشهادات العلميّة، بقطع النظر عن عدم شرعيّتها وضرورة محاسبتها، هي من صنف الفساد الصغير، وليس الفساد “المؤسّسي” أو “النسقي”[5]، مهما حاول الرئيس الإيهام بالعكس. وهو ما يطرح إشكالا على الأقلّ من جانبيْن: الأوّل هو اللامساواة بين بارونات الفساد الكبير، الذين يُمكن أن يُفلتوا من المحاسبة القضائيّة بمجرّد تمويلهم المشاريع السياسيّة للرئيس عبر مسار الصلح الجزائي، وبين موظفين ربما وقع انتدابهم أو إدماجهم بطرق ملتوية، ومنهم من كانت تستغلّه الدولة وفق آليات التشغيل الهشّ، الذين سيخضعون للعقاب الإداري (سحب الانتداب أو الإدماج) والمتابعة الجزائية. أمّا الإشكال الثاني، فهو توجيه موارد وجهد الهياكل الرقابيّة للدولة طيلة أشهر للتدقيق “البسيط” في الانتدابات، على حساب ملفّات أخطر وأعقد، وعلى حساب جهود تفكيك “الفساد الكبير”، فيما يمكن اعتباره سوء تصرّف في الموارد العموميّة وتوظيفًا لموارد الدولة خدمة لأجندة سياسويّة للرئيس.

يصعب أن يتحوّل التدقيق إلى “مكارثيّة” تلاحق الموظفين بناءً على قناعاتهم السياسيّة

مُحتكر للسلطة، مُنفصل عن الدولة

مشروع “تطهير الإدارة”، بغضّ النظر عن المآلات العمليّة للتدقيق، هي أيضا أداة خطابيّة فعّالة للنظام كي يتبرّأ من الحصيلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بعد قرابة ثلاث سنوات من احتكار السلطة. فالرئيس ليس مستعدّا لترك جبّة “المعارض”، الذي ينتقد السياسات العموميّة وخيارات الحكومة ويعدُ ببدائل لها، وكأنّه خارج عنها. هو الحاكم الأوحد والمعارض الأول، الذي يريد كلّ السلطة من دون تحمّل أيّ مسؤوليّة. وإذا كانت “النوايا الطيّبة” للرئيس لا تجد ترجمة من أجهزة الدولة، بل تواجه تعطيلا ممنهجا منها، فذلك لأنّ “الفساد ينخرها”، أو لأنّها مرتبطة بأحزاب اخترقتها وتمكّنت منها. إذ فقدتْ سرديّة “المحتكرين” و”مسالك التجويع” نجاعتها بعد مضيّ سنتين من إصدار مرسوم مقاومة الاحتكار، زادت خلالها أزمة المواد الأساسيّة اشتعالا. كما لم يعدْ ممكنا تحميل الأحزاب المعارضة مباشرة مسؤوليّة “تأجيج الأوضاع الاجتماعيّة”، على غرار الدعاية التي أعقبتْ مباشرة حملة الإيقافات السياسيّة في فيفري 2023. فقياداتها في السجون، ومقرات بعضها مغلقة، واجتماعاتها ممنوعة بعنوان حالة الطوارئ. وضع “تطهير الإدارة” على طاولة الأولويات، يسمح في الوقت ذاته بالترويج لصورة الدولة العميقة، التي تشتغل ضدّ توجّهات الرئيس، وبالإيهام بأنّ المعارضين لا يزالون يتآمرون من داخل السجون عبر أذرعهم داخل الدولة. كما يمثّل رسالة لمن ساندوا الرئيس، في الداخل كما في الخارج، بناء على برنامج استئصالي ضدّ حركة النهضة، بأنّ المهمّة لم تنته بعد، وأنّها لا تزال بصدد الإنجاز. وليس مستبعدًا أن تكون أيضا رسالة لفئات معيّنة، ينفّرها خطاب الرئيس المعارض لاتفاق مع صندوق النقد الدولي (بعد أن شرع في تطبيق شروطه) والخطوط الحمر التي وضعها في علاقة بالخوصصة وبرفع الدعم، بأنّه قادر على ما كان يبدو أصعب، وهو التقليص من كتلة الأجور، عبر إلغاء آلاف الانتدابات “غير القانونيّة”. “تطهير الإدارة” يبدو إذًا تعبيرا على هاجس نظام يفتقر لدعائم الاستدامة، تَشكّل عبر تحالف ظرفي بين متناقضات يصعب الجمع معها. ولكنّه أيضا نموذج على الأوراق التي يحتفظ بها الرئيس للتملّص من مسؤوليّة الحُكم، بقدر من النجاعة يصعب إنكاره، وعلى عجز المعارضات عن فضح زيْف شعارات الرئيس وسرديّته المؤامراتيّة وانحصار عملها السياسي في مربّع التضامن الحقوقي (على ضرورته). هي تعبير عن نظام عاجز عن الإنجاز، لا يزال يستمدّ مشروعيّته من شيطنة التجربة الديمقراطيّة الهشّة التي انقلب عليها، ومن معارك دونكيشوتية لا تُسمن ولا تغني من جوع.

تزوير الشهادات للانتداب هو من أشكال الفساد الصغير، وليس الفساد “المؤسّسي”

نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لقراءة الملف بصيغة PDF


[1] Martial Mathieu, Épuration, in Nicolas Kada, Martial Mathieu, Dictionnaire d’Administration publique, Presses universitaires de Grenoble, 2014.

[2] Gobe, Eric, L’impossible politique d’épuration, in Amin Allal & Vincent Geisser (dir.), Tunisie: Une démocratisation au-dessus de tout soupçon?, Nirvana, 2019, p. 155 et s.

[3] Bauer, Michael W., Becker, Stefan, Democratic Backsliding, populism, and public administration, Perspectives on Public Management and Governance, 2020, 19-31, German University of Administrative Sciences Speyer.

[4] للوقوف أكثر حول هذه المسألة، انظر مقال: سمية المعمري. تقرير جرد وضبط القروض والهبات في تونس، فساد أم أزمة هيكلة للدولة. منشور بموقع المفكرة القانونية. 27 ملرس 2024.

[5] عدنان نويرة، سياسات مكافحة الفساد في إطار العدالة الانتقالية في تونس، في مهدي مبروك (تحرير)، العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص. 159.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني