النساء في تونس: حصيلة سنتين من الحقوق الضائعة


2023-06-08    |   

النساء في تونس: حصيلة سنتين من الحقوق الضائعة
رسم عثمان سلمي

بتاريخ 29 سبتمبر 2021، وبعد حوالي شهريْن من تجميد عمل البرلمان وجمع كل السلطات بيده، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد، عن تعيين نجلاء بودن في منصب رئاسة الحكومة، لتكون بذلك أول امرأة تونسية وعربية تصل لهذا المنصب. هذا الحدث، أحدث من لحظته الأولى انقساما في الرأي العام، بين من بارك هذه الخطوة، واعتبرها مكسبا جديدا ينضاف لمكاسب المرأة التونسية وخطوة أخرى في سلم المساواة، في مقابل شق آخر اعتبرها حركة تكتيكية بالأساس، سعى من خلالها الرئيس لتمرير حكومته المشكلة من طرفه وحده وفي ظرف استثنائي للغاية، وإرسال رسائل إيجابية من خلالها للأطراف الخارجية، أو لجزء من النخب الداخلية. وبقطع النظر عن كل ذلك، فإن هذه الصورة الكبيرة لم تنجح في حجب حقيقة التراجع الكبير لدور المرأة في المشهد العام وعلى جميع الأصعدة، منذ إجهاض جملة المبادرات التشريعية لاستكمال مسار المساواة في الحقوق المدنية والاقتصادية منذ 2019، والتصاعد الدموي للعنف المسلط على النساء بشتى أصنافه. بل إن الحضور الصامت والدور المحدود لرئيسة الحكومة سرعان ما عزّز ومنذ الأشهر الأولى مباشرتها مهامها، هذه الصورة السلبية والنمطيّة التي تتوارى فيها النساء أكثر فأكثر.

التناصف: المكسب الهش

مثل “التناصف” أحد أبرز مكاسب العشرية الماضية، وهو مكسب حُقق مبكرا ودون كثير عناء “ظاهريا” وذلك ضمن أعمال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. وهذه الهيئة المعروفة اصطلاحا بهيئة بن عاشور، نسبة لرئيسها عياض بن عاشور، هي هيكل شبه تشريعي استثنائي تم إحداثه في فيفري 2011 وذلك بهدف التحضير للانتقال الديمقراطي الذي تلا ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011[1]. وقد كان من أبرز مخرجات أعمالها إحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ووضع المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. والذي نصّ في فصله السادس عشر على أن: “تقدّم الترشّحات على أساس مبدأ التناصف بين النساء والرجال. ويتمّ ترتيب المترشحين صلب القائمات على أساس التناوب بين النساء والرجال. ولا تقبل القائمة التي لا تحترم هذا المبدأ إلا في حدود ما يحتّمه العدد الفردي للمقاعد المخصّصة لبعض الدوائر”. وبالرغم من تعدد المواقف السياسية من التناصف بين اعتباره حقا ووسيلة لتحقيق المساواة أو الاختباء وراء عبارة “التمييز الإيجابي” وذلك للتملص من التعبير صراحة على موقفها من المساواة[2]، إلا أنه استمرّ بحكم القانون وتم تكريسه في الفصل 46 من دستور 2014 وفي القانون الانتخابي لنفس السنة، وعُمل بها على أرض الواقع في عدة مناسبات انتخابية.

وبالرغم من تباين النتائج العملية والتطبيقية لمبدأ التناصف، لعدة أسباب سياسية واجتماعية وثقافية[3]، إلا أنّ التكريس القانوني ضمن حدّا أدنى في حضور النساء في تمثيلية المؤسسات السيادية، بالرغم من بعض الهنات وأبرزها اقتصار التناصف على المستوى العمودي، وعدم إقرار التناصف الأفقي على مستوى رئاسة القائمات في الانتخابات التشريعيّة، بما حال دون تجاوز نسبة الثلث تقريبا في تمثيليّة النساء داخل البرلمان. لكنّ الانتخابات البلديّة لسنة 2018 كانت مناسبة لتجربة التناصف الأفقي، وهو ما سمح بوصول عدد من النساء إلى رئاسة البلديات، بما أنّ القانون حصر الحقّ في الترشح لها في رؤساء القائمات. وبالرغم من المردود الإيجابي إجمالا للتناصف، لم يتواصل العمل به ضمن منظومة 25 جويلية. إذ بالرغم من تضمن “دستور 2022” على تنصيص يقرّ بضمان تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة (الفصل 39)، ومن ثم التأكيد على مبدأ التناصف (الفصل 51)، إلاّ أنّ تنقيح القانون الانتخابي في 15 سبتمبر من نفس السنة، جاء بنقيض ذلك، عبر حذف هذا الاشتراط، وبالتالي إفراغ الفصل 51 من كل قيمة عملية. وهو خيار لا يعدّ مستغربا ضمن السياق العام لمشروع البناء القاعدي الذي تتبناه السلطة، والتي تضع مثل هذا الصنف من الاشتراطات (التناصف، المساواة في الاقتراع…) ضمن الحواجز التي تحول بين الشعب وبين ممارسته للسلطة بشكل مباشر، وبالتالي ضرورة تجاوز كل أشكال المساواة “الشكلية” نحو “المساواة الفعلية” على أساس العدل والإنصاف. وبقطع النظر عن هذا الطرح المثالي في عباراته، إلا أنه لم ينجح في الواقع سوى في مزيد تكريس ممارسات تمييزية تقليدية[4].

وقد مثلت الانتخابات التشريعية نهاية 2022، مثالا واضحا لتراجع حضور المرأة، انطلاقا من فلسفة الاقتراع على الأفراد نفسها، ذلك أن غياب القائمات أو الأحزاب وهي هياكل وسيطة تسمح بمنح فضاء أيسر لولوج النساء للعمل السياسي، وتعويضها بالانتخاب على الأفراد مباشرة لا يمنح هذه الفرصة إلا للوجاهات ذات الخلفية القبلية أو المالية أو الزبونية، وهي مواصفات لا تتوفر نسبيا إلاّ في الرجال خصوصا على المستوى المحلي. أما شرط الترشح الأولي، أي جمع 400 تزكية ضمن دائرة الاقتراع، وهو شرط شبه تعجيزي بدوره فقد زاد من تعقيد العملية. ورغم التنديد المسبق والذي استشرف أن هذا النظام الانتخابي لن يؤدي إلاّ إلى إقصاء النساء وإضعاف حضورهنّ ضمن سياق مجتمع “تزيح ثقافته الذكورية النساء من الفضاء العام وتحوّلهن إلى مواطنات من درجة ثانية”. إلاّ أنّ السلطة ذهبت للعمل بهذا النظام، وكانت نتيجته أنّ عدد النساء اللواتي تمكنّ من الترشح لم يتجاوز 122 مترشحة، في حين بلغت أعداد المترشحين من الرجال 936 مترشحا، وفقا لما صرحت به الهيئة مطلع نوفمبر الماضي.

وفي خضم سباق انتخابي حكمته القبلية والنفوذ الشخصي والمالي عوضا عن البرامج الجدّية، كانت النتيجة النهائية متوقعة: مزيد من التراجع وبرلمان رجالي بامتياز. إذ لم تنجح في النهاية سوى 25 امرأة في دخول البرلمان أي بنسبة 16.2%. وهي النسبة الأضعف لا فقط مقارنة بكل البرلمانات والمجالس بعد الثورة، بل حتى مقارنة بآخر برلمانات بن علي قبل 2011[5]. وهكذا ومع أول موعد انتخابي، أخلت المنظومة القائمة بأول وعودها المبذولة للنساء، ألا وهي تحقيق المساواة السياسية “الحقة” والعادلة.

التغييب كثقافة جماعية

لا يبدو أنّ تراجع حضور المرأة في الفضاء العام كان مقتصرا على مؤسسات السلطة. بل تكمن المفارقة في تطبيع جماعيّ شمل حتى معارضي السلطة المعلنين، وغيرها من الهياكل الوسيطة مع هذه الممارسة. وقد يبدو، في الوهلة الأولى أنّ هذا الحكم متسرّع، غير أنّ معاينة عجلة لأغلب الهياكل الجديدة للمنظمات والجمعيات أو الأحزاب التي وقع انتخابها إثر 25 جويلية 2021، تؤكد هذا المعطى. وفي الأسطر الموالية سنتعرض لثلاثة أمثلة متنوعة، تشمل منظمة حقوقية وحزبًا سياسيّا وجمعية مهنية.

ففي الفاتح من شهر ماي الحالي، اختتم التيار الديمقراطي أشغال مؤتمره الثالث، وهو الحزب الذي يعتبر من أبرز القوى المعارضة لسعيّد ونظام حكمه. ورغم ما تتميز به هذه الفترة من تجريم للمعارضة وإغلاق للحياة السياسيّة، تمكن التيار من عقد مؤتمره وتجديد هياكله، ليقع انتخاب أمين عام جديد له إضافة لعشرين عضوا من أعضاء المكتب السياسي. وهي تشكيلة، لم يخف الأمين العام الجديد للحزب افتخاره بها خاصّة لما تضمنته من تمثيلية “محترمة” للنساء على حدّ تعبيره[6]. إلا أن هذه التمثيلية على أرض الواقع لم تتجاوز 6 نساء من أصل 21 منتخبا، ناهيك عن كون الأمانة العامة رغم تداول 3 أسماء عليها لم تكن يوما من نصيب عنصر نسائي من عناصر الحزب. وهو واقع يشترك فيه مع التيار جلّ الأحزاب والحركات السياسية على اختلاف مشاربها، بنسب متفاوتة.

وقبل مؤتمر التيار الديمقراطي بيومين، أي في 29 أفريل، اختتمت الجمعية التونسية للمحامين الشبان أشغال مؤتمرها والذي أفرز بدوره عن انتخاب مكتب تنفيذي جديد للجمعية. وهذه الجمعية والتي وإن لم يكن لها بالضرورة نشاط سياسي مباشر، إلا أنها حافظت على حضورها في علاقة بالشأن العام، خاصة على الصعيد القضائي والحقوقي وحتى في علاقة مع الأحداث السياسية الكبرى. وقد شقّها في الفترة الماضية انقسام كبير في المواقف بين رئيسها وأغلبيّة مكتبها التنفيذي في علاقة بالموقف من السلطة وانتهاكاتها للحقوق والحريات. المهمّ هنا أن المكتب التنفيذي الجديد والمتكوّن من تسعة أعضاء: رئيس وثمانية آخرون، جاء بلون جندري واحد، إذ غاب كليا حضور النساء فيه، مقارنة بالمكتب السابق والذي ضمّ محاميتين فشلتا في الالتحاق بالمكتب الحالي.

أما المثال الأخير فيتعلق، بانتخاب جرى في فترة أبكر، أي في شهر نوفمبر الماضي. وتعلق بانتخاب الهيئة المديرة الجديدة لواحدة من أهم وأعرق المنظمات الحقوقية في تونس، ألا وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والتي ستدخل في تصعيد مع السلطة في الفترة الموالية[7]. وقد تركبت الهيئة المديرة الجديدة للرابطة من 15 عضوا من بينهم 4 نساء فقط. وما نستخلصه من هذه الأمثلة جميعا، هو ضعف وتراجع تمثيلية النساء، مقارنة حتى بتاريخ بعض هذه المنظمات. وذلك ضمن سياق عام يبدو أن الجزء الأكبر من فاعليه، سلطة أو أجساما وسيطة معارضة لها، تتشارك جميعا في تهميش هذه المسألة، أو على الأقل اعتبارها ثانوية مقارنة برهانات اللحظة.

مكاسب النساء وخطر التفريط فيها

من الغريب أن نتحدث عن حماية المكاسب، عوض الحديث عن المطالب غير المحققة ومظاهر اللامساواة التي ننشد تجاوزها. إلاّ أن التناصف كما سبق وتحدثنا، يمنحنا مثالا واضحا على هشاشة ما قد نظنه مكسبا راسخا، إذ بالرغم من دسترته والعمل به في أكثر مناسبة انتخابية، فإنّ جرة قلم كانت كافية لنسف حقّ ومسار كامل. وما يزيد الأمر خطورة هو أنّ هذه الهشاشة قد لا تقتصر على الحقوق السياسية بل من الممكن أن تشمل غيرها وعلى أكثر من صعيد، انطلاقا من التصاعد الرهيب في نسق جرائم قتل النساء منذ مطلع سنة 2023. وهذا التصاعد إنما يطرح التساؤل حول مدى نجاعة تطبيق القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة والذي كان -بالرغم من هناته- أحد أبرز إنجازات العشرية الماضية على الصعيد التشريعي[8]. وعلى صعيد الحقوق المدنية، لا يبدو أن رفع تحجير زواج المسلمة من غير المسلم سنة 2018، قد تم بشكل كلي وشامل، أمام مواصلة عدد من البلديات وعدول الإشهاد العمل بذلك التحجير، ناهيك عن التخلي عن مشروعيْ مجلة الحريات الفردية وقانون المساواة في الميراث.

صحيح أنّ أغلب النماذج السابقة، تتعلق بمسائل وخيارات تم اتخاذها في العشرية السابقة للمرحلة الحالية، وبالتالي فإنّ القطع معها يمكن أن يكون متوقعا في إطار سردية تزعم القطع مع “عشرية الخراب” ومخرجاتها التي لا تعكس صورة حقيقية للمساواة و”العدالة” بين الجنسين. ولكن التساؤل يطرح كذلك حول تمثل السلطة وموقفها من مكتسبات تعود لفترة أقدم، وأصبحت اليوم من صميم بنية المجتمع التونسي، خاصة تلك المضمنة في مجلة الأحوال الشخصية والنصوص المكملة لها. والإجابة على مثل هذا السؤال تتطلب بدايةً التذكير بأن محرّك هذه المنظومة، أي الرئيس قيس سعيد، هو بالأساس رجل ذو خلفية قانونية، وبالتالي فإنه على علم بالخلاف التقليدي الذي شق شرّاح القانون التونسي حول جذور هذا الأخير وهويته.

وهذا الخلاف، يبرز بشكل جلي أساسا في علاقة بقانون الأحوال الشخصية، حيث انقسم الفقه تاريخيا بين شقين، يتبنى الأول طرحا مفاده أن القانون التونسي الحديث لم يخرج عن الأطر العامة للفقه الإسلامي في هذه المادة، بل حتى تلك الأحكام التي تظهر مخالفة للفقه كمنع تعدد الزوجات أو الطلاق القضائي ليست في النهاية سوى قراءة تجديدية وعصرية للفقه ونصوصه. وفي مقابل هذا، نجد شقا آخر سعى للدفاع على علمانية هذه المادة وتبني قراءة حداثية لها. وبين هذين الطرفين، ظهرت أصوات أخرى أقل حدة سعت للتنسيب بين الموقفين[9]. وما يهمّ هنا هو أنّ الرئيس الحالي، وبصفته وقتها كأستاذ قانون، كان محيطا بهذا النقاش، بل وشارك فيه في مرحلة لاحقة. إذ نجدُ وثيقة ضمّن فيها سعيد مواقفه في المسألة، في زمن وسياق مختلفين أشد الاختلاف عن السياق الحالي. ونحن هنا نتحدث عن مقاله الذي نشر يوم 13 أوت 2002 بجريدة الصباح، تحت عنوان “الدستور والأحوال الشخصية”. في هذا المقال، يبدو سعيّد واعيا بإشكالية ارتباط هذه المادة بالفقه الإسلامي، في أغلب التجارب العربية المقارنة وبخاصة في التجربة التونسية. وبناء على ذلك، نجده يتبنى مقاربة أقرب للمحافظة وخاصة للطرح القائل بأن هذه المجلة في النهاية هي تجديد من داخل المنظومة الفقهية، لا من خارجها. فقد انتقد سعيّد حينها الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الابتدائية بتونس في 18 ماي 2000 والذي اعتمد، بناء على الدستور والمواثيق الدولية، تأويلاً حقوقيّا للفصل 88 من مجلة الأحوال الشخصية المتعلق بموانِع الميراث، إذ لا يضيف إليها “اختلاف الدين” استنادًا إلى الشريعة، كما كان دارجا في فقه القضاء السائد وقتها بما يؤدي إلى حرمان غير المسلم من نصيبه في تركة مورّثه المسلم. وقد لمّح قيس سعيد حينها لكون هذا الحل الذي اهتدت إليه المحكمة “قابل للنقاش” في جوهره وفحواه، بقطع النظر عن تمشي المحكمة وحججها. وهو أمر متوقع منه، ذلك أن هذه الرؤية المحافظة التي يتبناها، لا تنبني على مواقف حاسمة من مسائل الحقوق الأساسية، بقدر ما تسعى من خلال تبني منهج انتقائي في علاقة بنصوص التراث الفقهي إلى الوصول إلى نتيجة قوامها الأساسي “التلفيق” كما يشير إلى ذلك وائل حلاق[10]. وهو أمر يتأكد أكثر بالنظر للمناسبة التي جاء في سياقها هذا المقال، ألا وهي الاحتفال بـ “عيد المرأة”، ذكرى إصدار مجلة الأحوال الشخصية وفي إطار بروباغندا النظام، التي طالما استغلت هذه المناسبة وقتها، وفي إطار صراعها مع الإسلاميين، للترويج للنموذج التونسي في تحقيق الانسجام بين الحداثة والأصالة[11].

وهنا تكمن خطورة هذا الطرح، في ضبابيته وقابليته للتغيّر وإعادة التشكل. وهو ما سيظهر جليا مع مواقف سعيد بعد الثورة وخاصة منذ 2019، قبل أشهر قليلة من انتخابه رئيسا للجمهورية حين عبّر عن رفضه لمقترح تعديل مجلة الأحوال الشخصية بهدف تكريس المساواة في الميراث مؤكدا على وضوح النص القرآني في المسألة، جاعلا منه مصدرا شكليا للقانون في هذه المادة[12]. ثم أعاد التأكيد على نفس الموقف، بعد وصوله للرئاسة وذلك في أول مناسبة سنحت له في “عيد المرأة” سنة 2020، حين اعتبر أن طرح المساواة في الميراث هو في الأصل طرح “خاطئ”. وهو موقف حافظ عليه إثر 25 جويلية ضمنيا، وذلك بعد أن خفتت الأصوات المطالبة بالمساواة، وانشغلت بمسائل أخرى. وما يمنحنا سببا آخر للقلق، هو تضمين الدستور الجديد، فصلا لا يقل غموضا وضبابية، هو الفصل الخامس والذي ينص على “الدّولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدّين والحريّة”. وعبارة المقاصد هذه، المشحونة بميراث ضخم من الاختلاف حول مدلولها، قد تكون في النهاية مطية أخرى لإعادة مراجعة منظومة الأحوال الشخصية ليس فقط على الصعيد القانوني، وإنما تمنح كذلك جزءًا من القضاة فرصة جديدة لإحياء الجدل حول مسائل مثل زواج المسلمة بغير المسلم أو اختلاف الدين في الميراث[13] والحضانة أو شروط التبني وغيرها من الوضعيات التي تمس بالأساس بالنساء قبل غيرهن. وهو أمر غير مستبعد، بل قد يشجع عليه سياق عام، سمته الرئيسية هي التضييق على الحقوق والحريات بشتى أصنافها وفي كل الميادين، والخفوت المطرد لكل أصوات المناهضة والاحتجاج.

عوضا عن السعي إلى تحقيق مطالب جديدة، أمسى الحفاظ على المكتسبات ضرورة ملحة، هكذا تبدو الصورة اليوم. ومع وجود ميراث سياسي طويل من استغلال حقوق النساء كورقة سياسية ودعائية، تزداد المخاوف أكثر. ولتكون الحصيلة الوحيدة لقرابة سنتين، هي التراجع على كل الأصعدة وهواجس لا تنفك تتصاعد، خوفا على حقوق أخرى قد تضيع وانتهاكات جديدة متسارعة.


[1] للمزيد حول ظروف نشأة وأهداف وإنجازات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، أنظر:

المولدي القسومي، في مواجهة التاريخ: صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، دار محمد علي للنشر، تونس، 2021.

[2] عبر عن هذا الموقف، الصحبي عتيق عضو مجلس الهيئة عن حركة النهضة في مداخلته بتاريخ الاثنين 11 أفريل 2011، أورده: المولدي القسومي، المرجع السابق، ص430.

[3] المولدي القسومي، مرجع سابق، ص ص 430-437.

[4] مهدي العش، محمد الصحبي الخلفاوي، الرئيس يريد: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره، المفكرة القانونية، جويلية 2022، تونس، ص39.

[5] كانت نسبة حضور النساء ضمن المجلس التأسيسي سنة 2011، 22.5% وفي انطلاق أشغال برلمان 2014، كانت 33%. أما في بدايات برلمان 2019 فكانت تعادل 23%. وقبل الثورة بلغت هذه النسبة ضمن آخر مجالس نواب بن علي 27%. للمزيد، أنظر: مولدي القسومي، مرجع سابق، ص433.

[6] تصريح الأمين العام للتيار الديمقراطي نبيل الحاجي لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 1 ماي 2023.

[7] بتاريخ 27 أفريل، تمت دعوة رئيس الرابطة الحالي بسام الطريقي للمثول أمام قطب الإرهاب وذلك لسماعه على سبيل الاسترشاد.

[8] رشيدة الجلاصي، الأحكام الجزائية في القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، مؤلف جماعي تحت إشراف الأستاذة رشيدة الجلاصي بلخيرية، تونس 2019، ص15.

[9] حامد الجندلي، قانون الأحوال الشخصية التونسي وعلاقته بالشريعة الإسلامية، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس، 2011، ص. 62 وما بعدها.

[10] وائل حلاق، مدخل إلى الشريعة الإسلامية، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2017، ص. 206.

[11] محمد الحبيب الشريف، النظام العام العائلي: التشكلات، مركز النشر الجامعي، تونس 2006، ص. 22

[12] تصريحه لإذاعة شمس أف أم بتاريخ 23 مارس 2019

[13] نادر الزغل، تنازع المرجعيات في مجلة الأحوال الشخصية، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2022

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، جندر ، تحقيقات ، فئات مهمشة ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني