قتل النساء: لا تولد النساء نساء وانّما تمتن لذلك


2023-04-27    |   

قتل النساء: لا تولد النساء نساء وانّما تمتن لذلك
من مسيرة الديناميكية النسوية يوم 10 ديسمبر 2021

خلال شهر رمضان وتحديدا في بحر عشرين يوما، فجعت تونس في ثلاث نساء قُتلن على يد أزواجهن آخرهنّ في قلب العاصمة -المنزه السادس- يوم 15 أفريل 2023، طعنا بآلة حادّة. ولم تقتصر الجريمة الأخيرة على قتل الزوج زوجته إنما اقترنت أيضا بالاعتداء على صديقتها الحاضرة معهما بالمنزل. قبل ذلك بثلاثة أيام، في القيروان، قُتلت سعاد على يد زوجها خنقا. يوم 1 أفريل 2023 قتلت امرأة أخرى على يد زوجها في دوار هيشر طعنا بالسكين. خلال أقلّ من شهر انضافت النساء المذكورات إلى قائمة ضحايا جرائم تقتيل النساء اللواتي بلغ عددهنّ منذ بداية السنة تسعة.

رمضان 2021 وتحديدا قبل يومين من العيد، يطلق زوج رفقة الشارني، الذي يعمل كعون أمن، عليها خمس رصاصات في منزل والديها في مدينة الكاف، ليكتب بذلك نهاية حياتها المليئة بالعنف. عنف حاولت مقاومته عبر تقديم شكاية إلى الأمن، إلاّ أنّها أرغمت تحت ضغط العائلة والأقارب على التنازل عنها، حيث أبى محيطها أن يقضي المعتدي العيد محتفظا به. رفقة لم تكن القتيلة الأولى من قبل زوجها في تونس، الاّ أنّها تحوّلت إلى أيقونة مناهضة ظاهرة قتل النساء في تونس.

نورهان، سعاد، رحمة، نادين، وفاء، رفقة، أميرة، أسماء، عارم… والقائمة تطول. أسماء ضحايا جرائم تقتيل النساء بتونس، نتذكّرهن كلّما حصلت جريمة جديدة، من خلال نداءات استغاثة وغضب تطلقها الجمعيات والحركات النسويّة والحقوقيّة. وضع مأساوي تجابهه الدولة عادة بصمت القصور وأحيانا عبر الانكباب على “إنجاز دراسات و تنظيم ندوات، خصّصت آخرها للتباحث حول مدى جدوى وضرورة تنقيح القانون عدد 58 لسنة 2017، الذي يعدّ ثمرة نضالات طويلة للمجتمع المدني وعصارة نقاش ديمقراطي مستفيض. لئن قطع القانون مع الفلسفة التي كان يعتمدها القانون الجزائي الذي كان يبدي في السابق تفهما لعوامل العنف، فإنّ تطبيقه بقي محفوفا بعديد العقبات. إنّ إفلات مرتكبي العنف ضدّ النساء من العقاب لا يطبّع مع الظاهرة كآلية هيمنة على النساء مقبولة مجتمعيّا فحسب بل يشجّع الجناة على التمادي فيها، وصولا الى القتل[1].

اسمه قتل النساء: كي لا تتحمل النساء وزر اللغة كذلك

لماذا نتحدث عن قتل النساء أو تقتيلهنّ وليس عن جرائم قتل كغيرها؟ ما الفرق بين قتل النساء وقتل امرأة في حادث مرور؟ لماذا نتحدث عن قتل النساء وليس عن “جرائم الشرف” أو “الجرائم العاطفية”؟ لماذا تتحدث وزارة المرأة في تونس عن “قتل الزوجات” وليس عن قتل النساء؟

تتمسك النسويات في تونس بمصطلح “قتل النساء” وهو محاولة لتعريب[2] المصطلح ذي الجذور اللاتينيّة “Féminicide” أو “Femicide” والذي نجد له ترجمات عديدة على غرار “قتل النساء المتصل بنوع الجنس“، قتل النساء والفتيات ذي البعد الجنساني، أو “قتل الإناث” لتضمين فئة “الطفلات” في هذه الظاهرة، إلاّ أنّه يعتمد عموما الإشارة الى قتل امرأة لأنّها امرأة، أي على أساس جنسها.

على غرار الترجمات، لا وجود لتعريف متفق حوله عالميّا حيث يتراوح التعريف بين مفهوم موسّع يشمل القتل العمد لامرأة بغضّ النظر عن علاقتها بالجاني أو مكان وقوع الجريمة، ومفهوم أضيق وأكثر شيوعا، يقتصر على قتل امرأة لأنّها امرأة من قبل زوجها أو شريكها الحالي أو السابق.

تختلف الدراسات كذلك حول تاريخ ظهور مصطلح قتل النساء،  بين من يرجعه إلى سنة 1643 في عرض مسرحي لـ”سكارون” (Scarron)، ومن يعتمد منتصف القرن التاسع عشر من خلال مقال صحفي لجيل لوكنت (Jules Lecomte).

على مستوى البحوث الاجتماعية، ظهر المصطلح في سبعينات القرن الماضي تحت مسميات مختلفة، ومنها “قتـل الإناث” أو”القتل الممنهج للإناث”، وكــان موضــوع إصلاحات في القانون الجنائي في أمريكا اللاتينية. اعتبرت المقـرِّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بمسألة العنـف ضـد المـرأة وأسبابه وعواقبه، في شرحها للتطور المفاهيمي للمصطلح أنّه تمّ استخدام “مصطلح قتل الإناث منذ بداية القرن التاسع عشر لوصف حـالات قتـل. واقترح كبديل لمصطلح “القتل” المحايد جنسيّاً، وهو مصطلح يغفل حقـائق عـدم التكافؤ والقمع والعنف المنتظم ضد النساء. وعاد هذا المصطلح إلى الظهور في السبعينات من القرن الماضي كجزء من نضال الحركة النسويّة، وعُرف في أوّل الأمر بأنه “حالات قتل النساء على يد رجـال”، وعُرف بعد ذلك بأنـه “قتل النساء على يد رجال يكرهون النساء”. واتّسع نطاق التعريف ليتجاوز حـالات القتل بحافز كره النساء وليشمل جميع أشكال حالات القتل بدافع جنسي، بمـا في ذلـك القتل على يد رجال يحفزهم الحق المبني اجتماعياً للقيام بذلك، وتفوقهم على الإناث، والمتعة أو الرغبة السادية تجاه النساء، أو افتراض سيطرتهم على النساء”.

يختلف استخدام المصطلح حسب سياقات كل منطقة، حيث يوصف قتل النساء في بعض السياقات الأوروبية، بأنها “جـرائم الانفعال العاطفي” في حين يعتمد في جنوب آسيا مصطلح قتل الإناث ليشمل الممارسات الثقافية كوأد الإناث، ووفيات الفتيات في مرحلة ما قبل المراهقة في حين توصف بالشرق الأوسط بجرائم الشرف ويعتمد مصطلح “قتل النساء” (feminicidio) في أمريكا اللاتينية.

نتحدّث عن “قتل النساء” كي لا تتحمّل النساء وزر ظلم اللغة كذلك. في تونس، تتمسك النسويّات بمصطلح “قتل النساء” أو “تقتيل النساء” للإشارة بوضوح الى وجود علاقات بنيوية ذكوريّة تقف وراء الظاهرة وإلى أنّ قتل النساء هو الشكل الأشنع للعنف ضدّ النساء ناهيك عن كونه نتيجة له. مصطلح قتل النساء في تونس هو سحب للجريمة من معجم الحوادث المتفرّقة الى الظاهرة المجتمعيّة المتفشيّة التي يجب مناهضتها وهو شطب للجريمة من معجم “جرائم العاطفة والشرف” التي تحمّل الضحيّة وزر تقتيلها. كذلك، هو تحميل للدولة مسؤوليتها في التقصير في حماية النساء وممارستها لعنف مؤسسي ضدّ النساء من خلال تكريس ثقافة الإفلات من العقاب وضعف النفاذ إلى العدالة وسبل الانتصاف الفعّالة.

تفاقم كارثة قتل النساء: أرقام صادمة والعوامل متعدّدة

تفاعلا مع جرائم قتل النساء التي وقعت مؤخرا، قرّرت وزيرة الأسرة والمرأة “إنجاز دراسة جديدة حول ظاهرة قتل الزوجات تتناول خصائص الضحايا والقائمين بالعنف وأطفالهم”. قرار لم يكن فقط متأخرا بل جاء مغفلا دراسة سابقة حول العنف الزوجي أعدّتها الوزارة ذاتها سنة 2022 وجهود المجتمع المدني في مناهضة ظاهرة قتل النساء وتحليلها. فقد أصدر مكتب تونس لصندوق الأمم المتحدة للسكان بالشراكة مع كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس سنة 2022، دراسة حول واقع قتل النساء في تونس تمّ من خلالها تحليل الظاهرة وتقديم الأرقام المتاحة من خلال 46 حالة قتل نساء، مع تناول عواملها وخصائص الضحايا والجناة.

جاء في هذه الدراسة أنّ 68% من جرائم قتل النساء ترتكب في تونس الكبرى تعقبها مباشرة ولاية جندوبة بنسبة 11%،  كما تحصل  68% منها في المنزل، و28% منها في الشارع.

وقدّمت الدراسة “بورتريه” لضحيّة قتل النساء، فأبرزت أنّ النساء الشابات هنّ الأكثر عرضة لهذا الصنف من الجرائم. حيث أنّ 55% من الضحايا هنّ شابّات تتراوح أعمارهنّ بين 19 و40 سنة. كما أنّ 72% منهنّ متزوجات ولديهنّ أطفال وتقريبا نصفهنّ ربّات منازل. أمّا عن علاقة الجناة بالضحايا فإنّ غالبيّتهم الساحقة من العائلة (93%)، وبالأخصّ الأزواج (61%)، يليهم كلّ من الابن والحبيب وابن الأخ بنسبة 6.5% ، ثمّ الأخ (4،3%) والأب (2.7%)، الخ.

من بين عيّنة من 28 جريمة قتل للنساء ارتكبت على يد الأزواج، نجد 27 حالة كانت مسبوقة بعنف مادي ومعنوي. وهو ما يؤكّد للأسف أنّ قتل النساء هو تواصل ونتيجة لسلسلة من العنف تتعرّض لها النساء. يعني ذلك أنّ تلافيها ممكن لو تمّ التعهّد بالضحايا في الوقت المناسب وعلى الشاكلة التي يقتضيها القانون. كما يبيّن خصوصيّة قتل النساء مقارنة بجرائم القتل الأخرى حيث أنّها نتيجة علاقات اجتماعية غير متوازنة تتسم بهيمنة ذكورية مطلقة، يباركها تقصير هياكل الدولة في حماية الضحايا والتطبيع مع العنف خاصّة الأسريّ منه ويشرعنه المجتمع الذكوري من خلال تكريس متواصل للامساواة في سلطة أخذ القرار والسيطرة الاقتصاديّة الذكوريّة. يُنظر صلب هذه العلاقة للضحيّة كملكيّة للجاني. [1] وهو ما تؤكده الدراسة من خلال الإشارة الى أنّ 22% من ﺟﺮﺍﺋﻢ ﻗﺘﻞ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺮﺗﻜﺒﺔ ﻣﻦ ﻘﺒﻞ ﺍﻟﺸﺮﻳﻚ ﺍﻟﺤﻤﻴﻤﻲ ﺗﺘﻢّ ﺇﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻃﻠﺐ ﺍﻟﻄﻼﻕ ﺃﻭ ﺭﻓﻊ ﺩﻋﻮﻯ ﻗﻀﺎﺋﻴﺔ ﺃﻭ ﻃﻠﺐ ﺇﻧﻬﺎﺀ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ. ولعلّ أبلغ مثال على ذلك قضيّة وفاء السبيعي التي قتلت حرقا، في أكتوبر 2022، على يد زوجها الذي أضرم في جسدها النار وظلّ يشاهدها وهي تلفظ أنفاسها. وفاء السبيعي كانت قد تقدّمت بقضيّة طلاق ضدّ زوجها كما أبلغت السلطات بالاعتداء بالعنف الذي كانت تتعرض اليه متقدّمة بمطلب حماية لم تتم الاستجابة له.

في هذا الصدد، تتقاطع أرقام الدراسة مع ما أكّدته وزارة المرأة يوم 13 أفريل لجهة أنّ العنف الزوجي بات يمثّل أعلى نسبة من أشكال العنف الذي تعاني منه النساء. فقد تلقّى الخط الأخضر (1899)، وهو خطّ اتصال مجاني وضعه المرصد الوطني لمناهضة العنف ضدّ المرأة التابع للوزارة للإصغاء للضحايا وتوجيههنّ، 921 إشعارا بحالات عنف خلال الثلاثي الأول من سنة 2023،71% منها أي 654 من طرف الزوج، مع العلم وأنه في الثلاثي الأول من سنة 2022 بلغت إشعارات العنف الزوجي 168 أي أنّ الأرقام تضاعفت أكثر من ثلاث مرّات. كما أكّدت الوزارة تواتر حدوث حالات قتل الزوجات من قبل أزواجهنّ بمعدّل يزيد عن حالة قتل شهريّا تقريبا، حيث تم خلال 2022 تسجيل 15 جريمة قتل للزوجات مقابل 9 جرائم خلال أربعة أشهر فقط من سنة 2023.

لئن تتقاطع الأرقام في معظمها، فإنّ تحدّي تجميع أرقام رسميّة ذات موثوقية قابلة للتحليل يبقى اليوم مطروحا في قضايا قتل النساء. حيث تطالب منظمات المجتمع المدني إلى اليوم بـ “نشر الأرقام والإحصائيات الرسمية المتعلقة بجرائم قتل النساء ومطالب الحماية المسندة للنساء ضحايا العنف على موقع وزارة العدل وجمع المعطيات المتعلقة بالعنف الزوجي بشكل دقيق وواضح وضبط مؤشرات مؤسسات الدولة المتعهدة بالنساء ضحايا العنف ووضع الإمكانيات لإحصائها”.

في خصوص تعامل القضاء مع قضايا قتل النساء، تؤكّد الدراسة ذاتها أنّ القضاة يتعاملون “إيجابيا” مع هذا النوع من القضايا حيث لا يحمّلون الضحيّة وزر وفاتها ولا يبحثون عمّا إذا كانت قد ساهمت في “استفزاز” الجاني. إذ توجّه في العادة تهمة قتل النفس عمدا مع سابقيّة القصد. حيث أنّه من جملة 9 أحكام ابتدائية صادرة عن المحاكم التونسية في حالات قتل للنساء رصدتها الدراسة، وجهت دائرة الاتهام تهمة القتل العمد لثمانية جناة على معنى الفصول 201 و202 من المجلّة الجزائية في حين وجهت تهمة الضرب من دون قصد القتل والمترتب عنه القتل على معنى الفصل 205 في قضيّة واحدة.

وتراوحت الأحكام الابتدائية الصادرة في حقّ الجناة بين السجن لمدّة 20 سنة والسجن مدى الحياة والإعدام. وهو ما يؤكّد أنّ القضاء عادة ما يسلّط أقصى العقوبات البدنيّة في حالات قتل النساء.

العنف”الزوجي” مقدّمة لقتل النساء: مؤسسات الدولة في قفص الاتهام

“حـالات القتل المتصلة بنوع الجنس ليست (…) أحداثاً معزولة تنشأ فجأة وبغتة، ولكنها تمثل أقصى فعل من أفعال العنف الذي يتم التعرض لـه في سلـسلة مستمرة من العنف. فالنساء اللائي يتعرضن للعنف المستمر ويعشن في ظروف التمييـز والتهديد القائمين على نوع الجنس ينتظرن دائماً “الإعدام ويخشين دائماً تنفيذه”[3].

تؤكّد جميع الدراسات المتعلّقة بظاهرة قتل النساء أنّ القتل في جلّ الحالات يكون مسبوقا بسلسلة تصاعديّة من العنف المعنوي والمادي والاقتصادي الذي يسلّط على الضحيّة. أي أنّ النساء القتيلات سواء على أيدي شركائهنّ عادة ما يتعرّضن لأشكال متعددة من العنف ويحاولن كسر هذه الحلقة، مما يقتضي تدخلا فوريّا من الهياكل المعنيّة.

حسب دراسة لجمعية النساء الديمقراطيات صادرة سنة 2021، يبقى لجوء النساء ضحايا العنف الى القضاء محفوفا بالعديد من المصاعب بعضها ثقافي أو اجتماعي، أبرزها الخوف من الوصم الاجتماعي. مما يستوجب منهن تبرير “تعدّيهنّ على التقاليد” من خلال مقاضاة المعتدي، كما يجابهن ضغوطات عائليّة أو مجتمعيّة (نظرة المجتمع للمطلقة أو للزوجة التي تتسبب في سجن أب أبنائها، الخ). ويعدّ ضعف الموارد المالية والاستقلالية الماديّة للنساء كذلك من أهمّ معيقات لجوء ضحايا العنف إلى القضاء، يضاف له ضعف النفاد إلى المعلومة والإرشاد القانوني حول الأحكام المنظمة لإجراءات التقاضي والخدمات المتاحة، خصوصا وأنّ الإعانة العدليّة، عمليّا، لا تسند بصفة آلية للنساء ضحايا العنف في مخالفة صريحة للفصل 13 من القانون 58، بالإضافة الى طول مدّة التقاضي ومواصلة المطالبة بدفع معلوم الشهادة الطبية الأوليّة من قبل المؤسسات الصحيّة.

على المستوى المؤسساتي، تثير جمعيّة النساء الديمقراطيات مسألة الوصم الممارس من قبل الأمن على ضحايا العنف. فلئن كرّس القانون 58 وحدات مختصّة لمكافحة العنف ضدّ النساء يتم” تكوين أعوانها حول كيفية التعامل مع الضحايا نظرا لهشاشتهنّ وخصوصيّة الجرائم المرتكبة في حقهن”، تشهد العديد من ضحايا العنف بأنّ بعض أعوان الأمن يعمدون للتشكيك في مصداقية رواياتهنّ أو ثنيهنّ عن تقديم الشكايات.

ويفترض في العقوبة أن تكون متناسبة مع الجرم المرتكب ويهدف وضعها أوّلا لردع المجرمين ومن تعنّ له نفسه بارتكاب نفس الجرائم وثانيا لإرجاع حقوق المتضررين. للأسف تثبت دراسة أصدرتها وزارة المرأة والأسرة سنة 2022 حول محدّدات العنف الزوجي أنّ معدّل الأحكام السجنيّة الصادرة في حق المتهمين بالعنف الزوجي لا يتجاوز أربعة أشهر ونصف مع العلم أنّ المجرم يبقى في حالة سراح طيلة فترة المحاكمة في 92% من الحالات. حسب العيّنة المختارة -53 حكم قضائي-  تتراوح الأحكام الصادرة في حق مرتكبي جرائم العنف المادّي بين شهرين و24 شهرا مع تأجيل التنفيذ. أمّا عن العقوبة السجنيّة النافذة، فتتراوح بين 15 يوما و12 شهرا في أقصى الحالات التي تمّ معاينتها وهي تمثّل نصف العقوبة المكرّسة بالفصل 218 من المجلّة الجزائيّة -بعد تنقيحه-، الذي يقتضي مضاعفة العقوبة الأصليّة -12 شهرا- إذا كان الفاعل أحد الزوجين أو المفارقين أو الخطيبين الحاليين أو السابقين. بينما لا تتجاوز الخطايا المحكوم بها 300 دينارا. أمّا في خصوص العنف المعنوي فالعقوبة الأساسية المسلطة هي الخطيّة ولا تتجاوز فعليّا 200 دينار وهي وصلت في حالة وحيدة إلى شهرين سجنا. في جلّ الأحكام التي تمّت معاينتها في الدراستين، يتّضح التطبيق شبه الآلي لظروف التخفيف المنصوص عليها بالفصل 53 من المجلّة الجزائيّة وهو ما يفسّر عدم تناسب الجرائم المرتكبة في حقّ النساء مع العقوبة المحكوم بها. ترجع الجمعيّة ذلك لنقص الإلمام بالقانون أو للتحجج بضعف الأدلّة المثبتة للعنف، بالإضافة الى رفض بعض القضاة صراحة تطبيق القانون عدد 58 لكونه “يهدف لهدم العائلة”[4].

من جهة أخرى، يولي الفصل 11 من القانون 58 وسائل الإعلام العمومية والخاصة دور التوعية بمخاطر العنف ضد المرأة وأساليب مناهضته والوقاية منه، مع الحرص على تكوين العاملين في المجال الإعلامي على التعاطي مع العنف المسلط على النساء. كما يوكل لهيئة الاتصال السمعي البصري مهمّة اتخاذ التدابير والعقوبات المستوجبة في حالة بث المواد الإعلامية التي تحتوي على صور نمطية أو مشاهد أو أقوال أو أفعال مسيئة لصورة المرأة أو المكرّسة للعنف المسلط عليها أو المقلّلة من خطورته. ورغم خطورة ظاهرة قتل النساء التي تجمع في معظم الأحيان عدّة جرائم عنف مسلّطة على النساء يجب مناهضتها، يبقى التعامل الإعلامي المقتضب مع الظاهرة منحصرا في الأخبار المتفرّقة مع الاقتصار في عرضها على الرواية الرسميّة مع تفسيره بخلفيّات علائقيّة ذاتيّة دون تناول الحدث كظاهرة مجتمعيّة يجب شجبها ومناهضتها. تؤكّد الدراسة المذكورة سابقا حول قتل النساء أنّ وسائل الإعلام في تونس تغيّب الضحيّة في صياغة الخبر الإعلامي لصالح الجاني حيث يتمّ تعريفها -إن ذكرت- بنسبة قرابتها/علاقتها بالجاني مع تعمّد الاقتصار على توصيفها حسب جنسها في العديد من الأحيان. من جهة أخرى، يبقى استعمال مصطلح “قتل النساء” مجهولا من الساحة الإعلامية التونسية حيث تعتمد وسائل الإعلام عبارات أخرى على غرار “جريمة” أو “قتل” وهي مصطلحات لا تسمح بفهم خصوصية الظاهرة. علاوة على ذلك، تكشف الدراسة أنّه في معظم الأحيان لا يتمّ متابعة مجرى القضيّة وتطوّراتها بالإضافة إلى غياب حملات توعيّة مصاحبة للخبر.

مجتمع مدني يرفض العزاء والمطالب واضحة

تقدّمت الديناميكية النسويّة، التي تضمّ أبرز الجمعيات النسويّة في تونس[5]، منذ نوفمبر الفارط بجملة من المطالب المتراوحة بين المؤسساتية، التشريعيّة، من دون استجابة تذكر من الدولة.

على المستوى التشريعي، طالبت الديناميكيّة بإرساء نص قانوني يعنى بالسحب الفوري والآلي للأسلحة التي تكون بحوزة الرجال الواقع تتبعهم من أجل العنف الزوجي أو الصادر ضدهم مطلب حماية، إلى جانب الاستجابة السريعة لمطالب الحماية وفقا لإجراءات القضاء الاستعجالي. كما طالبت بتعديل الإطار القانوني لتمكين النساء ضحايا العنف من تقديم الشكاية والتعهد بالمحاضر ومطالب الحماية في جهات البلاد كافة بالإضافة الى تعميم نقاط الإبلاغ عن المخاطر في المستوصفات ومراكز الرعاية الأساسية ومراكز رعاية الأم والطفل.

من أجل تطبيق أفضل للقانون 58، دعت الديناميكية الى إنشاء هيئة وطنية لمناهضة العنف ضد المرأة وجعلها هيئة مشتركة بين الوزارات لمزيد من التنسيق والتفاعل عند التعهد بالنساء ضحايا العنف مطالبة بوضع خطة عمل مشتركة بين الوزارات المعنية لمكافحة العنف ضد النساء ورصد ميزانية لها بهدف توفير الحماية لهن. كما أشارت الى ضرورة تفعيل آلية حصول الضحايا على حقهن في الإعانة العدلية بالاضافة الى تفعيل الرقم المجاني (1899) للمرصد 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع.

وأكّدت الديناميكية على ضرورة تعزيز الوسائل المادية والموارد البشرية وخاصة العنصر النسائي داخل الوحدات المختصة لضمان التعهد الفعال بالضحايا، إلى جانب إحداث منظومة استمرار للوحدات المختصة في الشرطة والحرس الوطني ومندوبيات حماية الطفولة.

على المستويين الوقائي والتحسيسي، طالبت الديناميكية بإرساء حملة إعلامية الى جانب وضع برامج توعوية لمختلف المتدخلين من قضاة ووحدات مختصة لضمان توفير تعهد فعال للضحايا. في الجانب التأهيلي، دعت الديناميكية لاﺗﺨﺎذ اﻟﺘﺪاﺑير اﻟﻼزﻣﺔ ﻹﻋﺎدة ﺗﺄﻫﻴﻞ ومعالجة مرتكبي جرائم العنف الزوجي الواقع إدانتهم.

لا شكّ أنّ  القانون عاجز لوحده مهما كان شاملا على القضاء على ظاهرة قتل النساء ومن ورائها العنف ضدّهنّ. فالطابع المركّب للظاهرة يجعل من المستحيل القضاء عليها من دون معالجة العوامل العميقة والهيكليّة المحيطة بها وعلى رأسها اللامساواة والتمييز على أساس النوع الاجتماعي.


[1] United Nations, In-depth study on all forms of violence against women: Report of the Secretary-General, A/61/122/Add.1 (2006) at 76.

[2] تنويه: يتضمّن هذا المقال محاولات تعريب لعديد المصطلحات المتعلّقة بظاهرة قتل النساء قد لا تكون دقيقة وذلك يعود لنقص فادح في المراجع والدراسات حول الظاهرة محرّرة باللغة العربيّة سواء كانت رسميّة أو غير رسميّة.

[3] مقتطف من تقرير المقررة الخاصة المعنية بمسألة العنف ضد المرأة وأسبابه وعواقبه، السيدة رشيدة مانجو، ص 1، 2012.

[4] دراسة “نفاذ النساء ضحايا العنف الى العدالة”، جمعية النساء الديمقراطيات، ص35 وما بعدها.

[5] تأسّست الديناميكية النسوية غداة 25 جويلية 2021، وهي تضمّ 9 جمعيات من بينها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، جمعيّة بيتي، أصوات نساء، جمعيّة كلام، الخ.


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني